قصة الحرب العالمية الدينية
قصة الحرب العالمية الدينية
تابعنا هنا :
https://www.facebook.com/Islamijurisprudence/
يقدم لنا البغوي تفسيرًا واضحًا, بسيطًا, غير معقد للآية الكريمة رقم 4 من سورة محمّد. يتلخص التفسير الذي قدمه الإمام الأعظم, رضي الله سبحانه وتعالى عنه وأرضاه, في نقطتين اثنتين لا ثالث لهما. الأولى, أن أهل العلم قد اختلفوا في أسباب نزول هذه الآية. الثانية, أن أهل العلم قد اختلفوا في حكم هذه الآية. دعنا نبدأ بالأولى أولاً.
أولاً: أسباب النزول
كما هي العادة دومًا في تفسير القرآن الكريم, يقدم لنا الأئمة العظام “الأسباب” التي أدت إلى نزول الآية الكريمة. كما هي العادة كذلك, يختلف أهل العلم في أسباب نزول الآية الكريمة. على حين يذكر ابن عباس أن الله عز وجل قد أنزل الآية الكريمة بعدما كثر المسلمون واشتد سلطانهم, يذكر قتادة أن هذه الآية قد نزلت يوم أحد وقد فشت في المسلمين الجراح والقتل. على حين يرى قتادة أن الآية الكريمة محمـد: 4 قد نزلت يوم أحُد أيام ضعف المسلمين وقلة عددهم, يرى ابن عباس أنها قد نزلت بعد أن قوي المسلمون وزاد عددهم. لا يحتاج الأمر إلى التوكيد على أن ليس بأيدينا ما يمكن أن نفعله لحسم هذا الخلاف. يعود ذلك إلى عدم وجود “سجل” بتاريخ نزول آيات القرآن الكريم.
ثانيًا: حكم الآية
يخبرنا الإمام الأعظم البغوي, رضي الله جل وعلا عنه وأرضاه, أن أهل العلم قد اختلفوا في حكم الآية الكريمة. ذهب البعض إلى أنها منسوخة بقوله تبارك وتعالى *فأما تثقفنهم في الحرب الحرب فشرد بهم من خلفهم* الأنفال : 57 , وبقوله *فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم* التوبة : 5. قال هؤلاء لا يجوز المن على من وقع في الأسر من الكفار ولا الفداء. ذهب بعض آخر إلى أن الآية محكمة والإمام بالخيار في الرجال العاقلين من الكفار إذا وقعوا في الأسر بين أن يمن عليهم فيطلقهم بلا عوض, أو يفاديهم بالمال، أو بأسارى المسلمين, أو يسترقهم, أو يقتلهم.
يرى بعض أهل العلم, إذن, أن الآية الكريمة محمـد 4 القاضية بإطلاق سراح الأسرى إما منا وإما فداء قد نسختها الآيتان الكريمتان الأنفال: 57 والتوبة: 5 القاضيتان بالإجهاز على الأسرى. وعليه, قالوا بالإجهاز على الأسرى وعدم جواز المن ولا الفداء على من وقع في الأسر من الكفار. يرى بعض أهل العلم الآخرون, على أية حال, أن الآية الكريمة ليست بالمنسوخة وإنما هي آية محكمة ما زال حكمها قائما وأنها تعطي “الإمام” الحق في مفاداة الأسرى بأسرى, أو بالمال, أو المن عليهم وإطلاق سراحهم بلا عوض. حقًا تعطينا الآيتان الكريمتان الأنفال: 57 والتوبة: 5 الحق في الإجهاز على الأسرى, إلا أنهما لا تسلباننا الحق في إطلاق سراح الأسرى فداء أسرانا أو بدون مقابل. وكأن المسألة, بهذا الشكل, هي أن كلا الفريقين يريان أن الآيتين الكريمتين الأنفال: 57 والتوبة: 5 تخيراننا عن الإجهاز على الأسرى إلا أن هناك فريقًا يرى أن الآيتين تأمراننا بقتل الأسرى ولا شيء سواه وفريقا يرى أن الآيتين الكريمتين لا تأمراننا بقتل الأسرى وإنما تجيزان لنا قتلهم إذا شئنا. أي أن الأمر, في نهاية الأمر, مرجعه إلينا, إذا شئنا أن نفادي فادينا, وإذا شئنا أن نمن مننا, وإذا شئنا أن نقتل قتلنا. والأمر مرجعه إلينا, ونحن أحرار. دعنا نرى الأسس التي يقوم عليها موقف القائلين بالنسخ.
