الحكم الاخلاقي لدى الطفل 23
تابع مركز #تطوير_الفقه_الاسلامي
https://www.facebook.com/Islamijurisprudence
الحكم الأخلاقي لدى الطفل – 46
العدل الجزائي
والآن ننتقل إلى العدل الجزائي فنجد أنه على خلاف أسس العدل الموزع يظهر أنه لا يوجد هنا في آراء الجزاء أو العقوبة أي عنصر عقلي خالص أو بديهي. فبينما تزداد قيمة فكرة المساواة كلما ازداد النمو العقلي فإن فكرة العقوبة تأخذ فى الضعف. لتوضيح هذا المعنى يجب أن نميز – كما سبق أن فعلنا – نوعين منفصلين من أنواع الجزاء: فهناك من جهة التكفير والثواب التي يظهر أنها تشمل الفكرة النوعية عن العقوبة. من جهة أخرى فهناك الآراء الخاصة “بوضع الأشياء موضعها الصحيح” أو إصلاحها, كما أن هناك المقاييس التي تتجه نحو تجديد الاتحاد الذي انفصم نتيجة للذنب. وهذه الأفكار الأخيرة التي جمعناها تحت عنوان “العقوبة التبادلية” يظهر أنها لا تنهض إلا على فكرة المساواة وفكرة التبادل. والمجموعة الأولى من الآراء هي التي تميل لأن تتناقص حين تعقب الأخلاق الذاتية أخلاق الغيرية والسلطة. أما المجموعة الثانية فهي أصلب عودًا لأنها تقوم على شيء أكثر من فكرة العقوبة.
ومهما قيل عن هذا التطور في القيم فإنه يمكن أن نذكر هنا – كما ذكرنا فيما يتعلق بالعدل الموزع – ثلاثة مصادر للنواحي الثلاث الهامة للجزاء؛ فقد رأينا قبلاً (الفقرة 1) أن استجابات فردية معينة تشكل ظهور الجزاء وأن قسر الراشد يشرح تكوين فكرة التكفير. أما التعاون فيقضي على فكرة العقوبة قضاءً نهائيا. لا يمكن أن ننكر أن فكرة العقوبة لها جذور بيولوجية, فاللكمة تقابلها لكمة, والظرف جزاؤه الظرف. ردود الأفعال الغريزية للدفاع والمشاركة الوجدانية تؤدي, إذن, إلى قيام نوع من التبادلية الأولية التي هي الأرض التي تنمو عليها فكرة الجزاء ولكن هذه الأرض ليست كافية بنفسها, والعوامل الفردية لا يمكن بنفسها أن تسمو على مستوى الانتقام المقزز إلا إذا كانت خاضعة – على الأقل ضمنيًا – لنظام منظم ومقنن من العقوبات الداخلة في العقاب.
فالأشياء تختلف عن طريق تدخل الكبار وسلوك الطفل منذ بداية حياته حتى قبل أن يستطيع الكلام نجده يخضع في ثبات لعملية المنح أو المنع. فالناس تبعًا للظروف التي تقوم بينهم وبين الطفل علاقة سرور أو استياء وقد يتركونه يبكي. ونفس التغيرات في أصوات من حوله تكفي لتكوين عقوبة مستمرة. وفي السنين التالية نجد الطفل موضع ملاحظة مستمرة فيقيد كل ما يعمله أو يقوله، وهذا يؤدي إلى التشجيع أو اللوم. ولا زالت الأغلبية العظمي من الكبار تعتبر العقوبة – جثمانية أو غيرها – مشروعة تمامًا. ومن الواضح أن هذه الاستجابات من جانب الكبار ترجع في الغالب إلى تعب أو عدم صبر ولكنه فى الغالب أيضًا يفكر فيها. مع ذلك, فإنا نكرر أن هذه الاستجابات من جانب الكبار هي نقطة البداية لفكرة العقوبة التكفيرية, فإذا لم يشعر الطفل بشيء سوى الخوف وعدم التصديق كما قد يحدث في الحالات المتطرفة, فإن هذا يؤدي ببساطة إلى حرب علنية. ولكن, نظرًا لأن الطفل يحب والديه ويحس نحو أعمالهم باحترام، وهو ما استطاع بوفيه أن يحلله، فإن العقوبة تبدو له إجبارية من الناحية الاخلاقية ومرتبطة بالضرورة بالعمل الذى استفز الكبار. أما العصيان, الذي هو الأساس الذي تقوم عليه كل خطيئة, ففيه خرق للعلاقات العادية بين الأب والطفل, ولذلك فمن الضرورى إصلاحه, ونظرًا لأن الآباء قد أبانوا عن غضبهم العادل, وذلك عن طريق استجاباتهم في شكل عقوبات, فإن قبول هذه العقوبات يتضمن الشكل الطبيعى للإصلاح. أي أن الألم الذي تؤدي إليه العقوبة يؤدي كذلك إلى إعادة