معاملة الاسرى في القرآن 2 الآية الرابعة من سورة محمـد
معاملة الاسرى في القرآن 2
الآية الرابعة من سورة محمـد
استمرارًا للبحث الخاص بمعاملة الأسرى في القرآن الكريم, نعرض اليوم لدراسة الطريقة التي فسر بها قدماء المفسرين الآية الكريمة 4 من سورة محمـد. يقتصر البحث على ما جاء في تفسير الطبري. تم إلحاق نسخة من تفسير الطبري للآية الكريمة في نهاية الرسالة بحيث يمكن للقاريء أن يتحقق من صواب التحليل الذي سنقدمه لتفسير الطبري.
تفسير الطبري
*فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ* محمـد : 4
يقدم لنا الطبري في تفسيره للآية 4 من سورة محمـد فهمًا واضحًا موجزًا لا مشكلة فيه. يقول:
“يقول تعالى ذكره لفريق الإيمان به وبرسوله أن عليهم إذا لقوا الَّذِينَ كَفَرُوا بالله ورسوله من أهل الحرب أن يضربوا رقابهم حتى إذا غلبوهم وقهروا من لم يضربوا رقبته منهم فصاروا في أيديهم أسرى أن يشدُّوا الْوَثَاقَ كي لا يقتلوهم فيهربوا منهم. فإذا أسروهم بعد الإثخان فإما أن يمنوا عليهم بعد ذلك بإطلاقهم إياهم من الأسر, ويحرروهم بغير عوض ولا فدية, وإما أن يفادوهم فداء بأن يعطوهم من أنفسهم عوضا حتى يطلقوهم ويخلوا لهم السبيل.“
والآية, حقيقة الأمر, واضحة لا مشكلة فيها. يخبر الله من آمن بالله, وبأن محمدًا رسول الله, وبأن القرآن كلام الله, أن عليهم إذا لقوا الكفار على أرض المعركة أن يضربوا رقابهم حتى إذا تغلبوا عليهم قاموا بأسر من بقي على أرض المعركة منهم على أن يطلقوا سراحهم إما مقابل أسرى المسلمين, أو مقابل مبلغ من المال, أو بدون مقابل على الإطلاق.
تبدأ المشاكل, على أية حال, عندما يخبرنا بعض أهل العلم أن هذه الآية قد نسخت. أي تم إيقاف العمل بها. مثال على ذلك, يخبرنا قتادة أن المسلمين كانوا فعلاً يطلقون سراح الأسرى الذين أمسكوا بهم مقابل فدية أو بلا مقابل على الإطلاق إلا أن كل ذلك قد توقف بعد أن أنزل سبحانه وتعالى أمره بالتوقف عن أخذ الأسرى من أساسه وقتل كل من وجد على أرض المعركة من المشركين كما جاء في الآية الكريمة *فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ.* الأنفال : 57. يذكر عبد الكريم الجزري, في هذا السياق, “أنه كُتب إلى أبي بكر رضي الله عنه في أسير أُسر فذكر أنهم التمسوه بفداء كذا وكذا, فقال أبو بكر: اقتلوه, لقتلُ رجل من المشركين, أحبّ إليّ من كذا وكذا”. يعني هذا الكلام أنه إذا كان هناك من يخبرنا بأن الله يأمرنا بإطلاق سراح الأسرى مقابل مبلغ من المال أو بدون أي مقابل على الإطلاق, فإن هناك من يخبرنا بأن هذا الكلام كان “في الماضي” قبل نزول الآية الكريمة التي يأمرنا تبارك وتعالى فيها بعدم أخذ أسرى من أساسه وقتل كل من تواجد على أرض المعركة من المشركين. أكثر من ذلك, يستشهد القائلون بنسخ الآية 4 من سورة محمـد بالوقائع التاريخية التي تؤكد صحة ما يذهبون إليه. يظهر ذلك واضحًا جليًا فيما قام به أبو بكر عندما رفض إطلاق سراح أسير جاء أهلوه في طلبه معلنين استعدادهم لمفاداته. لم يقبل أبو بكر الصديق هذا الطلب وقام بقتل الأسير طاعة لأمر الله في الآية الكريمة من سورة الأنفال (الأنفال: 57). يعني هذا الكلام, طبعًا, أنه لو كان صحيحًا حقًا أن العمل بالآية 4 من سورة محمـد ما زال قائمًا لما قام أبو بكر رضي الله عنه بقتل الأسير. كيف لأبي بكر الصديق أن يقوم بعمل لا يرضى عنه الله ؟ قتل أبي بكر الصديق لأسيره, بهذا الشكل, هو خير دليل على توقف العمل بالآية 4 من سورة محمـد. أي خير دليل على أنها قد نُسخت.
