تصحيح اخطاءنا التراثية : الصلاة التقليدية
مفهوم الصلاة التقليدية
بسم الله الرحمن الرحيم
لم أجد عند اللغويين تعريفا دقيقا للصلاة العبادية المعروفة التي نأتي بها خمس مرات كل يوم ويشترك معنا بقية الأديان بطرقهم الخاصة بهم. ولكني أُعرِّفها هكذا:
الصلاة شعيرة رياضية بشرية خاشعة تجاري فيها النفسُ البدنَ أمام الله تعالى استدرارا لرحمته.
وجوابا على سؤال السائل عن اختياري لهذه الكلمات فإني أشرحها هنا.
شعيرة رياضية: لأن الصلاة عمل متفق عليه ويمكن إقامتها مع بعض فهي ليست حركة فردية يقوم بها كل شخص كما يراه، ولأن الشعار الرياضي مقصود عادة لتحقيق التوجه الجمعي باتجاه معين. حتى الذي يصلي فرادى فإنه يجاري في صلاته بقية إخوانه المؤمنين والمؤمنات. بالطبع أن القصد فيها التوجه إلى رب العالمين أو التوجه بحركة موحدة قياما أو قعودا أو في المشي أو في الضرب على آلات موحدة مثل دق الطبول عند بعض المصلين . ونية الجميع هو التوجه إلى الله تعالى توجها حقيقيا بالقدر الممكن للإنسان. ويخرج بهذه الكلمة الدعاء المحض أو التوجه الخالص الذي لا يستتبع علامة ظاهرة في الحركات البدنية، فهي ليست صلاة بالمعنى التقليدي.
بشرية : إن الله سبحانه وكما يبدو قد اكتفى بالأمر بالصلاة وعلَّم النبيَّ الركوع والسجود والقيام والذكر لتكون عناصر للصلاة ولكن النبي هو الذي وضع أشكال الصلاة التي نأتي بها ونَظَّم مراتبها اتباعا لأبينا إبراهيم كما يبدو. والمسلمون جميعا قد التزموا طيلة مئات السنين أن يتبعوا إمامهم المصطفى في إقامة الصلاة وسعوا ويسعون اليوم لأن يتبعوا رسول الله جهد الإمكان. والنبي عليه السلام هو الذي أمر بأن نصلي الفرض المطلوب عند دلوك الشمس في مرحلتين وكذلك فرض غسق الليل في مرحلتين واكتفى بمرحلة واحدة لفرض الغداة أو الصبح كما هو وارد في القرآن. وهكذا وزع النبي الفروض اليومية العادية على الأوقات التي أمر الله تعالى أن نصلي فيها. والنبي الكريم هو الذي وضع كيفية الصلوات الأخرى مثل صلاة الميت والعيدين والآيات ولعلها جميعا متوارثة من أيام إبراهيم.
خاشعة : لأن الذين علَّموا غيرهم الصلاةَ مثل الأنبياء يَعْلمون بأن الموجودات كلها ساجدةٌ مطيعة لرب العالمين لأنها فاقدة للإرادة، فأرادوا توجيه أتباعهم إلى الخضوع الإرادي لربهم حتى يتدربوا على عدم نسيان أو تناسي الذات القدسية الذي منحهم الإرادة ليمتحنهم فحسب. والخضوع الإرادي لسيد الكائنات يعني تناسي أية قدرة شخصية والذوب في الخضوع الطبيعي العام لكل الكائنات أمام سيدها فنكون مثل الملائكة ومثل الحيوانات ومثل الشمس والقمر والمجرات ومثل الضوء والنور والهواء وغيرها في قولها أمام الله تعالى كما هو لسان حال السماوات والأرض كلها: أتينا طائعين.
تجاري فيها النفس البدن : إن كلما يظهر على المرء من علامات الصلاة فهي حركات البدن بما في ذلك الأصوات التي تصدر من تحريك بعض الأعضاء البدنية. والبدن بطبيعته تخضع لأمر الله تعالى وتسجد له سبحانه. لكن الحركات التي تظهر على ملامح البدن وظواهر الأعضاء تابعة لأوامر النفس الإنسانية بإذن الله تعالى. فالصلاة الاختيارية تمثل رضا النفس بالخضوع والسجود وإظهار الذل أمام رب السماوات والأرض. ولا صلاة بدون رضا النفس، إذ أن الذي يصلي مرغما فهو يطيع أوامر الخلق ولا يخضع للخالق. إن الله تعالى أراد تشريعا أن يختار المخلوقُ بنفسه نوعَ الذل الذي يشترك مع بقية الناس في إظهاره أمام العزيز الجبار. ولعل هذا هو السبب في امتناع السيد المطاع سبحانه من بيان كيفية الصلاة وترك ذلك للنبي المصطفى ولمن سبقه من إخوانه الأنبياء عليهم جميعا السلام. إنهم عليهم السلام وضحوا كل الصلوات ولعلهم وضعوها جميعا بإذن الله تعالى دون أن تكون من تعليمات العزيز الحكيم. فالإنسان هو الذي وضع كيفية الصلاة لتكون ذلا إنسانيا بحتا أمام الكبير المتعالي.
أمام الله تعالى: ليس لله تعالى حدود مادية تحيط به فيصدق عليه الأمام والخلف المادي المعروف بيننا. فكل التوجهات إلى الذات القدسية توجه معنوي بالقلوب والنفوس. ثم إن استعمال كلمة أمام الله تعالى لا نقصد بها أن نكون في مشهد الملكوت الشامل فهو سبحانه محيط بكل شيء ولا يحول دون مشاهدته أي مانع. لكننا نقصد بها أن نُشعر أنفسنا بأننا واقفون أمام الله تعالى. نحن نعلم بأن كل الوجود هو في حضور رب العالمين ولكن هل كل ما في الوجود من كائنات ممكنة تشعر بأنها في عين ربها؟ أما نحن كبشر فإننا نعلم عن أنفسنا بأنها ليست في حال الذكر الدائم فنحن كثيرا ما ننسى الله تعالى وننسى إحاطته الكاملة بكل كياننا ووجودنا. فبالصلاة التي تُقام خضوعا لرب الكائنات فإننا نشعر شيئا فشيئا بأننا تحت مجهر الربوبية التي لا يفوتها أي شيء عنا. هكذا تساعدنا الصلوات اليومية المتكررة أن نصلح أنفسنا ونخلص نوايانا ونصحح أعمالنا. ولذلك فإن المؤمن الذي يصلي بحق وصدق، فهو لا يكرر الصلاة خمس مرات بل يقوم في كل مرة بعمل جديد مختلف عما فعله في الصلاة السابقة. وأقل القول ألا يتساوى صلواته في هذا اليوم مع صلواته في اليوم الذي مضى.
استدراراً لرحمته : إن حق الذل أن يصلي المرء لربه خوفا وطمعا. ليس في الإسلام ولا في أية ديانة سماوية أن يصلي أحد لربه صلاة الأحرار كما يتبجح بها البعض. إن صلاة العبد الفقير للغني المتعالي لا تعني إلا الذل والخضوع والخوف والطمع. هذ هي صلاة الأنبياء الذين علَّموا غيرهم الصلاة. قال تعالى في سورة الأنبياء: فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ ﴿90﴾. وقال في سورة السجدة: إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ ﴿15﴾ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ﴿16﴾.
وما يُنسب إلى العبد الصالح علي بن أبي طالب من قول يخالف النص القرآني في نهج البلاغة بأنه لا يعبد ربه رغبا ولا رهبا بل لأنه سبحانه أهل للعبادة، فهو خطأ قام به الذين نسخوا نهج البلاغة احتمالا. ولا أظن أن الشريف الرضي قد فعل ذلك ولو فعله فهو مخطئ أيضا. سامح الله مَن فعلَ ذلك. إن الإمام علي على علم بأن الحرية تتلاشى كاملة أمام رب العزة ويعلم بأن كل الموجودات بمن فيهم الأرواح القدسية والأنبياء فهم داخرون ذليلون أمام القدوس جل جلاله، فعظيم أن يدعي أحد بأنه يعبد الله عبادة الأحرار! معاذ الله من ذلك. إن الله تعالى يعطي عبيده ويكرمهم ثم يوجب عليهم أن يعبدوه ليثبتوا بأنهم يحبون الحقيقة فيكرمهم مرة أخرى بإدخالهم جنات النعيم الأبدية. فالعبادة الصحيحة هو أن تعبد القدوس خوفا وطمعا. ومضحك موجب للسخرية أن تقول: أعبد ربي عبادة الأحرار لأنك حينما تقول أعبد فأنت تعني أنك عبد خاضع ذليل. إنما أنت حر شكليا في الدنيا بأن الله تعالى شاء أن يمنع عنك العذاب الفوري ليختبرك. فليست حريتك حقيقية في الواقع.
الإنسان يضع كيفية الصلوات لربه:
ليست الصلاة إلا عملا بدنيا يأتي بها الإنسان ويُتعب بها بدنه بقصد التقرب إلى الله لا بقصد ترويض البدن. لكنه يسعى بمشاركته في صفوف المصلين أن يُعلِّمَ نفسه الخضوع لله وحده خضوعا اختياريا مثمرا ومفيدا يوم الوقوف أمام الديان. والصلاة تقترن بالحرية الكاملة لتكون الحركات البدنية تابعة لأوامر النفس تماما فتخرج الصلاة إلى الوجود وهي تمثل عملا مشتركا بين النفس والبدن وباختيار أكثر وأكمل من اختيارنا في أعمالنا الأخرى. أتمنى ألا يسعى الناس لفرض الصلوات على أهليهم وأولادهم فتحبط أعمالهم وينقلبوا خاسرين في النهاية، بل يكتفوا بتقديم النصح والتشجيع لهم ليصلوا تبعا لأوامر نفوسهم وليس لأوامر الأبوين مثلا. وسنرى في هذا البحث كيف أراد الله تعالى أن نصلي باختيارنا وأن نضع كيفية الصلوات باختيارنا أيضا لكننا نتبع النبي العربي محمد عليه وآله الصلاة والسلام لنوحد كلمة الخضوع الاختياري بيننا وليس لسلب الخيار من أنفسنا.
والصلاة التي لا تكون متعبة للبدن فهي دعاء أو ذكر لله تعالى وليست صلاة. وهذه المسألة من الأهمية بمكان في حياة البشر. فلو ننظر إلى مختلف الطوائف الإسلامية والمسيحية واليهودية والبوذية والهندوس وغيرها من الذين يقيمون الشعائر الدينية، لنراهم يجلبون لأنفسهم نوعا من العناء والتعب البدني بأشكال مختلفة لتثبيت وترسيخ مفاهيمهم العقائدية. حتى الذين يقدسون النار والشمس في إيران أو الذين عرفوا بالزردشتيين يأتون بطقوس متعبة للبدن. كانوا يقيمون شعائر العزاء للأمير سياوش والذي اشتهر بينهم بـ “سووشون” أو “سياوشون”. كانوا يقيمون العزاء أياما قبل عيد النيروز فيبكون وينوحون ويلبسون السواد ويضربون وجوههم حزنا على مقتل الأمير سياوش على يد أحد ملوك الأتراك الذي لجأ إليه ذلك الأمير وزوَّجَه الملكُ ابنتَه بعد أن أعجب من ذكاء الأمير الفارسي، لكنه خاف على سلطانه فيما بعد ليقتله ولعله مثَّل ببدنه. وما نراه اليوم من مراسم عاشوراء هي من مواريث الزرتشت التي أدخلت في الإسلام عن طريق عضد الدولة الديلمي كما هو معروف وليست شعائر إسلامية في الواقع.
أضف إلى ذلك أن الزردشت يصلون مثلنا خمس صلوات في كل يوم من أيام الصيف وأربع مرات يوميا في الشتاء. إنهم يعتبرون وقت الصلاة الأولى من طلوع الشمس إلى منتصف النهار ووقت الصلاة الثانية من منتصف النهار إلى ثلاث ساعات بعد الظهر في الصيف فقط وفي الشتاء لا يجيزون هذه الصلاة ولكنهم يطيلون وقت الصلاة الأولى إلى ثلاث ساعات بعد الظهر. والثالثة من الساعة الثالثة بعد الظهر إلى غروب الشمس والرابعة من غروب الشمس وطلوع النجوم إلى منتصف الليل وأما الصلاة الخامسة فتقام بين منتصف الليل إلى طلوع الشمس. وهم يقرؤون الأذكار واقفين ولهم ملابس خاصة للصلاة. ليس للزردشت أي ارتباط بالأديان السماوية الثلاث المعروفة في الكرة الأرضية وهم أتوا قبلنا وبعد إبراهيم الخليل ويصلون خمس مرات مثلنا.
ومن الصعب أن ننسب هذه الكيفية المشابهة لصلوات المسلمين إلى الصدفة. ولكن هناك احتمالان قويان على الأقل: أولا، أن يكون آشور زرتشت الذي جاء عدة قرون بعد إبراهيم الخليل قد استوحى الصلوات التي سمعها لإبراهيم فقلد النبيَّ الكريم. ثانيا: أن نعتبر الصلاة أمراً بشرياً يقوم به الإنسان أمام ربه فعمل الزردشت يمثل النتيجة الحتمية الطبيعية لمن يُريد أن يخضع ويتذلل أمام سيد الكائنات وأصل الوجود جل جلاله. إنهم توصلوا إلى ذلك بصورة طبيعية وبإرادة بشرية بحتة. وليس المعروف بآشور زرتشت أو زردشت نبيا باعتقادنا نحن المسلمين ولم يوح إليه في حدود معلوماتنا. حتى اهتمامهم بالشمس شبيه باهتمام القرآن الكريم بالشمس حين تعيين أوقات الصلاة حيث يقول سبحانه في سورة الإسراء: أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا ﴿78﴾.
ولو صح أي الاحتمالين فإن الصلوات التي نصليها تحمل جذورا قديمة تربو على ألفي سنة على الأقل من قبل ظهور الإسلام. وهذا يدل على أن الإنسان كان يصلي عدة مرات في اليوم قبل الإسلام فعرف من ذي قبل كيفية إتيان الصلاة ونظمها ووزع صلواته اليومية على الأوقات. فإذا لم يوضحها القرآن فلأنها على أقل تقدير من الأمور الواضحة للناس أو للنبي الذي كان يتولى تعليم المسلمين. شأنها شأن أعمال الحج التي كانت معروفة لدى أهل شبه الجزيرة الذين ورثوا الحج من إسماعيل وإبراهيم. هناك في الكتاب الكريم مجموعة أخرى من المسائل التي لم يوضحها الكتاب بل اكتفى بالإشارة إليها باعتبار شهرتها بين الذين استلموا الوحي الختامي، مثل الأنصاب والأزلام والإيلاء والظهار وحتى الزنا.
