منهج المُهري في التفسير
منهج المُهري في التفسير
أخي الكريم سيادة الأستاذ الدكتور كمال شاهين رعاه الله تعالى,
أعتذر بأنني كنت مشغولا جدا فيما مضى من أيام لأرسل لكم ما طلبتموه حول منهجي في التفسير. وأخيرا تذكرت بأن أخي الأستاذ الفاضل قصي الموسوي الذي كان يحضر كل محاضراتي التفسيرية سابقا قد كتب بيانا شافيا وافيا عن ما تخيله هو كمنهج لي. أظن بأن ما يقوله الناس خير مما يقوله الفرد بنفسه. بالطبع أن هناك بعض الاختلاف ولكنه ليس مهما. إنه فعلا أجاد في فهم ما اتخذته لنفسي منهجا ولا أظن بأن غيري يحتاج إلى أكثر من ذلك ليفهم مبادئي في التفسير. ولعلي في المستقبل البعيد وليس القريب لو بقيت حيا أكتب عن منهجي ومعالجاتي لفهم القرآن ثم نقله إلى إخواني وأخواتي الراغبين في فهم أحدث لكتاب سماوي أراد الله تعالى له أن يبقى هاديا حتى انتهاء الحياة الإنسانية في هذا الكوكب.
مع تحيات
أحمد المُهري
30/9/2018
بسم الله الرحمن الرحيم
منهجية أحمد المُهري في تفسير القرآن الكريم
يجد المتأمل في منهجية السيد أحمد المُهري في تفسير القرآن الكريم نفسه أمام أسلوب متميز في الطرح والتعبير وفي المباني التي يقوم عليها هذا المنهج في عملية التفكر في الآيات القرآنية واستنباط المعاني المختلفة منها لإقامة صرح خاص من المثل والقيم التي تحرك الحياة بأسلوب جديد أقل ما يقال عنه بأنه متميز عما ساد الساحة الإسلامية من أساليب قيمية وطروحات للتعبير عن حقيقة الدين الإسلامي الحنيف.
وقبل الخوض في ما يختص به المُهري ومنهجيته الخاصة في تفسير الآيات القرآنية لا بد لنا من نظرة عامة على الأساليب المختلفة التي تعاطت مع القرآن الكريم وحاولت أن تضع تفسيرات خاصة لآياته وسوره بناء على مقدمات ألزمت بها انفسها فكانت بذلك مدارس مختلفة في المباني متعددة في العطاء متفقة أحيانا ومتباينة أحيانا ومتعارضة أحيانا أخرى في نظرتها لما يمكن ان يكون عليه المعنى الخاص للآيات القرآنية.
مناهج تفسير القرآن الكريم
لايصعب على المطالع اللبيب أن يدرك منذ الوهلة الأولى بأن المدارس الفكرية والمذهبية ضمن البيت الإسلامي متباينة في عملية التعاطي مع القرآن الكريم وتفسير آياته. ما يجعلنا فجأة امام كتب تفسيرية تصر على نسبة نفسها إلى مذاهب رجالية معينة ثم تتعاطى مع القرآن الكريم تفسيرا وتوضيحا واستنباطا للأحكام أو إرساء للمباني الفلسفية التي اعتمدت عليها كل طائفة من طوائف المسلمين لتكوين نظرتها للكون والحياة والإنسان ومن ثم تأسيس مذهبها الخاص في التعاطي مع الحياة برمتها.
وإذا قلنا بادئ ذي بدء بأن هذه القضية بالذات هي أهم ما يميز السيد أحمد المُهري عن غيره من المفسرين الذين تعاملوا مع القرآن الكريم فاننا قد نتهم بأننا متسرعون في عملية الكشف عن تمذهبنا مع الرجل، غير أن الحقيقة شيئ اخر فنحن نريد أن نلفت النظر إلى القضية المركزية التي تميز اتجاه الأستاذ أحمد المُهري قبل الخوض في التفاصيل التي نوكلها إلى الصفحات المقبلة.
عموما لا بد لنا من جرد الأساليب التي تعاطت مع القرآن الكريم تفسيرا وتحليلا وتوضيحا معتمدين في ذلك على ما اكتظت به الساحة الإسلامية من موسوعات تفسيرية. وقبل أن نبدأ بذلك لا بد أن نضع في حساباتنا أمورا معينة كأسس لا يمكن تجاوزها في عملية الفرز المطلوبة بين مناهج التفسير. من ذلك ما يلي:
1- أن القرآن الكريم نزل باللغة العربية لذلك فإن كل من تصدى لعملية تفسير القرآن الكريم لجأ إلى عملية توضيح المعاني المرادة من الألفاظ الواردة في القرآن الكريم قبل ان يبدأ بعملية تفسير المعاني العامة للآيات والسور القرآنية. ولا بد من الاشارة هنا إلى ان ما ورد ذكره ينطبق على كافة المدارس التفسيرية للقرآن الكريم عدا المدارس الصوفية والباطنية التي تعاملت مع المفردة القرآنية بطريقة لا تنطبق عليها قوانين اللغة المتعارفة بين المتحدثين باللغة أو المتعاطين لعلومها. فالمدارس الصوفية والباطنية تخرج التفسير عادة عن سياقه المتعارف بين العرب بل وتخرج الآيات عن مجالها العام الذي تتحدث فيه إلى مجال آخر يقتضي القبول بمسلمات تلك المدارس قبل الخوض في عملية التفسير.
2- أن نظرتنا إلى المناهج الخاصة بالتفسير تتجاوز الأطر المذهبية والطائفية إلى ما هو أبعد من ذلك، في محاولة لإيجاد المشتركات التي تقوم عليها مدارس التفسير المختلفة مهما كانت الاتجاهات الفكرية لرواد تلك المدرسة.
3- لا بد لنا من الإشارة إلى أننا لن نتوسع في مجال تصنيف المدارس التفسيرية في مقالنا هذا باعتبار أننا نريد التركيز على دراسة منهج الأستاذ أحمد المُهري في تفسير القرآن الكريم موكلين الخوض في تفاصيل تصنيف المدارس التفسيرية إلى مناسبة أخرى ان شاء الله.