إذا كان بعض أهل العلم يذهبون إلى أن الآية الكريمة 4 من سورة محمـد قد نُسخت, فإن بعض أهل العلم أيضًا يؤكدون أنها لم تنسخ وأن العمل بها قائم إلى يوم الدين. يستشهد أهل العلم هؤلاء بالوقائع التايخية التي تساند صحة ما يذهبون إليه. يذكر الحسن, في هذا السياق, أن “الحجاج أتى بأسارى فدفع إلى ابن عمر رجلا يقتله فقال ابن عمر إن ليس بهذا أُمرنا. قال الله عزّ وجلّ *حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء.* كما جاء عن عطاء أنه كان يكره قتل المشرك صبرا ويتلو هذه الآية *فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً*. كذلك جاء عن الحسن أنه كان يكره أن يفادى بالمال وأنه قال لا تقتل الأسارى إلا في الحرب يهيب بهم العدوّ. لم يكن لابن عمر أن يرفض قتل الأسرى لو لم يكن يعلم أن الله قد حرم ذلك. رفض ابن عمر, بهذا الشكل, هو خير دليل على أن الآية 4 من سورة محمـد هي آية محكمة لم تنسخ.
ينقسم أهل العلم, بهذا الشكل, قسمين. قسم يذهب إلى أن الله قد أمرنا بإطلاق سراح الأسرى إما مقابل فدية يدفعها الأسير أو أهله, وإما بدون مقابل على الإطلاق, وقسم يذهب إلى أن هذا ما كان يطلبه منا الله إلا أنه سبحانه وتعالى يطلب منا الآن ألا نأخذ أسرى من أساسه وإنما نقوم بقتل كل من وجد على أرض المعركة من المشركين. لا يحتاج الأمر إلى “البرهنة” على أنه إذا كان القسم الأول من أهل العلم على صواب فيما يذهبون إليه من أن الآية الكريمة 4 من سورة محمـد آية محكمة ما زال العمل قائمًا بها, فمن المستحيل أن يكون القسم الثاني القائلون بنسخها على صواب هم الآخرين. والعكس, طبعًا, صحيح. لا يحتاج الأمر كذلك إلى لفت النظر إلى استحالة “التحقق” من صحة “الأدلة” التي يقدمها كلا الفريقين للتدليل على صحة ما يذهب إليه. من أين لنا أن نتحقق من أن أبا بكر رضي الله عنه قد قام فعلاً بقتل أسيره صبرًا (أي وهو مربوط, مشلول الحراك, عاجز عن الدفاع عن نفسه) ؟ ثم كيف لنا أن نتحقق من أن الحجاج قد قام فعلاً بـ”إعطاء” أسير من أسراه إلى ابن عمر لكي يقتله وكأن قتل الناس كان للتسلية ؟ تخيل, حياك الله تخيل, أن تذهب للقاء ملك, أو رئيس جمهورية, أو حتى أبي سياف فيقدم إليك على سبيل التحية أسيرًا لكي تقوم سيادتك بقتله وكأنما قتل الناس رياضة أو تسلية. والقصة عجيبة, ويبقى أنها كلها قصص لا يمكن التحقق من أي واحدة منها. وعليه, فكل ما يمكننا قوله هو أن هناك كتابًا يسمى “جامع البيان في تأويل آي القرآن” كتبه واحد من أعظم المفسرين في تاريخ الإسلام, اسمه محمـد بن يزيد بن جرير الطبري, المولود في آمل طبرستان, جاء فيه أن بعض أهل العلم قد ذهبوا إلى أن الله قد حرم علينا قتل الأسرى وأباح لنا فقط إطلاق سراحهم مقابل فدية أو بلا مقابل, كما أن بعض العلم قد ذهبوا إلى أن هذا ما كان الله يطلبه في الماضي إلا أنه الآن يطلب منا ألا نأخذ أسرى من أساسه وإنما أن نقتل كل من نجده على أرض المعركة من الكفار. هذا هو ما نستطيع قوله وما يمكن التحقق منه. هناك أيضًا ما يجب قوله.