بالطبع إن الزرادشت أو الزردشتيين لا يعبدون الشمس ولكنهم يعتبرونها وسيلة للتقرب إلى الله تعالى وكل وسيلة يتخذها الإنسان للتقرب إلى الله تعالى فهو شرك في منطق القرآن الكريم. ويستثنى من ذلك التشبث بالدعاء إلى الله تعالى والصلاة إليه سبحانه والتوسل بأسماء الله تعالى نفسه التي تعتبر وسائل صحيحة للتقرب إلى الذات القدسية دون التوسل بخلق الله تعالى مهما عظم شأن ذلك الخلق فكل من في السماوات والأرض عبيد للرحمن العظيم وكل المخلوقات المهيبة مثل النجوم الكبيرة والمجرات، فهي صغيرة خاسئة أمام جبروت العظمة الربوبية جل جلاله. والزردشت لا يحملون مذهبا سماويا صحيحا في الواقع فهم كانوا يتزوجون مع الأقارب القريبة مثل الأمهات والبنات والأخوات. كانوا يعتبرونها زواجا مستحبا مع الأسف ولا يكتفون بإباحتها. بالطبع أن الزردشتيين اليوم يتنصلون من ذلك ولا ينكرونها ولكنهم يتباهون بأولئك الملوك الذين تزوجوا من بناتهم ويعظمونهم إلا أنهم يستنكرون فعلهم ويستقبحونه ولا يأتون بمثله اليوم.وهذا يعني أن الزردشت لا يمكن أن يكون دينا سماويا نظيفا.
الصلاة عمود المسلمين:
يقال بأن رسول الله عليه السلام قال بأن الصلاة عمود الدين، إن قبلت قبل ما سواها وإن ردت رُدَّ ما سواها. أو قال ما بهذا المعنى. ولا يقول القرآن ذلك بل يعتبر التوحيد عمودا للدين وليس الصلاة. قال تعالى في سورة النساء: إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا ﴿48﴾. فالتوحيد هو الدعامة التي لو اضطربت اضطرب كل أعمال المرء، وضده الشرك وهو الذنب الذي لا يمكن أن يُغتفر. لكن ترك الصلاة ذنب كبير يختلف مع الشرك بأنه يمكن أن يُغتفر. فالصلاة هي عمود المسلمين الذين يجتمعون في ظلال الصلاة عدة مرات كل يوم.
والمسجد أجمل مجمع للذين يؤمنون بالله واليوم الآخر وأتطلع إلى اليوم الذي نرى فيه المساجد مساجد يُعبد فيها الله تعالى وليست متاجر تؤمن المعيشة للعاملين في المساجد وتحقق الشهرة للذين يتفنون في زركشة معابد الله وتجميلها وتزيينها وإفاضة الديكور المميز عليها. إن بعض المساجد ليست أكثر من مباني فنية بديعة تدل على اهتمام المانحين وبراعة المهندسين والفنانين مما يخلب أنظار المصلين فلا يلتفتون معها إلى لقاء ربهم بل ينشغلون بالتفكير في الفن الإبداعي الذي يزين القبة والمنارة أو المنارات والحيطان والفناء وما يتبع ذلك من تسهيلات كريمة متقنة تبعث بالراحة والطمأنينة في قلب المصلين الذين سوف يغفلون بطبيعة هذه النوع من المساجد عن عذاب الجحيم وعن غضب رب العالمين. وهناك الكثير من المساجد الحديثة التي تجذب أجمل المقرئين صوتا وأروعهم خطابا وأبدعهم صناعة للجمل الرنانة الجميلة التي تغني التشبيهاتُ البيانية الفاتنةُ فيها عن مناقشة الحقائق ومطالعة كتب السماء. ناهيك عن الأصوات المطربة ولذائذ الطعام التي تقدم في مساجد الله ونعم ذلك ولكن أين العلم الذي بعث الله تعالى نبيه عليه وأين معرفة الله تعالى ومعرفة اللقاء به ومعرفة التمسك به سبحانه وباللقاء به وأين مفاهيم القرآن؟ إلا أنهم جميعا يصلون في هذه المساجد و بها يأتلفون فالصلاة عمود المسلمين وليست عمود الدين.
الطقوس الدينية لا تكفي لجلب المغفرة والرضوان:
يظن الكثيرون من أبناء آدم بأن الطقوس الدينية هي التي تحقق رضوان رب العالمين فيغفلون عن حقيقة أن هذه الطقوس إنما تساعد على تكوين المجتمع المنتمي إلى الدين وليس لها أي ارتباط برضوان الله تعالى أو كسب جنات النعيم. هذه الطقوس تجمع الأمة وتوحد كلمتها لو أتوا بها بوجهها الصحيح حتى يتسنى لهم التفكر في خلق السماوات والأرض. هذا التفكر هو الذي يمكن أن يؤدي إلى توجه القلب والعقل إلى سيد الكائنات فتقول: ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار. والخلق الذي ننفي عنه البطلان هو خلق الإنسان الذي لم يخلقه الله باطلا. بالطبع أن سبحانه لم يخلق السماوات والأرض باطلا أيضا ولكن الآية تتحدث عنا بلسان أجدادنا من قبل ظهور النبي العربي.
إن كثيرا من المجرمين القتلة والسفاحين يصلون ويصومون ويعظون غيرهم ويقدمون الكثير من القرابين لأمتهم. إنهم يهتمون كثيرا بصيانة المساجد والمعابد وينفقون على الذين يحفظون القرآن أو يترنمون به ويصلحون أداء أصواتهم لإظهار موسيقى كتاب الله تعالى. ثم إن كثيرا من المعروفين برجال الدين يدعون للقتلة ويبررون وحشيتهم وكبرياءهم. لقد سمعناهم يمجدون في الذين قاموا بالفتوحات الموسومة بالإسلامية وهي وصمة عار في جبين المسلمين إلى يوم القيامة. ليست الفتوحات إلا علامة على بدوية المسلمين الأوائل وابتعادهم عن الحضارة المهذبة التي أتى بها محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام.
إنهم دخلوا بيوت الآمنين واستلبوا أموالهم وجناة عمرهم وقتلوا رجالهم وسبوا نساءهم وأتوا بهن جواري لملوكهم وزعمائهم وخلفائهم وأنفسهم. قرأت على أحد المحققين الاجتماعيين كلاما جميلا مفاده أن جنود المسلمين الذين دخلوا بيوت الناس عنوة لم يستأذنوا منهم في اختطاف بناتهم وفلذات أكبادهم بل قتلوا وسلبوا ونهبوا واختطفوا البنات عنوة وظلما. ومن المؤسف أن نرى المسلمين يتشدقون بسيوف الغاصبين الجبابرة ويسمونهم سيوف الله ويمجدونهم ويحبونهم ويتبركون بذكر قصص إجرامهم وظلمهم. إنهم سعوا لفرض الإسلام القسري على الشعب في حين أن القرآن كان بينهم ينادي: لا إكراه في الدين. إنهم يتساهلون في الدماء وهي محرمة ويتساهلون في النفوس وهي ليست مملوكة لأحد حتى لأصحابها، بل هي مملوكة لله تعالى. كم سمعنا من أمم مسلمة تبكي على موت المجرمين القتلة وتقيم لهم مجالس العزاء؟ ومن أغرب ما سمعته أن شيخا معروفا بشيخ الدين وقد سأله أحد مريديه في التلفزيون عن جواز الترحم على أحد السفاحين المجرمين في العراق، فقال في الجواب: إن فلانا قد أتى بالويلات ولكن الله تعالى وفقه في أواخر حكومته أن يهتم بالقرآن وبحفظه كما وفقه في آخر حياته تحت حبل المشنقة أن يتشهد الشهادتين فهو مؤمن ويجوز الترحم عليه ولعل الله أن يغفر له!! وإني أسأل هذا الذي يترحم على القتلة: هل لديك في قصص القرآن آية واحدة تتحدث عن قصة قاتل واحد بأن الله تعالى غفر له قتل العمد. و الرسول موسى الذي غفر الله له لم يكن قاصدا القتل العمد ولكن صلابة يده وقوته البدنية الكبيرة أوقعت القبطي الذي تشاجر مع الإسرائيلي أرضا وقضى عليه. وقد استغفر فورا فغفر الله تعالى له، وهذا يعني أنه سبحانه كان سيعاقبه على قتل قبطي لا يعبد الله تعالى لو أنه لم يستغفر وهو من أهل بيت النبوة و كان مرشحا للنبوة أيضا. وعقاب القتل هو نار جهنم في الواقع.
الصلاة عبادة بل أكبر من العبادة:
يظن بعض المؤمنين بأن الصلاة ليست عبادة لأنه سبحانه عطفها على العبادة في الآية التالية من سورة طه: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (14). فلنعلم بأن الذكر أهم من العبادة لقوله تعالى في سورة العنكبوت: اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ﴿45﴾. فبالنسبة للذين استلموا الكتب السماوية من بعد موسى فإن الصلاة هي شكل من أشكال العبادة وهي تمثل الشكر وطلب المزيد من الله تعالى. والشكر مظهر من مظاهر العبادة كما قال تعالى في سورة البقرة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172). وقال سبحانه في سورة النحل: فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ حَلالاً طَيِّبًا وَاشْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114).
لكن العبادة لا تنحصر في الصلاة وليس كل أصحاب الرسل من المصلين مثل الذين جاؤوا بعد إبراهيم. الذين سبقوا شعيبا اكتفوا بالدعوة لعدم الشرك بالله تعالى وعدم الخضوع لغيره ولم يتحدثوا عن يوم القيامة باعتبار عدم تطور البشر آنذاك ليفهم معنى القيامة. ولكن شعيبا أشار إلى اليوم الآخر فقط. كان أصحاب الرسل يظنون بأن العذاب في هذه الأرض والثواب في هذه الأرض ولم يكونوا قادرين على تصور النشأة الآخرة. وهكذا الصلاة فهي عبادة متطورة ظهرت بعد الأنبياء الأوائل وأظن بأن الصلاة التي نصليها هي من إبداعات أبينا إبراهيم.
فلا يمكن أن نتصور بأن الله تعالى يجمعنا وإياهم يوم القيامة ويدخل المصلين إلى الجنة. لكننا يمكن أن نتصور بأنه تعالى يُدخل غير المصلين بعد أن أمر سبحانه بالصلاة النار. ذلك لأنهم خالفوا حكم ربهم. تماما مثلما أن الله تعالى لن ينتظر من أصحاب صالح أن يؤمنوا بموسى ومحمد لكنه تعالى يطالبهم بالإيمان بنوح الذي سبقهم. ولا يكفيهم الإيمان بنوح ولكن الذي ينكره فسيدخل النار احتمالا. فالصلاة عبادة متطورة ولكن العبادة لا تقتصر على الصلاة كما أن هناك من يمكن أن يصلي ببدنه وجوارحه ولا يصلي بقلبه. فالعبادة الحقيقية هو الخضوع القلبي للرحمن عز اسمه في الصلاة والزكاة وفي كل عمل نأتي بها لوجهه سبحانه.
كان الأنبياء يمنعون الناس من عبادة الأصنام فما هي عبادة الأصنام. إنها تمثل أعمالا رياضية وأقوالا شفهية يأتي بها الناس أمام غير الله تعالى فهي نوع من الصلاة لغير الله. وصلاتنا أيضا أعمال رياضية وأقوال لسانية نبين بها خضوعنا بالقلب والبدن لله تعالى. فالصلاة عبادة ولكن العبادة هي الخضوع سواء كانت على شكل الصلاة والصيام أو على شكل التضحية بالمال والنفس أو على شكل التوحيد الذي هو أساس الدين. والعلم عند المولى.
كيف تنهى الصلاة عن الفحشاء والمنكر:
و جملة “الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ” لا تعني المنع التكويني بأن تقيم الصلاةُ حاجزا بين المصلي وبين الفاحشة كما تصوره البعض وبأن ذلك الحاجز الخيالي يبقى موجودا حتى الصلاة التالية. لو كان كذلك لقال سبحانه بأن الصلاة تمنع الفحشاء والمنكر ولم يقل سبحانه ذلك. لننظر إلى الآية التي ذكرناها أعلاه من سورة العنكبوت. نعلم منها بأن قراءة القرآن وإقامة الصلاة تعلمان الناس أصول العقيدة ومعرفة الله تعالى كما تدربانهم على الخضوع لله سبحانه وبأنهم جميعا في صف العبودية الواحدة والله تعالى هو الأحد الذي تخضع له كل الموجودات دون تمييز أمام وجهه الكريم جل جلاله. ولكن ذكر الله تعالى هو أكبر من الصلاة وأكبر من تلاوة القرآن لأنه هو المقصود من القرآن والصلاة. إن الله تعالى أمرنا بذلك لنتعلم ونتدرب على السعي لمعرفته وعلى استشعار الخوف والتقوى من عدل رب العالمين سبحانه. فلو أدينا صلاتنا بقلب سليم ووجدان صادق لكان ذلك عاملا مساعدا للبقاء على ذكر الله وتصوُّرِ إحاطتِه بنا وبأعمالنا لئلا نكون فريسة سهلة للشياطين.
قال تعالى في سورة النور: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاء وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴿21﴾. هذه الآية في مقابل تلك الآية تتحدث عن الشيطان الذي يأمر بالفحشاء والمنكر وبأن الله تعالى وحده الذي يزكي الناس لا الصلاة ولا قراءة القرآن ولا النبي ولا غير ذلك. فآخر عمل تعمله لمصلحة نفسك هو أن تتذكر الله تعالى دائما وأبدا فهو الذي يزكيك والصلاة تساعدك على أن تذكر الله تعالى. إنك ترى في الصلاة الجامعة مختلف الناس أنبياء وعبيدا وملوكا وأثرياء وفقراء وأغنياء، سودا وبيضا يركعون ويسجدون معا لخالق السماوات والأرض. هذا هو العامل المساعد الذي ينهى عن الفحشاء في مقابل الشيطان الذي يأمر بالفحشاء. فلا الشيطان يملك سلطانا علينا ولا الصلاة تملك ذلك. لكنهما يوحيان وطريقة وحي الصلاة المقامة هو ما نستفيده ونستلهمه من الوقوف معا خاضعين أمام سيد الوجود ومولى المؤمنين جل جلاله. والعلم عند المولى جل شأنه.
أهمية الحركات البدنية في توحيد صفوف المصلين:
كل فرقة وكل طائفة وكل مذهب وكل دين يجمع أفرادا تحت غطائه فإن القائمين عليه يسعون لإيجاد حركة موحدة تنظم صفوفهم. هذا مشترك بين كل الناس سواء كانوا متدينين يخافون الله تعالى أم كافرين يطلبون المتعة الآنية والطرب الدنيوي. وأهل الديانات يسعون لتوجيه أنفسهم نحو خالق السماوات والأرض لأنهم بصورة عامة يخافونه ويتقون عذابه كما أنهم يطمعون في نعيمه ورضوانه. حتى الفاسق من أهل الديانات فهو لا يخلو من درجة من درجات الخوف من القوي المتعالي. ومسألة الخوف من الله الذي هو في الغيب في حد ذاتها لا تمثل عملا ظاهريا مثل الأكل والضحك والتحدث والنوم. فالحركات البدنية لا تمثل الصلاة ولكنها تصاحب الصلاة ومجموع ذلك تمثل الصلاة التدريبية أو التقليدية التي نأتي بها عدة مرات وفي المناسبات لنتدرب على الصلاة الدائمة بإذن الله تعالى.