المناهج المتعارفة في تفسير القرآن الكريم
لو أردنا استقصاء تلك المناهج فستتكون لدينا الصورة العامة التالية:
1- مناهج تفسير القرآن الكريم عبر ايجاد المعنى اللغوي المباشر: وهي مناهج اعتمد عليها بعض المفسرين الذين هالهم في الغالب ما وجدوه من تفاوت في تفسير الآيات القرآنية فحاولوا حصر هذا الخلاف عبر ضغط عملية التفسير وحصرها في القالب اللغوي. وهذه التفاسير لا تتطرق عادة إلى المسائل الخلافية بين المذاهب الإسلامية، وتكتفي بشرح معاني المفردات تاركة مجالا واسعا امام المتفكر في القرآن الكريم ليصيب هو بنفسه المعاني القرآنية.
2- مناهج تفسير القرآن الكريم بالقرآن الكريم: وذلك عبر تقصي وتتبع المعنى الخاص للمفردة الواردة في القرآن الكريم ومحاولة استخلاصه من السياقات المختلفة التي وردت فيها المفردة أو عبر متابعة الموضوع المعين في مختلف مواضع وروده في القرآن الكريم للوقوف على المعنى المناسب للآيات القرآنية. وفي الغالب فإن هذه المذاهب التفسيرية تنقسم بعد ذلك إلى قسمين:
الأول: يقبل باضافة بعض المصادر من خارج القرآن الكريم لاستيضاح المعنى المقصود من الآيات القرآنية وطبقا لهذا القبول فان هذا القسم من المفسرين ينقسم بعد ذلك طبقا للمذهب أو الطائفة التي يتبعها ويتضح منحاه بسهولة بمجرد متابعة المصادر الأخرى التي ينتهل منها ويستعين بها في تفسير القرآن الكريم. وهنا سوف نجد شيوعا واضحا لعمليات القبول بالقراءات القرآنية المتعددة أو عمليات التأويل لبعض الآيات القرآنية أو حتى القبول بوجود نقص في القرآن الكريم والعياذ بالله.
الثاني: يرفض الاستعانة بالمصادر الأخرى من غير القرآن الكريم ويكتفي باستيضاح المعاني القرآنية عبر عملية تقص داخلية في نفس القرآن الكريم. ويمكن تصنيف الأستاذ أحمد المُهري ضمن هذه المدارس التفسيرية والتي تتفاوت فيما بينها أحيانا بناء على متبنياتها فيما يتعلق بالمعاني اللغوية أو بعض التفاصيل المتعلقة بالتاريخ والوقائع التاريخية.
3- مناهج تفسير القرآن الكريم بالروايات والمأثور من السنة النبوية أو عن جيل الصحابة والتابعين أو عن سلسلة من أبناء وأحفاد علي بن ابي طالب ممن تصنفهم بعض طوائف المسلمين على أنهم من المعصومين القادرين على كشف المستور من الآيات القرآنية المباركة. وغالبا ما تتبنى هذه المدارس فكرة أن القرآن حمال ذو وجوه وأن فئة خاصة من الناس لها الحق في التصدي لعملية التفسير وأن أي عملية تفسير لا تستند إلى مرجعية تفسيرية مقبولة ستكون تفسيرا بالرأي وأن صاحبها من أهل النار لا محالة. رغم أن كافة التفاسير الموجودة على الساحة الإسلامية هي في الاعم الأغلب تفسيرات برأي اصحابها ومؤلفيها.
4- مناهج التفسير الباطنية والصوفية: والتي تعتمد في الغالب على ما يسمى بالكشوفات والمعاينات القلبية لتوضح المعاني القرآنية. وتستند هذه المدارس التفسيرية في الغالب على نظريات مسبقة وتعاريف منتخبة للمعاني اللغوية تبتعد كثيرا عن المعاني المتعارفة لدى المتكلمين باللغة العربية مما يجعل من العسير على الفرد العادي القبول بتلك التفسيرات قبل القبول بمتبنيات المفسرين أنفسهم.
5- هناك بعض المحاولات التفسيرية التي قام بها البعض والتي استندت إلى معايير أخرى غير ما ذكرنا أو أنها حاولت المزج بين أكثر من معيار ولكنها في الغالب بقيت غير مكتملة ولا يمكن اعتبارها مدارس تفسيرية خاصة وإنما محاولات. من ذلك قيام البعض بمتابعة مواضيع بعينها ضمن القرآن ومحاولة الخروج بذلك برؤية كاملة حول موضوع واحد. ومن ذلك أيضا قيام بعض المتخصصين بملاحقة أوجه البلاغة وحسن البيان في القرآن الكريم.
ولو تأملنا في المنهج الذي يتبعه الأستاذ أحمد المُهري سنجد أنه يقترب من بعض المناهج السائدة على الساحة التفسيرية في بعض الجوانب ويبتعد كثيرا عنها في جوانب أخرى كما يقترب من مناهج أخرى في جوانب أخرى مبتعدا بقدر مقارب منها في جوانب معينة أخرى وهكذا. وللوقوف على الفروق الجوهرية بين منهج الأستاذ أحمد المُهري وسائر المناهج التفسيرية لا بد لنا من استعراض بعض المقومات التي يقوم عليها منهج المُهري في تفسيره للقرآن الكريم.
مقومات منهج المُهري في تفسير القرآن الكريم
سوف نحاول في أدناه التعرف على منهج الأستاذ المُهري بالاعتماد على ما ورد في كتابه “نفسير التنزيل” والذي لم ينشر بعد، بالإضافة إلى ما تمكنا من استكشافه خلال محاضراته المتواصلة في التفسير في منطقتي ساري وومبلي. محاولين أن نستشهد بأمثلة على كافة ما نورده والله الموفق.
وللبدء في طرق الموضوعات المختلفة المتعلقة بمنهج الأستاذ المُهري لا بد لنا من البدء أولا بمحاولة حصر الأسس الأولية التي يقوم عليها منهجه في تفسيره للقرآن الكريم والتي يمكن إجمالها بالمحاور التالية:
المحور الأول: القرآن الكريم كمادة للبحث
1- التمسك بشكل قاطع بنظرية كمال القرآن الكريم وعدم إمكانية تحريفه أو وجود نقص أو زيادة فيه وانه بنسخة واحدة هي ما بين الدفتين وبالرواية الواردة عن حفص عن عاصم لا غير وان بعض الفروقات الموجودة في بعض النسخ الأخرى لا تمس أمرا جوهريا إطلاقا، ولا يمكن التعويل عليها لإقامة أية دعوى دينية أو دنيوية أو أخروية.