وما يجب قوله هو التالي: على الرغم من أنه لا يمكن “التحقق” من صحة الوقائع التاريخية التي تساند أيا من الطرفين, إلا أنني لا أحتاج إلى وقائع تاريخية للتأكد من صحة ما يذهب إليه الفريق الأول من أن الله قد حرم علينا قتل الأسرى وأمر بإطلاق سراحهم إما بمقابل أو بدون مقابل. فكرة قتل الأسرى هكذا “صبرًا” فكرة مريعة, مشينة, وشنيعة, لا يمكن أن يفكر فيها إلا من نشأ في ثقافة تقبلها. قتل الأسرى صبرًا عمل قد يرضي الثقافة العربية القديمة إلا أنه عمل لا يرضي الله. قتل الأسرى صبرًا ليس بعمل صالح. هل يمكن لمن آمن بالله, وبأن محمدًا رسول الله, وبأن القرآن كلام الله, أن يخبرنا أن الله قد أخبرنا أن قتل الأسرى صبرًا عمل صالح يوصي الله به عباده الصالحين ؟ هل هناك من يحلم بأن تقتدي البشرية بما يفعله المسلمون فتتعارف الشعوب على أن يقتل كل شعب منها اسرى كل شعب منها في كل معركة تقوم بينهم اقتداءً بالمسلمين ؟ هل هذا مراد الله ؟ هل هذا مقصد الله ؟
وللحديث, إن شاء الله, بقية إن كان في العمر بقية. وإن الحمد لله, والشكر لله, على ما آتانا وما لم يؤتِنا, وما أعطانا وما لم يعطنا. وما طلب الله منا يومًا أن نقتل الأسرى صبرًا, وما طلب الله منا يوما ألا نأخذ أسرى وأن نقتل كل من وجدناه على أرض المعركة من الكفار. وقتل الأسرى صبرًا ليس بالعمل الصالح. هذا عمل قد يرضي الثقافة العربية الشريرة البدائية إلا أنه لا يمكن أن يرضي الله.
يتبع..
كمال شاهين
#تطوير_الفقه_الاسلامي
https://www.facebook.com/Islamijurisprudence/
23 مايو 2015
تفسير الطبري
القول في تأويل قوله تعالى :
*فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ* محمـد : 4
يقول تعالى ذكره لفريق الإيمان به وبرسوله فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا بالله ورسوله من أهل الحرب, فاضربوا رقابهم. وقوله حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ يقول حتى إذا غلبتموهم وقهرتم من لم تضربوا رقبته منهم فصاروا في أيديكم أسر فشدُّوا الْوَثَاقَ. يقول فشدّوهم في الوثاق كي لا يقتلوكم فيهربوا منكم.
وقوله فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء يقول فإذا أسرتموهم بعد الإثخان, فإما أن تمنوا عليهم بعد ذلك بإطلاقكم إياهم من الأسر, وتحرروهم بغير عوض ولا فدية, وإما أن يفادوكم فداء بأن يعطوكم من أنفسهم عوضا حتى تطلقوهم, وتخلوا لهم السبيل. واختلف أهل العلم في قوله حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء فقال بعضهم هو منسوخ, نسخه قوله فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ. وقوله فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ . ذكر من قال ذلك حدثنا ابن حُمَيد وابن عيسى الدامغانيّ, قالا ثنا ابن المبارك, عن ابن جُرَيج أنه كان يقول, في قوله فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً نسخها قوله فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ . حدثنا ابن بشار قال: ثنا عبد الرحمن, قال: ثنا سفيان, عن السديّ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً قال: نسخها فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ . حدثنا محمد بن عبد الأعلى, قال: ثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً نسخها قوله فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ . حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة, قوله فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إلى قوله وَإِمَّا فِدَاءً كان المسلمون إذا لقوا المشركين قاتلوهم, فإذا أسروا منهم أسيرا, فليس لهم إلا أن يُفادوه, أو يمنوا عليه, ثم يرسلوه, فنسخ ذلك بعد قوله فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ. أي عظ بهم من سواهم من الناس لعلهم يذّكرون. حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: ثنا ابن ثور, عن معمر, عن عبد الكريم الجزري, قال: كتب إلى أبي بكر رضي الله عنه في أسير أُسر, فذكر أنهم التمسوه بفداء كذا وكذا, فقال أبو بكر: اقتلوه, لقتلُ رجل من المشركين, أحبّ إليّ من كذا وكذا. وحدثني محمـد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ إلى آخر الآية, قال: الفداء منسوخ, نسختها: فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ إلى كُلَّ مَرْصَدٍ. قال فلم يبق لأحد من المشركين عهد ولا حرمة بعد براءة, وانسلاخ الأشهر الحرم. حُدثت عن الحسين, قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد, قال: سمعت الضحاك يقول في قوله فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً هذا منسوخ, نسخه قوله: فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ فلم يبق لأحد من المشركين عهد ولا ذمة بعد براءة. وقال آخرون: هي محكمة وليست بمنسوخة, وقالوا: لا يحوز قتل الأسير, وإنما يجوز المن عليه والفداء. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن المثنى, قال: ثنا أبو عتاب سهل بن حماد, قال: ثنا خالد بن جعفر, عن الحسن, قال: أتى الحجاج بأسارى, فدفع إلى ابن عمر رجلا يقتله, فقال ابن عمر: ليس بهذا أُمرنا, قال الله عزّ وجلّ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء قال البكاء بين يديه فقال الحسن لو كان هذا وأصحابه لابتدروا إليهم. حدثنا ابن حميد وابن عيسى الدامغانيّ قالا ثنا ابن المبارك, عن ابن جُرَيج, عن عطاء أنه كان يكره قتل المشرك صبرا. قال ويتلو هذه الآية فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: ثنا ابن ثور, عن معمر, عن الحسن, قال لا تقتل الأسارى إلا في الحرب يهيب بهم العدوّ. قال: ثنا ابن ثور, عن معمر, قال: كان عمر بن عبد العزيز يفديهم الرجل بالرجل, وكان الحسن يكره أن يفادى بالمال. قال: ثنا ابن ثور, عن معمر, عن رجل من أهل الشأم ممن كان يحرس عمر بن عبد العزيز, وهو من بني أسد, قال: ما رأيت عمر رحمه الله قتل أسيرا إلا واحدًا من الترك كان جيء بأسارى من الترك, فأمر بهم أن يُسترقوا, فقال رجل ممن جاء بهم: يا أمير المومنين, لو كنت رأيت هذا لأحدهم وهو يقتل المسلمين لكثر بكاؤك عليهم, فقال عمر: فدونك فاقتله, فقام إليه فقتله. والصواب من القول عندنا في ذلك أن هذه الآية محكمة غير منسوخة, وذلك أن صفة الناسخ والمنسوخ ما قد بيَّنا في غير موضع في كتابنا إنه ما لم يجز اجتماع حكميهما في حال واحدة, أو ما قامت الحجة بأن أحدهما ناسخ الآخر, وغير مستنكر أن يكون جعل الخيار في المنّ والفداء والقتل إلى الرسول صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم , وإلى القائمين بعده بأمر الأمة, وإن لم يكن القتل مذكورا في هذه الآية, لأنه قد أذن بقتلهم في آية أخرى, وذلك قوله فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ … الآية، بل ذلك كذلك, لأن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم كذلك كان يفعل فيمن صار أسيرا في يده من أهل الحرب, فيقتل بعضا, ويفادي ببعض, ويمنّ على بعض, مثل يوم بدر قتل عقبة بن أبي مُعَيْطٍ وقد أتي به أسيرا, وقتل بني قُرَيظة, وقد نـزلوا على حكم سعد, وصاروا في يده سلما, وهو على فدائهم, والمنّ عليهم قادر, وفادى بجماعة أسارى المشركين الذين أُسروا ببدر, ومنّ على ثمامة بن أثال الحنفيّ, وهو أسير في يده, ولم يزل ذلك ثابتا من سيره في أهل الحرب من لدن أذن الله له بحربهم, إلى أن قبضه إليه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم دائما ذلك فيهم, وإنما ذكر جلّ ثناؤه في هذه الآية المنّ والفداء في الأسارى, فخصّ ذكرهما فيها, لأن الأمر بقتلهما والإذن منه بذلك قد كان تقدم في سائر آي تنـزيله مكرّرا, فأعلم نبيه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بما ذكر في هذه الآية من المنّ والفداء ما له فيهم مع القتل.