فوائد الصلاة ومزايا إقامتها:
- تعلم اللغة العربية: والعربية من أهم اللغات للمسلمين باعتبار القرآن، وبما أن هذا الدين يدعو إلى التفكر والتعقل ويرفض التبعية والتقليد للآخرين فإن كل مسلم يشعر بالحاجة إلى فهم العربية. وبما أن الرسول أمر أصحابه أن يصلوا كما يصلي والعربية هي اللغة التي استعملها في الصلاة فإن كل مسلم مضطر لتكرار مجموعة من الجمل العربية يوميا عدة مرات. إنه يكرر سورة الحمد عشر مرات كل يوم على الأقل، والإنسان بطبيعته يحمل غريزة حب الاستطلاع فلا يمكن أن يرتاح قبل أن يعرف معنى ما يتلوه كل يوم. إن الإنسان لا يقبل أن يكون مثل الببغاوات والقرود فلا يتقبل أن يأخذ الآخرون بيده لأنه يكره العمى ويحب النور. فهو مضطر أن يتعلم العربية ليعرف ما يكرره في الصلاة. ونحن نعرف بأن أحسن السبل لتعليم اللغة هو الاختلاط مع أهلها حتى يضطر المرء لتكرار ما يقولونه ولفهم ذلك فيتعلم لغتهم. ولعل السبب في عدم سعي المسيحيين لتعليم لغات الأناجيل هو عدم إقامة الصلوات المكررة يوميا والاكتفاء بيوم في الأسبوع وبالمناسبات.
- شعر المنعَم عليه بأن يشكر نعمة المنعِم بإظهار نعمه أمامه، فنرى حواشي الملوك يلبسون ما أفاضه عليهم أرباُبهم أمامَهم. والله تعالى لم يكتف بمنحنا السمع والبصر والفؤاد بل أكرمنا باليدين والرجلين واللسان والأنف والرقبة والبطن والظهر القائم غير المنحني ونحن نستعمل كل هذه الأعضاء في الصلاة ونتحاشى أن نشارك إخواننا في صفوفهم دون أن نمنع عنهم الروائح الكريهة فنعطر أنفسنا ونغسل أبداننا ونظهر زينتنا لتكون صلواتنا دليلا على حضارتنا وعلامة من علامات النعمة التي أنعمها علينا ربنا من الأرزاق المختلفة. كل ذلك يجسد الشكر وكل ذلك مفيد لتوحيد الصفوف وللتعبئة العامة أمام الكافرين والجاحدين.
- يتعرف المصلون على آلام مجتمعهم بالمشاهدة العينية فيتحسسون آلام إخوانهم وأخواتهم ويشعرون بضرورة دفع الأذى عن إخوانهم المؤمنين. إن المصلي يشعر بأن أخاه الحقيقي هو الذي يشاركه في اجتماعه اليومي وليس الذي شاركه في الرحم والصلب. إن أخاه هو الذي سوف يعيش معه الأبدية وهو أكثر صدقا على الذي يشاركه العبادة وليس على الذي يشاركه النسب لكنه أجنبي عنه في العقيدة لا سمح الله. فيعيش المصلون ساعات فردوسية في مساجدهم لو أنهم أدوا صلواتهم بصورة صحيحة ومقبولة. وغير المؤمنين ليسوا كذلك.
قال تعالى في سورة آل عمران: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ (118) هَاأَنتُمْ أُوْلاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119). فالمسلمون يحبون غير المسلمين ولا يكرهونهم وهذا من دعائم الإسلام. وأما الذين يدعون إلى الكراهية وإلى نبذ الغير فهم ليسوا مسلمين حقيقيين وهم ليسوا من أتباع الرسول الطيب الذي أحب المشركين فآمنوا به . إن غير المسلمين يكرهون المسلمين أحيانا كما فهمناه من الآية أعلاه.
- يتعلم المسلم الحقيقي تجاهل كل القدرات الدنيوية وعدم الاهتمام بها إلا في حدود الضرورة، لأنه يشعر بأن ملك الوجود كله قد أذن له بأن يتحدث إليه مباشرة وهاهم الذين هم أكثر منه قوة أو مالا أو علما أو بدنا أو جنسا وقد وقفوا معه خاشعين أمام سيد الكائنات سبحانه. يتعلم المسلم الحقيقي الجرأة والشجاعة والإقدام من الصلاة كما يتعلم النظام وحفظ الحدود الدنيوية أيضا. إنه في حين وقوفه أمام الله تعالى فهو تحت قيادة إمام مثله، أو أقل منه علما أو مالا أو شرفا أو قوة سياسية. فصلاة الجماعة يمنع من الاستهتار وتجاهل الآخرين في حين أنها تربي نفوسنا على القوة والشجاعة. وهذا صادق بالنسبة للإمام نفسه أيضا الذي يرى من هو أكبر منه وقد وقف خلفه يناجي رب الكون ذا الجلال والإكرام.
- يكرر المصلي عدة مسائل في الصلوات العامة وأهمها تكرار سورة الحمد في كل الصلوات اليومية والعيدين والجمعة والآيات وكل النوافل. وسورة الحمد هذه تذكر المسلم كل مرة أن الحمد كله مختص برب العالمين الذي خلق كل شيء فأحسن خلقه. وهو حميد لما نرى في خلقه من حسن وجمال وبهاء لا تدل إلا على جمال الربوبية وحسن سيد الكائنات جل جلاله. فنحن لا نعبد ربا ضعيفا ولا ربا قبيحا ولا ربا مربوبا بنفسه ولا ربا فقيرا ولا ربا حادثا ولا ربا محاطا. إنه رب قوي جميل أحد غني قديم محيط بكل الممكنات ولا تسعه الكون كله مع سعته المهيبة فهو في الغيب غير مكين في مكان، وغير متحرك، وغير متأثر بالزمان. وسورة الحمد تضم أجمل دعاء على الإطلاق وأهمها بلا منازع. والحمد سورة فياضة بالمعاني مما يصعب ادعاء فهم كل أسرارها حتى في نفس الإنسان. فأنت مع نفسك تشعر يوميا بمعنى جديد أوسع مما عرفته من قبل عن هذه السورة.
- كما يكرر المصلي السجود مرتين في كل ركعة من الصلاة. ولعل السر في ذلك هو أن رسول الله شعر أو احتمل تحسس المرء بنوع من الخيلاء وهو يركع، إذ أن كل الحيوانات الأخرى عاجزة عن إتيان الركوع مثل الإنسان. فهو يسجد المرة الأولى للاستغفار من أي مخيلة حصلت له ثم يسجد السجدة الثانية وقد نظف نفسه من الكبر الأحمق. ومن الغريب أن نرى المرء يركع في كل يوم لآية الشمس وما تطرأ عليها من تغيير يومي أكثر مما يأتي به عندما يمر بآية طبيعية أخرى مثل الزلزال والخسوف والكسوف. ذلك لأن أهمية الظواهر الشمسية المتكررة يوميا أكثر من أهمية الظواهر التي لا تتكرر يوميا. والإنسان يتظنن بأن التكرار اليومي دليل على عدم الأهمية وهو في الواقع من أهم الأحداث المتكررة التي بها نستمد الطاقة الوجودية كما تستمدها كل الموجودات الأخرى يوميا. ويمكننا تصور ذلك لو فرضنا أن الشمس تطلع مرة واحدة في السنة فسوف تقدم لها القرابين، وستزين الأرض وتفرش بالبساط الأحمر لاستقبال الشمس. ولو أن الخسوف والكسوف تتكرر يوميا فسوف لا يرجع لها أحدٌ بصَره.
- والصلاة رياضة بدنية تشابه السباحة وما فيها من فوائد معروفة بيننا. فكل المفاصل تتحرك بين القيام والركوع والسجود والجلوس للتشهد. ثم إنك تتحرك من القيام إلى الركوع ومن الركوع إلى القيام ومن القيام إلى السجود ومن السجود إلى الجلوس ومن الجلوس إلى السجود وغالبية المسلمين يتحركون من السجود إلى القيام لكن الشيعة محرومون من هذه الحركة الرياضية المفيدة. كما أن الشيعة يتحركون من الجلوس إلى القيام في كل ركعة ولكن الغالبية محرومون من الإكثار من هذه الحركة المفيدة أيضا. ثم إنك تتمدد وقوفا فتشعر بتروض غالبية المفاصل الصغيرة مثل السلاميات ثم تتمدد في الركوع فتتحرك عضلات البطن والخصر ثم تنكمش سجودا فتتمدد بعدها لتتحرك عضلات الحوضين والركبتين وكذلك الفخذين. والواقع أن كل المفاصل والعضلات تتحرك وتنكمش وتتمدد فتتنشط خلال عمليات الصلاة فيما عدا عضلات الظهر التي لا تتأثر كثيرا بالصلاة. فالذي يصلي حسب الأصول ويؤدي الصلوات المندوبة فهو لا يحتاج إلى رياضية يومية أخرى عدا شيء قليل من رياضة الظهر.
- كما أنها رياضة نفسية تعلم الإنسان كيف يتخلى عن كل الأهواء الدنيوية لحظات كل فترة من فترات القيام فيخاطب ربه ويتحسس طعم العبادة والخضوع للواحد الأحد. إنها تساعد المصلين للتغلب على شهواتهم ولتطهير نفوسهم من أدران الشرك لو لم يأتوا بالشرك حين الصلاة بالطبع. ولذلك فإني بكل تواضع أوصي إخواني وأخواتي المؤمنين بأن يتخلوا عن أي ذكر خارج عن الأذكار القرآنية المعروفة إضافة إلى التسبيحات المعروفة والتي لا يأتي بها المرء بذكر غير الله تعالى. ويكتفي بذكر الرسول وحده شهادة بعبوديته ثم رسالته ويتخلى عن كل مديح لرسولنا الحبيب في الصلاة احترازا من احتمالات الشرك. ثم إننا نصلي عليه وعلى أنفسنا باعتبارنا جميعا أهل محمد بن عبد الله عليه السلام للدعاء. هذا الدعاء في الواقع تعود علينا وليس على رسول الله كما علمنا ربنا في سورة الأحزاب. فنحن نصلي على الذي أنزل القرآن بلغته لنخرجه من الظلمات إلى النور بالنسبة لأنفسنا فنرى رسول الله كيف يفكر ويفسر كتاب الله ليفتح علينا ربنا معرفة القرآن الكريم. وأما الذين يصلون عليه للمديح كما يصلون على آله باعتباراتهم الشخصية فلعلهم يكونوا خاطئين.
- والصلاة تمثل رياضة اجتماعية كبرى أيضا. وأشرح ذلك بمثال، فلو شاركنا الأخوات المؤمنات في مجالسنا فإننا سوف نتحاشى الاستهزاء بالمرأة كما نتحاشى ذكر القصص والتشبيهات والفكاهات التي تتناول الجنس احتراما وإكراما لهن فنتعلم على تنظيف كلامنا مما لا يليق بنا كأناس أكرمنا الله تعالى بروح منه سبحانه. وهكذا فإننا حين الصلاة لا يمكن أن نأتي بعامة المعاصي وخاصة لو أتينا بها جماعة فذلك تروض نفوسنا على عدم التفكير في المعاصي حين الخلوات وحينما لا نرى أمامنا ما تحول دونها وحينما نشعر بالحاجة إلى ما لا نملك مفاتيحه وحينما نشعر بالاستغناء عن الآخرين لما بيدنا من مال أو علم أو قوة بدنية أو محاسن خَلقية لا دخل لنا في اقتنائها فلا فضل لنا في اقتنائها والتمتع بها.
- تتضمن صلوات الجماعة بعض مظاهر يوم القيامة فتساعد المصلين على تحسس ذلك المشهد المهيب أمام الله تعالى. منها أن المصلين يقفون في صفوف وهو شبيه بصفوف الملائكة معنويا بالطبع وليس ماديا. فالملائكة كما عرفنا في تفسير سورة الفجر ليسوا من ذوي الأجسام ليصفوا مثلنا ولكننا في صفوف الجماعة نمثل صفوفهم أمام الله تعالى بانتظار الأوامر الجديدة المتناسبة مع الحياة الأبدية والملائمة للحساب والمحاكمة الشاملة بالقسط. {وجاء ربك والملك صفا صفا – الفجر 22}.
- ومنها وقوف الناس بمختلف أعمارهم وألوانهم ومراتبهم الدنيوية في صفوف موحدة غير مراعين فيها إلا الذي سعى مسبقا إلى تلك الصلاة فهو ينال الصفوف الأولى والذي يتأخر فهو يتلو الذي تقدمه ولو كان مَلِكَ المسلمين. بالطبع هذا هو المطلوب وليس هذا هو الحاصل مع الأسف في بلداننا الإسلامية. فالصف الأول مباع ومخصص لطبقة من الناس وهذا مخالف تماما لروح الصلاة ولهدفها السامي. هدانا الله تعالى إلى أن نقف في الصلاة وقوف الخاشعين لا المتكبرين.
- ومنها سكوت المصلين مستمعين إلى أخيهم الذي يتلو عليهم آيات الله تعالى ويؤمهم ليتلو ويقرأ ويوحد كلمتهم وحركاتهم وليس ليحكم ويتعالى عليهم كما نحن عليه اليوم مع الأسف. حتى الملابس التي كانت واحدة أمام الله سبحانه في الصلاة فإن الشيطان قد أوحى إلى المسلمين أن يفرقوا فيها فيلبس الإمام ملابس مميزة عن المصلين وكأنه سيدهم والعياذ بالله. إننا لا ندرك وحي الصلاة بأن نقف لحظات في كل ظاهرة من ظواهر النظام الشمسي اليومي أمام الله تعالى وهو السيد المطاع والكل عبيد واقفون أمامه. وفي يوم القيامة فإن الملائكة يقفون مع الجن والإنس أمام السيد المتعالي بنفسه فلا حكم ولا سيادة ولا كرامة إلا لله وحده والباقون داخرون. هناك ملائكة يتلون بعض الأعمال المشابهة لعمل إمام الجماعة ولكن بكل خضوع وخشوع لأن الله محيط بهم ومرسل نوره المباشر في شكل فيزيائي بارز للعيان وهو شكل الغمام كما سنعرف في التفسير بإذن الله تعالى.
- ومنها السماح للجميع أن يخاطبوا ربهم بالهمس كما فعله الأنبياء وفعله زكريا وهو يطلب حاجته من ربه فنادته الملائكة في الصلاة. وهذا مشابه تماما للغة التي نستعملها يوم القيامة أمام الله تعالى متناسين كل لغاتنا الدنيوية لنتفاهم مع آبائنا الأولين ومع أبنائنا الآخرين ومع من عاشوا معنا فرسا وأتراكا وهنودا وصينيين وإنجليزا وفرنسيين ويابانيين وكوريين وإندونيسيين و أفغانا وأكرادا. تلك هي لغة الهمس وقد قال تعالى مشيرا إلى تلك اللغة المشتركة في سورة طه: يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَت الأصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلا هَمْسًا ﴿108﴾. والداعي وهو المَلَََكُ الذي يمثل إمام الجماعة الدنيوي فهو بنفسه خاشع خاضع لا يستعمل غير الهمس أيضا لأنهم فعلا أمام الله المتكبر الجبار جل جلاله، الذي سوف يفصل حتى بين الملائكة كما نعرفه قرآنيا. فإمام الجماعة ليس إلا سائق سيارة يقود الباص الذي فيه رئيسه والذي هو أقوى منه خارج السيارة.
