قواعد النهضة 3 : التدافع و الاختلاف
قواعد النهضة 3: قاعدة التدافع و الاختلاف
اهلا بك أيها القارئ الكريم….
في آخر لقاء معكم ، نقلت اليكم منظومة القيم ،وقرأت من بعض القراء ملاحظات ذات قيمة ،لكن دعني أؤكد على أن أي حضارة تنشأ ، وأي نهضة قادمة تبدأ من منظومة قيمية تبرز عبر منظومة سلوكية عامة ، يمارسها الناس حتى تصبح جزءاً من ثقافتهم، وبالتالي لو قربت لك الأمر حضارة الغرب اليوم قائمة على منظومة قيمية منشأها الحرية الفردية ، وسيادة القانون ، وأن الشعب مصدر القوانين يمارس إنشاءها عبر مجالسه النيابية التي يختارها …وهكذا … ونحن في اطار التحولات التي تحدث اليوم … علينا أن نستوعب أن هناك منظومة قيم برزت في الربيع العربي ..ثورة الحرية والربيع المضاد … وأحدهما سيسود … هذا ما نقرره نحن !
هي منظومة أخلاقية … مكارم أخلاق أو فوضى أخلاق !! الله يستر !!
خلينا منها شوي علشان ما يدخل قلمي بالخطأ في السياسة .. قلنا وقف ..اشارة مرور !!
المهم عدينا الشارة :
اليوم سأسعى معك لفهم التدافع والاختلاف ، إنهما وجهان لعملة ، لا يمكن أن نفهم أحدهما بعيداً عن الآخر ، وما سبق من سنن يتواصل ولا يمكن فصله عن حقيقة النهضة الحقيقية ، وبناء الحضارة التي ننشدها .
قال تعالى : (( وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251) تِلْكَ آَيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252) )) البقرة
وقال سبحانه : ((وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40))) الحج
وقال سبحانه : (( أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32) )) الزخرف .
وقال سبحانه: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِين }118 هود
وقال جل جلاله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} 13 الحجرات
إن الشيء الرئيسي الذي لابد أن نجعله نصب أعيننا أننا لم ولن نكون على قلب واحد ، وهذه أعظم الأمور الاختلاف ، والكل يرى في اطارها أنه على الحق وغيره على الباطل .. كلما تصاعد مفهوم الحق ضد الباطل ،علت الصرخات ، وعندما تعلوا ترتفع بعدها السيوف .
إن جوهر الخلق أن الله تعالى اعطى لبني آدم الحرية الكاملة في الاختيار ، وقدم له المساعدة في التوصل إلى أفضل الطرق للوصول ، ورغم هذا لم يجبره على استخدام طريق دون آخر .. جعله حراً ..
وبالتالي لا يوجد شر مطلق أو خير مطلق .. إنما يقيم الخير والشر بناء على تأثيره علينا نحن فنقول هذا شر .. وهذا خير .. وقد يكون عند طرف آخر يراه في أثره عليه غير ما تراه فهو يرى الخير الذي تراه شراً له والشر الذي تراه خيراً له وهكذا…
ومن هذا فالحقيقة المطلقة في بيئة ما قد تتغير في بيئة أخرى وتبرز قواعد وقوانين مختلفة فجاذبية الأرض ليست هي جاذبية القمر … الجاذبية ثابتة والنسبية تغير فهمها وقواعدها …
فالأصل الاختلاف وليس الاتفاق … وأساس الاختلاف التعارف والتفاهم .. ومن هنا يأتي الانسجام …
وعدا ذلك يكون فساد كبير .. والسبب أننا نخالف سنن تسير هذه المنظومة الكونية في الحياة
قال تعالى{ظَهَرَ الفَسَادُ فِي البَرِّ وَالبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}41 الروم
وبالتالي فلا أحد يملك الحق المطلق وإنما نحن نمتلك وجهات نظر ، وسيثبت الأقوى وجهة نظره فتسود ُ ..