2- الإيمان مبدئيا بأن القرآن الكريم يحتوي على تبيان وتفصيل الامور المطروحة فيه بشكل كامل غير منقوص وبطريقة لا يحتاج معها إلى الاستعانة بغيره من الامور إلا بحدود تحقيق الفهم لما ورد فيه.
3- رفع شعار أن القرآن الكريم هو الكتاب السماوي الوحيد الذي لم تمسه التغييرات والتحريفات وأنه الوحيد الذي يدعي هذا الادعاء ولا يقابله أي كتاب آخر على وجه البسيطة يرفع لواء دعوة مضادة أو مشابهة، لذا فإن المطلوب هو التمسك بهذا الكتاب وقبول حقائقه بعد استجلائها وكشفها. وللوقوف على أوامره ونواهيه فإن على المكلف العيش في بوتقة القرآن الكريم واستلهام العون من الله تعالى، لذلك تجد أن المُهري من المتمسكين برؤية أن العلم لا يتحقق بطرق ميكانيكية بحتة وإنما يحتاج دوما إلى إذن من الله تعالى كي يصل إلى عقل الإنسان وقلبه. عليه فإن معادلته التي طرحها في قضية اليقين العلمي معتمدة على عاملين أساسيين:
الأول: هو السعي للربط بين جوانب المادة العلمية بالطرق العلمية.
والثاني: هو السعي للتزكية والإلحاح بطلب العون الإلهي للحصول على الإذن الإلهي بنزول العلم على الإنسان.
4- رفض كل ما يقال عن وجود النسخ في القرآن الكريم أو وجود أحكام منسوخة وأخرى ناسخة معتبرا أن القرآن الكريم جاء ليبقى إلى الابد بين الناس حتى يحتكموا إليه فلا يمكن أن يكون فيه أحكام منسوخة وأخرى ناسخة وهو لذلك يضع نظرية خاصة لتوضيح الانسجام بين الآيات التي تشير اليها سائر المدارس التفسيرية على أنها ناسخة ومنسوخة كاشفا عن أنها لا ناسخة ولا منسوخة. (كتفسيره لآيات حبس المرأة في البيت إذا ثبت عليها تعاطي الفاحشة بالسحاق لا بالزنا).
5- النظر إلى الاستخدامات القرآنية لحروف الجر والأدوات والإسنادات على أنها ذات دلالات خاصة ولا يمكن استبدالها بغيرها الا بحدود توضيح المقصود لا أكثر.
6- محاولة رد الضمائر إلى فواعل ومفاعيل غير التي درج المفسرون عليها لإخراج فكرة جديدة وحل التناقضات التي وقع فيها الكثير منهم. مستندا في ذلك على السياق وما يفرضه من فهم يؤدي في الغالب إلى التخبط في فهم الآيات القرآنية (كتفسيره لمثنى وثلاث ورباع على أنها تعود على الملائكة لا على أجنحتها).
7- النظر إلى السور القرآنية على أنها شخصيات لها نوع من الاستقلالية الموضوعية معتبرا أن كل سورة من السور القرآنية تحتوي على عدد محدود ومميز من الموضوعات، وأنها تطرح موضوعاتها بشكل كامل ولا تترك مجالا للتكهن إلا بحدود الربط بين مفردات الموضوع الواحد وبطريقة تقبل عددًا محدوداً من الاحتمالات التي لا تخل بالإطار العام للفكرة التي يرى المُهري أن السورة القرآنية تطرحها. كما أنه يعتقد بوجود قانون خاص يربط السور القرآنية ببعضها وأن ورود السور القرآنية بهذا النسق إنما جاء بلا شك بناء على ضرورات موضوعية وليس بشكل جزافي.
8- تقديم اهمية السياق على أهمية المعاني الخاصة بالكلمات والألفاظ والاشتقاقات الواردة فيه، خلافا لما هو معروف بين المفسرين من أن المعاني الخاصة للكلمات يجب أن تحدد المعنى السياقي العام في الجملة. لذا فإن السيد أحمد المُهري يؤكد دوما على عبارة “رسالة الآية” أو “رسالة السورة”. وهو يؤكد دوما على أنه أقدر على فهم الرسائل الواردة في الآيات والسور منه على حل الاشكالات المثارة حول معاني الكلمات أو معاني “شبه الجمل” أو حتى ما درج عليه المفسرون من الإعراب الخاص بالكثير من الجمل القرآنية. وهو لهذا يقدم دوما الترابط بين المعاني العامة في الآية أو السورة وهو ما يسميه “رسالة النص” على المعاني الجزئية للكلمات أو ” أشباه الجمل”.
المحور الثاني: المحيط والمصادر الثانوية
1- رفض التراث الروائي في تفسير القرآن رفضا قاطعا والاعتماد على القرآن الكريم فقط مع الاستعانة أحيانا ببعض المعلومات التاريخية التي تحظى بأقصى درجات القبول لدى الجميع والابتعاد عن الامور المختلف عليها سيما المعلومات التاريخية.
2- مناقشة أكثر ما ورد عن المفسرين من مختلف المدارس وإخضاعه للأسلوب العلمي في المناقشة وإثبات عدم صحته – في الغالب – عبر اتجاهين أحدهما الإبطال عبر عملية الاستدلال المنطقي والثانية كشف التعارض مع السياق أو المجال العام للآيات القرآنية.
3- التعامل مع التراث اللغوي في معاجم اللغة العربية بحذر شديد وقبول بعضه ورد بعضه الآخر مستعينا في اتخاذ القرار في ذلك – غالبا – على السياق الذي يفرض عليه في كثير من الاحيان الوصول إلى فهم خاص عن الآيات القرآنية، وعلى ما ورد في مواضع أخرى من القرآن الكريم لنفس المفردة المراد معرفة معناها.