- هناك بعض الصلوات لا يجوز لأحد من المسلمين أن يتجاهلها مثل صلاة الجمعة. فالذين يحضرون الجمعة ليسوا متفقين مع الإمام ولا مع من أتى به وأنفق عليه بل إنهم لبَّوا أمر ربهم بالسعي للحضور. لعل بعض المأمومين يشكو ربه من بعض الناس ومن نفس الإمام وهو مسموح له بالصلاة لأنه فعلا أمام ربه وهو يشعر بأن ربه أكثر استعدادا لاستجابة دعواته في الصلاة باعتبار أنه لبّى بحضوره الجمعةَ أمرَ ربه. هذا المشهد يمثل يوم القيامة تماما حيث يشتكي الابن على أبيه والزوجة على زوجها والعامل ضد رب عمله والمملوك ضد مالكه في الدنيا. وكلها بالهمس وليس بالحديث اللغوي. ولنا مثال آخر لهذا المشهد وهو مذكور في القرآن الكريم في بداية المجادلة. إن امرأة مثالية تعلم حدودها وحقوقها فتذهب لتجادل إمام المسلمين جميعا في بعض أتباعه الذي هو زوجها، ولكنها في نفس الوقت تبث بشكواها الهمسي إلى ربها متجاهلة شيخ الإسلام ورئيس المسلمين محمد بن عبد الله عليه السلام. ولم يعرف محمد ما كان يحصل بين المرأة وربه لولا أن الله تعالى أخبره بها ليعلم ونعلم كيف يحكم الله تعالى ويتجاوب بنفسه مع الذين هم دون مستوانا الدنيوي ويستجيب لهم. {قََدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ﴿1﴾}. ألا هل من عاقل يفكر ويعتبر!؟
قضاء الصلوات:
اشتهر بين المسلمين أن يقضوا ما فاتهم من الصلوات اليومية ولو بعد فترة ولا أدري من أين أتى الفقهاء بهذا الحكم الخطأ؟ لقد أمرنا الله تعالى بأن نقضي الصيام وذكر السبب في ذلك وهو إكمال العدة، ولكنه لم يأمرنا بقضاء الصلاة أو الحج. قال تعالى في سورة النساء: فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاَةَ فَاذْكُرُواْ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا (103). الصلاة واجبة في وقتها فإذا ذهب الوقت ولم نصل فعلينا الاستغفار ولا فائدة في قضاء الصلاة. أنا شخصيا إذا فاتني صلاة العصر مثلا ودخل المغرب فأنا أقضي العصر رجاء وكنوع من الاستغفار فقط وأدري بأنني ما كسبت فائدة صلاة العصر التي فاتتني. لكن أن نقضي صلاة تركناها قبل سنوات أو أن نستأجر شخصا يصلي عنا بعد وفاتنا فهي غير واردة في القرآن ولا معنى لها. وكما وضحت فإن الصلاة عمل اجتماعي تفيدنا في الدنيا ولا تُدخلنا جنات النعيم ولكننا لو تركناها عمدا فسندخل النار. هي شعار المسلمين وعلامتهم وهي ضرورية ولا يمكن بل لا فائدة في قضائها. هي مثل الغذاء التي نأكلها ثلاث وجبات في اليوم فلو أننا لم نأكل فطور الصباح فإننا لا نقضيها في اليوم التالي إذ أن الفطور كان ضروريا ليمنحني القوة والنشاط حتى الغداء في اليوم السابق. فلوترك أحد الأكل فسيموت جوعا كما أنه لو ترك الصلاة فسيخسر تربية نفسه على ذكر الله تعالى حتى موعد الصلاة التالية.
الجهر و الإخفات وعدد الركعات:
الشمس هي معيار الجهر والعدد كما يبدو، فالنبي صلى وأمر صحابته بأن يجهروا في صلواتهم خلال الشفق والفجر وفي ظلام الليل كما صلى إخفاتا في صلاتي النهار. وأما عدد الركعات فأنا أنظر إلى ما نحن فيه اليوم ولا أدري ما كان عليه آباؤنا من قبل. نحن ننام بمعدل سبع ساعات كل يوم فنبقى في حالة النشاط مدة سبعة عشر ساعة يوميا والركعات في الواقع تعادل عدد ساعات النشاط بالنسبة لنا. ونحن اليوم في الدول المتقدمة المتحضرة لا نعمل أكثر من ثمانية ساعات وبإضافة ساعتين بالكثير يوميا. والنبي قد أمر الناس بان يبدؤوا نهارهم بركعتين ثم منعهم من الصلاة طيلة ساعات العمل الأساسية لينشطوا في حقل الارتزاق وتقديم الخدمات ومختلف جوانب العمل ثم أمرهم بأن يصلوا كما أمر الله تعالى خلال دلوك الشمس. والدلوك تعني الميلان فالشمس تبدأ بالميلان بعد لحظة من منتصف النهار المعروف عندنا بالظهر فيبدأ وقت صلاة الظهر ويستمر دلوك الشمس حتى تنكسر حرارة الشمس. هناك يبدأ وقت صلاة العصر ويستمر حتى قبل الغروب. وقد أباح إقامة الصلاتين طيلة فترة الدلوك.
وبالنتيجة نشعر بأنه عليه السلام أمر صحابته بأن يجهروا في أوائل المساء وأوائل الصباح قبل شروق الشمس ليتعلموا الصلاة ويستمعوا ويستمتعوا باستماع ما يتلى من القرآن الكريم الجميل في هذه الأوقات. ولكنه منعهم من الصلاة ساعات العمل الدنيوية كما منعهم من الجهر في أواخر النهار لئلا يزعجوا بعض الذين يبقون في شغلهم وعملهم حتى نهاية اليوم كما أحتمل. ثم إنه أمر بإتيان ركعة واجبة من الصلوات لكل ساعة نشاط وعمل، كما أنه أمر بإتيان ثمان ركعات في نهاية اليوم مقابل ثمان ساعات عمل نهاري وأمر بركعتين في بداية اليوم وحين الفجر ليذهبوا إلى أعمالهم وقد جنوا ثمار الصلاة وأتوا بركعتين مقابل ساعتي عمل إضافيتين طالما بقي الناس نشطين فيها يعملون ويرتزقون. هذا التقسيم الجميل ينطبق على ما نحن عليه في قمة الحضارة البشرية، فلعل نظام عملهم كان مشابها لنظام عملنا فهم كانوا في قمة الحضارة آنذاك وما سمعناه عنهم مما يُعارض المنطق الحضاري يمثل تقهقرهم إلى الوراء مع الأسف بعد غروب شمس النبوة وظهور الزعامات المختلفة طيلة قرون مظلمة من الحكم العائلي مع الأسف.
ضم سورة أو آي من الكتاب الكريم لسورة الحمد مرتين في كل صلاة واجبة:
يعرف الذين يعرفون القرآن أهمية فاتحة الكتاب وهيمنتها على الكثير من الآيات والسور القرآنية. إنها تتضمن العنوان للأهداف الرئيسية في كتاب الله ولكن لا يمكن معرفتها بدقة دون الرجوع إلى بقية القرآن الكريم. فالحمد يذكر الله تعالى باسم الرحمن ثم باسم الرحيم ثم يكررهما في السورة ليعطينا المعنى التعريفي لهما إذ يذكرهما كصفتين لا كاسمين. فلو أسمى الله تعالى نفسه رحمانا ورحيما فما الفرق بينهما اسمين وبينهما صفتين حتى نذكرهما مرة أخرى بالسورة؟ وهل هو سبحانه رحمن ورحيم بالنسبة لكل العالمين الذي هو رب لهم أم أنه رحيم لبعضهم أو رحمن لبعضهم مثلا؟ وما معنى التصريح والاهتمام بمالكيته يوم الدين وهو مالك أبدا ودائما وهو مالك يوم الدين ويوم الدنيا؟ المؤمنون يخضعون لله تعالى وما هو الضرر في أن يخضعوا لبعض الطيبين أيضا فلا يقولوا: إياك نعبد بل يقولوا: نعبدك؟ وهكذا الاستعانة. وما شابه ذلك من إبهامات لا يمكن فهمها بسورة الحمد.
لكننا ونحن نقرأ سورة أخرى مثل سورة التوحيد بعد الحمد فنعرف بأن السبب في تخصيص الخضوع لله هو أنه سبحانه أحد لا يمكن أن يكون له ند أو نظير في أي شيء فكيف يمكن أن نطلب شيئا منه ومن غيره فهو يعني أنه ليس أحدا ويمكن أن يكون هناك أنداد للقدوس، والعياذ بالله. فسورة التوحيد ترفع الإبهام من أذهاننا وهكذا بقية سور القرآن فإنها تساعدنا على فهم سورة الحمد في الواقع. حتى بعض الآيات تساعدنا على مزيد من الإدراك لسورة البقرة. هكذا نعرف ضرورة قراءة قسم آخر من القرآن في كل مرة غب قراءة سورة الحمد التي تشير إلى الكثير من المسائل القرآنية دون أن تشرحها لعدم إمكانية ذلك في سورة واحدة. ثم نعرف شيئا فشيئا بأننا نحتاج إلى كل القرآن دون تجاهل أي من آياته وسوره لنعرف حقيقة الإسلام والإيمان برب العالمين. وهكذا نعرف بأن معنى القرآن في الواقع هو المجموعة المفيدة وليس هو الذي يُتلى كما يتصوره المرء بداية. فكان لهذا الضم الجميل فائدته التي عرفناها وإلى المزيد.
معنى الركعة:
فهي تعني مجموعة أعمال تضم الركوع، ولكن لماذا أسموها الركعة ولم يسموها السجدة أو الجلسة أو “شاملة القيام” مثلا؟ لعل السبب هو أن الركوع خاص بالإنسان دون غيره من الموجودات ولم يأمرنا الله تعالى أن نسجد كما يسجد الساجدون لأننا لا يمكن أن نسجد كما تسجد الجن أو الملائكة أو الشمس فلكل موجود سجوده الخاص به. لكنه سبحانه أمرنا أن نركع كما يركع الراكعون يعني كما يركع البشر، كما أمر بعض الذين خصهم بآية منه مثل مريم أن تركع كما يركع غيرها لتعرف بأنها عند الله تعالى غير مميزة عن بقية البشر بل هي واحدة منهم. وأمر إبراهيم وإسماعيل أن يبنيا الكعبة للركع السجود أي للبشر الذين يركعون في خضوعهم لله المتعالي. فالركوع من سمات البشر دون غيره من الخلق وهكذا الصلاة التقليدية التي أمر الله تعالى بها وصنعها رسله الإنسيون فهي صلاة باعتبار الخضوعِ فيها وركعاتُها ركعاتٌ باعتبار نوع الخضوع الفيزيائي الخاص بالإنسان فيها، والكعبة مطاف للبشر وقبلة لهم دون غيرهم.
أما الذين يظنون بأن الملائكة يصلون خلف البشر فينقصهم العلم والدقة في معرفة كتاب الله تعالى. ذلك لأنهم خلطوا بين الكتاب القويم الصحيح وبين الأحاديث التي قد تكون بعضها صحيحة أحيانا ولكن الأصل فيها عدم الدقة لأنها من صنع البشر وقد نقلها إلينا البشر المقترنون بالضعف ولم يعِدِ اللهُ تعالى أن يصون تراثنا سوى القرآن الكريم. وهكذا الذين يظنون بأن الملائكة الكرام يطوفون حول الكعبة أو حول أي مكان آخر فهم أيضا قليلو العلم مع الأسف. حتى الطواف الخطي كما هو بين الصفا والمروة فلا يمكن تصوره بالنسبة للملائكة لعدم اقتران ذواتهم بالفيزياء، فهم بالطبع ليسوا كرَبِّ العزة الذي لا يمكن أن يتحرك لعدم وجود مكان خاص ينزل فيه سبحانه، ولكن تحرك الملائكة ليس بشكل تحرك البشر. إنهم في الواقع يتنزلون في تحركهم لأنهم موجودات مشعة فسيرهم سير إشعاعي لا سير تنقلي كما نفعل نحن، والعلم عند الله تعالى.
التوجه إلى الله تعالى لا إلى الكعبة المكرمة:
قال تعالى في سورة البقرة: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ﴿144﴾. وواضح من الآية أن التوجه إلى الكعبة لا تحمل أهمية أخروية غير قابلة للتغيير. إنها عملية اجتماعية بشرية ينظمها الله تعالى ويراعي فيها توجهاتهم القومية و مبتغياتهم الوطنية والعرقية. ولكن هل يمكن أن نتصور أي تساهل من الله تعالى ضد الزنا إرضاء للناس أو أن يسمح الله تعالى يوما ما بتوسيط الأوثان والناس كائنا من كانوا بينه وبين عبيده. ذلك مستحيل ولا يهتم الله تعالى فيه بإرضاء النبي أو إرضاء صحابته أو أهل بيته. ولقد رأينا أنه سبحانه سمح لهم أو أمرهم بالتوجه إلى الكعبة حينما كان المسلمون الأوائل في مكة ثم أمرهم بعد الهجرة بالتوجه إلى بيت المقدس ثم رضي ب
أن يعودوا إلى قبلتهم الأولى. والمشترك بينهم في كل ذلك هو توحيد التوجهات الفيزيائية نحو مكان جغرافي واحد.
هذا التوجه مغاير لدعاء إبراهيم كما في الكتاب الكريم في سورة الأنعام: إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴿79﴾ وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَاء رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ ﴿80﴾. فإبراهيم يتحدث عن توجه القلب والنفس ولكن آية الكعبة تحكي حديث التوجه الفيزيائي كما نفعله فعلا بأن نقف عمليا باتجاه الكعبة جغرافيا. ولعل من الجدير أن نكرر نفس التوجه في بداية صلواتنا التقليدية لندعو ربنا بالتوفيق في التوجه إليه سبحانه وتقديم الإخلاص والخضوع لوجهه الكريم جل جلاله. إن توجهَ إبراهيم تعني الهدف النهائي في كل صلواتنا وكل أعمالنا العبادية و الطاعية الأخرى وهو الغاية في شكرنا للمبدع الفياض جلت كبرياؤه. وأما التوجه الجمعي باتجاه الكعبة فيستهدف تحطيم كبرياء الإنسان وإخراجه من عالم التخيلات والأوهام ليعلم بأنه عبد ضعيف صغير يقف مع بقية عبيد الديان أمام الساحة القدسية العلية. إنه وسيلة لتحطيم فردية الإنسان ووضعه في المكان اللائق به بين إخوانه وأخواته من بني البشر. فنحن جميعا عبيد لرب واحد انحدرنا من أبوين جاهلين فقيرين غير متحضرين هما آدم وحواء. هكذا يمكن أن ننسى أعراقنا وأموالنا وجمال بشرتنا وسعة معارفنا فكلها ليست كافية للكبرياء، وفي المقابل نتذكر ونظهر ضعفنا أمام الجوع والعطش والجنس وأمام الكواكب المهيبة والوحوش والفيروسات والأسلحة الكيماوية والتقليدية والذرية. ألا ليتنا نعرف أنفسنا فلا نتسابق بالأنساب والألقاب والملابس البهية والعمائم والتيجان والمناصب الدنيوية التي هي إلى الزوال أقرب وإلى الفناء أنسب. ليعلم المولعون بالألقاب والملابس والمناصب بأنهم أصبحوا عرضة للشياطين يلعبون في نفوسهم وقلوبهم ويقربونهم من النار وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا.