الأقوى قد يكون:
– بالجبروت والعنف
– بالعلم والمعرفة (قواعد وسنن )
– بالمصادر والتجارب
– بالحيلة والخداع
ولن تستقيم الحياة أن كان الجميع وحدة واحدة
قال تعالى : { وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ } 165 الانعام
وهنا تكمن الحكمة الخفية …. إنها حكمة خلق الإنسان … ذلك الكائن الذي يحكم الأرض اليوم ،وإلى أجل غير معلوم …
وهنا تبرز اختلافات المصالح والآراء والكل يظن أن الحق إليه ينحاز ، وتبرز قوة بين هذا وذا وكأنها تأتي من خلال :
– شرعية الحق الذي يمتلكه طرف على آخر
– البحث عن البقاء والنظر أن اتباع الآخر يعني نهايته
– التغيير القادم مع الآخر تعني المواجهة إما أنا أو هو
وتأتي قوة قانون التدافع الذي يجعل الموازين تستقر عندما يظن الجميع أن الدمار سيحل بالجميع …
كيف أوضح ذلك ؟
دعنا نفكر
أن نظرت لأفلام هوليود التي تحكي عن فيروس ينهي الحياة كل الحياة في الأرض ، وفجأة يبرز جانب مضيء في كل هذا ، إن هذا الفيروس يعطي مناعة غير اعتيادية لبعض الجينات والتي تولد انسان المستقبل الذي يتحكم في كل شيء …
انظر فلم آخر العالم ينتهي … وفجأة يأتي العلماء بفكرة غواصة وسفينة عملاقة تحمل ما يمكنها من بشر من انحاء العالم ، لتعيد للعالم توازنه …وللحياة
انظر لتلك المخلوقات التي تبيد البشر ، وتدمر الكوكب ، لم تستطع آلاتهم البشرية أن تدمرهم، وفجأة يأتي النهار ، ودودة من ديدان المزارع الخضراء ، تقضي على الغازي ، دون أن يعلم أحد ماذا حدث للغزو .
لا اريد أن انشر الكثير من الأفلام حتى لا يكون غزو هليودي …على مقالي !!
نعم … كلما ظن المظلوم أن الحياة تنتهي هنا …يبزغ ذلك السر الخفي … يبرز أناس لا علاقة لهم به ليدافعوا عن حقوقه ، دون أن يكون لهم مصلحة أو لديهم مصلحة !!
ماذا أريد أن أصل به معك ؟
إن ما أريد أن أوضحه أننا كبشر نختلف لمجرد أنني قصدت شيئاً وفهمت أنت شيئاَ آخر ..ربما لم يخطر حتى في بالي …
إن أحكامنا جاهزة ضد بعضنا …
خسر البشر في حروبهم الكثير ليفهموا
أن الحياة لا تستقيم إلا بالتفاهم والتعايش وقبول الآخر
قبولي للآخر المختلف لا يعني أبداً السماح له بالتعدي على حريتي أو حرية غيري
قبولي له يعني أن أتفهم أننا لسنا أرباباً من دون الله نقذف من نشاء في النار وندخل من نشاء الجنة …
قد أختلف معك
لكني سأعيش معك
فالأرض هذه لله يرثها من يشاء من عباده
والرزق ليس مخصوصاً بخلق دون خلق
هنا ترى الغني يعيش ، والفقير يعيش ..
والكافر يملك ويحكم
والمسلم يملك ويحكم
ولو نظرت لأشد الدول فقراً
ستجد أن أشدها غنى هو من يدعمها بالغذاء ..
هذا التدافع العجيب هو الذي يوازن بين القوى المختلفة …
انظر هذا يعمل عند هذا ، وهذا يبيع لهذا وهذا يشتري من هذا .. ودورة الحياة تستمر
لو انتهى هذا
لهدمت آمن البيوت دور العبادة … ولا مكان يأمن فيه أحد إلا القبور !
لتقاتل الناس بحثاً عن البقاء على الحياة .. حتى لو أكلوا بعضهم البعض أحياء …فلم رعب !!!