إقامة العلاقات التي اهتزت منذ قليل اهتزازًا مؤقتا. بهذه الطريقة, فإن فكرة العقوبة تصبح مستمدة من قيم أخلاق السلطة. لذلك نرى أن هذه الفكرة البدائية والمادية للعقوبة التكفيرية ليست مفروضة بواسطة الكبار على الطفل – وربما لم يحدث أن اخترعها الكبار من الناحية السيكولوجية – وإنما هي نتيجة حتمية للعقوبة التي انحرفت في عقلية الطفل الواقعية الرمزية. فإذا تبين قيام مثل هذه الوحدة المتينة بين فكرة العقوبة والاحترام الجانبي مضافًا إليها أخلاق السلطة, فإنه يترتب على ذلك أن كل تقدم في التعاون والاحترام المتبادل من شأنه أن يقلل تدريجيًا ارتباط فكرة التكفيرية بفكرة العقوبة، وأن يضعف من الاخيرة بحيث تصبح عملاً إعداديًا بسيطًا أو مجرد مقياس للتبادل. وهذا ما نعتقد أننا قد لاحظناه فعلاً في الأطفال. فإنه كلما ضعف احترام الكبار كلما نمت أنواع معينة من الأخلاق التي لا يمكن للمرء إلا أن يضعها تحت عنوان العقاب. وقد رأينا مثالاً لهذا في الأحكام التي نطق بها الأطفال الذين اختبرناهم في موضوع مقابلة الضرب بالضرب, فإن الطفل يحس أكثر وأكثر أنه من العدل أن يدافع عن نفسه وأن يرد على ما ناله من ضربات. وهذا “عقاب” من غير شك إلا أن فكرة التكفير لا تقوم بأي دور في هذه الأحكام حيث إن المسألة مسألة تبادل خالص, فهذا شخص أعطي لنفسه الحق في أن يضربني فهو لذلك قد أعطانى الحق في أن أكيل له بنفس المكيال. وبالمثل فإن من يغش يحصل على امتياز عن طريق الغش ولذلك كان من العدل أن نعيد المساواة وذلك بطرده من اللعب أو باسترجاع الكريات التى قد يكون قد كسبها.
قد يقال إن مثل هذه الأخلاق قد لا توصلنا إلى نتائج بعيدة ما دام ضمير الراشد الخير يطالب بشيء أكثر من تطبيق التبادلية. فالإحسان والتسامح عن الأضرار التى تبودلت هو في نظر الكثيرين أشياء أعظم بكثير من المساواة الخالصة, ويعنى علماء الاخلاق في هذه الناحية بالنزاع بين العدل والحب ما دام العدل غالبًا ما يدعو إلى ما لا يقره الحب, والعكس بالعكس. ولكنا نرى أن هذه العناية بالتبادلية هي بالذات التي تقود الإنسان إلى ما بعد عدل الأطفال قصيري النظر ممن يردون على الضربات التي أصابتهم بضربات مساوية لها من الناحية الحسابية. فالتبادلية لها وجهان, مثلها في ذلك مثل الحقائق الروحية التي هي نتيجة النمو الذاتي لا القسر الخارجي. يقصد بذلك التبادلية الحقيقية والتبادلية المثالية ؛ فالطفل يبدأ بمزاولة المثالية نفسها ببساطة. وهذا ليس شيئًا سهلاً كما قد يظن الكثيرون. ثم بمجرد أن يعتاد الإنسان على هذا الشكل من التوازن في أعماله, نجد أن سلوكه يتغير من الداخل نتيجة تكوينه يعود فيؤثر كما كان على محتوياته. فما كان يعتبر عدلاً لم يعد مجرد عمل تبادلي وإنما أصبح سلوكًا يسمح بتبادلية مدعمة غير محدودة. فيحل المثل القائل “عامل الآخرين بمثلما تحب أن يعاملوك به” محل فكرة المساواة غير الناضجة. فالطفل يضع العفو فوق الانتقام لا على أنه نتيجة للضعف وإنما لأنه ليس هناك نهاية للانتقام (طفل في العاشرة). وكما أنه في المنطق نستطيع أن نتبين نوعًا من التفاعل بين شكل القضية ومحتوياتها حين تكون قاعدة التناقض مؤدية إلى تبسيط التعريفات الابتدائية وتقنينها, كذلك الحال في الأخلاق. إذ تتضمن التبادلية تنقية اتجاه السلوك العميق وترشده إلى فكرة العالمية نفسها, وذلك عن طريق مراحل متدرجة. دون أن نترك دائرة التبادلية نستطيع أن نقول إن الكرم – وهو الذي يميز المرحلة الثالثة – يتحالف مع العدل الخالص البسيط, ومع أشكال العدل النقية جدًا مثل الإنصاف والحب, فلا يعود هناك أي نزاع حقيقي.