وتوجيه الوجه الفيزيائي خاص بالبشر ولا يشاركنا فيها الملائكة ولا الجن لأنها كائنات طاقوية لم تتطور إلى المادة ذات الأبعاد الثلاثة. بالطبع أنهم متأثرون ببعد الزمان ولهم أبعادهم الأخرى التي لا نعرفها. فحينما يفقد الإنسان الضعيف كبرياءه الزائف فإنه يبدأ بتحسس الغيب المحيط به ويبدأ شيئا فشيئا لمس عظمة ملك الله تعالى فوقه ولنعم ما قال الإمام علي بن أبي طالب في مثل هذا المجال في عهده إلى مالك الأشتر: وَ إِذَا أَحْدَثَ لَكَ مَا أَنْتَ فِيهِ مِنْ سُلْطَانِكَ أُبَّهَةً أَوْ مَخِيلَةً فَانْظُرْ إِلَى عِظَمِ مُلْكِ اللَّهِ فَوْقَكَ وَ قُدْرَتِهِ مِنْكَ عَلَى مَا لا تَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ نَفْسِكَ فَإِنَّ ذَلِكَ يُطَامِنُ إِلَيْكَ مِنْ طِمَاحِكَ وَ يَكُفُّ عَنْكَ مِنْ غَرْبِكَ وَ يَفِيءُ إِلَيْكَ بِمَا عَزَبَ عَنْكَ مِنْ عَقْلِكَ إِيَّاكَ وَ مُسَامَاةَ اللَّهِ فِي عَظَمَتِهِ وَ التَّشَبُّهَ بِهِ فِي جَبَرُوتِهِ فَإِنَّ اللَّهَ يُذِلُّ كُلَّ جَبَّارٍ وَ يُهِينُ كُلَّ مُخْتَالٍ. فالإمام يعرف بأن هؤلاء يبتعدون عن حجر العقل حينما يتشبثون بالملابس والألقاب والمناصب. كما يعزب العقل عن الذين يتبعونهم ويقلدونهم فيُؤَججون نار الكبرياء والخيلاء في قلوبهم. هداهم الله تعالى وإيانا.
القراءة:
وعملية القراءة في صلاة الجماعة تشبه كثيرا مدرسة تعليم القرآن أو مدارس تعليم اللغة. فالإمام يقرأ الحمد والسورة جهرا في غير ساعات العمل الرسمية النهارية و المأمومون يستمعون ثم يكررون بعض ذلك إخفاتا في الركعة الثالثة من المغرب وهي والرابعة من العشاء منفردين دون أن يرفع الإمام صوته. وجميل أن يوطئ المأمومون أصواتهم لئلا تضطرب الصلاة فكأنهم مشغولون بالمطالعة الجمعية بعد الاستماع إلى الدرس. وهكذا لا يشعر الذين يتعلمون القراءة فعلا بالخجل من عُجمتهم حين النطق بالألفاظ. كل ذلك قد روعي في تنظيم صلاة الجماعة. كما أنه قد روعي مسألة التعليم في شخص الإمام فأوصوا بأن يتقدم الجماعةَ أكثرُهم فصاحةً وأوفرهم حظا من محفوظات القرآن الكريم. واختيار الأفصح هو لنفس السبب التعليمي وإلا فإن الله تعالى لمّا ينظر إلى فصاحة المصلي ولا إلى جمال تلاوته وكثرة محفوظاته من القرآن. إن كثيرا من الطغاة الفاسدين يحفظون كل القرآن ويبدعون في إخراج الرنات الموسيقية الجميلة من حناجرهم محتضنة الآيات القرآنية المشبعة بالموسيقى.
ولنعلم بأن الملائكة الكرام الكاتبين الذين يسجلون ويصورون كل أعمالنا وحالاتنا فإنهم لا يجيدون اللغة فلا يهتمون بفصاحة اللسان ولا يميزون بين القراءة الصحيحة وغير الصحيحة. إنهم يصورون النفس وانطباعاتها ومدى تجاوبها مع أمر الله تعالى كما يسجلون كل عناد وتقليد أعمى وتعصب للقوم والقبيلة فيسجلون النوايا بحقيقتها في الواقع. فالله تعالى لا يحاسبنا بعدد صلواتنا ولا بكيفية القراءة في الصلاة ولكن يحاسبنا بكيفية الخضوع للساحة القدسية العلية مع ملاحظة إمكاناتنا التي منحنا إياها. فالتعامل مع النفس وليس مع ما يخرج من اللسان في الواقع. إنما التجويد واللحن والفصاحة تمثل استحسانات بشرية للتجميل والتزيين ولا ربط لها بالحسابات الأخروية.
ذكر الله تعالى:
سنعرف في التفسير بإذن العزيز الحكيم بأن ذكر الله وحده سبحانه هو الذي يتولى تطييب النفس وتنظيفها من درن الشرك والعصيان ووقايتها من الاستمرار أو تكرار الشرك. والذكر اللساني مقدمة للذكر القلبي في الواقع. فمكان الذكر هو القلبُ نفسه، قلبُ النفس لا قلبُ البدن. نحن نزكي قلوبنا ونفوسنا بأن نمرر عليها ذكر القدوس ونُشغلها بالتفكر في خلق القدوس العظيم لنخلصها من أن تصير مكانا آمنا للشياطين، شياطينِ الإنس وشياطينِ الجن. فجدير بنا أن نستغل فرصة انخراطنا في صفوف المؤمنين المحرمين بإحرام الصلاة لرب العالمين، لنكف عن ذكر أي شيء نهواه ونتغنى به غير الله تعالى. وأخص بذلك حالات الركوع والسجود والقيام الخالص فيما عدا حالة القنوت لمن يقنت في صلاته أو في أية صلاة يقنت فيها. فالقنوت هو مجال جيد للدعاء ولكن الموارد الأخرى فيُحسن تخصيصها لذكر الله تعالى لعلنا نطهر نفوسنا من أدران السيئات التي نأتي بها طيلة النهار وما نستزيد به من عصيان في الليالي والسهرات بدل الاستزادة بالصالحات من الأعمال. وما عدا ذلك فخير لنا أن نذكر الله تعالى وحده فيها كي يتفضل علينا بتخليصنا من العوالق الفاسدة المريبة التي تربك موقفنا أمام الديان العظيم يوم الحساب والمقاضاة الختامية الكبرى.
ولنعلم بأن الأدب يفرض علينا أن لا نتجاهر بالصوت العالي أمام الملك العلام فذلك عيب وقبيح. ولنعلم بأن العليم الخبير يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور فالجهر بالقول معه لا يدل إلا على قلة علمنا وعزوب عقلنا. حسبنا الهمس والتحدث مع ربنا المتعالي بالهمسات النفسية كما كان يفعل الأنبياء. ذلك عين الاحترام الذي يمكن أن نقدمه للجبار المهيمن، لعلنا نُرضي كبرياءه. ولا ننس بأن الأدعية التي دعا بها أنبياؤنا وفسرها لنا الله تعالى بالعربية فهي في الغالب تمثل همسات نفوسهم مع ربهم ولكن علام الغيوب فسرها لنا لنعلمها قبل أن نستعملها. ولا ضير أن نتمثل بها فهي أدعية القرآن وهي تمثل خضوع الصفوة المخلَصة للعلي العظيم جل جلاله. فنحن نغني بها ولكننا نلتمس رحمة ربنا بقلوبنا لا بأفواهنا. دع الموسيقى تصدر من بين الشفاه ولكن لا تنس تفريغ قلبك لربك الرحيم لعل اسمه الكريم ينطبع على قلبك فتفوز بذكره دائما وأبدا فيكون عونا لك حين تأخذ قرارك فتقل أخطاؤك وتتقلص عثراتك.
القيام
من الطبيعي لكل محتاج أو خادم أو عبد أن يقف أمام سيده بانتظار أمره أو بانتظار أمر مساعد يصدر من سيده ليفرج عما يضغط عليه وعلى قلبه من هموم وآلام أو يعينه على ما أولته النعيم من مظاهر الكبر الزائف وما تقوى به من المال الزائل. فأصل الصلاة هو القيام في الواقع ولذلك أمرنا الله تعالى بأن نقيم الصلاة. ونعلم بأن إقامة الصلاة تعني صلاة الجماعة أو أن نأتي بنفس الشكل فرادى ولكن لا نخرج عن الممارسات التي نقوم بها مع الجماعة ولذلك لا يوجد فرق بينهما من حيث الأداء. ومن الجميل أن نرى ونعلم بأن إبراهيم النبي الذي أسس الإسلام صلى وزردشت الذي لا يعرف الإسلام إلا قليلا صلى مثله بعض الشيء وصلى موسى وداود وسليمان وعيسى و زكريا ومحمد مثل بعض. ولعل نوحا صلى مثلهم ولعلهم جميعا استوحوا كيفية الصلاة من صحفهم ومما يوحى إليهم ولم يعلمهم الله تعالى صراحة. لو كان سبحانه قد فعل ذلك لذكره في خاتمة الكتب السماوية لأنه قال في سورة طه: وَقَالُوا لَوْلا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِّن رَّبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِم بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأُولَى ﴿133﴾.فالقرآن يبين ما في الصحف الأولى وإذ لم يُذكر فيه كيفية الصلاة فهي غير واردة في الصحف الأولى أيضا. هذا التشابه في أداء الصلاة بين كل الأنبياء وبينهم وبين غير الأنبياء أو غير المسلمين يدل على أن الصلاة صبغة إنسانية للوقوف الخاضع أمام رب العالمين. ولو ننتبه للأمر بالصلاة في القرآن بأنها أتت دائما مقرونة بـــ أل التعريف كإشارة إلى أمر معروف بين البشر وليس أمرا إسلاميا مستحدثا كما تصوره بعض الفضلاء. والقيام أمر شائع بين كل الناس حينما يدخلون على، أو يدخل عليهم ملوكهم وأسيادهم. لا يمكن أن نفترض مجلسا يدخل فيه الملك أو رئيس الجمهورية أو قائد العسكر إلا والكل واقفون أمامه ولن يجلسوا قبل أن يأذن لهم. وسنعرف المزيد عن هذه المسألة حينما نتعلم تفسير الآية 128 من سورة البقرة بإذن الله تعالى.
ولعل السر في قراءة الحمد هو استهلال الحمد والتمجيد لرب العالمين الذي نقف أمامه ونستشعر كبرياءه في تلك اللحظات الخطيرة في واقع الأمر. وبيان رحمته العامة والخاصة كاسم وكصفة في بداية الوقوف هو إظهار الرهبة في الموقف والتأهب للمزيد من الخشوع والتماس الرحمة من الله تعالى وحده والاستعاذة به سبحانه من غضبه. إن سيدك قد سمح لك بأن تقف أمامه فاستجبت ولكنك لا تعرف بأنه راض عنك أم غاضب عليك. نحن البشر نقف أمام أمرائنا سواء كانوا غاضبين علينا أو راضين عنا. فيجب استدرار الرحمة في هذا الموقف الخطير أمام ملك الوجود كله جل جلاله. والسر في الأمر بالصلاة في الكتاب الكريم هو الإذن للمؤمنين أن يقفوا أمام وجهه الكريم واختصاص الأمر بالنبي في بعض الآيات هو الإذن له بتوجيه أتباعه للصلاة. ولولا ذلك لما جاز لنا أن نقف أمام الله تعالى كما لم يجز لنا طلب شيء منه سبحانه لولا إذنُه الكريم بذلك . ولو لا أن أذن الله تعالى لنبيه أن يُعلِّمَنا الصلاة لما جاز له عليه السلام ذلك. أليس عيبا أن تُدعى وحدك إلى مأدبة فتأخذ معك أهلك وأصدقاءك؟ أليس ممنوعا أن تُدعى إلى جلسة أو ندوة خاصة فتصطحب كل من تعرفه معك؟ وسنعرف المزيد في التفسير بإذن العليم الخبير.
تكبيرة الإحرام
اعلم أخي وأختي أنك تطرق باب سيد الكائنات حينما تتهيأ بالوضوء وحينما تنوي الصلاة. إنك تجاري بقية المصلين الذين تراهم في جماعتك أو تتخيلهم في ذهنك من الذين ماتوا ومن الذين هم غائبون عنك لتشعر بأنك واحد من البلايين الذين يصلون مثلك أمام السيد الواحد القهار الذي لا سيد ولا مولى أمامه، بل الكل عبيد أذلاء داخرون. فاجعل من ولوجك في هذا الحقل المليء بالطاقة والنور مُدخل صدق للتعلم والعرفان. اجعل من صلاتك مدرسة كبيرة تتعلم فيها شيئا من الحقائق الأصيلة في الوجود واجعل منها زيارة علمية تزداد بها معرفة بالخالق العظيم مليك السماوات والأرض. فقولك : الله أكبر ، لا يعني بأن الله تعالى أكبر من كل شيء فليس في الوجود كبرياء أمام الله تعالى ولا نسبة مع الذات الربوبية في الكبر فتكون أصغر من الله تعالى، بل كل شيء في الوجود معدوم أمام ملكوته العظيم. وحتى الذين فسروا جملة: ألله أكبر، بأن الله تعالى أكبر من أن يوصف، وهو كلام جميل ولكنه أقل من أن يوضح معنى هذه الجملة العظيمة. ولعلها تعني بأن الله تعالى أكبر من الصورة الذهنية الموجودة في ذهنك للسبوح العظيم جل جلاله. إن كل من يفكر في الذات القدسية فهو يرسم في ذهنه صورة لله تعالى يعرفه بتلك الصورة الخيالية. إن تلك الصورة في الواقع لا يمكن أن تمثل رب العزة أبدا ولكنها تمثل ما تعرفه أنت عن العلي الكبير جل جلاله. ولو جعلت الصلاة مدرسة تتعلم فيها كل مرة لألا تكون صلواتك متشابهة وحتى لا تكون الصلاة تكرارا لما فعلته من قبل، فإنك سوف تتعرف عليه سبحانه أكثر فأكثر فتختم صلاتك بالتكبير أيضا. والسر في تكرار التكبير كل يوم أو في كل مرحلة معرفية هو أن الصورة الذهنية عند كل إنسان لذي الجلال تتغير وتتوسع كل مرة، ولو تفكر قليلا في عدم توقف هذه الصورة الخيالية عند حد فستعرف بأنها لن تقف عند حد أبدا. ستعرف بأنك لو تعيش ملايين السنين وتفكر في تلك الساحة المهيبة فإنك لا يمكن أن تحيط بها علما ولكنك تزداد كل مرة معرفة به جل جلاله. ثم تقول: الله أكبر، وقد دخلت مدرسة العرفان دخول صدق وحق. حاول أخي وأختي أن تستشعر عظمة الخالق فوقك بأن تفكر في خلقه. حاول أن تمر لحظات على الشمس فترى في كل مرة ما تنطوي عليها من طاقة مهيبة لا يمكن لكل النظام الشمسي الذي يعيش على نور شمسها أن تتحملها بل تنفجر وتنهار أمام شدة تلك الطاقة العظيمة. حاول أن تتصور ثانية واحدة من ثواني هذه الشمس حيث تتحرر منها طاقة مهيبة تعادل 383 بليون بليون ميغا واط خلال ثانية واحدة. هذه الطاقة تكفي لمد الولايات المتحدة الأمريكية بالطاقة الكهربائية أكثر من 700 مليون سنة.
