يوسف أيها الصديق ح 22 – تربية يوسف في السجن
تواصلا مع شرح سورة يوسف :
يوسف أيها الصديق ح 22 – تربية يوسف في السجن
كما تابعتنا تأويل يوسف لمنامي صاحبيه في السجن ، فالذي قاله يوسف تعبير لما عرفه بعلمه وليس إخبارا بالغيب. ونفسر كلامه عليه السلام كالتالي.
قلنا في بداية محاورة يوسف مع صاحبيه في السجن أنهما لم يسألاه عن تأويل المنامين بل سألاه عن مسألة أو أمر الارتباط بينهما في ليلة واحدة وفي مكان واحد.
ثم إن يوسف كان أكثر منهم علما لأنه بنفسه كان يُضمر رؤياه قبل أن يغدر به إخوته كما يضمر تفسير أبيه يعقوب النبي له بأنه سوف يتشرف بالنبوة. قال له يعقوب بأنه سيصنع بني إسرائيل حينما قال:
وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6).
كان يعقوب وابنه يوسف بانتظار اليوم الذي يتوفق فيه يوسف لصناعة أمة إسرائيل الكبرى. تلك الأمة التي سوف تربي كليم الله تعالى وتؤهله لأن يستلم أول كتاب سماوي لكل أهل الأرض جنّا وإنسا.
ولذلك قال يوسف شيئا وأضمر أشياء أخرى وكلها من تأويل الأحاديث الذي تعلمه في قصر العزيز على يد العزيز وامرأته.
قال لهم بأن الأمر الذي سألتما عنه ليس صدفة ولكن الله تعالى قد قضى بأن تريا المنامين اللذان لم يتفقا لأمر يخصكما بل لأمر يخص شخصا ثالثا.
سمع صاحباه تفسير يوسف لمناميهما وعرفا بأن ما فكرا فيه من سرّ وراء الارتباط بين مناميهما صحيح ولعلّ يوسف يعرف هذا الارتباط ولكنه لا يريد الإفصاح عنه.
انتهت الجلسة وذهب كل فرد ليفكر في مستقبله. وبعد ذلك استعجل يوسف في أمر كان عليه أن يصبر فيه ويترك كل شيء لإرادة ربه الذي أدار قضيته بكل حسن وإبداع حتى ذلك اليوم.
غفل يوسف بأنه خسر كونه مخلَصا بعد ما تحدث بكل خيلاء مع صاحبيه في السجن. لم ينتبه إلى أنه هو وكل إنسان يبقى في غرفة الامتحان مادام يملك الإرادة وحينما ينتهي اختباره فسوف يفقد إرادته.
نسي يوسف حينما كان عليه ألا ينسى. فيوسف الذي تفوق على شهواته الجنسية، وقع فريسة لمكيدة من نوع آخر كادها له الشيطان ليحرك في أعماقه شهوة التفوق الأسري على بقية خلق الله تعالى.
نسي يوسف بأن التقديرات العائلية لا تعطي أي شرف عند الله تعالى الذي لا يمكن أن يُكرم أحدا أكثر من تقواه. قال تعالى في سورة الحجرات:
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13).
نسي يوسف الكثير فتمكن منه الشيطان وخسر بصورة مؤقتة حالة كونه عبداً مخلَصا. فكر بنفسه أن يتحدث مع الذي ظن أنه ناج منهما. تقدم إليه يوسف في غياب الذي ظن فيه عدم النجاة احتمالا وبالتأكيد أنه تحدث إليه بعد جلسة بيان الرؤيا التي كانت مصحوبة بالمسائل العلمية الكبيرة:
وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ ﴿42﴾.
بداية الآية الكريمة تؤكد أن الذي قاله يوسف لصاحبيه في السجن كان مجرد ظن منه باعتبار علمه ولم يكن وحيا ربوبيا واضحا أوحي إليه 27.
وحتى نعرف القصة نحتاج إلى أن نعمل مقارنة بسيطة بين الجلسة السابقة مع صاحبيه في السجن وهذه الجلسة مع أحدهما على أغلب الظن.