4- الاستعانة بنتائج البحث العلمي على صعيد الجيولوجيا والفيزياء والفلك لفهم الآيات القرآنية وان كان تعامله مع تلك الموضوعات يتسم بالاطناب والاغراق تارة وبالحذر تارة أخرى؛ محاولا تصحيح أو رد بعض النظريات العلمية بناء على فهمه الخاص للآيات القرآنية التي يراها تتحدث عن نفس المواضيع. (كقضية بداية الخلق والانفجار الكبير – وقضية العهد في الجينات).
5- رفع الأستاذ المُهري شعارا يعد من اغرب الشعارات التي رفعت في ميدان التفسير القرآني وهو أن المعاني التي توصل اليها جيل من المفسرين لاتلزم الاجيال اللاحقة لهم وهكذا فالمعاني في حالة تجدد مستمر وهذا الأمر يساعد على استجلاء المعاني الأعمق من النص القرآني مما تتوصل إليه البشرية في مراحل عمرها المختلفة. وقد ولدت هذه الحالة قدرا من الثقة لدى الأستاذ المُهري للقول بأن تفسيره قد يتجاوزه الزمان حينما تطّلع عليه الاجيال اللاحقة ليؤكد عبر ذلك حقه في تجاوز النتائج التي توصل إليها سلفه من المفسرين وعدم الالتزام بها ما دامت عاجزة عن الانسجام والنتائج العلمية والعقلية الثابتة أو قل الواضحة وضوحا شديدا في عصره الحالي. وهذه النقطة بالذات يمكن ان تكون منطلقا لدراسات فكرية في مجال النظر إلى النص الديني باعتبار أن الخلاف ظل ناشبا بين أجيال متعاقبة من المفكرين المسلمين حول مدى إمكانية تثبيت الأحكام المستنبطة من القرآن الكريم والسنة النبوية. فقد تبنت بعض المدارس الفكرية الإسلامية منهجية القول بضرورة ثبوت الأحكام المستنبطة سيما في المسائل المركزية ثبوتا يتحدى الواقع وضروراته ويؤدي إلى تفاقم حالات التعصب المذهبي أو التطرف في الحكم على القضايا الواقعية متقابلا بذلك مع المنهج الاخر الذي يدعو إلى وضع الإسلام والنص الديني على الرف في كثير من مجالات الحياة باعتبار أن ما توصل إليه الفقهاء والمفكرون المسلمون هو النتيجة القطعية لفهم النص الديني وبذا فإن هذه الأحكام الثابتة التي لا يمكن تغييرها لا تصلح لهذا الزمان. عليه فإن الأسلوب الذي رفع الأستاذ المُهري لواءه منوها من خلاله على وجود فهم خاطئ فيما أشيع من تفسيرات للقرآن أعاد الأمل إلى جيل من المتحمسين للدين الذين أتيحت لهم من خلال هذا المنهج فرصة لإعادة النظر في كل الموروث الديني بأسلوب جديد.
المحور الثالث: الباحث وادواته
1- محاولة الانطلاق من نقطة اللامذهب قبل البدء بالتفسير ومحاولة الوقوف على مسافة متساوية تقريبا من كافة المذاهب الإسلامية، وعدّ المذاهب الإسلامية الحالية مذاهب جغرافية لا مذاهب فكرية. ملفتا باستمرار إلى ان المذاهب الفكرية انما كانت في وقت نشوئها مذاهب سياسية تخص أقواما وأمما خلت لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت.
2- الاستعانة وبشكل كبير بالمقبولات المنطقية البشرية وما يقبله العقل المحايد من أمور دنيوية واستخدام طريقة القياس على تلك المقبولات لفهم الآيات القرآنية اعتمادا على أن مبدأ الاستقراء المنطقي هو المبدأ الأكثر صلاحية لإقامة الفهم العلمي لكافة الأمور بما فيها الأطروحات القرآنية، مستندا في ذلك على عدد كبير من الآيات التي تطالب الناس بالتفكر والتعقل والفهم والتفقه.
3- الإلحاح بقوة في استخدام أدوات الاستفهام المتعارف عليها لمناقشة كل الجوانب المتعلقة بالآية مورد التفسير أو السورة مورد التفسير لاستنطاق النص القرآني إلى اقصى حد وفهم المغزى والمقصود عبر طرح عدد كبير من التساؤلات حول كل ما يرد في النص القرآني .
4- استخدم الأستاذ المُهري الخيال بطريقة مذهلة موظفا إياه في إيصال الأفكار الجديدة التي يستنتجها من النصوص القرآنية، ومزج ولأول مرة في عالم التفسير بين الخيال – ليس المقصود بالخيال هو الوهم وانما هو القدرة على التصور – من جهة وبين المعاني اللغوية من جهة أخرى لدفع ذهن المتلقي نحو مجال جديد من الفهم. وفي الحقيقة يمكننا القول بأن الأستاذ المُهري تمكن من صنع معادلة جديدة في مجال أسلوب التفسير للنص القرآني اعتمدت على المزج بين المتغيرات التالية وكما يلي:
المعاني اللغوية البسيطة للألفاظ + القدرة على التخييل + الوجدان الفطري والمنطق العملي = إمكانية فهم جديد.
وبالطبع فإن هذه المعادلة تحتاج إلى كل العوامل والمقومات التي استند إليها المُهري لتكوين الصورة الكاملة من الفهم الجديد للنص القرآني.
5- يحاول المُهري دوما ربط نفسه والالتزام بما توصل إليه في تفسيره السابق حينما يواصل تفسير السورة ويضع دوما نصب عينيه الموضوعات الأساسية التي تتحدث السورة عنها فيواصل توضيح الصورة. فهو لا يقبل إطلاقا اعتبار أن كل مجموعة من الآيات في السورة الواحدة تتحدث عن موضوع لا علاقة له بالموضوع الذي تتحدث عنه مجموعة الآيات التي تليها أو التي تسبقها، ويؤكد دوما على ان الانتقال بين الموضوعات في السورة الواحدة له أدلته العلمية وأنه يجري بسلاسة يحتاج اكتشافها إلى دقة وتركيز.