حاول أن تقارن بين متوسط عمر الإنسان وعمر الشمس أو الأرض وهي تربو على 4500 مليون سنة. الحرارة في لب الشمس تزيد عن 20 مليون درجة مئوية أحيانا وأنت لا تحتمل أكثر من 40 درجة. ثم اعرف بأن هناك في المجرة التي نعيش فيها أكثر من 200 ألف مليون نظام شمسي وفي الكون أكثر من 100 ألف مليون مجرة !! يا للعظمة!!. قال تعالى في سورة الملك: الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ ﴿3﴾ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ ﴿4﴾.هكذا ستعرف شيئا فشيئا بأنك واقف أمام عظيمٍ أيّ عظيم. ثم تشعر بخطورته واستحالة الاقتراب منه سبحانه. ستشعر بعد حين أن المجرة وهي من آيات الله العظام حسب تعبيرنا ولكنها لا تتحمل لحظة من تجلي الذات القدسية جل جلاله. إنها سوف تنفجر وتنهار مع كل ما حولها من نجوم مثل أو أكبر من شمسنا وتتحول جميعا إلى لا شيء. حاول أن تستحضر هذه الآيات الكريمة من سورة آل عمران وأنت تُحرم للصلاة التقليدية: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ ِلأُوْلِي الألْبَابِ ﴿190﴾ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴿191﴾.وكما أحرمت للصلاة بالتكبير فاخرج منها بالتكبير أيضا ولو بعد السلام التقليدي المعروف.
و جدير بالمرء أن يقرأ بعض الآيات الموجِّهة قبل التكبير مثل هذه الآيات من سورة الأنعام بحذف أوائلها: وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ .وجدير أيضا بأن تعقب ذلك ما هو ضمن الآية الأخيرة من سورة الإسراء: الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَم يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلَّ. ثم تكبر للصلاة. وحتى تتعرف على معنى الآية الأخيرة قبل أن تتعرف على تفسيرها فهي تعني باختصار أن الله تعالى لا يستفيد من خلقه فهو يتقبل الأولياء لطفا منه وكرما وليس ذلا. وبيان ذلك باختصار أيضا بأن كل الناس بمن فيهم الرسل فهم يستفيدون من أصدقائهم وأتباعهم كما أن التابعين يستفيدون منهم أيضا. فمحمد بن عبد الله وموسى بن عمران يستمتعان من اتخاذ قومهم أولياء وأصدقاء وأحبابا كما أنهما يستفيدان منهم وهكذا قومهما يستفيدون ويتنفعون منهما. فهما يتخذان أولياء من الذل والضعف لا من القوة والكبرياء تماما كما تتخذهما قوماهما وليين أيضا، بعكس رب العزة سبحانه وتعالى.
وعلى هذا الأساس حاول أخي الكريم وأختي الكريمة أن تعيش في ظلال القرآن لحظات الصلاة فلعل صلاتك تفيدك. حاول ألا تخاطب البشر بالولاية. لا تمدح أحدا في الصلاة ولا تهتم بمواريثك القومية والمذهبية ولا تسعى للتشبث بما ذكره المحدثون في كتبهم فلعل ذلك مخالف لكتاب الله تعالى. وستعلم معنى الصلاة على النبي في ذكر التشهد.
الركوع والسجود
والمقصود منهما الخضوع لرب العالمين وكلاهما تعنيان شيئا واحدا. فالركوع تعني الخضوع والذل كما أن السجود تعني ذلك أيضا. وبمجرد أن ينزل الإنسان رأسه بقصد الخضوع فإنه يُعتبر راكعا ساجدا. إنه قد قال لمن خاطبه : إنني خاضع لك ومتقبل لولايتك عليّ. والسؤال الذي يفرضه الموقف هو ، لماذا لم نكتف بواحدة منهما وهما تعنيان شيئا واحدا؟ ثم لما ذا نسجد سجدتين وهل الأنبياء سجدوا سجدتين أيضا ولماذا؟ والجواب في كتاب الله تعالى. وأما السؤال الأول، فدعنا نمعن في هذه الآية الكريمة من سورة آل عمران: يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ ﴿43﴾.لقد أمرها الله تعالى بالسجود قبل الركوع، فهل كانت مريم تسجد ثم تقوم للركوع؟ بالطبع، ليس كذلك. ولو كان كما تصورنا لزاد الله في بيانه وذكر لنا سببه. إنها بالتأكيد كانت تركع ثم تسجد، ولكن الآية تأمرها بالقنوت والسجود من نفسها أمام الله تعالى وتأمرها بالركوع مع الراكعين، أي تجاوبا مع الناس وحشرا في الزمر الأخرى من المؤمنين بالله.
قلنا في بداية البحث أن “الصلاة شعيرة رياضية بشرية خاشعة تجاري فيها النفسُ البدنَ أمام الله تعالى استدرارا لرحمته”. وبما أنها تمثل شعارا إنسانيا فيجب ملاحظة حركات الآخرين أيضا. ونحن نرى البشر يحترمون زعماءهم وعلماءهم ومن يريدون أن يحترموه من نظرائهم في الخلق بطرق مختلفة. فمنهم من يقف أمام الشخص احتراما له ومنهم من يُحرك رأسه أمامه ومنهم من يركع أمام الذي يروم احترامه. فاليابانيون مثلا يركعون أمام الشخص احتراما له. وهكذا يحترم الناس ربهم أيضا. نرى المسيحيين يكتفون بالوقوف أمام القدوس في كنائسهم احتراما ونرى الكثير من معتنقي الديانات الأخرى لا يكتفون بالوقوف بل يركعون أمام الله تعالى. وبما أننا نريد أن نذوب في مسجد الإنسانية أمام الديان العظيم فنحن نقف ونركع مثلهم. لكننا لا نكتفي بذلك بل نتوجه إلى الأرض لنسجد عليها إكراما لرب العالمين. هكذا كان الجميع ولا زال اليهود يفعلون ذلك. ولو نقوم بتبويب المصلين فنرى بأن المصلي كلما ازداد معرفة بعظمة ما وراء الطبيعة أو مَن وراء الطبيعة فإنه لا يكتفي بالركوع بل يتوجه إلى السجود ومن ازداد معرفة أكثر فأكثر فإنه يخر ساجدا ومن أكرمه الله تعالى بالمزيد من العرفان فإنه يخر باكيا وهو يسقط على الأرض.
نريد أن نكثر من عدد الذين يوقرون الله تعالى استدرارا لرحمته، لأن الله تعالى في هذه النشأة الدنيوية لم يفصل بين المؤمنين والكافرين أو الفاسقين الذين لا يستحقون بعض أنواع الرحمة. والرحمة في هذه الدنيا تنزل على الناس جميعا أو على مجموعة منهم ونادرا ما تنزل على الأفراد الطيبين الذين يستحقون الإكرام. وكلما توحد صفوف المصلين لله ازدادوا استحقاقا للرحمة من الله تعالى. فليقم الجميع بتوقير رب العالمين مثل المسيحيين وقوفا ومثل اليابانيين ومن في المناطق الأسيوية البعيدة ركوعا. لكننا كمسلمين نسجد لله تعالى والسجود علامة ناطقة للعرفان نظرا لكبر الهوة والفجوة بيننا وبين خالقنا العظيم جل جلاله. فنحن لا نملك شيئا حتى أنفسنا وهو سبحانه يملك كل شيء وإيانا جميعا.
وأما السؤال الثاني فنقرأ في سورة الإسراء: قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا ﴿107﴾ وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً ﴿108﴾ وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا ﴿109﴾ قُلِ ادْعُواْ اللّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً ﴿110﴾.ويقول سبحانه في سورة السجدة: فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴿14﴾إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ ﴿15﴾ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ﴿16﴾.ويقول سبحانه في سورة مريم: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا ﴿58﴾. وآيات السجدة تسهل علينا عملية تفسير آيات الإسراء. فالعلماء الذين تعلموا وتعرفوا على المسائل العلمية المرتبطة بالحقائق الأصيلة بالطبع من قَبْلِ القرآن، فهم مستعدون نفسيا لفهم هذا الكتاب العميق. أولئك الذين إذا تجلت لهم معاني القرآن، تنفتح أمامهم آفاق جديدة من العلم السماوي ويتحسسون عظمة ربهم ثم تعصر الخشية قلوبهم فيخرون ساجدين. و جملة يُتلى عليهم والتي تشير إلى القرآن الكريم، لا تعني التلاوة الموسيقية المعروفة بالتأكيد. فالموسيقى لو أثرت في نفس فأبكت صاحبها فتلك ليست بكاء ممدوحا يهتم بها الله سبحانه.
إنه تعالى سيما في هذه الآيات، يتناول مسألة تجميع القرآن والتجميع يعني القراءة ويعني القرآن في الواقع، والمقصود التجميع المفيد لا مطلق التجميع. فالذي يقرأ القرآن يعني الذي يجمع آياته لغرض فهم المعاني وهو التفسير الحقيقي لكتاب الله تعالى. والله تعالى وعد الذين يسعون لفهم آياته أن يعلمهم وسنعرف خلال التفسير وخاصة حينما نفسر سورة طه، كيف يستمر العزيز الحكيم في تعليم المؤمنين بعد انقطاع الوحي المباشر للأنبياء. والمؤمنون الحقيقيون يعيشون مع كتاب ربهم ويتفكرون فيه حتى في صلواتهم. هنالك يتعلمون دقائق القرآن فيخرون ساجدين لله خوفا من يوم الحساب. ثم يخرون ساجدين مرة أخرى طمعا في المغفرة والرضوان. ولعل هذه هي سر السجدتين. فالأولى للاستغفار عامة والثانية طمعا في كرم ربهم. ولا شك بأن الذين أوتوا العلم ومنهم الأنبياء، فهم مختلفون عن الناس العاديين. الإنسان العادي يخاف على نفسه التخيل بعد الركوع فيسجد ليستغفر ثم يسجد مرة أخرى ليخضع لله تعالى ويستدر رحمته وعطاءه ولكن الذي يفوقه علما وإيمانا فهو قلما يتعرض للخيلاء ولكنه يزداد علما حينما يقف أمام الله تعالى. و كان أنبياؤه يزدادون علما في صلواتهم في الواقع. وسنعرف ذلك بالتفصيل عند بيان قصة مريم في القرآن الكريم فهي بطلة استيحاء العلم في الصلاة.
وقد قلنا في أوائل هذا الموضوع بأن الخوف لدى عامة الناس تمثل خوفهم من احتمال إصابتهم بنوع من الخيلاء بأنهم متميزون في القدرة البدنية على الركوع في حين ضعف كل الحيوانات الأخرى على الإتيان بمثل تلك الحركة البدنية. فيسجدون مرة للتوبة ومرة أخرى استدرارا للرحمة. فالأولى لديهم تتبع الخوف من الغضب والثانية يؤتى بها طمعاً في الرحمة. وأما الأنبياء عليهم السلام ومنهم مريم فإنهم يسجدون السجدة الأولى متأثرين بعظمة الجبار جل جلاله وقد رأوا علامة من علامات الربوبية في صلاتهم. ذلك لأنهم يفكرون في الصلاة ويدخلون في عالم العرفان الواسع العظيم فتأخذهم قشعريرة الخوف والفزع من عظمة رب العالمين بعد أن رزقهم الله تعالى بابا معرفيا جديدا. فإذا سجدوا فإن الله تعالى يُكرمهم بالقبول فيشعرون بالطمأنينة فيخرون مرة أخرى طمعا في الرضوان. لكنهم في هذا الطمع لا يفارقهم الخوف من أن يُحرموا من رضوان الله تعالى يوم الحساب فيصيبهم الخزي أمام الحشود التي تراهم وتنظر إليهم يوم يقوم الناس لرب العالمين. إنهم يستشعرون أنفسهم بأنهم لو خسروا رحمة أرحم الراحمين يوم القيامة فما الذي يخلصهم من لوم الملائكة وهم يرون بأن الله تعالى سوف يرُي العالمين رحمتَه ورأفتَه وكرمَه وقد حرمهم من تلك الرحمة وهم كانوا أنبياء محترمين في الدنيا، يا للخزي!. إنهم باعتقادي مصيبون في تصرفهم، إذ لا محسوبيات في يوم القيامة كما لامجال للعودة إلى الأرض وإصلاح ما أفسده المرء ولا كرامة في يوم القيامة إلا لله نفسه. والناس كلهم سواء كانوا بشرا عاديين أو ملوكا وأنبياء وذوي مناصب دنيوية فإنهم جميعا بلا استثناء يتضرعون إلى الله تعالى يوم القيامة طالبين مغفرته ورضوانه. لن يلتفت أحد إلى غيره إلا بعد صدور الحكم الذي لا استئناف له ولا تمييز. ولذلك يوضح تعالى خوفهم حين الطمع بأنهم يزيدهم الرحمن خشوعا وهم يستَجْدون ربهم ويستمطرون رحمته.
وجملة خر راكعا أو ساجدا تعني: أنه سقط سقوطا تدريجيا كالحجر الذي يسقط من الجبل متدحرجا. وما قاله الراغب وبعض أئمة اللغة من أنها تعني السقوط مع الصوت فهو غير بليغ برأيي. كل الموارد التي ذكر فيها هذه الكلمة في الكتاب العزيز تعني الانحدار أو السقوط المتدحرج. خر من السماء، يعني فقد حاملُه الجاذبيةَ بالنسبة له فتدحرج في الفضاء وهو فاقد للوزن فتخطفه الطير أو تهوي به الريح. وخر بمعنى مات لأن الموت تدريجي في الغالب . وتخر الجبال هدا، كما في سورة مريم تعني أن السماوات تفقد الجاذبية لاضطراب الطاقة الماسكة لها باعتبار الآلهة المتعددة التي تتصورها الآية الكريمة إثر تصور الأبوة في ربنا المتكبر المتعالي جل جلاله، فتتفتت الكرات الصلبة شيئا فشيئا أو واحدة تلو الأخرى. وعلى هذا فمعنى خر راكعا أو ساجدا، هو أنه هوى إلى الأرض بسرعة ولكن بقصد وانتباه دون أن يسقط سقوط المغشي عليه. ولولا القصد لم يكن مستحقا الثناء وواضح بأن الله تعالى يثني عليهم في نوع ركوعهم وسجودهم. والسر في سرعة سقوطهم هو إسراعهم للسجود شاكرين أو مستغفرين، خائفين أو طامعين، ولكنهم يفعلون ما يفعلون عن علم وإدراك لا عن عفوية وعدم إرادة.
