العلم هو أن نتحدث عما نعرف
العلم هو أن نتحدث عما نعرف
في حديثنا عن الفرق بين “الحضارة” و”العلم”, قلنا إنه إذا كانت “الحضارة” هي إنتاج كيكة البلاك فورِست, فإن “العلم” هو:
“الوعي بطريقة عمل كيكة البلاك فورست, وخصائص محتويات كيكة البلاك فورست, والسعي المتواصل لتحسين طريقة عمل كيكة البلاك فورست, ومعرفة تاريخ ظهورها لأول مرة, والتغيرات التي طرأت عليها من ساعة ظهورها إلى يوم الله هذا, ومعدل توافرها في المجتمعات المختلفة, والأكلات والمشروبات المرتبطة بها, ومواعيد تناولها, وما إذا كانت مرتبطة بمناسبات معينة, وأخيرًا, التحقق من سلامة كل هذه المعلومات, إضافة إلى التحقق من سلامة أدوات التحقق ذاتها.”
لاحظ في هذا التعريف “الحلواني” للعلم أنه يقوم من أوله إلى آخره على مجموعة من المعلومات التي يمكن التحقق من صحتها باستمرار. معلومات مثل “طريقة عمل كيكة البلاك فورست” حيث يعطيك “المختص” كل المعلومات المطلوبة لعمل هذا النوع من الكيك, وتقوم سيادتك باتباع هذه التعليمات, فإذا نجحت وحصلت على كيكة جميلة يكون هذا هو “الدليل الساطع” على صحة المعلومات التي أعطاها لك “المختص”, أما إذا لم تنجح فهذا هو “الدليل الساطع” على أن سيادة المختص هذا إنما هو إنسان يتحدث عما لا يعرف. على عكس ما يحدث في ثقافتنا العربية “الجميلة” حيث نتهم أنفسنا بأننا لا نفهم عندما نتبع تعليمات في موضوع ما وينتهي الموضوع بالفشل. في العلم, إذا اتبعت التعليمات التي “كتبها” المختص ولم تصل إلى النتيجة المتوقعة, فإن ذلك معناه أنه لم يحسن أداء عمله, وأنه يتحدث عما لا يعلم. في العلم, هناك “عرف” مقتضاه أنك ستحصل على “أجمل كيكة بلاك فورست في العالم” طالما اتبعت التعليمات.
لاحظ كذلك أن الأمر لا يقتصر على المعلومات الخاصة بطريقة عمل كيكة البلاك فورست وإنما يشمل كل ما يتعلق بها من “تاريخ ظهورها لأول مرة, والمراحل التي مرت بها من ساعة ظهورها إلى يوم الله هذا, ومعدل توافرها في المجتمعات المختلفة, والأكلات والمشروبات المرتبطة بها, ومواعيد تناولها, وما إذا كانت مرتبطة بمناسبات معينة.” لاحظ, أكثر من ذلك, أن المختص مسؤول عن سلامة هذه المعلومات بل مسؤول عن سلامة الأدوات المستخدمة في التحقق من سلامة هذه المعلومات. في العلم, بهذا الشكل, لا أحد يتحدث إلا عما يعرف.
لاحظ أيضا أن هذا التعريف “الحلواني” للعلم يتعارض أشد ما يكون التعارض مع علوم عزيزة على قلوبنا ولا نتخيل حياتنا بدونها بل, حقيقة الأمر, نحن على استعداد للتضحية بحياتنا دفاعًا عنها. يظهر ذلك بوضوح تام في حالة “علم الحديث”.
يخبرنا علماء الحديث أن الله سبحانه وتعالى أنزل على رسوله الكريم الكتاب والسنة اللذين تعهد بحفظهما فحفظ الكتاب بين دفتي المصحف وحفظ السنة في صدور مشايخنا الكرام. وهكذا وصلنا كلام الله على لسان رسول الله محفوظا بين دفتي المصحف كما وصلنا كلام الله على لسان رسول الله محفوظا في صدور مشايخنا الكرام. وهكذا تخصص عدد من مشايخنا الكرام في دراسة “علوم القرآن”, على حين تخصص عدد آخر في دراسة “علم الحديث”. وحيث إن “علم الحديث” علم مثله في ذلك مثل “علم صناعة الحلويات”, أو “علم اللغة”, أو “علم النفس”, أو “علم الاجتماع”, أو “علم الاقتصاد”, أو أي علم آخر من العلوم الإنسانية, فإن ما ينطبق على هذه العلوم ينطبق عليه, وما ينطبق عليه ينطبق عليهم, فالكل, في نهاية الأمر, علوم. أو هكذا “نتخيل”.