موقف القائلين بالنسخ يقوم موقف القائلين بالنسخ على افتراض أساسي هو أن هناك تعارض بين الآية الكريمة محمـد: 4 وبين الآيتين الكريمتين الأنفال: 57 والتوبة: 5. يرى أصحاب هذا الفريق أن هناك تعارض بين الآية الكريمة محمـد: 4 وبين الآيتين الكريمتين الأنفال: 57 والتوبة: 5. يذهب هذا الفريق إلى أنه على حين تدعو الآية الكريمة محمـد: 4 من يؤمن بالله, وبأن محمدًا رسول الله, إلى إطلاق سراح الأسرى إما منًا وإما فداء, تدعو الآيتان الكريمتان الأنفال: 57 والتوبة: 5 من آمن بالله وبأن محمدًا رسول الله إلى الإجهاز على الأسرى وعدم خروج أحد منهم من ساحة المعركة إلا وهو جثة هامدة, هذا إذا خرج من ساحة المعركة أصلا. وعليه, وحيث إن من المستحيل أن يطالبنا الله بإطلاق سراح الأسرى في نفس الوقت الذي يطالبنا فيه بالإجهاز على الأسرى, يرى هذا الفريق إما أن الأمر بالإجهاز على الأسرى “يجُب” الأمر بإطلاق سراح الأسرى, أو أن الأمر بإطلاق سراح الأسرى “يجُب” الأمر بالقضاء عليهم. يرى أصحاب هذا الفريق أن الأمر بإطلاق سراح الأسرى إما منا وإما فداء يسبق نزول الأمر بالإجهاز على الأسرى, وعليه فإن نزول الأمر بقتل الأسرى ينسخ الأمر السابق له والقاضي بإطلاق سراحهم إما منا وإما فداء. لا يحتاج إثبات خطأ هذا الفريق فيما يذهب إليه أكثر من الإشارة إلى (1) عدم وجود دليل على أن نزول الآية الكريمة محمـد: 4 يسبق نزول الآيتين الكريمتين الأنفال: 57 والتوبة: 4, و(2) عدم وجود أي إشارة إلى قتل الأسرى في الآيتين الكريمتين. لبيان ذلك سوف أعرض “سريعًا” للآيتين الكريمتين من سورة الأنفال وسورة التوبة.
سورة الأنفال يقول تبارك وتعالى في سورة الأنفال: *إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (55) الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ (56) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57) وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ (58) وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ (59) وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآَخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60) وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61) وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِاْئَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (65) الْآَنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِاْئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66) مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70) وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71) إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73) وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74) وَالَّذِينَ آَمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُواْ الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75)*
والمعنى واضح تمام الوضوح. وأنا هنا لن أتناول السورة الكريمة كلمة كلمة ولا حتى آية آية بالتفصيل, وإنما سأتناول الفكرة العامة التي تذهب إلى أن السورة الكريمة تأمرنا بإعلان الحرب على الكفار, ومحوهم من على سطح الأرض, والإجهاز على الأسرى منهم, وعدم جواز إطلاق سراحهم لا منا ولا فداء. وهذه “الفكرة العامة” لا تتفق على الإطلاق المطلق مطلقًا مع ما تخبرنا به السورة الكريمة.