وأما الآية 110 من الإسراء حيث يخاطب سبحانه النبي بأن يأمرنا بأن ندعو الله أو الرحمن فهي تعني ما نفهمه من معاني تقترن باسمي الله الكريمين. فالاسم الأول ومعناه المعبود والمسجود له الذي أخضع كل شيء لذاته الشريفة، وأما اسم الرحمن فتعني صيغة المبالغة من الرحمة العامة التي تشمل كل الموجودات، وقد اشتُق كل الأسماء القرآنية الحسنى منهما كما سنعرف مستقبلا بمشيئة الكريم. والسجدة الأولى هي سجدة خوف من نظام الألوهية التي تشمل كل شيء وتحوي كل المخلوقات بلا استثناء وأما السجدة الثانية فهي سجدة استرحام واستعطاف وطمع فتتناسب مع اسم الرحمن ، والعلم عند الله تعالى. وأما آية سورة مريم فهي تبين تجاوب الأنبياء مع وحي الصلاة والتي تشابه ما يقوم به أهل العلم من الصحابة والذين آمنوا من أهل الكتاب وبقية المسلمين تماما. كان الأنبياء مسلمين بنص القرآن، ولكنهم لم يُؤمروا بنشر المفاهيم الإسلامية بين شعوبهم لعدم تطور الفكر البشري العام آنذاك، كما سنعلم في التفسير بإذن الله تعالى.
الجلوس
ونجلس للتشهد كما تعلمناه ونعرف جميعا الفرق بينه وبين بقية أعمال الصلاة. فنحن في كل مواقف الصلاة نُظهر خضوعنا لرب العالمين وحده. وأنا أفضل أن يقتصر دعاء الذين يدعون في القنوت على أدعية القرآن وإني شخصيا لا أقرأ غير القرآن في القنوت. ولكننا في الجلوس الذي نسميه التشهد فإننا نشهد بأننا مسلمون نتبع النبي العربي محمدا. وقد علَّمَنا نبينا الأمين أن نبدأ بالشهادة لوحدانية الله ووحدة الألوهية وانحصارها في الله تعالى. وكل التحركات المؤثرة في الناس والتي لا نرى مسببها فتتم دون شك من قبل رب العالمين دون أن يكون لأحد أي دخل فيها. فلا بركات ولا توفيقات ولا أمان ولا تأثير لأي موجود فيما يصيبنا من خير أو شر إلا بأمر الله وحده وبإرادته وحده لا شريك له ، وكل ما يقوله البعض من تأثير الأنبياء والأولياء فهي مجرد أوهام واهية لا تأييد لها في كتاب الله تعالى.
وبما أن الشهادة بالإسلام مختلف تماما عن الخضوع لله تعالى، فنحن لا نخضع لأخينا الكبير محمد بن عبد الله عليه السلام ولا نطيعه إلا باعتبار الرسالة وليس باعتباراته الشخصية التي لا تتعدى حدود الأخوة مع المسلمين. شأنه شأن جميع الأنبياء الذين سبقوه وقد ذكرهم الله تعالى كإخوان لقومهم، كما ذكر نبينا كصاحب لقومه وأن قومه أصحاب له، سواء كانوا مؤمنين أو فاسقين. وصحبته مع غير المؤمنين موضحة في كتاب الله تعالى بقوله في سورة التكوير: وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ ﴿22﴾.فالذين يتهمون نبينا بالجنون هم المشركون وسمى الله تعالى النبيَّ صاحباً لهم أيضا. وبما أن الصلاة التقليدية رياضة بشرية متحركة فإننا وفي كل حركة من حركاتها نضمر أمرا مرتبطا بالمقصود من تلك الحركة وإن قراءة الذكر في كل حركة توضح هدفها تماما. ومن الواضح بأننا طيلة القراءة وذكر الركوع والسجود فإننا نشهد ضمنيا بأن لا إله إلا الله ، كما نذكر نفس الشهادة تقريبا في الأذان والإقامة. ولذلك فنحن لا نجلس للشهادة بوحدانية الألوهية بل نجلس لغرض آخر وحتى لا نكون مغالين في ذلك الغرض فإننا نبدأ شهادتنا بالاعتراف بالله الأحد جل جلاله. والواقع أن الذي تغير في سياق الصلاة هو الشهادة بالنبوة لإظهار إسلامنا وتمييزنا عن غيرنا.
نستنتج مما ذكر بأن الغرض من الجلوس فعلا هو تغيير الهيئة بما يتناسب مع معطيات هذه الرياضة البشرية. لقد فرغنا من إظهار ما يمكن لموجود فيزيائي إظهارُه من معالم الخضوع والخشوع لرب العالمين، ثم بدأ دور تحديد الهوية وتمييز المصلين من غيرهم، سواء المعاصرين من أتباع الأديان الأخرى أو الماضين فلزم اتخاذ الجلوس مَعْلَما لهذا الهدف إعلانا للاستراحة والتنبيه لهوية الأمة. ولو أننا نريد أن نرتب الأدوار الرياضية فإن من الأفضل أن نجلس بعد الركوع وليس بعد السجود ولكن المقصود هنا هو الذي غلب على المظهر الحركي في الصلاة. ويبدو بأن رسول الله عليه السلام قد فضل ذكر عبوديته على رسالته لأننا في إحرام الصلاة لرب العالمين ولسنا في وضع عادي. وللمثال يمكن ملاحظة اللاصقات أو إعلانات الجرائد للحديث عن حدث كبير مثل العيد القومي أو تتويج ملك أو إعلان استقلال. فنرى بأن إعلان الحدث يستغل الجزء الأكبر من مكان الإعلان وبخط كبير ولكن اسم المؤسسة أو الشركة أو الشخص الذي أعلن الولاء يُكتب بخط مقروء أصغر بكثير من أصل اللاصقة وفي نهايتها. وهكذا في الصلاة التي تُقام خضوعا جمعيا لرب العالمين فإن الهوية الإسلامية هي اسم الذين يقدمون إعلان الصلاة الجامعة ويجب أن تحل برنامج التعريف بهم مجالا ضيقا في العملية.
وبعد الشهادة بنبوة نبينا فإننا نصلي عليه. وقد ظن عامة الناس والمفسرين الكرام بأن الصلاة نوع تمجيد ومديح للرسول الأمين عليه السلام. ونرى بعض أئمة الجماعة وبالأحرى أكثرهم، وبعد الصلاة على النبي يشدون في السلام عليه فيقولون مثلا: وسلم تسليما كثيرا كثيرا. لو كان في الصلاة أي مديح أو تكريم لما جاز ذكره في الصلاة لرب العالمين دون أدنى شك لأن العمل سوف يكون شركا بالله تعالى. ثم إننا نقلد نبينا في الصلوات الخمس فهل يُعقل أن يمدح النبي نفسه حين خضوعه لربه. ذلك أكثر من عيب وهو شرك في الواقع. إننا نصلي بالحمد ولا صلاة بلا حمد والحمد هو كما نقوله في سورة الحمد بأنه خاص بالله تعالى.
والحمد يعني الثناء بما ترسخ في الشخص من صفات ذاتية أو عملية، وهو مغاير للمدح الذي يعم ترسخ الصفة أو تذبذبها. و الشهادة في هذه الآية الكريمة هي بأن الفضل كله مترسخ في الذات الإلهية وفي صفاته الكريمة التي تدل على أعماله في الواقع. بالطبع أن هذا التعريف يخالف ما عليه علماء اللغة أو بعضهم الذين يظنون بأن الحمد هو الثناء بالفضل العملي والمدح هو الثناء بالفضل الطبيعي والعملي. ودليلي أن القرآن الكريم ذكر الحمد لله تعالى بدون اعتبار الأعمال مثل قوله تعالى: الحمد لله رب العالمين أو قوله تعالى: ويسبح الرعد بحمده، فالرعد ليس في مورد التنفع من رب العالمين ليثني عليه سبحانه ولكن تسبيح الرعد له يدل على جمال الربوبية الذي خضع له كل شيء طائعا. والحمد في الآية الأولى لا يعني الثناء على عمل الربوبية بل يعني الثناء على كونه رب العالمين ولذلك فإننا نجر الرب ولولا هذا المعنى لرفعنا الرب. والمقام المحمود الوارد في القرآن الكريم باعتبار ترسخ صفة الجمال في المقام بمعنى المسكن الموصوف بالأبدية ولو بالمعنى الفعلي دون المعنى الذاتي. وأما تسمية نبينا بمحمد فهو فِعلُ أهلِه الذين أسموه وليس فعلَ الله تعالى بل إنه سبحانه سماه أحمدا وليس محمدا. وأحمد هو فعل يدل على كثرة الحمد فصار اسما مثل يحيى، باعتبار ما اختص به النبي الخاتم من مكارم ربوبية تتناسب مع رسالة الختام والتي تفرض على الإنسان أن يستمر في الحمد لرب العالمين شكر ا وامتنانا على العطاء.
فلو وصفنا الله تعالى بالحمد في الصلاة وخصصنا الحمد له سبحانه فلا مجال لتقديم نفس النوع من المديح لمخلوق إلا إذا أشركناه بالخالق، معاذ الله تعالى. وأما معنى الصلاة على النبي فسوف نشرحها بالتفصيل في سورة الأحزاب بإذن الله تعالى ولكني أقدم بيانا مختصرا لها بما يتناسب مع المقام. قال تعالى في سورة الأحزاب: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا ﴿41﴾ وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ﴿42﴾ هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا ﴿43﴾ تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا ﴿44﴾. وقال سبحانه بعد تلك الآية في نفس السورة: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴿56﴾.ونعلم بأن ماهية سورة الأحزاب هي منع المسلمين ورسولهم من الاختلاط بالمنافقين وعدم التخوف منهم ومن مكرهم والاعتماد على الله تعالى وحده الذي يعلمهم ويهديهم وينير لهم درب السعادة. والسورة بطبيعتها المضادة لاعتراضات المنافقين تتحدث عن أزواج النبي وبيان السبب في اتخاذه مجموعة من الأزواج بالرغم من عدم استساغته لتلك المسألة الاجتماعية التي فرضها الله تعالى عليه مجاراةً لتوجهات المجتمع البدوي الذي كان يشكل السواد الأعظم من الأمة . تلك الأمة التي قدر الله تعالى لها أن تستقبل أعظم وأهم كتاب سماوي على وجه الأرض.
فالله تعالى يأمر المؤمنين أن يُكثروا من ذكر الله تعالى ويسبحونه في كل الأوقات، لأنه هو وحده الذي يخرجهم من ظلمات الجهل والضلال إلى نور العلم والهدى فيصلي عليهم سبحانه هو وملائكته الذين يباشرون تنفيذ أمر الله ليخرجوهم بهذه الصلاة من الظلمات إلى النور. فوضح الله تعالى معنى صلاته وصلاة الملائكة على الناس بأنها سبيل إخراجهم من الظلمات إلى النور. ثم وظف نفس العمل في نفس السورة للنبي بأنه سبحانه وملائكته يصلون على النبي أيضا. ومعناها الذي نفهمه من نفس السورة هو أنه سبحانه يخرج نبيه من الظلمات إلى النور وينفذ ملائكتُه أمرَ ربهم بأن يصلوا على النبي مع صلاة الله تعالى. ونحن لسنا بصدد تفسير سورة شديدة العمق مثل سورة الأحزاب في هذا البحث المختصر ولكننا نستلهم من السورة ما نحتاجه من معاني مستدلة بالكامل بإذن الله تعالى. فالصلاتان تعنيان شيئا واحدا لأنهما معا في سورة واحدة وكلاهما منفذة بالملائكة وليست مباشرة من الله تعالى. وحتى لا يتوهم أحد الشرك فإن السر في عطف الملائكة على الله ليس هو المشاركة مع الذات القدسية ولكن باعتبار أن الملائكة يُفعِّلون نفس النور الذي يبعثه الله تعالى لإخراج الناسِ ونبيِّهم من الظلمات إلى النور. وأما ضرورةُ توسُّطِهم بين الله تعالى وبيننا -وهم في الواقع عبيده الموظفون فحسب- هو ضعف الأبدان الإنسانية من التفاعل المباشر مع النور القدسي، وليس شيئا آخر برأيي والعلم عند الله تعالى.
وأما كيفية عمل التنوير العلمي والسر في تسميته بالصلاة فسوف نذكرهما عند تفسير سورة الأحزاب بإذن الله تعالى لأن معرفته معقدة ونحتاج كبشر إلى شرح مبسط ومعرفة واسعة لفهم المعنى. يكفي بأن ننتبه إلى حاجتنا كبشر إلى صلاة الله علينا وملائكته لنخرج من الظلمات إلى النور. وقبل الانتقال إلى المسألة الثانية أرى من الضروري أن نعرف بأن النبي في هذه السورة بالذات ليس واحدا من المؤمنين لأنها تحتوي على ميثاق النبيين مع الله تعالى منفصلة عن ميثاق الناس مع ربهم كما سنعرف عند التفسير بفضل الله تعالى.وأما معنى التسليم للنبي الذي أعقب الله تعالى أمره إيانا بالصلاة عليه فهو أيضا مشروح في نفس السورة هكذا: وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاّ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا ﴿22﴾.فلفظة التسليم في السورة جاءت بمعنى تسليم الأمر الدنيوي إلى الرسول ليكون ولي أمر المسلمين في الواقع وليس هو مصدر فعل السلام كما تراءى للمفسرين الكرام. ومن الصعب أن نقبل التسليم مصدرا لما يعني إلقاء تحية السلام فهو السلام وليس التسليم فنقول سلم سلاما إن قصدنا التحية ولكننا نقول سلم تسليما إن قصدنا تسليم الأمر وهو شبيه بالاستسلام في الواقع.
ولذلك أرجو أن ينتبه أئمة الجماعة فلا يكرروا الجملة الخاطئة المعروفة بينهم وهي: صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما كثيرا كثيرا. معاذ الله تعالى من أن يسلم تسليما بل هو سبحانه يسلم سلاما إن شاء. ولمعرفة الإخوة والأخوات فإنه سبحانه لم يسلم حتى السلام على نبينا في القرآن الكريم واكتفى بمنح هذا السلام للأنبياء الذين ماتوا وللمرسلين عامة . ومعناه أن السلام الخاص غير ممنوح للنبي الحي ولكن السلام الذي يمنحه الله تعالى للأنبياء في رسالتهم أو لتبليغ رسالتهم فهو ممنوح لنبينا في حياته أيضا كالذين سبقوه من الأنبياء والرسل الإنسيين.