تعال معي لأقص عليك قصة أغير فيها الموال (تبعنا) لكن في اطار التدافع والاختلاف :
ذات يوم برز الشيطان لعجوز في المدينة ، وقال لها :
– سمعت من يصفك بالداهية فهل بلغ دهائك دهائي
– وما أنت فاعل أمام ما أفعله
– لو صدق ما قالوه عنك لجعلتك أستاذة لي
– لا يكفيني
– ماذا تطلبين ؟
– عبد لي ما حييت
– اتفقنا وإلم تفعلي كنت أنت بالمثل
– نعم
خرجت العجوز وتوجهت لشاب يجلس في ناصية الشارع ، وتحدثت إليه قائلة :
– هل تبحث عن عمل ليوم واحد ؟
– أي عمل وبكم ؟
– الأجر لك خمسين دولاراً أخضراً ، وكل ما عليك أن تأتي معي .. لا تحدث أحداً مهما حصل ، واتبع أوامري هذا اليوم
– عمل سهل … قبلت !
توجهت العجوز ويتبعها الشاب إلى محل أبو علان صاحب بز شهير في السوق ، وطلبت من الشاب أن يقف عند باب المحل ودخلت العجوز إلى المحل …
بدأت العجوز تبايع البائع عن أفضل أنواع البز لديه ، وقد بان عليه الأعياء وهي تفاوض في السعر ،
– يا حجة هذا آخر ما عندي ما أقدر أنقص ولا ريال
– الله يسترك …(بدأت تذرف الدموع )
– يا حجة ما في داعي للبكاء ..
– يا حج … أنت لو تعرف حالي لبكيت لي
– خير
– هذا ولدي هناك واقف … تعلق حبه بامرأة … وطال به الهيام … وأصابته حمى الوجع في قلبه والمرار ..
– طيب ما علاقتي
– يا بني يريد أن يثبت لها حبه لها وهو يطلب منها ترك زوجها
– يحب واحدة متزوجة … يالله … عيب عليه
– ايش أقول يا ابني …حسرة … لكنه كذا كاد يقتل نفسه منتحرا لولا ستر الله ..
– الله المستعان
– اتعبني … واهلكني .. وكما ترى مالي غيره .. وابوه ميت من زمان
– الله يرحمه
– الله يجبرك في زوجتك وعيالك لا تردني والتزم لك بأني اسدد باقي الحساب قبل آخر الشهر
– والله حيرتينا معاك … طيب … ما ادري ترجع او لا
– الله اكبر .. عيب عليك.. تقول اني كذابة
– لا بس .. اسمعي تفضلي الثوب … وهاتي اللي معاك والله يسهل الباقي …
خرجت العجوز من المحل وطلبت من الولد أن يتبعها ….حتى وصلت به لدارها .. طلبت منه الجلوس وانتظارها ولا يتحرك ولا يرد على أحد حتى تعود …
توجهت العجوز لمنزل في الحي الثاني ، ولما اقتربت منه بدا عليها الاعياء والتعب ، طرقت الباب .. نادتها من في الداخل :
– من في الباب ؟
– عابرة سبيل ،عجوز أهلكها التعب
فتحت الباب امرأة مدت يدها بنقود وقالت :
– تفضلي ياحجة
– الله المستعان .. ماحاجتي .. الله يسترك بس كوب ماء .. شاعرة بهبوط واعياء
– العفو …. العفو ..ظنيتك من المتسولين ..طيب لحظة
دخلت المرأة .. وبدأت العجوز في الزحف عند الباب …وفجأة انهكت فجلست على الأرض ساقطة ، أسرعت المرأة بكوب ماء بارد …
– سلامات ياحجة
– لا عليك يابنتي
– طيب العفو ادخلي شوي في الصالة تبردي
دخلت العجوز .. وبدأت تلهث من الأعياء ..شاكرة كرم مضيفتها …
– جزاك الله خير يابنتي …
وبدأت تتجشأ بكاء ..
– خير يا حجة
– ابني … تطاول علي اليوم وطردني من البيت .. خلاني أهيم في الشوارع …ألعن يوم خلفته
– الله المستعان … الله المستعان … لا حول ولاقوة الا بالله ..