نحن أمام سورة تتحدث آياتها عن مشكلة محددة هي طريقة التعامل مع من ينقضون عهدهم مرة بعد مرة. هنا يخبر الله رسوله الكريم أنه إذا التقى بهم في ساحة القتال فعليه أن يكون شديدًا في تعامله معهم حتى يكونوا عبرة لمن يساندونهم. كذلك يخبر الله رسوله الكريم أن عليه إذا “خاف” من قوم خيانة أن يعد لهم ما استطاع المؤمنون إعداده من قوة لإرهابهم وإرهاب من يساندهم على أن “يتوكل على الله” و”يجنح للسلم” إذا جنحوا له وألا يخاف من أن يخدعوه فالله حارس له وللمؤمنين, ولسوف يضاعف الله من قوتهم بحيث يمكن لألف منهم أن يواجهوا ألفين من المعتدين. وفيما يتعلق “بالأسرى”, وهو موضوع حديثنا, فالله يخبر رسوله الكريم بأن ما كان له – مثله في ذلك مثل كل من سبقه من أنبياء – أن يكون له أسرى. فمن يريد الأسرى إنما يريد الاحتفاظ بهم مقابل الفدية التي سوف يحصل عليها. أي مقابل عرض الدنيا والله يريد للمؤمنين حسن الآخرة. وأخيرًا, وهذا موضع اهتمامنا, يأمر الله رسوله الكريم بأن يخبر من في أيدي المؤمنين من “الأسرى” أنهم إذا علم الله أن في قلوبهم خيرًا فسوف يعوضهم بأكثر مما أخذ منهم, ويغفر لهم, أما إن أرادو خيانة رسول الله فقد سبق لهم وخانوا الله فأمكن المؤمنين منهم ولسوف يمكّن المؤمنين منهم مرة ثانية إذا فكروا في الخيانة مرة ثانية.
والقصة التي ترويها الآيات الكريمة في السورة الكريمة غير القصة التي يرويها الأئمة العظام. لا يوجد هنا أمر بالقضاء على الكفار الذين يسكنون الكرة الأرضية. لا يوجد هنا أمر بالإجهاز على الأسرى وعدم السماح بخروج الكفار من أرض المعركة إلا للدفن. هذا إذا خرجوا أصلا. القصة هنا قصة كيفية التعامل مع من أدمن الغدر والخيانة. وهي قصة يخبر فيها الله رسوله الكريم بأن خير حل لها هو ألا يخاف. وأن يعد ما استطاع من القوة “ليرهب” العدو فيحجم عن الاعتداء. فإذا ما جنح للسلم وجنح عن العدوان فعلى رسول الله أن يتوكل على الله ويجنح هو الآخر إلى السلم وألا يجعل خوفه من الخيانة سببًا لعدم جنوحه إلى السلم, فالله حارسه وحاميه, وما عليه سوى التوكل على الله والجنوح إلى السلم. وأما بالنسبة للأسرى, وهو موضوع حديثنا وبؤرة اهتمامنا, فالموضوع واضح. يخاطب الله رسوله الكريم قائلاً له بأن ليس له أن يكون له أسرى وأن عليه إطلاق سراحهم وألا يجعل موضوع الحصول على الفدية سببًا في إطالة مدة أسرهم. كذلك يأمر الله رسوله الكريم بأن يخبر من في أيدي المؤمنين من “الأسرى” أنه إذا علم الله أن في قلوبهم خيرًا فسوف يعوضهم بأكثر مما أخذ منهم, ويغفر لهم, أما إن أرادو خيانة رسول الله فقد سبق لهم وخانوا الله فأمكن المؤمنين منهم ولسوف يمكّن المؤمنين منهم مرة ثانية إذا فكروا في الخيانة مرة ثانية. والسؤال هو التالي: كيف يمكِّن الله المؤمنين من الأسرى “مرة ثانية” إلا إذا كانوا قد أطلقوا سراحهم؟ بل كيف “يغفر” لهم ويرحمهم إذا كانت الأوامر قد صدرت بالإجهاز عليهم وعدم مغادرتهم أرض المعركة إلا وهم جثث هامدة؟ والقصة واضحة تمام الوضوح. والسؤال الآن, وهو سؤال هام, هو التالي: من أين جاء الأئمة العظام بفهمهم للآيات الكريمة؟ من أين جاءت قصة الإجهاز على الأسرى في أرض المعركة؟ من أين جاءت قصة الحرب العالمية الدينية على من لا يؤمن بالله؟ من أين جاءت قصة أن على من آمن بالله, وبأن محمدًا رسول الله, وبأن القرآن كلام الله, أن يقتل من لا يؤمن بالله ولا بأن محمدًا رسول الله؟ والإجابة قادمة, بإذن الله, في مقال آخر إذا شاء الله وأعطانا عمرًا. إلا أنه يبقى “التوكيد” على أن لا تعارض هناك بين الآية الكريمة محمـد: 4 والآية الكريمة الأنفال: 57. سواء في هذه أو تلك فإن الله يأمر رسوله الكريم بعدم الاحتفاظ بأسرى. *ليس لنبي أن يكون له أسرى* ما يخبرنا به الله في كتاب الله هو أن علينا إطلاق سراح الأسرى. قد يكون منا. قد يكون فداء. إلا أنه سواء كان هذا أم ذاك فإن على من آمن بالله, وبأن محمدًا رسول الله, وبأن القرآن كلام الله, أن يطلق سراح الأسرى.
سورة براءة وصورة مجتمع المدينة تقدم لنا سورة براءة صورة لما كان عليه حال مجتمع المدينة فترة حياة الرسول الكريم فيها. وهو مجتمع يتألف من خليط من المؤمنين, والمنافقين, والمشركين, وأهل الكتاب. تصور لنا السورة الكريمة مدى التوتر الذي كان موجودًا بسبب هذا الخليط غير المتجانس. تشير السورة الكريمة إلى وجود المؤمنين الذين يؤمنون بالله كما تشير إلى أولئك الذين “لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ* كما تشير إلى المنافقين الذين نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول وكانوا من المعتدين, الذين يتظاهرون بأنهم من المؤمنين.
تدعو السورة الكريمة في أكثر من آية إلى التصدي للعدوان المتواصل على المؤمنين سواء من جانب أهل الكتاب ممن لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر أو من جانب المنافقين. يقول جل وعلا: *قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)* *إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36)* *يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123)*
حقيقة الأمر, يعاتب سبحانه وتعالى الذين آمنوا على تثاقلهم في الاستجابة إلى دعوة رسول الله لهم لرد العدوان عليهم. يقول جل ذكره: *يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآَخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38)* أكثر من ذلك, يبين جل ذكره أن الله لا يضيع أجر المحسنين. يقول سبحانه وتعالى: *يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119) مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120)*
حقيقة الأمر, تبدأ السورة الكريمة ببيان من الله سبحانه وتعالى يتبرأ فيه ورسوله من العهود التي عقدها رسول الله بينه وبين المشركين. يبين سبحانه وتعالى أنه بمجرد انقضاء فترة الأشهر الحرم فسوف يقاتل المؤمنون هؤلاء المشركين أنى وجدوهم. يذكّر جل ثناؤه المؤمنين أنهم إنما يقاتلون قوما نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول من المدينة وكانوا هم البادئين بالعدوان إلا أنه يبين لهم أنه إذا تاب هؤلاء المشركون عما كانوا يفعلون, وأقاموا الصلاة, وآتوا الزكاة, فعندها يلزم التوقف عن قتالهم وإخلاء سبيلهم. كذلك يبين جل ثناؤه أن إنهاء العهود هذا لا ينطبق على من عاهدهم رسول الله من المشركين الذين لم ينقصوا المؤمنين شيئًا ولم يظاهروا عليهم. هذه هي, باختصار شديد للغاية, قصة سورة التوبة.