يعني ذلك أننا نتوقع “وعيًا” بطريقة نقل الحديث, و”وعيًا” بمحتوى الحديث, وسعيًا متواصلاً للتحقق من صحة وسلامة طريقة نقل الحديث, و”وعيًا” بتاريخ ظهور الأحاديث (لا يوجد في الثقافة العربية أي “وعي” بتاريخ صدور الأحاديث النبوية الشريفة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم), ومنهاجًا للتحقق من “صحة وسلامة” الأحاديث, وتحققا من “صحة وسلامة” أدوات التحقق ذاتها يعكس أحدث ما وصلت إليه العلوم الإنسانية, وإضافة لأحاديث جديدة كنا غير واثقين من صحة نسبتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن “الاكتشافات” العلمية الأخيرة في حقل علم الحديث أثبتت صحتها, وحذفا لأحاديث كنا واثقين من صحة نسبتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن التطورات الأخيرة في العلوم الإنسانية التي يعتمد عليها الإطار النظري الذي يدور في إطاره علم الحديث قد أضعفت ثقتنا في صحة نسبة هذه الأحاديث إلى الرسول الكريم, أو الكشف عن مخطوطات لم نكن نعرف بوجودها قلبت النظريات العلمية السائدة في حقل علم الحديث. المفاجأة هي أننا لا نجد شيئا من هذا على الإطلاق.
المفاجأة هي أن المسألة لا تزيد عن أن الشيخ الطحاينة, أكرمه الله, حدثنا أن شيخه حدثه, أن شيخ شيخه حدثه, إلى آخر ما هنالك من شيوخ كرام وصولاً إلى الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم. فإذا ما أخبرْنا الشيخ الطحاينة بأن هذا “ليس علمًا” وإنما هو “نقل كلام في كلام” قال الشيخ “بل هو العلم”. فإذا ما أخبرنا الشيخ بأن العلم يخبرنا (علم النفس) أنه لا يمكن الثقة بالذاكرة البشرية سواء كانت متحضرة أم بدائية, كما أن العلم يخبرنا (علم الإنسان “الأنثروبولوجيا”) أن الإنسان اخترع الكتابة لأنه “تأكد” من أن مسألة الاعتماد على الذاكرة هذه “لا تصلح” وأن الأمور بدون “التسجيل والسجلات” لا تستقيم (كم عدد الأوز الذي دخل مخزن الرجل العظيم اليوم؟) أخبرَنا الشيخ بأننا نؤلف كلامًا من عندنا. وإذا ما اختصرنا الطريق, وذهبنا إلى آخر سطر في التعريف “الحلواني” للعلم وسألنا شيخنا الفاضل عن الطريقة التي استخدمها فضيلته “شخصيًا” للتحقق من “صحة وسلامة” الأحاديث النبوية الشريفة التي يحدثنا بها, أخبرنا بأنها طريقة مجربة ومعتمدة تتلخص في “السماع”. أي سماع ما قاله شيخ شيخنا الفاضل إلى شيخنا الفاضل, فإذا ما أخبرنا شيخنا الفاضل بأن “السماع” ليس بتحقق وإنما هو مجرد “سماع”, ومن أين لنا أن نعرف أنه لم يحدث “خطأ في التوصيل” أثناء عملية السماع هذه التي شارك فيها أكثر من خمسين شيخ من مشايخنا الكرام, رد الشيخ علينا بأن المسألة تعتمد, في نهاية الأمر, على الثقة في حسن السماع. وهذا ليس من العلم بمليم أحمر.
