الأنبياء الجدد -2
الأنبياء الجدد -2
تطرقنا في المقالة الفارطة إلى ختم النبوة، وتساءلنا بخصوص أسباب ختم الله لهذه النبوة، بنص القرآن الكريم، في وصف نبيه حينما قال سبحانه:” مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَٰكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ۗ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا” الأحزاب-40، ولخصنا هذه الأسباب في قولنا بأن الإنسانية أصبحت راشدة، وأنها وصلت إلى مرحلة أصبحت معها قادرة على الإبداع والابتكار والاكتشاف، ومعرفة كنه الوجود وعلته وأسراره، لتكون الرسالة المحمدية، هي الحد الفاصل بين مرحلة الوحي الإلهي المرسل من الله عبر أنبيائه ورسله، وبين مرحلة الإنسان المكتشف المنقب المحاجج بالعقل والبرهان، بما يمكن أن نصطلح عليه بمرحلة “العلم”.
البيان الإلهي الأخير
لكن هل تركنا الله من خلال بيانه الأخير دون أن يوضح لنا هذا الطريق؟ ودون أن يبين لنا هذا الكلام الذي استنتجناه استنتاجا من خلال استقرائنا للآيات القرآنية؟ فمادام القرآن هو البيان الإلهي الأخير إلى عباده، فبكل تـأكيد سنجد فيه النبراس، وسنجد فيه ما يوضح لنا طبيعة المرحلة القادمة، مرحلة ما بعد الوحي، لذلك حاولنا أن نقف على مجموعة من الآيات القرآنية التي نظن أنها تهيئنا للمرحلة ما بعد النبوة، ولنقرأ معا الآيات التي تلت آية ختم النبوة والتي جاء فيها
” مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَٰكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ۗ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (40( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ۚ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43)”
فمباشرة بعد وصف الله لنبيه بأنه رسول الله وخاتم النبيئين، قال سبحانه “وكان الله بكل شيء عليما” وطلب منا أن نذكره وننزهه عن خلقه سبحانه في كل الأوقات، مبينا لنا أنه سبحانه يصلي علينا هو وملائكته، في إشارة قوية إلى تكريم الله لهذه الإنسان تكريما استحق معه أن يحظى بصلاة الله وصلاة الملائكة، وكأن هذا الإنسان سيتسلم المشعل الرباني بشكل مباشر من الله لاكتشاف النور، نور الهداية ونور العقل ونور الحقيقة ونور المعرفة ونور العلم، لذلك نجد الآية تخبرنا بأن الله يصلي علينا هو وملائكته ليخرجنا من الظلمات إلى النور، وتلك رحمة الله بالمؤمنين.
وكأن سياق الآيات القرآنية يقول لنا بأن الله سيختم النبوة بمحمد، فعلينا أن نكون أهلا للمسؤولية القادمة، التي يجب أن نستعين فيها بالعلم الرباني الكلي الذي وضعه في الكون، تنزيها له سبحانه وذكرا له، فكل ما في الكون من بديع صنعه وهو من آثار علمه المطلق، وصلاة الله علينا هو وملائكته، تزكية لنا نحن “الإنسان” في المرحلة القادمة بعد مرحلة النبوة لنكتشف وحي الله في الكون ونواميسه وقوانينه، وبهذا سيتأتى لنا الخروج من ظلمات الجهل إلى أنوار العلم والمعرفة.
وما يؤكد هذا الطرح هو قوله سبحانه وتعالى في سورة فاطر:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا ۚ وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَٰلِكَ ۗ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28).
فلنتدبر هذه الآيات التي يبين الله من خلالها بسؤال إنكاري” ألم تر؟”، وفيه دعوة خفية إلى الملاحظة الحسية التجريبية، وإمعان النظر بالاستقراء، دعوة صريحة إلى ملاحظة نزول الماء من السماء، وكيف بهذا الماء تم إخراج ثمرات مختلفا ألوانها رغم أن المصدر واحد، والتربة واحدة، وكيف كانت الجبال عبارة عن ألوان وطبقات جيولوجية، وأن نرى بتمعن اختلاف الدواب والأنعام أيضا وكيف اختلفت ألوانها وأنواعها، من سيلاحظ هذا ومن دعاه الله لاستقراء واستنطاق هذه الطبيعة بكل مكوناتها ؟ إنهم العلماء الباحثون والمنقبون في هذه العلوم التي لها اتصال بالنبات والحيوان والجيولوجيا طبعا، لذلك ختمت الآية بقوله تعالى:” إنما يخشى الله من عباده العلماء”.