وقبل عمل المقارنة نحتاج إلى بحث أحواله السابقة لنرى كيف أنه كان يومها من المُخلَصين ما يعني بأن الشيطان لم يكن موسوسا إليه بقوة لأن الله تعالى كان في عونه كما رأيناه مع امرأة العزيز ثم بعد حضور العزيز ثم يوم الجلسة الودية مع نساء الوزراء والنبلاء في مجلس امرأة العزيز. ونعرف من هذه الآية الكريمة أن سجنه كان مقدرا أن يكون قصيرا لولا خطأُه الشخصي.
ومن الواضح بأن الشيطان استولى عليه بقوة بعد الجلسة السابقة ولكن الشيطان اللعين لم يكن قادرا على المزيد من التشكيك والوسوسة أثناء تلك الجلسة.
ثم إن السر الحقيقي في تمكّن الشيطان منه بدرجة أعلى، هو أنه كان من المخلَصين فخسر الحالة وإلا كان الله تعالى في عونه كما عوده عليه منذ أن خرج من بيت أبيه في نزهة لم يعد بعدها إلى منزله.
الذي حصل في هذه الجلسة برأيي، هو أنه عليه السلام بعد أن خسر قسما من عناية الله تعالى بسبب مشاعره الإسرائيلية المتكبرة، هو أنه لم يذكر الله تعالى كما كان يفعل من قبل فاستحق أن يبقى في السجن لفترة طويلة.
ومما لا شك فيه أن الله تعالى يحب كل عبيده فيحب الذي يريده سبحانه أن يحمل راية رسالة عظيمة لأكبر حضارة عمرانية في الأرض كمقدمة لصناعة أمة إسرائيل. فكل ما حصل ليوسف من ضغوط كان ضروريا لتهذيب نفسه وتأهيله لحمل الراية الكبرى.
فالذي حصل بعد وسوسة الشيطان هو أن يوسف نسي أن يذكر الله تعالى حينما تكلم مع صاحبه في السجن ليقنعه بقوة منطقه أن يتذكره عند الملك 28 .
كان عليه أن يقول لصاحبه – لو أراد أن يقول شيئا آخر -: لعل ربي يوفقك لتكون سببا في تعرف السلطة على ما أعانيه في السجن فيكون خلاصي بإذن الله تعالى على يديك. أو ما شابه ذلك ولا يقول له: اذكرني عند ربك دون أن يتذكر اسم ربه الذي أكرمه حتى ذلك اليوم.
أظن بأن الشيطان أغواه ليستعجل في التحدث إلى صاحبه قبل أن يخرج من السجن لأنه ناج وسيكون في حضرة الملك قريبا. لقد أنساه الشيطان بأن الذي قدر كل ذلك هو الله تعالى فلا يحتاج أن يضيف إلى تدبير ربه شيئا من عنده.
وحينما يحب الله تعالى عبدا من عبيده فإن رحمته تقتضي أن يصحح أخطاء ذلك العبد الطيب ولا يترك معاصيه للعقاب الأخروي الشديد 29 .
لبث يوسف في السجن بضع سنين قبل أن يقضي الله تعالى بأن يرى الملك رؤيا ينجو من ورائها يوسف الصديق. لعل هذه الرؤيا كانت مقدرة أن تظهر لنفس الملك قبل سنوات ولو بشكل آخر تبعا لطبيعة الحال.
فمن الصعب أن نظن بأن تقدير الجفاف الطويل لأمة قد تأثر تقديماً أو تأخيراً لمساعدة شخص مهما كان ذا أهمية في منطق الرحمن عز اسمه كما أظن.
بالطبع أن هناك مسألة كبيرة وراء يوسف وهو استضافة بني إسرائيل ليتم تربيتهم في أعظم حضارة في الأرض تمهيدا لحمل التوراة الكبرى.
المهم أن بقاء يوسف في السجن كان ضروريا ليعرف كيف يتعامل مع الناس ليكسب ودهم وليكون منصفا معهم و لئلا يجلب غضب ربه.
ولو نقرأ القصة بإمعان بعد ذلك السجن سنراه وقد امتنع عن الحديث عن بني إسرائيل تماما. إنه نسي بأنه حفيد إبراهيم وأصبح يتذكر دوما بأنه عبد الله تعالى. يوسف القديم بقي فترة طويلة في قصر العزيز حتى زجّ به في السجن ولكن يوسف الجديد خرج من السجن إلى قصر الملك ومنه مباشرة إلى وزارة فرعون مصر.