وقوله حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا يقول تعالى ذكره: فإذا لقيتم الذين كفروا فاضربوا رقابهم, وافعلوا بأسراهم ما بيَّنت لكم, حتى تضع الحرب آثامها وأثقال أهلها. المشركين بالله بأن يتوبوا إلى الله من شركهم, فيؤمنوا به وبرسوله, ويطيعوه في أمره ونهيه. فذلك وضع الحرب أوزارها, وقيل حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا والمعنى: حتى تلقي الحرب أوزار أهلها. وقيل معنى ذلك حتى يضع المحارب أوزاره.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك حدثني محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى: وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ووقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا قال: حتى يخرج عيسى ابن مريم, فيسلم كلّ يهودي ونصرانيّ وصاحب ملة, وتأمن الشاة من الذئب, ولا تقرض فأرة جِرابا, وتذهب العداوة من الأشياء كلها, ذلك ظهور الإسلام على الدين كله, وينعم الرجل المسلم حتى تقطر رجله دما إذا وضعها. حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة, قوله حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا حتى لا يكون شرك. حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: ثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا قال: حتى لا يكون شرك. ذكر من قال : عني بالحرب في هذا الموضع: المحاربون. حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: ثنا ابن ثور عن معمر, عن قتادة حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهاَ قال الحرب من كان يقاتلهم سماهم حربا.
وقوله ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ يقول تعالى ذكره هذا الذي أمرتكم به أيها المؤمنون من قتل المشركين إذا لقيتموهم في حرب, وشدّهم وثاقا بعد قهرهم, وأسرهم, والمنّ والفداء حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا هو الحق الذي ألزمكم ربكم ولو يشاء ربكم, ويريد لانتصر من هؤلاء المشركين الذين بين هذا الحكم فيهم بعقوبة منه لهم عاجلة, وكفاكم ذلك كله, ولكنه تعالى ذكره كره الانتصار منهم, وعقوبتهم عاجلا إلا بأيديكم أيها المؤمنون لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ يقول: ليختبركم بهم, فيعلم المجاهدين منكم والصابرين, ويبلوهم بكم, فيعاقب بأيديكم من شاء منهم, ويتعظ من شاء منهم بمن أهلك بأيديكم من شاء منهم حتى ينيب إلى الحقّ. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك حدثنا بشر, قال ثنا يزيد, قال ثنا سعيد, عن قتادة وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ إي والله بجنوده الكثيرة كلّ خلقه له جند, ولو سلط أضعف خلقه لكان جندا.
وقوله وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اختلفت القرّاء في قراءة ذلك, فقرأته عامة قراء الحجاز والكوفة وَالَّذِينَ قَاتَلُوابمعنى: حاربوا المشركين, وجاهدوهم, بالألف; وكان الحسن البصري فيما ذُكر عنه يقرأه قُتِّلُوا بضم القاف وتشديد التاء, بمعنى: أنه قتلهم المشركون بعضهم بعد بعض, غير أنه لم يُسمّ الفاعلون. وذُكر عن الجحدريّ عاصم أنه كان يقرأه (الَّذِينَ قَتَلُوا بفتح القاف وتخفيف التاء, بمعنى: والذين قتلوا المشركون بالله. وكان أبو عمرو يقرأه قُتِلُوا بضم القاف وتخفيف التاء بمعنى: والذين قتلهم المشركون, ثم أسقط الفاعلين, فجعلهم لم يسمّ فاعل ذلك بهم.
وأولى القراءات بالصواب قراءة من قرأه وَالَّذِينَ قَاتَلُوا لاتفاق الحجة من القرّاء, وإن كان لجميعها وجوه مفهومة. وإذ كان ذلك أولى القراءات عندنا بالصواب, فتأويل الكلام: والذين قاتلوا منكم أيها المؤمنون أعداء الله من الكفار في دين الله, وفي نصرة ما بعث به رسوله محمدا صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم من الهدى, فجاهدوهم في ذلك فلن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ فلن يجعل الله أعمالهم التي عملوها في الدنيا ضلالا عليهم كما أضلّ أعمال الكافرين. وذُكر أن هذه الآية عُنِي بها أهل أحد. ذكر من قال ذلك حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ ذُكر لنا أن هذه الآية أُنـزلت يوم أُحد ورسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم في الشِّعْب, وقد فَشَت فيهم الجراحات والقتل, وقد نادى المشركون يومئذ: اُعْلُ هُبَلْ, فنادى المسلمون: الله أعلى وأجلّ, فنادى المشركون: يوم بيوم, إن الحرب سجال, إن لنا عُزَّى, ولا عُزَّى لكم, قال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم : “ اللهُ مَوْلانا وَلا مَوْلَى لَكُمْ. إنَّ القَتْلَى مُخْتَلِفَةٌ, أمَّا قَتْلانا فأَحْيَاءٌ يُرْزَقُونَ, وأمَّا قَتْلاكم فَفِي النَّارِ يُعَذَّبُونَ. حدثنا ابن عبد الأعلى, قال: ثنا ابن ثور, عن معمر, عن قتادة وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ قال الذين قُتلوا يوم أُحد.