وغير بعيدة منا سورة الغاشية وما فيها من دعوة لتدبر دقيق للكون قصد معرفته، ومعرفة تكوينه وما يخفيه من أسرار في أدق تفاصيلها، ودعانا في غير ما آية إلى أن نسير في الأرض وندرس آثارها كي نعرف تاريخ الأمم السالفة، ثم دعانا لنستنطق الأرض قصد معرفة كيف بدأ الخلق ثم يعيده، وكيف تتم النشأة الآخرة، كل هذا يشكل دعوة صريحة لهذا الإنسان إلى دخول عصر ما بعد الوحي، عصر العلم والعقل والتدبر في الكون لاكتشاف نواميس الله الكونية وذلك وحي إلهي آخر، يكون فيه العلماء، أنبياء جدد.
العلماء ورثة الأنبياء أو الأنبياء الجدد
يحاول الفقيه ما أمكنه أن يستشهد بالحديث الذي رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه وغيرهم، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في ضمن حديث طويل:” إن العلماء ورثة الأنبياء وإن الأنبياء لم يورِّثوا دينارًا ولا درهمًا، إنَّما ورَّثوا العلم” لإثبات أن العلماء الذين يرثون النبوة ليسوا إلا الفقهاء أنفسهم، تأسيسا لكهنوت ديني ينطق عن الله، ويتحدث باسمه، ويوقع عنه، وينال القدسية منه، والحقيقة الماثلة أمامنا هي أن العلماء الوارد وصفهم في القرآن والذين نرى أنهم الأنبياء الجدد، فهم ورثة الأنبياء في اكتشاف وحي الله في الكون وإظهاره للناس، وخلق السعادة للناس، وإنقاذ الناس من ظلمات الجهل إلى نور العلم، هم علماء الفيزياء، والكيمياء، والطب، والحيوان، والجيولوجيا والنبات والسيبرنيقيات والكوسمولوجيا، والأنثربولوجيا، والتاريخ والأركيولوجيا، والفلاسفة والمفكرين وعلماء الاجتماع، وغيرهم من العقول النباشة عن الحقيقة، والتي لاتكل ولا تمل، وبفضلها استطاع الإنسان أن يصل إلى الذرى، وإلى بحبوحة العيش ورخائه، حتى صلى الله وملائكته حقا وصدقا على هذا الإنسان.
ومن جميل ما قرأت في القرآن أن قرن الله اسمه ووحدانيته بالعلم والعلماء حينما قال في سورة آل عمران:
” شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ ۚ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18(“
فلا مجال ليقحم الفقيه نفسه في هذا وهو الذي يمعن في إبعاد الناس عن الله، ويؤسس للفرقة بين الله وبين عباده، ويقحم نفسه في سياقات لا علاقة لها به، حيث لا وجود لمفهوم الفقيه في كتاب الله بالطريقة التي يقدم بها الفقيه نفسه، حتى أن واحدا من هؤلاء الفقهاء وهو ابن قيم الجوزية ألف كتابا أسماه ” إعلام الموقعين عن رب العالمين” حيث اجتهدوا كي يجعلوا من أنفسهم ناطقين رسميين باسم الله وموقعين عنه، وكأنهم اتخذوا عند الله عهدا بذلك، ورفعوا أنفسهم إلى أعلى عليين، وحرموا انتقادهم، وقالوا: “إن لحومهم مسمومة” ليحصنوا أنفسهم ضد كل من يحاول أن يتجاوزهم ويضعهم في نسبيتهم وظرفيتهم ومكانتهم الطبيعية.
وختاما أود أن أختم بهذه الآية القرآنية، والتي تبين فضل العلم والعلماء” الأنبياء الجدد” وما هي مكانتهم الحقيقية، في النسيج المجتمعي والكوني، بقوله سبحانه وتعالى في سورة المجادلة
“يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11(“
رشيد أيلال