إنه تعلم الحديث مع الناس بمن فيهم ملوكهم وتعلم كيف يتحدث ويبلغ رسالته للمخاطب محتفظا بعبوديته لربه وغير متكبر على أحد أبدا.
(هامش 27: وواقع الأمر أن الوحي الذي يتسلمه الأنبياء يقوي ظنونهم وليس هناك وحي جازم بمثل هذه المسائل.
إن رسولنا عليه السلام كان يستلم القرآن وكان يشك في أنه من الله حتى أثبت له الله تعالى عدة مرات بأنه كلام ربه. قال تعالى في سورة يونس مخاطبا نبينا:
فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (94).
بالطبع أن الله تعالى أزال شكوك نبينا بعد أن أراه نوره مرة ثم مرة أخرى كما فعل بموسى الذي كلمه سبحانه مرتين أيضا. والظن هو رجحان أحد طرفي الشك فيكون الطرف الثاني للظن وهْماً في الواقع. ولذلك فإن الظن هو أخ اليقين ولكنه ليس يقينا دون شك. إن اليقين يعني إزالة الطرف الآخر من الشك تماما فهو يفوق الظن درجة. نهاية الهامش 27.)
(هامش 28: وسنعرف ذلك من المقارنة، فقد ذكر لصاحبيه أنه قادر على فهم أغوار وحي المنامات لأن ربه علمه، وقال بأنه وآباؤه يعزون كل ما بيدهم من نعمة إلى الله تعالى فلا يشركون بالله شيئا. حتى افتخاره بآبائه كان عملا غير مناسب ولكنه عزا كل ما بيده إلى فضل الله تعالى لأن الشيطان لم يكن قادرا أن يدبر ضده الوساوس. علينا أن نعرف بأن الشيطان يدبر الأمور ويعين الخطوات لأهدافه فلا يمكنه أن يقوم بالتدبير بسرعة بل يحتاج إلى وقت ليقوم بإعداد مكره.
ثم إنه دعا صاحبيه لترك الشرك بالله تعالى وحصر العبادة في الواحد القهار عز اسمه. ثم فند كل مزاعمهم بوجود قدرات وبركات و توفيقات لدى غير الله تعالى واعتبر ما يقولونه ادعاءات ما أنزل الله تعالى بها من سلطان.
وحينما ذكر لهما رأيه في مناميهما فإنه لم ينس الله تعالى بل عزا ما حصل من توفيق إلى قضاء الله تعالى. ولو نعود بالقصة كما في السورة إلى ما قبل ذلك لرأينا يوسف في شبابه وصغره ينسب كل حركة إلى الله تعالى ويسعى لجلب رضوان ربه. إنه رضي بأن يركب الأهوال ليكسب رسالة السماء فهو عبد صالح مخلص لله تعالى.
لكن الله سبحانه لا يتقبل أن يكون أنبياؤه مهتمين بعوائلهم وأسرهم ولا يتقبل أن ينسب أحد منهم أمرا إلى غير الله تعالى. نهاية الهامش 28)
(هامش 29: أتمنى أن يقتنع القارئ الكريم بأن نظاما يعاقب أنبياءه المخلصين له بهذا الشكل فيتركهم في السجن بضع سنين ليتأدبوا فإن هذا النظام سوف يعامل الذين نسوا الله تعالى بقسوة شديدة يوم القيامة.
على المرء أن يجعل الله تعالى على رأس أولوياته ولا يرجح اهتماماته الدنيوية الزائلة على علاقاته مع الله تعالى. فعلى كل عاقل أن يزداد سعيا لتقوية أسس العبودية للذات القدسية جل جلاله فيتمسك به وحده وباللقاء معه سبحانه ولا يتبع خطوات الشيطان الذي يسعى لتضعيف مفهوم الألوهية في أذهان البشر. نهاية الهامش 29.)
يتبع …
أحمد المُهري
تابع مركز #تطوير_الفقه_الاسلامي
https://www.facebook.com/Islamijurisprudence/
ان كان لديكم الرغبة في الانضمام لمجموعة النقاش في المركز برجاء ارسال بريد الى :