كيف لنا أن نأخذ ديننا هكذا سماعًا على حين نرفض أن نأخذ أي جزء من المعلومات الخاصة بعمل كيكة البلاك فورست هكذا سماعا؟ مالنا نتحقق بمنتهى الجدية في الآثار الجانبية التي “قد” تنتج عن استعمال القشدة التخليقية ثم نقبل بمنتهى الأريحية أن هذا هو ما قاله رسول الله بدون أي تحقق؟ لمَ لا نقبل حديث الشيف إلينا بأن في القشدة التخليقية كل خير بإذن الله؟ لمَ نصر على التحقق؟ منذ متى كان التحقق من كلام الشيف أهم من التحقق من كلام الشيخ؟ وبما أن الشيء بالشيء يذكر, فمنذ متى كنا مطالبين بتقديم الدليل, والوثائق, والمستندات, وتواريخ النشر, وأرقام الصفحات, إذا قلنا إن براكين العلم التي انفجرت في البصرة, والكوفة, وبغداد في القرون الخمسة الأولى من الهجرة كانت براكينًا فارسية لا علاقة لها بالمرة بالناطقين باللغة العربية في الحجاز ونجد, على حين أنه إذا حدثنا الشيخ الطحاينة بحديث عن رسول الله لم يطالبه أحد منا بدليله على أن هذا هو ما قاله رسول الله؟ منذ متى كانت “جنسية” براكين العلم في البصرة, والكوفة, وبغداد أهم من حديث رسول الله؟
الصدام, بهذا الشكل, بين التعريف “الحلواني” للعلم وبين “علم الحديث” واضح تمام الوضوح. إذا كان ما يحدثنا عنه الشيخ علمًا فإن ما بأيدينا من علوم الدنيا جميعًا ليس بعلم. وإذا كان ما بأيدينا علمًا فإن ما في يد شيخنا الفاضل ليس بعلم. ليس بعلم على الإطلاق. حقيقة الأمر, ليس في يد الشيخ الطحاينة من العلم شيء. إذا كان الأساس الفولاذي الذي يقوم عليه العلم هو التحقق. وإذا كان العلم لا تقوم له قائمة في غياب التحقق. وإذا كان أهم “علم” في علوم الثقافة العربيّة هو علم لا علاقة له بالتحقق. عليه, تكون الثقافة العربية في “مأزق حقيقي”, إذ عليها أن تختار بين “العلم” (حسب التعريف الحلواني) وبين “علم الحديث”. المشكلة, وهي مشكلة في منتهى الصعوبة في حقيقة الأمر, هي أنه إذا انحازت الثقافة العربية إلى جانب العلم (حسب التعريف الحلواني) فإنها ستضطر إلى النظر إلى “علم الحديث” على أنه “لا علم” وذلك لاستحالة التحقق من المعلومات الواردة فيه, أما إذا انحازت إلى جانب “علم الحديث” فإنها سوف تضطر إلى أن تلقي بـ”العلم” في صفيحة الزبالة العربية الخالدة. أي إلى صفيحة الزبالة التي تحتوي على كل الأفكار “غير الحلوة” التي لا ترتاح لها ثقافتنا العربية “الحلوة”.
لم تعجز ثقافتنا العربيّة المجيدة يومًا أن تلقي بكافة الأفكار “غير الحلوة” في صفيحة الزبالة “الحلوة”. يمكن للقاريء أن يأخذ رحلة في أي قطاع من قطاعات الثقافة العربية القديمة و”المعاصرة” ليرى مدى الاستهانة التي يقابل بها العلم في ثقافتنا المجيدة. يكفي, في هذا السياق, ملاحظة محمّد عابد الجابري أنه لم يحدث يومًا صدام بين “العلم” و”المسجد” يشابه الصدام الذي حدث في أوربا بين “العلم” و”الكنيسة”. يبين الجابري أن هذا “الوئام” بدلا من “الخصام” إنما يعود إلى المكانة “المتدنية” للعلم في الثقافة العربية. آمل أن يكون بحثنا هذا عن ظهور العلم قد بيّن أن الأمر ليس أمر مكانة “متدنيّة” كما كان “يتخيل” الجابري (رحمه الله رحمة واسعة وجزاه كل خير عن عمله في خدمة العروبة والإسلام) وإنما أمر “غياب شبه كامل” للعلم في منطقة الهلال الخصيب (باستثناء فارس). خرج الهلال الخصيب من مرحلة إنتاج الحضارة ذاتها قبل أن تبدأ مرحلة إنتاج العلم. لم يبدأ الجنس البشري في إنتاج العلم إلا في حوالي عام 600 قبل الميلاد. لم يحدث أن قامت في هذا الجزء من العالم “مراكز إنتاج علم” تماثل مراكز إنتاج العلم في أثينا, وجنديشابور, وروما, وبيزنطة قديمًا, ولندن, وباريس, ونيو يورك حديثا. كما بيّن هذا البحث: المستعمرات لا تنتج علما. عواصم الإمبراطوريات فقط هي التي تنتج العلم.
الحديث ممتد. ولنا عودة بإذن الله إذا كتب الله لنا عمرا. أهم ما في الموضوع – وهو ما أرجو أن أوضحه في المستقبل بإذن الله – هو أن أبسط تعريف للعلم “تعريف العلم الحلواني” إنما هو تعريف يتعارض مع أهم علم (أهم “لا علم” في حقيقة الأمر) في الثقافة العربية. (لا يحتاج المرء إلى “التدليل” على المكانة السامية التي يحتلها “علم الحديث في الثقافة العربية, تكفي الإشارة هنا إلى أننا في الثقافة العربية نسبح في محيطات الحديث ولا نذهب إلى النبع الصافي للقرآن الكريم إلا فيما ندر) يعني ذلك أن الثقافة العربية لا تستطيع أن تقبل التعريف الحلواني للعلم. الثقافة العربية, بهذا الشكل, هي ثقافة معادية للعلم.
كتاب نظرية ظهور العلم :