القصة, بهذا الشكل, هي قصة المشاكل التي تعرض لها رسول الله في سنوات وجوده في المدينة المنورة. وهي مشاكل استدعت اللجوء إلى القوة المسلحة للدفاع عن النفس. إلا أنها لم تستخدم القوة المسلحة للعدوان على الآخرين. يظهر ذلك بصورة واضحة تمام الوضوح في ذكر الله سبحانه وتعالى أن إنهاء العهود المعقودة مع المشركين لا ينطبق على المشركين الذين لم ينكثوا عهودهم, ولم ينقصوا المؤمنين شيئا, ولم يظاهروا عليهم. القصة, إذن, ليست قصة القضاء على الكفار ومحوهم من على سطح الأرض لأنهم كفار, وإنما القصة قصة رد العدوان. كن كافرًا إذا شئت. وافعل ما يحلو للكفار. ولن يؤثر هذا على علاقتك بالمؤمنين بشيء ولن ينهي عهدًا بينك وبينهم. موضوع أنك مؤمن أو غير مؤمن موضوع لا يهم أحدًا سواك وسوى من خلقك. ما يهمنا هنا هو ألا تنكث عهدك معنا, وألا تعتدي علينا, وألا تنقصنا شيئا يخصنا, وألا تظاهر علينا. أما إذا فعلت ذلك فسوف نتصدى لك ونوقف عدوانك علينا.
وكأن القصة, بهذا الشكل, وهذا هو محور حديثنا, أن ليس في الآية 5 من سورة التوبة أية إشارة من قريب ولا بعيد إلى إعلان الحرب العالمية الدينية والإجهاز على كل من لا يؤمن بالله, وبأن محمدًا رسول الله, وبأن القرآن كلام الله. وكأن القصة, بهذا الشكل أيضا, لا تعارض بينها وبين الآية 4 من سورة محمـد. ويعود السؤال يرفع رأسه طالبًا الإجابة مرة أخرى. من أين جاء الأئمة العظام, رضي الله سبحانه وتعالى عنهم وأرضاهم جميعًا, بقصة الإجهاز على الأسرى؟ كيف توصل الأئمة العظام, شموس الإسلام, أحبار الأمة, وأسود السنة, إلى أن الآيتين الكريمتين 57 من سورة الأنفال و5 من سورة التوبة تقضيان بعدم خروج الكفار أحياء في أي لقاء بينهم وبين المؤمنين في ساحة القتال؟ كيف أمكن أهل العلم ممن قالوا بالنسخ أن يقولوا بعدم جواز الفداء ولا المن على من وقع في الأسر من الكفار؟ ثم كيف أمكن أهل العلم ممن عارضوا النسخ أن يقولوا إن الله قد أجاز لنا الفداء, مثلما أجاز لنا المن, مثلما أجاز لنا القتل؟ أين أجاز لنا الله قتل الأسرى ؟ نحن نعلم أين “أمرنا” الله بالمن والفداء إلا أننا لا نعلم أين “أجاز” لنا القتل والاسترقاق. حقيقة الأمر, نحن نعلم أن الله “لم يجز” لنا القتل ولا الاسترقاق وإنما الذي أجاز القتل هم الأئمة العظام والذي أجاز الاسترقاق هو الشافعي. نحن نعلم كذلك أن ليس للشافعي – ولا لغير الشافعي – أن يجيز ما لم يجز الله, ولا أن يحرم ما لم يحرم الله.
وللحديث, إن شاء الله, بقية إن كان في العمر بقية. إلا أني آمل أنه قد استبان أن الله لم يجز لنا يومًا قتل الأسرى, ولا استرقاقهم, وإنما أمرنا بالإحسان إليهم, وإطعامهم, وإطلاق سراحهم لوجه الله. قصة الحرب العالمية الدينية والإجهاز على الأسرى وعدم خروجهم من ساحة القتال أحياء هي قصة من قصص الثقافة العربية القديمة وليست أبدًا قصة من قصص القرآن.
وإن الحمد لله, والشكر لله, على ما آتانا وما لم يؤتِنا, وما أعطانا وما لم يعطِنا. 28 مايو 2015
#تطوير_الفقه_الاسلامي
|