– لا عليك يا بنتي .. ليش احملك همي !! خليني أروح ..
– كيف تروحي وأنت في هذه الحالة
– طيب … يا بنتي كيف اسوي ..
– انتظري لزوجي يجي اخليه يوصلك ويمسك ابنك من رقبته
– لا .. لا … اسمعي … خليني أمشي افضل لي …الله يسترك .. ابني ملعون لعاد يمسكوا في خناق بعض …
– طيب ..كيف اسيبك ؟
– لا عليك ..هكذا الحياة …الله يسترك … بالله ساعديني أوقف
وخرجت العجوز .. ولما عادت المرأة تتفقد المكان انتبهت أن العجوز تركت كيساً فيه قماش لثوب ، أنبت المرأة نفسها ، ورفعت الثوب في الدولاب … وتقول :
– أكيد بترجع .. الثوب شكله غالي … أكيد مرتاحين هذه آخر تدليل العيال .
عاد أبو علان للبيت ، وبعد الغداء جلس يشرب الشاي وانتبه للكيس اللي مركون في الدولاب ، فتحه ، وبدأ يضرب أخماساً بأسداس … صاح :
– ام علان
– لبيك ..حبيبي تفضل
– حبك برص … شلي نفسك وروحي لدار أهلك قبل ما ارتكب جريمة الآن …
– اعوذ بالله
– الآن … اغربي عن وجهي لا جاتك عافية
وتعالت الصرخات … وام علان تذرف الدمع وهي تجر ارجلها في الأرض جراً … وتحرك أبو علان ليسحبها بقوة ويرميها خارج البيت ويغلق الباب …
وجلست المرأة تأن وتبكي لا تفهم ماذا حدث ؟
جاء الشيطان للعجوز قائلاً :
– اعوذ بالله من شرك … كيف سويتيها …؟
– بس أنا ما رويتك …
– ايش باقي
– انا فرقتهم .. وانا اردهم
– مستحيل
– عندك أنت بس مستحيل مش عند الداهية ام الجلاليب …
ولأن العجوز مازالت تراقب المكان من بعيد ، اقتربت ، وكأنها ترى المرأة مذهولة
– خير يابنتي
– ايش من خير ياحجة … شكلها اليوم دبارة لأني ساعدتك
– تعوذي من الشيطان ..قولي لي ايش حصل
وكأنها تسمع القصة مستغربة
– ولا قال أيش السبب
– ابداً
– طيب اسمعي كلامي تحركي الآن معي ولا تقولي كلمة
طبعاً ام علان مشت تشتي حل ، وصلت العجوز لبيتها … فتحت البيت .. وقالت للشاب يجي معاها .. وطلبت من ام علان تبقى في المكان …
تحركت العجوز إلى بيت أبي علان .. ولما وصلته طلبت من الشاب ألا يتحرك من مكانه …
دقت الباب ، فتح أبو علان :
– ايش جابك ياحجية …
– اللي جابني عندك النهار
– الله المستعان وتقوليها في وجهي …
– اسمع وهدي .. يا شاب تعال
– والله بقتله ابنك هذا …
– هذا مش ابني ولا اعرفه …ياشاب تكلم
الشاب مستغربا :
– ابن من … تتكلموا في ايش ..قصدك ابن ذي … الله اكبر … ما اعرفها الا اليوم !!!!!
– ابعد يا بني … ارجع مكانك افهمك بعدين … !
بدأت العجوز تحكي الحكاية لابي علان .. وطلبت منه يجي معاها يرد زوجته ويعتذر منها .. وهي بتشرح لها القصة ..
توته … خلصت …
فهمتم اقصد ايه ……لو فهمت جيد … معقول …ما وصلت معاك …أكبر كارثة حدثت أن الجميع لا يفهم أي شيء ولم يحاول أن يفهم … هذا لغز الاختلاف المنتهي بصراع …..
القاك في القريب ان شاء الله
احمد مبارك بشير
27/4/2013