9 اشكالات القبنجي – إشكالات القبنجي العلمية 3
باء: من إشكالات القبنجي العلمية:
يقول القبنجي: يستنتج من يقرأ القرآن بأن كاتبه يعتقد بوجود شمس واحدة وقمر واحد في هذا الكون. ويأتي للاستدلال على ذلك بالآية التالية من سورة نوح : وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16).
وأما إشكالي عليه فهو أننا حينما نقرأ الآيات في سياقها نرى بأن المقصود شيء آخر، فلنفعل، يقول تعالى:
مَّا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16).
يقول نوح – وهو برأيي أعلم أنبياء الله تعالى في كوكبنا- مخاطبا قومه: كيف لا تشعرون بعظمة ربّ العالمين وكيف لا توقرونه على الأزمان التي قضاها لتأتوا أنتم وكواكبكم؟ ألم تروا بأنه قد خلق الكائنات كلها بما فيها البشر عن طريق التطور؟ ألم تفكروا في الأنظمة الشمسية التي لا يمكن عدها وهي كلها مماثلة مطابقة لبعضها البعض؟ وقد خلق الله تعالى كل واحدة منهن وهي تستضيء بنور الشمس وتستفيد من طاقة القمر.
وقبل أن أعطي بيانا أكثر للآيات الكريمة أمهلني أيها القارئ الكريم لأرفع عن ذهنك بعض الإشكالات التي قد تثور على ما ادعيتُه أعلاه، بإذن الله تعالى. فلعل ذلك يساعدك على فهم أفضل لحقائق القرآن ويساعدني على المضي قدما في توضيح الأمور دون إعاقة.
1. لم يعش نوح في زمن التطور العلمي ولكن عمره الطويل وتفكره الدؤوب في خلق الله تعالى جعلاه يعرف الكثير من المسائل العلمية التي لم نر في القرآن أي أثر مماثل عنها لبقية أنبياء الله تعالى. ولعل السرّ في ذكر الله تعالى لعمر نوح الطويل وحده دون غيره هو أن ينبهنا لهذه الخاصية لديه.
2. يُحتمل أن أعمار قومه كانت طويلة أيضا. نرى نوحا في نفس السورة الكريمة يئن من قدراتهم الإعلامية. لننظر بإمعان في هذه الآيات من نفس السورة: وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (22) وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23). فالمكر العظيم الذي أثر في دعوة نوح هو أنهم قدموا مجموعة من الآلهة الوسطاء بين الناس وربهم في مقابل نوح الذي لم يقدم أية واسطة بين الخلق والخالق. إنني شخصيا أشعر بهذه الحرب ضد القرآن اليوم وكل زملائي يعرفون ذلك. هذه حرب إعلامية جوفاء في حقيقتها ولكنها مؤثرة في قلوب العامة من البشر، مع الأسف.
3. يمكنكم ملاحظة المواجهة الإعلامية لنوح نفسه ضدهم في الآيتين التاليتين من نفس السورة: ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (9).
4. والدليل الآخر على طول أعمارهم هو أن نوح بعكس بقية الأنبياء كان يعدهم بطول العمر في دعوته. قال تعالى في نفس السورة: يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاء لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (4). والأجل المسمى يعني الأجل الطبيعي الملازم لإمكانات المخلوق. وليكن واضحا لدى السامعين بأن التطور الفكري المحصور قبل حوالي 70 قرنا كان يتطلب المزيد من الزمان في الحياة الدنيا ليحل الفكر محل التطور الطبيعي. وبغير ذلك لا يكون أخذ النماذج ممكنا من أولئك البشر الأقدمين. وأخذ النماذج هو الغاية الحقيقية من بعث الأنبياء في أزمان متباعدة وأماكن محدودة وبين الذين كانوا يؤمنون بالله فقط. هذه النماذج أو الشواهد حسب تعبير القرآن من ضرورات الحساب يوم القيامة، والعلم عند الله تعالى.
5. كانت الطبقة التي تحارب النبي العظيم قد توصلت إلى بعض الحقائق التي تحول دون أن تتمتع باستغلال إخوانهم من الرجال والنساء من المستضعفين من بني جلدتهم وتسخيرهم لخدمتهم. ولذلك كانوا يغمضون عيونهم ويجعل كل منهم أصابع يديه في أذنيه ليحول دون أن يتأثر قلبه بدعوة الرسول المخلصة. والثياب تعني القلب للعلم وليس الثوب كما ظن عامة المفسرين. لو وضع أحد إصبعين من يديه في أذنيه فلا يبقى له يد أخرى ليستغشي بها عينيه كما قالوا. بل إنهم أغمضوا عيونهم بأجفانهم وقفلوا أسماعهم بأصابعهم فكان ذلك سببا لتغطية قلوبهم. إنهم باعتبار طول أعمارهم وتفكيرهم الطويل لمحاربة نوح أصبحوا مستعدين للاستماع إلى الحقائق الغريبة التي لم يفهمها بقية الأنبياء احتمالا ولو أنهم أتوا بعدهم وبتطور عقلي أكبر منهم دون شك.
