حوار حول التحقق
حوار حول التحقق
علم الحديث, وعلم الرجال, وعلم الجرح والتعديل, وجمهورية ألمانيا الديموقراطية
الفكرة الأساسية التي يحاول هذا البحث توضيحها هي أن العلم هو أن ترى بعينيك لا أن تسمع بأذنيك. عندما يخبرنا أحدهم (لا توجد أية أهمية للأسماء هنا) بأن الماء يغلي عند مستوى سطح البحر عند درجة مائة حسب مقياس سلسيوس فإننا نسرع إلى غلي الماء عند مستوى سطح البحر, وأعلى من مستوى سطح البحر, وأقل من مستوى سطح البحر, فإذا تحققنا من أن الماء يغلي فعلاً عند مستوى سطح البحر عند درجة مائة حسب مقياس سلسيوس قبلنا هذه الملاحظة وأصبحت جزءًا مما نعرفه عن العالم الذي نعيش فيه. لا أحد هنا يسأل عن صاحب هذه الملاحظة وما إذا كان رجلا ثقة, عدولا, حافظا, اشتهر بين الناس بالصلاح والتقوى أم كان رجلا مدلسًا لا يوثق به. لا يهم على الإطلاق إن كان أفضل الناس خلقا أم أسوأهم, فسواء كان خلوقا أم سيء الخلق فسوف نستمع إليه ثم نتحقق من توافق ما يقوله مع الواقع. حقيقة الأمر, وفيما يتعلق بي أنا شخصيا, فأنا لا أعرف اسم من لاحظ أن الماء يغلي عند مستوى سطح البحر عند درجة حرارة مائة حسب مقياس سلسيوس, وسوف يدهشني لو أن أحدًا يعرف اسم صاحب هذه الملاحظة. في العلم, لا يهم على الإطلاق اسم صاحب الملاحظة. ما يهمنا هو ما إذا كانت الملاحظة تتفق مع الواقع.
إذا كان الكلام أعلاه صحيحًا وكان العلم فعلاً هو ما نراه بأعيننا وليس ما نسمعه بآذاننا, فإن ذلك يعني خروج عديد من العلوم من دائرة العلم, مثال على ذلك “علم التاريخ”, حيث لا مجال إطلاقًا لأن نرى “فتح مكة” بأعيننا, ولا تنصيب نابليون بونابارت إمبراطورًا على فرنسا, ولا “الفتوحات الإسلامية”. حقيقة الأمر, ولا شيء على الإطلاق لم يتم تسجيله بالصوت والصورة. وهنا لا بد من أن نعترف بأننا في حالة ما يسمى بـ”علم التاريخ” لا نقف أمام علم حيث إن من المستحيل أن نرى بأعيننا ما تحدثنا عنه كتب التاريخ باستثناء حالات نادرة تتوافر فيها تسجيلات صوت وصورة. إلا أن علينا أن نقر كذلك بأننا عندما نقرأ كتب التاريخ فإننا لا نقرأ أعمالاً روائية لا صلة لها بالواقع. حقًا, لا يمكننا التحقق مما إذا كان محمـد علي باشا قد قال فعلاً إن “الفطير المنوفي أكل ملوك” إلا أننا يمكننا التحقق مما إذا كان قد تولى حكم مصر عام 1805. هناك “وثائق” تبين ذلك لدى “دار الوثائق المصرية”, كما لدى اسطنبول, ولندن, وباريس, وغيرها. وكأن المسألة, بهذا الشكل, أننا عند قرائتنا كتب التاريخ فإننا نقرأ كتبًا يختلط فيها الخيالي بالواقعي. أي يختلط فيها ما لا يمكن التحقق منه مع ما يمكن التحقق منه (كيف يمكنك التحقق من أن محمـد علي باشا قد قال إن “الفطير المنوفي أكل ملوك”؟). وإذا كانت المسألة بهذا الشكل, وهي فعلاً بهذا الشكل, فإن ما يمكن التحقق منه هو ما ينتمي إلى العلم وما يمكن التحقق منه هو ما ينتمي إلى الخيال. العلم, إذن, هو ما يمكن التحقق منه.