6- الحفاظ على اقصى قدر من المصداقية عبر التمسك بنتائج التفسير التي توصل اليها عبر تحويلها إلى أحكام دنيوية تساعد على تكوين صورة واضحة للسلوك المطلوب مما جعله ساعيا لتكوين صورة فقهية عن الأحكام القرآنية، وتكوين رؤية تحليلية عن الواقع السياسي والاجتماعي المحيط به والاجابة عن أكثر التساؤلات استثارة للفقيه وعالم الدين بأسلوب مناسب للعصر.
7- رغم أن الأستاذ المُهري سعى إلى تثبيت عرى الحقيقة العلمية في تفسيره من خلال منهجية التساؤل والبحث عن خفايا الأمور إلا أنه ألزم نفسه ببعض الثوابت وسعى إلى عدم تغيير تلك الثوابت خلال تفسيره العام حينما ينتقل من سورة إلى سورة وكان لهذا الامر إيجابياته وسلبياته كما سننوه عنه في موضعه المناسب.
8- أصر الأستاذ المُهري وفي أكثر من مناسبة على أن كل الأسس التي أقام عليها منهجه في التفسير إنما تمكن من الحصول عليها من خلال القرآن نفسه وأنه لا يمتلك نظرية مسبقة أو مذهبا معينا يجعله يندفع بهذا الاتجاه.
المحور الرابع: عوامل مكتشفة من خلال البحث تحولت إلى أسس مساعدة:
العوامل التي ندرجها في هذا المحور هي عوامل أساسية في منهجية الأستاذ المُهري لكنها ليست ابتدائية وإنما يبدو أنها نتجت من خلال قيام الأستاذ المُهري بالبحث ثم ترسخت وتحولت إلى اسس ثانوية مساعدة في إثراء البحث ومنها مايلي:
1- تأكيده وخلافا للمتعارف بين المسلمين أن حق الله هو الحق الأهم وليس حق الناس فحق الناس قد يغفر بإذن الله إذا ما كان المؤمن مستحقا لمزيد من الرحمة الإلهية. أما حق الله فهو الأهم بلا منازع.
2- توصل المُهري عبر منهجه الجديد إلى أحكام فقهية معتمدة في الغالب على النص القرآني وأظهر تعارض هذه الأحكام والأحكام الرائجة بين ابناء الطوائف الإسلامية والتي تستند برأيه في الغالب إلى قياسات شخصية من قبل الفقهاء تقوم على التراث الروائي أكثر بكثير من قيامها على النص القرآني. (كإصراره على أن الحج لكافة الناس وليس للمسلمين خاصة).
3- يفسر الأستاذ أحمد المُهري المعاجز التي رافقت ظهور النبوات والرسالات الإلهية في الغالب بطرق علمية وضمن القوانين الطبيعية ويعتقد أنها تخفى على المعاصرين لها لكنها قد تظهر تباعا للاجيال اللاحقة لتكون معاجز جديدة على إثبات وجود الله وتدخُّله في تاريخ هذه الأرض.
4- نزع المُهري في تفسيره الجديد صفة القدسية عن كل ما لم يصرح القرآن بقدسيته ووضع ولأول مرة في عالم التفسير حدا فاصلا لا يقبل التجاوز بين الخالق الأحد الفرد الصمد وبين عبيده مهما كانت مسؤولياتهم أو سماتهم أو مواقعهم الدنيوية وجعل من الأنبياء والرسل إخوانا للمسلمين وللمؤمنين لا سادة لهم. كما أعاد وضع الأمور في أنصبتها الطبيعية الأمر الذي ساهم في تشديد الحملة عليه واعتباره خارجا عن الدين والملة، كما سيتضح معنا لاحقا.
الفرق بين منهج المُهري وسائر مناهج التفسير
عليه يمكننا الآن معرفة الفروق التي تميز منهج المُهري عن سائر مناهج التفسير المتعارفة على الساحة الإسلامية. مذكرين في بداية البحث بأن منهج المُهري يمكن إدراجه مع مناهج تفسير القرآن بالقرآن. مع الاستعانة بقليل من المعلومات التاريخية المتفق عليها ودون الاعتماد بأي شكل من الأشكال على التراث الروائي الإسلامي. وعلى هذا الأساس يمكن رصد الفروقات التالية أو قل النتائج التالية لمنهج المُهري في تفسير النص القرآني:
1- أدت الأسس التي قام عليها منهج الأستاذ المُهري في تفسير القرآن الكريم إلى تميزه وبشكل حاد عما يسود الساحة الإسلامية من تفسيرات تعتبرها المذاهب الإسلامية قمة ما أبدعه العقل الإسلامي السلفي أو حتى المعاصر. ويمكن القول بأن تفسير التنزيل تعارض أو اصطدم بدرجات متفاوتة مع سائر التفاسير المعروفة على الساحة الإسلامية ما دفع البعض إلى اتهامه بالخروج عن الدين والملة.
2- أدت النتائج التي توصل اليها الأستاذ المُهري إلى رفضه للكثير من الأحكام المتسالم عليها بين الطوائف والمذاهب الإسلامية، بل وحتى بعض المناسك أو بعض ما يعتبر من الثوابت التي لايثار حولها أي جدال (كدعوته إلى أن يكون الحج عاما لكل البشر لا للمسلمين خاصة وفتح مكة لسائر الناس لزيارتها والسياحة فيها) ما أدى إلى اتهامه بالتجديف والضلال، والعداء للمذاهب الإسلامية ومن كل حسب طريقته فالشيعة يتهمونة بالميل نحو السلفية والسنة يتهمونه بالتجديف.
3- أدت القدرة الواضحة التي تحلى بها الأستاذ المُهري على توضيح معاني الآيات إلى زيادة ثقته بمنهجه والابتعاد أكثر عن التراث الروائي، ما أدى بالتالي إلى زيادة إصراره على التمسك بالقرآن لوحده ككتاب هداية وإرشاد وأحكام دون الحاجة إلى ما سواه. وقلما يرى المُهري نفسه محتاجا إلى شيء من المأثور لتوضيح حكم أو حالة اجتماعية أو سياسية في المجتمع المعاصر، وان كانت هذه القضية بالذات غير كافية لدى البعض للقبول من الأستاذ المُهري بالإعراض عن التراث الروائي باعتبار أنه لم تقرر مرجعية مخولة بعد ترجيح صحة تفسير التنزيل على غيره من التفاسير. كما أن العديد من المهتمين بشؤون التراث الإسلامي يرون في التراث الروائي كماً لا يستهان به من الروايات الصحيحة التي لا تختلف مع الوجدان البشري أو العلم أو حتى القرآن.