ختامًا, يمكن القول إننا وجدنا في ميدان العدل – كما في الميدانين الآخرين اللذين درسناهما – ذلك النزاع بين نوعي الأخلاق اللذين لفتنا أنظار القراء إليهما كثيرًا. فأخلاق السلطة, تلك التي تقوم على الواجب والطاعة تؤدي في ميدان العدل إلى الخلط بين ما هو عدل تبعًا للقانون القائم وبين قبول عقوبة التكفير. أما أخلاق الاحترام المتبادل والتي تقوم على فكرة الخير (كمعارضة للواجب) وفكرة الذاتية, فإنها تؤدي في ميدان العدل إلى نمو المساواة, وهي الفكرة التي يقوم عليها العدل الموزع والتبادلية. فالاتحاد بين المتساويين يبدو مرة أخرى كمصدر لمجموعة كاملة من الآراء الأخلاقية المكملة والمتطابقة وهي التي تميز التفكير المعقول. ويمكن أن نتساءل عما إذا كان من المستطاع أن تنمو هذه الحقائق دون مراحل تمهيدية يصاغ فيها ضمير الطفل بواسطة الاحترام الجانبي للكبار. ونظرًا لأن هذا الموضوع لا يمكن إخضاعه للتجربة, فمن العبث أن نناقشه. ولكن من المؤكد أن التوازن الأخلاقي الذي نصل إليه بواسطة النظريات التكميلية للواجب الغيري وعن طريق العقوبة الخالصة – كما تسمى – هو توازن غير مستقر نظًرًا لأنه لا يسمح للشخصية بأن تنمو وتتسع إلى أقصى حدودها. فكلما نما الطفل فإن خضوع ضميره لعقل الكبار يبدأ في نظره أن يكون أقل قانونية. وفيما عدا حالات النمو الأخلاقي المضبوطة الناتجة إما عن الخضـوع الداخلي المقرر (هؤلاء الكبار الذين يبقون أطفالاً طول حياتهم) أو من الثورة المدعمة, فإن الاحترام من جانب واحد يميل من تلقاء نفسه إلى أن ينمو في اتجاه الاحترام المتبادل وحالة التعاون التي تتضمن التوازن العادي. من الواضح أنه ما دامت هذه الأخلاق هي من النوع التعاوني فإن أخلاق الطفل تنمو بسرعة متأثرة بالأمثلة المحيطة بها. والواقع أن احتمال أن تكون هذه ظاهرة ذات اتجاه واحد هو أقرب إلى الصواب من أنها مجرد ضغط اجتماعي, ذلك أنه لو أن الجماعات البشرية تطورت من الغيرية إلى الذاتية, ومن نظم دينية استبدادية إلى نظم ديموقراطية تقوم على المساواة, فإن ظاهرة التكاتف الاجتماعي التي وضعها دوركايم تساعد على تحرير كل جيل من الجيل الذي سبقه وبذلك يصبح النمو الذي وصفناه ممكناً عند الأطفال والمراهقين.
وهكذا نكون قد وصلنا إلى حيث تلتقي مشاكل علم الاجتماع مع مشاكل علم النفس وأصبحنا أمام سؤال فى غاية الأهمية فنقتنع بهذه الإشارات. ولنقارن الآن النتائج التي وصلنا إليها مع الآراء الأساسية في علمي الاجتماع والنفس المتصلة بالطبيعة التجريبية للحياة الأخلاقية.
#كمال_شاهين