إذا كانت دراستنا للتحقق قد بينت أن ما لا يمكن التحقق منه لا ينتمي إلى العلم, فإن ذلك لا ينطبق على ما جاء في كتب التاريخ وحسب وإنما على ما جاء في كل علم. في حالة علم النفس, على سبيل المثال, هناك ما يعرف باسم “علم النفس الإدراكي” وهناك كذلك ما يعرف باسم “التحليل النفسي”. والفرق بينهما أنه على حين يمكن التحقق من كل نظريات علم النفس الإدراكي فإنه لا يمكن التحقق من عدد كبير من النظريات الأساسية في “التحليل النفسي”. مثال على ذلك, يحدثنا التحليل النفسي عما يسمى بعقدة أوديب. يخبرنا التحليل النفسي هنا أن الطفل البشري في حوالي الرابعة من العمر يشعر بأن أمه تعطي أباه قدرًا من الاهتمام أكثر مما يستحق وأن هذا الأمر فيه إجحاف بحقه. يبدأ الطفل هنا بـ”الشعور” بكراهيته لأبيه إلا أنه سرعان ما يدرك أن هذا الصراع سوف يسبب له أذى بليغًا. تسيطر على الطفل هنا فكرة أن أباه سيقوم بـ”إخصائه” عقابًا له على كراهيته له. يلجأ الطفل هنا, في محاولته تجنب الصراع, إلى حيلة مؤداها “إلغاء نفسه والتوحد مع أبيه”. يظهر هذا في تقليده للطريقة التي يتكلم بها أبوه, أو يسير, أو يأكل, إلى آخره. يقدم لنا “التحليل النفسي”, بهذا الشكل, تفسيرًا للسبب الذي يدفع الأطفال إلى تقليد آبائهم وبالتالي استدخال الأعراف الاجتماعية للمجتمع الذي يعيشون فيه. المشكلة فيما يخبرنا به “التحليل النفسي” أنه يقدم لنا “نظرية” لا يمكن لنا التحقق منها. كيف يمكن التحقق من “عقدة الإخصاء” هذه؟ بل كيف عرف “علماء” التحليل النفسي أصلاً موضوع خوف الطفل من حكاية الإخصاء هذه. يعني الكلام أعلاه, بهذا الشكل, أنه على حين يمكننا النظر إلى “علم النفس الإدراكي” على أنه “علم” فإننا لا يمكننا النظر إلى “التحليل النفسي” إلا على أنه “علم زائف”. (تتوفر على الشبكة العديد من المواقع التي تناقش موضوع “العلم الزائف”. كما يتوافر فيض من المواقع باللغة الإنجليزية التي تناقش هذا الموضوع تحت اسم “pseudoscience”)
وأخيرًا نأتي إلى “علم الحديث”. وعلم الحديث هذا هو العلم الذي يحدثنا عن أقوال الرسول الكريم مثل حديثه عن أن “تبسمك في وجه أخيك صدقة”, أو “خيركم خيركم لأهله”, أو غيرهما. وهما, وغيرهما, أحاديث يستحيل التحقق من توافقهما مع الواقع. يعود ذلك إلى سببين: الأول أنه لا توجد وسيلة للتحقق مما إذا كان الرسول الكريم قد قال ذلك أم لا. الثاني, أنه حتى لو ثبت أن الرسول قد قال ذلك فإننا لا يمكننا التحقق من توافق ذلك مع الواقع. دعنا ننظر إلى السبب الأول أولا.
أولاً, من أجل أن نقبل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال ذلك فإننا نحتاج إلى أن نرى بـ”أم أعيننا” أنه قال ذلك. في العلم, كما اتفقنا, لا بد أن نرى بأعيننا. قصة أن جرير بن عبد الله أخبرنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا تكفي. لا بد أن “نرى” رسول الله وهو يقول “تبسمك في وجه أخيك صدقة”. لا يحتاج الأمر إلى التوكيد على أن الجنس البشري حتى الآن لم يخترع وسيلة تمكننا من الرجوع إلى الوراء مئات السنين والاستماع إلى المحادثات التي تمت من مئات السنين ورؤية أصحابها وهم يتحدثون. إلى أن يتم ذلك, لا يمكن قبول ما حدثنا به جرير بن عبد الله على أنه جزء من معرفتنا عن العالم الذي نعيش فيه.