4- تمكن الأستاذ المُهري من التسلل إلى نفوس عدد كبير من المتعطشين إلى المعرفة عبر أسلوبه البسيط والقادر على مخاطبة الوجدان عبر أمثلة بسيطة ومرتبطة بالحياة الواقعية ما يسهل على المتلقي فهم المطلوب وتكوين قناعات سريعة في أغلب الأحيان. والحق يقال أن هذه القدرة تتضاءل فقط في الحالات التي تكون الافكار التي يطرحها الأستاذ المُهري متعارضة بشكل جلي مع الموروث المذهبي أو الطائفي أو الانفعالي لدى بعض الليبراليين – بالمعنى المتداول لهذا المصطلح الذي يكتسب لدى المُهري دلالة أخرى تدخله في الميدان الإيجابي دون السلبي-.
5- طرح الأستاذ المُهري ولأول مرة تعريفات جديدة مختلفة للعديد من المسلمات والاصطلاحات التي اعتاد المسلمون على تداولها بمعاني موروثة وثابتة، فقد عرف النبوة والرسالة والعرف والعفو والمقدس والمعجزة وسبيل الله والانزال والتنزيل والعشرات من الاصطلاحات الدينية الأخرى بتعاريف جديدة وسعت من دائرة المسموح ببحثه وقللت من الخطوط الحمراء إلى أدنى درجة عرفها المسلمون، وأنزلت العديد من الرموز الشخصية من منابرها التي اعتلتها لقرون لتجعل منهم مادة للبحث والدراسة حالهم حال الموضوعات الأخرى للوقوف على حقيقة ما نسب إليهم أو أحيطوا به. وكل ذلك استنادا إلى ما أسماه بـ” الثوابت القرآنية ” التي يصعب ردها. وهو أمر جعله يمتاز بجدارة عن سائر المدارس التفسيرية.
6- نتيجة إصرار المُهري على التمسك بفكرة أن القرآن الكريم هو الكتاب الوحيد من التراث الديني الموجود على الكرة الارضية الذي لا تقابله دعوة مضادة من أية جهة تنازعه على موقعه السماوي في الارض فقد رفض الأستاذ المُهري استنادا إليه العديد مما يسمى مسلمات لدى المسلمين بل قد تكون لها أيام ثابتة في العام الهجري للاحتفال بمرور السنين عليها كالمعراج والمبعث النبوي ومواليد الانبياء والائمة والمعاجز التي تنسب إلى الكثير منهم، ورفض على هذا الاساس منهج التقليد لرجال الدين بل إنه رفض فكرة التقليد أساسا باعتبار أن البشر كلهم مطالبون بأداء الامتحان في هذه الأرض بالاستناد إلى عقولهم وإراداتهم. كما رد بقوة فكرة الشفاعة الرائجة لدى الأديان الثلاث مقيما رفضه على مفاصل قرآنية هامة لا يمكن لمن تمسك بتلك الأفكار من جهة والايمان بالقرآن من جهة أخرى تجاوزها، ناهيك عما أصلحه في الصورة المشوهة للرسول الكريم موسى عليه السلام وأخراجه من حالة الإعاقة البدنية التي كان المسلمون يلاحقونه بها لتفسير ما أورده القرآن الكريم عن دعاءه من الله أن يحلل عقدة من لسانه، منتقلا بالقضية إلى أفق أرحب يتعلق بابتعاده عن قومه مدة من الزمن جعلته غير طليق في لغة قومه. كما تمكن الأستاذ المُهري من وضع الحد الفاصل بين العصمة التكليفية أو الرسالية للرسل وبين ما أشيع لهم من عصمة تكوينية تسقط عنهم التكليف الإلهي وتجعلهم غير محاسبين كسائر البشر مما يقتضي ليّ أعناق العديد من الآيات القرآنية. كما رد دعوى علم الغيب المنسوبة إلى الرسول الكريم وبعض أهل بيته وأحفاده ليخلق حالة من الصلح والسلام بين هؤلاء الثلة بما فيهم رسولنا الكريم عليه السلام وبين المعاني القرآنية العديدة التي تشير إلى انفراد الله تعالى بعلم الغيب وعدم إطلاعه أحدا على ذلك الغيب. إلى الكثير من ذلك.
7- كشف المُهري عن عمق أكبر للمعاني القرآنية بعد أن درج العديد من الناس على تفسير الآيات القرآنية بالمعاني المباشرة والبسيطة كمطالبة إبراهيم ربه أن يريه كيف يحيى الموتى. كما كشف ولأول مرة عن تفسير جديد لقضية المشكلة التي طرحت على النبيين داود وسليمان وكيف فهَّم الله سليمان قضية أحدثت ثورة في الطرق الزراعية وهي قضية السماد الحيواني. كما كشف عن بعد اخر أعمق بكثير مما كان يطرح حول قضية رفع المؤمنين صوتهم فوق صوت النبي أو التفسح بالمجالس ليكشف وبشكل منسجم عن عمق حضاري راق لم يكشف عنه سابقا في الحضارة الإسلامية والمجتمع الإسلامي الأول. كما أظهر معنى أعمق لآية المباهلة يبتعد كثيرا عن القصة التاريخية التي تنزل الرسول الأكرم وأهل بيته من مقامهم المعنوي الرفيع إلى مقام المنازعة المباشرة مع خصومهم الفكريين.