وبعد هذا التقديم البسيط يمكننا معرفة معنى الآية الكريمة التي استشهد بها أخونا القبنجي عن غير علم برأيي. لما ذكر نوح بأنهم خُلقوا أطوارا وهو لا يعني حالات وصفات فعلية مختلفة كما ظنّ بعض العلماء من سلفنا رحمهم الله تعالى وإيانا. بل يعني أنه سبحانه خلقهم في ماهياتهم متطورين من ماهية إلى ماهية أخرى. ولذلك بدأ الكلام بعده بكلمة: ألم تروا؟ وهي تعني بأنه عليه السلام استدل على صحة كلامه حول التطور البشري من كائن إلى كائن حتى صار إنسانا، بأنه أشار إلى مماثلة خلق الله تعالى للكواكب العظيمة بنفس الطريقة. وكلمة تروا لا تعني النظر بالعين بل غالبا ما تعني النظر بالفكر والعقل لا سيما في كتاب الله تعالى. أظن بأن القارئ الكريم يشعر بأن الله تعالى لم يبعث أي نبي بين أقوام لا يؤمنون بالله تعالى بل بعثهم جميعا في أمم يعرفون الله سبحانه ويؤمنون بأنه الخالق ولكنهم يشركون في العبادة فقط. كان على الأنبياء أن يُعَرِّفوا الذين عرفوا الله تعالى على المزيد من قدرات ربهم ليطمئنوا بأنه سبحانه قادر على أن يتواصل مع أفراد خلقه مع كثرة عدهم ولا يحتاج إلى من يساعده في ذلك كما أن خلقه لا يحتاجون إلى من يتوسط بينهم وبين الله تعالى ولا إلى من يدعو ربهم لصالحهم. هذه هي حقيقة الدعوات الإختبارية للأنبياء وليس غيرها.
وقد عرض نوح بعد ذلك كيفية تطور الإنسان بأنه خُلق من نبات أنبته الله تعالى في الأرض. ذلك لأن الحياة في هذا الكوكب وما يماثله من الكواكب تبدأ من النبات وبمساعدة الطاقة الشمسية والرطوبة لتحقق التركيب الضوئي. والشمس والقمر يساعدان الأرض على أن تقوم ببث الحياة بأمر الله تعالى. ولذلك أراد نوح أن يقول لهم بأن الخلق البشري المدرك أكبر بكثير مما تعرفونه فكل الكون مليء بالبشر وليس محصورا في أرضكم. وفي كل كوكب تتم نفس العمليات التطورية ثم يُعيد الله تعالى كل الكائنات المدركة إلى أراض مماثلة لأراضيهم الدنيوية ليخرجوا مرة أخرى مع نفوسهم بلا آباء ولا أمهات لإزالة الأنساب المؤثرة بطبيعتها في حياة المدركين. ولذلك أشار نوح إلى هذه الحقيقة: وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الأَرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18).
ثم يستشهد العالم الكبير نوح بما فعله الله تعالى في الأرض لإعدادها لحياة البشر بالذات فقام بعمليات كبيرة لجعل الأرض الصخرية بطبيعتها منبسطة ممهدة للبشر. انتبهوا إخواني وأخواتي لقوله العلمي: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ بِسَاطًا (19) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجًا (20). فحدود تمتعنا بالأرض منبسطة لا أكثر. ويشير نوح إلى حقيقة علمية أخرى أظنه كان على علم بها. تلك هي أن مدّ الأرض هو السبب في خلق الوديان والطرق. والفج تعني الشق بين الجبلين. كل ذلك تحقق بمد الأرض وقد وضّحه الله تعالى في عدة سور أخرى ليقول للناس: كيف تجعلون لله أندادا من خلقه الذين يعجزون بكل تأكيد عن القيام بما قام به الله تعالى تمهيدا لخلقهم بضعف بدني وقوة فكرية، وهما أمران متلازمان؟.
يتبع ….
أحمد المُهري
#تطوير_الفقه_الاسلامي
https://www.facebook.com/Islamijurisprudence/