ثانيًا, حتى لو استطاع الجنس البشري أن يخترع “آلة الزمن” هذه التي تمكننا من الرجوع إلى الخلف والاستماع إلى المحادثات, وعليه عدنا إلى الخلف ورأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول أمام جرير بن عبد الله أن “تبسمك في وجه أخيك صدقة”, فإننا لا نستطيع التحقق من توافق هذا الحديث مع الواقع. على العكس مما يحدث في حقل العلم, حيث نسرع بمجرد أن يخبرنا أحدهم شيئًا عن العالم الذي نعيش فيه لنتحقق من توافق ما أخبرنا به مع العالم الذي نعيش فيه فإننا لا يمكننا على الإطلاق التحقق مما يخبرنا رسول الله عنه. كيف, بحق الله, يمكن لبشر أن تتحقق من توافق حديث “تبسمك في وجه أخيك صدقة” مع الواقع الذي نعيش فيه؟ نحن لسنا أمام ملاحظات حول العالم الذي نعيش فيه يمكن التحقق من توافقها معه. نحن أمام حديث يحدثنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم. كيف يمكن التحقق من توافق ما يحدثك به رسول الله عن العالم الذي نعيش فيه إذا كان حديثه حديثًا عن “الغيب” وليس عن “العالم الذي نعيش فيه”؟
ولا يتبقى في هذه الرسالة سوى الحديث عن جمهورية ألمانيا الديموقراطية. وجمهورية ألمانيا الديموقراطية, لمن لا يذكرها, هي تلك الجمهورية التي كانت تتألف من ذلك الجزء من ألمانيا الذي وقع تحت سيطرة الاتحاد السوفييتي في نهاية الحرب العالمية الثانية والتي انهارت مع انهيار الاتحاد السوفييتي وأصبحت الآن جزءًا من الجمهورية الألمانية. أي, باختصار, ألمانيا. كانت جمهورية ألمانيا “الديموقراطية” هذه دولة بوليسية يسيطر عليها جهاز يسمى ستاسيس, يشبه إلى حد كبير جهاز “أمن الدولة” المصري, يسوم أهلها سوء العذاب إذا خرج واحد منهم عن خط الحكومة. ومع ذلك كانت تسمي نفسها ديموقراطية. تتفق جمهورية ألمانيا الديموقراطية هذه مع “الجمهورية السودانية الشعبية الديموقراطية”, و”جمهورية الكونغو الديموقراطية”, وغيرهما من دول العالم الثالث التي كانت تصر على أنها “ديموقراطية” ومن اختلف معها وقال غير ذلك قتلته. ويتفق علم الحديث كما هو عليه لدى أهل العلم والنظر من أهل السنة والجماعة, رضي الله تبارك وتعالى عنهم جميعًا وأرضاهم أجمعين, مع “جمهورية ألمانيا الديموقراطية” وزملائها من دول العالم الثالث في أنه إذا كانت هذه الدول “تتخيل” أنها ديموقراطية لأن هذا جزء من اسمها, فإن أهل العلم والنظر من أهل السنة والجماعة, رضي الله سبحانه وتعالى عنهم جميعًا وأرضاهم أجمعين, “يتخيلون” أن هناك “اشياء” تسمى “علم الحديث”, و”علم الرجال”, و”علم الجرح والتعديل”, وغيرها من خيالات الثقافات البدائية لمجرد أن كلمة علم جزء من أسمائها. رحم الله جمهورية ألمانيا الديموقراطية وندعو الله أن يرحمنا من “علم الحديث” وزملائه من العلوم الخيالية.
وإن الحمد لله, والشكر لله, على ما آتانا وما لم يؤتِنا, وما أعطانا وما لم يعطِنا.