مزايا تفسير المُهري
بناء على ما تقدم تمكن الأستاذ أحمد المُهري من تقديم تفسير جديد بكل ما للكلمة من معنى والتميز على أقرانه من المفسرين القدامى أو المعاصرين بتقديم تفسير قرآني يستجيب للكثير من المطالب ويجيب على كثير من التساؤلات وكما يلي:
1- امتاز تفسير المُهري بالقدرة الهائلة على اجراء مصالحة بين الدين والعلم بعد تنافر دام قرونا بسبب بعض الأطروحات التي امتلأت بها كتب التفسير فأظهر قدرة واضحة في استيعاب الأطروحات العلمية التي تفسر بنجاح الكثير من الظواهر الكونية وتمكن من خلق الرابط المتميز بين تلك الطروحات وبين فهم جديد عن الآيات القرآنية.
2- طرح نظرة جديدة عن التقسيم السائد للآيات القرآنية إلى آيات أحكام وآيات ليست للأحكام أو ناسخة ومنسوخة أو محكمة ومتشابهة وناقش ما هو موجود بقسوة ووضع أسسا جديدة للتقسيم بين الآيات القرآنية ليجعل بعضا منها خاصا بالرسول الاكرم وصحابته وآخر عاما لكل البشر وهكذا، مع التأكيد على أن القرآن الكريم هو كتاب إرشاد رباني يمكن التزود من ينابيعه بما يكفي لملايين الأجيال.
3- امتاز تفسير المُهري عموما بالتماسك وخلوه – في أغلب الاحيان – من التناقض الذي وقع فيه العديد من المفسرين، فقدم تفسيرا منسجما يستجيب للنظريات التي وضعها والشروط التي ألزم نفسه بها في أغلب الأحيان. وسوف نشير في فصل قادم إلى الأحيان التي لم يتمكن فيها المُهري من البقاء على هذا الانسجام.
4- تمكن المُهري من خلال تفسير التنزيل من خلق حالة من الشعور لدى القارئ بمسؤوليته الجسيمة والفردية الخاصة أمام الله تعالى خلافا للرائج من الطروحات التي تشيع جو الاعتماد على الشفاعة المستقبلية أو صكوك الغفران التي توزعها بعض الديانات الأخرى أو الطوائف الإسلامية بناء على اعتبارات خاصة.
5- تمكن المُهري من خلال محاضراته المتواصلة والمستمرة وعبر التأكيد على ثوابت قرآنية خاصة من خلق حالة من الثقة بالنفس لدى مستمعيه دفعتهم في الغالب نحو مناقشة كل ما يطرح عليهم حتى من قبل المُهري نفسه وذلك للوصول إلى حالة من الاطمئنان من صدقية المطروح دوما، وتحاشي الوقوع في تقليد الآخرين دون وعي أو بينة.
6- تمكن المُهري من إثبات تهافت النظريات السائدة في الساحة الإسلامية والمعتمدة بدرجة كبيرة على التراث الروائي وعدم استنادها إلى رصيد قرآني كاف للإبقاء عليها أو الالتزام بها كعقائد تعبدية. وربط بين تلك النظريات وبين ما شاع من تطرف وتساهل في أموال ودماء الناس وأعراضهم التي يقيم عليها عدد كبير من الفرق الدموية ممن ترفع شعارات اسلامية.
7- تمكن المُهري من اثبات نظرية التكليف الفردي والمسؤولية الفردية ورفض التقليد المتعارف وقدم دعوة قرآنية واضحة تدفع على التفكير والتدبر ورفض الانصياع لما هو سائد لمجرد أنه تراث الآباء والأجداد أو بعض من ارتبطت أسماؤهم بالألقاب العلمية التي أفرزتها مؤسسات تنتمي إلى نفس التيار الذي ينتمي إليه المفسرون ومن يعرفون برجال أو علماء الدين.
8- تمكن الأستاذ المُهري من خلق حالة من الثقة لدى الكثيرين بأنفسهم وبإمكانية إعادة النظر في الكثير من الأمور التي تمسكوا بها طوال سنين بناء على دعوات قرآنية واضحة.
المآخذ على منهج المُهري في التفسير
يؤخذ على المُهري بعض المآخذ الهامة في عملية التفسير منها ما يلي:
1- أن تعامله مع اللغة تعامل مزدوج فهو يختار مما هو متداول من المعاني اللغوية ما يناسب فكرته العامة في تفسير تلك الآية أو تلك المجموعة من الآيات دون تقديم الدليل على صحة متبنياته أحيانا، كما أنه يرفض القبول ببعض ما تقدمه المعاجم اللغوية أحيانا أخرى ودون دليل واضح ايضا، مما يفقده عنصر الحياد في هذه المسألة بالذات.
2- خلو بعض طروحاته في التفسير والتي تعتبر صيحات في عالم التفسير أحيانا من الدليل العلمي المتكامل لإثبات صحتها واعتمادها أحيانا على نظريات لم ترتق إلى درجة عالية من الثبوت والقبول العلمي، مما يصيب تفسيره أحيانا بخلل كبير باعتبار أن الغالبية العظمى من طروحاته الجديدة تستند إلى أدلة قوية ومحكمة وتقدم تفسيرا خاليا من التناقض الذي تقع فيه الكثير من التفسيرات الأخرى.
3- محاولته الابتعاد بتفسيره عن المطبات الإعرابية التي حاول العديد من المفسرين السابقين تحليلها والاستفادة منها في تدعيم أسس تفسيرهم مما يجعل بعض تفسيراته متناقضة مع المعنى الإعرابي للجملة القرآنية وهي حالة وإن كانت قليلة الوقوع في تفسيره إلا أنها هامة وتتطلب الالتفات والمعالجة. ورفع شعار عدم أهمية اللغة في الفهم القرآني دون دليل واضح على ذلك، رغم أن الله تعالى استجاب لموسى دعوته في الإرسال إلى أخيه هارون وجعله نبيا مرسلا هو الآخر لمجرد مساعدته في الخطاب اللغوي لفرعون وملئه كون أن موسى قد ضعفت سليقته في لغة قوم فرعون نتيجة ابتعاده عنهم لفترة من الزمن وتعلمه الحديث بلغة أهل مدين .
4- الإغراق أحيانا في سيل المعلومات العلمية سيما المتعلقة بالفيزياء والفلك وقصر التفسير على المناحي العلمية في بعض الآيات والسور مما يبعد الباحث المتعطش للمعرفة القرآنية عما يوصف في الساحة الإسلامية بالأجواء الروحانية والنزول بالقرآن – في نظر البعض – من مستوى الكتاب الإلهي إلى الكتاب العلمي الفلكي.
5- رغم الشعار الخاص الذي رفعه الأستاذ المُهري من أن الفهم للقرآن يتعمق بتطور البشرية وتطور أدواتها الا أن تفسيره لا يخلو في الأعم الأغلب من الحملات القوية على المفسرين واستخدام عبارات وإن كانت طبيعية في المجال العلمي والبحثي إلا أنها تثير حفيظة البعض معتبرة أنه يريد الانتقاص من السلف الصالح ولا يريد أن يقيم وزنا لما بذلوه من جهود تتناسب ومستوى الفهم الذي كان سائدا في عصورهم.
6- الإغراق في كثير من الأحيان في وصف أجواء الآخرة وبطريقة تبتعد عن النص القرآني ما يؤدي إلى إثارة السؤال حول المصدر الذي يستقي منه المُهري معلوماته حول هذا الموضوع بالذات وإثارة شبهة الإدعاء بأنه من مدعي الكشف الغيبي أو ما شابه سيما وأنه من مؤيدي نظرية الفتح الإلهي في التعلم. كذلك فإن إصرار المُهري في بعض الأحيان على وجود أو عدم وجود أمور معينة في الجنة أو النار ودون أدلة قرآنية كافية يثير حوله زوبعة لا تقبل التوقف من الاتهام بالتجديف.
7- مع نقد الأستاذ المُهري اللاذع للمفسرين في ابتعادهم عن المعنى الأقرب للآية القرآنية واصراره على أن السياق يساعد المفسر على الفهم الأدق للعبارة القرآنية إلا أنه يبيح لنفسه أحيانا وضع معنى محتمل للعبارة القرآنية يكون بعيدا للغاية عن الفهم المباشر الذي يتبادر إلى ذهن الناطق باللغة العربية وعادة مايكون المعنى المطلوب الاعتقاد به للجملة محتاجا إلى إضمار لفظة غير موجودة أصلا في السياق. مثال ذلك تفسيره لقوله تعالى “قطعت لهم ثياب من نار …” على أنه “قطعت لهم ثياب تقيهم من النار “أو تفسيره لعبارة” قتلهم الانبياء بغير حق “على أنها تعني أنهم “لم يقتلوهم حقيقة”.
8- انتقاؤه بعض المصاديق الخاصة للكلمة الواردة في النص القرآني دون قاعدة موحدة فهو يختار المعنى الأصلي للكلمة أحيانا ويختار المعنى المصداقي للكلمة من مرحلة متأخرة عن المعنى الأصلي في أحيان أخر لمجرد أن هذا المعنى يبقي على وحدة الموضوع في تفسيره العام كاختياره لمعنى القوة في تفسيره للفظة الجبل أو التنشيط لتفسيره معنى البعث والإنزال. مثال ذلك كلمة الحريق التي أخذها بمعناها الأصلي دون المعنى المصداقي. في حين أخذ كلمة القتل بمعناها المصداقي بمعنى الإماتة. أو أخذه لمعنى كلمة غل بمعناها الاصلي واعتباره أنها تعني التفرد في اتخاذ القرار.
9- تفسيره بعض الجمل القرآنية بمعنى مفردة واحدة أحيانا واعتباره أن المعنى المقصود من كل الجملة هو الإشارة إلى مفهوم واحد بسيط ودون تقديم دليل مقنع على ذلك. مثال على ذلك اعتباره قوله تعالى “الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم …” كلها إشارة إلى المرونة الموجودة في جسم الإنسان. أو اعتباره أن قوله تعالى “فعضوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن” كلها تعني مفردة واحدة وهي عِضوهن. ولا يخفى ان عدم تقديم دليل مقنع على هذا التفسير يؤدي إلى الاعتقاد بأن هناك كلاما زائدا في القرآن الكريم والعياذ بالله أو أن القرآن غير بليغ في التعبير عن أفكاره في حين أن العكس هو الصحيح . والله أعلم.
10- رفع السيد المُهري شعارا عمليا وهو عدم التردد في إعلان الحقيقة التي يصل إليها عبر تفسيره مهما كانت النتائج ومهما تعارضت تلك النتائج مع ما هو سائد من افكار وتوجهات ولكنه يتحسس كثيرا إذا لمس من مستمعيه رفضا لبعض تفسيراته.
11- إصراره على وجود ترابط وثيق بين مختلف جوانب تفسيره للقرآن الكريم جعله في بعض الاحيان يصر على تصورات وتفاسير خاصة به رغم عجزها عن إقناع المستمع العادي بصحتها، إصرارا لا يستند على شيئ اكثر من استناده على ضرورة القبول به للحفاظ على نوع من الوحدة والانسجام في تفسيره بشكل عام. الأمر الذي يخدش بشكل واضح بموضوعيته المتعارفة.
وفي الختام لا بد من الاشارة إلى قضية أخرى قد لا ترتبط بموضوع البحث مباشرة إلا أنها ولا شك قد تساهم في ترسيخ وإنضاج الحقائق العلمية سيما ما يتعلق منها بقضية تفسير النص القرآني الكريم. وهي ببساطة قضية العلاقة بين ضخامة الجهد العلمي المبذول في تفسير التنزيل الذي يعكف الأستاذ المُهري على خطه، وبين الامكانيات المتاحة لهذا الباحث المبدع. فالمطلع على ما يتاح له من إمكانيات يكاد يصاب بالذهول على عدم التناسب بين ما هو متاح للرجل وبين ما يتمكن من تحقيقه على الصعيد العلمي. والحقيقة أن الشعوب والأمم لا تحيا بكثرة أعداد أبنائها وإنما تحيا بحياة مبدعيها ومفكريها وأساطينها عموما، فإن أريد لهذا الباحث المبدع أن يقدم إضافة قادرة على البقاء في ميدان الفكر والبحث العلمي فلا بد له من أمة تحيط به وتوفر له ما يعينه على المواصلة وتقديم المزيد والله من وراء القصد. وأستغفر الله لي وله ولجميع المؤمنين والحمد لله على ما هدانا انه سميع مجيب.
ابو مهدي
قصي الموسوي
لندن في 2009-02-07