أما بعد معرفة معنى الصلاة والسلام فلما ذا أمرنا رسولُ الله بأن نصلي عليه صلاة من الله تعالى ولماذا نصلي نحن عليه و آله ولا نصلي عليه وحده؟ مما لا شك فيه أن الأمر بالصلاة عليه كما في سورة الأحزاب لا يشمل الأمر بالصلاة على آله لأن آله كائنا من كانوا فهم مأمورون بالصلاة على النبي أيضا فلا يمكن أن يأمرهم بأن يصلوا على أنفسهم إن كانت الصلاة تعني المديح أو الثناء كما تصوره المفسرون عامة. من أعيب المعايب أن يثني البشر على نفسه لأنه ناقص ولا يستحق الثناء وثناء الفرد البشري على الفرد البشري الآخر هو نوع من المجاملة المطلوبة والممدوحة وليس أمرا حقيقيا في الواقع. لو نقرأ آيتين قبل آية الصلاة في سورة الأحزاب وثلاث آيات بعدها لنراها مستقرة بين الحديث عن خصوصية النبي في أزواجه اللاتي منحهن الله تعالى صفة الأمومة لنا فليست الآية مكانا لإشراك أحد مع رسول الله في هذا الأمر. وكما قلت بأن رسول الله في هذه السورة بالذات ليس واحدا من المؤمنين وأما بقية الناس بمن فيهم أقربهم إليه وهم أزواجه اللائي أخذن منه ميثاقا غليظا بنص القرآن وأفضى بعضهم إلى بعض فهم ضمن قائمة المؤمنين في واقع الأمر. هذه خصوصية سورة الأحزاب.
والرسول في الواقع أمَرَ المسلمين بأن ينفذوا أمر ربهم بالصلاة عليه بأن يقولوا: اللهم صل على محمد وآل محمد أو وعلى آل محمد. هذا كلام مقبول ولا يخالف القرآن بل يوافقه تماما ويوافق سورة الأحزاب التي استضافت مسألة الصلاة على النبي والمؤمنين. ونحن لا نعرف في الواقع من هم آل النبي محمد؟ إن كل مجموعة من المسلمين يفسر الآل بطريقته الخاصة ويطبقها على المجموعة التي تتفق مع مبادئه المذهبية. فبنو العباس الذين وضعوا أساس التحريف في هذه الكلمة فسروا الآل بأنهم بنو العباس ثم علي وزوجته المكرمة وبنوه من بعده. والبنون ليس كل البنين بل يختارهم من يشاء بأسلوبه الشخصي وينسب ما يشاء من أحاديث فيهم. والمسلمون بمذاهبهم المتعددة والشيعة بالذات بما بقي من مذاهبهم وهي أكثر من عشر مذاهب موجود فعلا في الأرض فإنهم مختلفون في انتخاب الأفراد من سلالة النبي وضمهم إلى الآل. والمسألة عندهم جميعا تمثل مجتمعا ملكيا قيصريا بعيدا عن روح رسالة السماء وحاشا محمد بن عبدالله عليه السلام من أن يوصي بأحد من أقربائه وهو رسول إلى النا س جميعا وهو ليس مؤسس امبراطورية ولا يملك المُلك الذي نسبوه إليه أبدا.
أما هذه الآيات التي تلوناها من سورة الأحزاب فإنها تصلي على النبي والمؤمنين سواء دون تفريق إلا في الآية والسبب في التفريق هو أن النبي استلم القرآن بلغته التي يعرفها ولكنه استلمه لأجلنا جميعا. فكافة الناس مخاطبون في القرآن ليستفيدوا منه ويتنعموا بمعارفه ولكن النبي يعرف عمق المعنى أكثر منا لأن كل فرد في المجتمع يألف مصطلحات خاصة به كما أن كل عائلة من العوائل تستعمل مصطلحات لغوية لا تستعملها العوائل الأخرى. فالمسلمون وخاصة الأولون منهم وحتى يعرفوا معاني القرآن بدقة كانوا محتاجين لأن يقرؤوا فَهْمَ الرسول العربي الذي أنزل الكتاب على صدره. نحن اليوم أقل حاجة منهم لأن الكثير من المسائل العلمية تجلت للعيان اليوم ولكننا لا نخلو من الحاجة لمعرفة فهم النبي في بعض دقائق القرآن الكريم أو سيكون معرفة ذلك عاملا مساعدا ومؤيدا لتفسيراتنا المستقلة دون شك. فالذين كانوا يصلون عليه يوم كان النبي حيا بينهم وحتى الذين أتوا بعد فترة وجيزة من وفاة الرسول فإنهم يقصدون أن يُخرج الله تعالى نبيه من الظلمات إلى النور بالنسبة لهم.
وبيان ذلك باختصار هو أنك لو تنظر إلى شخص بعيد عنك وأنت تريد أن تفهم ما يفعله ذلك البعيد فأنت تحتاج إلى مزيد من الضياء تسلطها عليه لتراه بدقة أكبر ولكنه هو في مكانه البعيد عنك لا يحتاج إلى مزيد من النور ويكفيه حتى نور القمر أحيانا. ألا ترون أننا نسلط النور على من نريد تصويره حتى يساعد النور على ظهور وجهه بدقة كبيرة حتى تتحسسه فيلم التصوير، اللهم إلا إذا ازددنا من حساسية الفيلم فلا نحتاج إلى مزيد من الضوء الذي نسلطه على من نريد تصوير وجهه الفيزيائي. فنحن لو نريد معرفة منطق محمد بن عبدالله عليه السلام الذي مات قبل أكثر من أربعة عشر قرنا فإننا نحتاج إلى تسليط الضوء عليه. وهل بيدنا مصباح يضيء لنا محمدا وهو في عالم الموتى؟ بالنسبة لنا بالطبع. فالموتى كلهم أحياء عند الله ومنهم من يُرزق الأمان والسلام ومحمد بلا شك واحد من النوع الذي يُرزق. إن هذا المصباح متوفر عند ربنا ويمكننا الاستضاءة به عن طريق ملائكته الكرام الذين يمثلون دور الشفيع الحقيقي بيننا وبين ربنا بأمر الله تعالى نفسه. فقولنا: اللهم صل على محمد وآل محمد يعني: اللهم سلط الضوء على محمد لنرى ونقرأ فكره وسلط الضوء على قلوبنا لنخرج من الظلمات إلى النور فنستفيد مما عرفناه من حكمة وعلم نبينا.
وجوابا على اعتراض من يقول بأننا لسنا آل محمد أو لسنا جميعا كذلك فإني أقول: إن الله تعالى اعتبر كل الجيش الفرعوني آل فرعون فمَنَّ على بني إسرائيل بأنه سبحانه أغرق آل فرعون والذين غرقوا مع فرعون هم جنوده وعسكره الحربي في الواقع حيث قال في سورة البقرة وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ ﴿50﴾. واعتبر سبحانه كل الأقباط آل فرعون بقوله في سورة آل عمران : كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴿11﴾. وسمى كل المصريين الذين هم تحت سيطرة فرعون آله أيضا كما في سورة الأعراف: وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَونَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّن الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ﴿130﴾.فإن القحط شمل كل من كان في مصر حتى بني إسرائيل. والغريب أن كلمة الآل في القرآن لم يأت إلا قبل أسماء بعض الأنبياء وقبل اسم عمران وقبل اسم فرعون. ولعل السبب هو أن هؤلاء بغض النظر عن إيمانهم أو كفرهم فهم يحملون صبغة اجتماعية كبيرة تجذب الناس حولهم. فآل محمد هم أتباعه الذين يوالونه في الواقع وقد أمر الرسول بأن نصلي عليه و آله عملا بما جاء في سورة الأحزاب بأن الله تعالى يصلي على النبي وعلى المؤمنين، فقال النبي صلوا علي وعلى آلي باعتبار أن المؤمنين الذين هم مؤمنون في حضوره وبعد وفاته هم جميعا أتباعه وليسوا أتباع غيره لانحصار النبوة الختامية في شخصه الكريم. فأمرُهُ المؤمنينَ بأن يصلوا عليه وآله يعني أن يصلوا عليه ليخرجه الله من الظلمات إلى النور بالنسبة لهم ويصلوا على أنفسهم ليخرجهم الله تعالى من الظلمات إلى النور فيتعلموا ويعوا ولا يبقوا في الجهل والعمى. والنتيجة العقلية لهذه العملية هو التعرف على القرآن الكريم وكشف كنوزه فحسب. وليست الصلاة على النبي ثناء عليه وإلا بطلت صلواتنا في الواقع فأرجو من الذين علموا يأن يُعلِّموا الذين لا يعلمون لعلنا نهتدي جميعا بهدي القرآن الكريم بمشيئة الرحمن وحده. ولنَحذر الصلاة الإبراهيمية في الصلاة، فهي لا تعني شيئا للمسلمين. نحن جميعا نحب إبراهيم ونعتبره مؤسس الإسلام ونفتخر بأبوته لنا كعرب فخرا ومجدا قوميا، ولعله عند الله تعالى أفضل من نبينا ومن بقية الأنبياء. ولكن الصلاة عليه بالمفهوم القرآني غير ُوارد في الصلاة التقليدية، وبالمفهوم المتعارف بين المسلمين غيرُ جائز في الصلاة.
التشهد الأول والتشهد الثاني ودور إمام الجماعة
يهتم القرآن كثيرا بصلاة الجماعة لأنها تعطي المعنى الأكمل للصلاة التقليدية وتساعد المسلمين على التآلف والتواصل والتحابب بينهم ودرء الخلافات والصفح عن الهفوات والهمزات وتثبيت الاحترام والتوقير بين قومياتهم المختلفة. ولا نريد أن ننكر الثواب في صلاة الجماعة، فإن كل عمل إنساني مفيد يقوم به الإنسان ويقصد به وجه الله فهو مؤثر بالطبع في صبغته النفسية؛ ولكن ما يقولونه عن ثواب الجماعة وثواب الصلاة في المساجد وفي المساجد الكبرى وفي المسجد الحرام حيث يُحرم فقراء المسلمين من الصلاة فيه، فكلها تخيلات وأوهام باطلة لا صلة لها بالحقيقة. وحينما نقل الله تعالى نبيه بصورة إعجازية من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى في ليلة واحدة ثم أعاده إلى بيته بعد أن رأى الآيات في الأقصى وما حول الأقصى، فإنه سبحانه لم يذكر لنا أي ثواب لرسوله عند صلاته في المسجد الأقصى كما لم يذكر أي ثواب لأحد في أن يصلي بالمسجد الحرام. ولا يخفى علينا أن إراءة المزيد من الآيات لأحد تستوجب المزيد من المسؤوليات ولا تستتبع ثوابا وإلا كان ظلما عيبا على الله سبحانه. والصلاة الواجبة المعروفة في أصلها وضعت لتجميع القلوب وتوجيهها إلى خالقها وليس لكسب الثواب في الواقع. لو كان ما يقولونه صحيحا فإن أنبياء الله تعالى سوف يرون أنفسهم خاسرين يوم القيامة لقصر عمرهم وعدم وجود الوقت الكافي لهم ليصلوا في المساجد المعروفة بل يكثروا من الصلاة فيها استزادة في الثواب! وأخص بالذكر نبينا والمسيح الذين عاشا فترة قصيرة من الزمان مغمورين بمسؤوليات كبيرة. إن ما يقولونه يمثل فقه أصحاب الثروات وفقه الملوك الذين لفقوا الأحاديث ليقصروا الطريق إلى الجنة لأنفسهم وسيخيبون يوم القيامة. إن كل الفقراء في الأرض محرومون من الصلاة عند الكعبة فهل يفضل الله تعالى المترفين الذين استمتعوا في الدنيا على الذين تحملوا الأذى فيها؟ حاشاه سبحانه.
وأصل صلاة الجماعة هي الركعتان الأوليان اللتان تمثلان تبعية المأموم للإمام وقيادته لهم بصورة واضحة. فهو وحده الذي يقرأ حين القيام ولكن المصلين يشاركونه القراءة في الركعات الإضافية. والواقع أن الصلوات الخمس وبركعتيها الأوليين تمثلان ساعات النشاط والعمل لدى الإنسان. فهي تمثل عشر ساعات نشاط يحتاج فيها المرء إلى القيادة واتباع الأوامر الصحيحة ليثمر ويُنتج ولا يخسر حصيلة نشاطه وجهده. فصلاة الجماعة تعلمه القيادة كما تعلمه التبعية للقائد وحدود التبعية. فالإمام ليس أفضل من المأمومين وليس منصوبا من قبل الله تعالى، بل رضي به جماعتُه أن يصلي أمامهم ولهم أن يغيروه متى ما شاءوا وأرادوا. وهكذا رئيس العمل يجب أن يكون مثل إمام الجماعة منصوبا من قبل الناس أو مقبولا لديهم على الأقل وإلا قلَّت أو انعدمت الفوائد. والمصلون يستمعون إلى القراءة وهي بمثابة التلاوة عليهم ليفكروا حينما يتلو الإمام فيجلبوا الرزق العلمي من ربهم كما أن المدير يجب أن يكون قادرا على أن يتلو الأوامر الصحيحة على الموظفين فلا يأمرهم بما هو خاطئ. وبما أن الصلاة تمثل التدريب فإن الإمام يتلو من القرآن ولكن المدير في حال الإنتاج العملي فلا يجوز له أن يقرأ على موظفيه ما كتبه المؤلفون بل عليه أن يفكر ويؤلف التعليمات الصحيحة.
ويقوم الإمام ببعض الأعمال التي يتأسى به المأمومون دون فرق بينهم وهو يمثل الأعمال المشتركة بين المسؤولين ورعاياهم. كما أن الركعتين الإضافيتين أو الركعة الإضافية في صلاة المغرب ومجموعها سبع ركعات تمثل ساعات الاستجمام لدى الناس حيث تزول الرئاسة والإمامة ويعيش الناس حياة الأخوة الكاملة. ولذلك ليس في تلك الركعات الإضافية تلاوة واستماع بل إنهم يكررون حركات إمامهم المنتخب، وينحصر دور الإمام في أن يوجههم بحيث يركعوا مع بعض ويسجدوا معا ويقوموا ويتشهدوا ويسلموا معا. وفي الواقع أن دور المصلين في الصلاة التقليدية أكثر فائدة من دور الإمام لوجود فاصل يستمعون فيه إلى قراءة الإمام للقرآن فيستمعون ويفكرون حينما يكون الإمام مشغولا بتذكير نفسه بالآيات حتى لا ينسى منها شيئا فيخجل أمام المصلين. ولو نلاحظ مسألة الجهر بالقراءة بأنها واجبة في غير ساعات العمل الرسمية حينما يفرغ الناس من عناء النشاط اليومي فيكونون أكثر استعداد ا للتفكر والتدبر واستلهام العلم والنور من ربهم سبحانه. ولكنها خافتة في صلاتي الظهر والعصر اللتين تتخللان ساعات العمل لأنهم فعلا غير مستعدين للتفكر في آيات القرآن وهم يئنون من عناء الجهد اليومي، وحتى الصوت العالي يمكن أن يؤذيهم. كل ذلك مرعية في ترتيب هذه الصلوات.
والصلوات بأصولها وكما قلنا، لا تتعدى ركعتين أساسيتين تمثلان ساعات النشاط موزعة في خمس مجموعات يرتاح المرء قليلا بعد كل ساعتين. ثم ركعة أو ركعتين إضافيتين تمثلان ساعات النشاط الرياضي أو الاستجمامي اليومي. وفي كل مرة يوقِّع المصلون تحت صلاتهم بواسطة التشهد بأنهم مسلمون يؤمنون بنبوة عبد الله محمد ويدعون ربهم أن يهديهم ليقرؤوا فهم الرسول للكتاب الذي أنزله الله تعالى إليهم جميعا عن طريقه عليه سلام الله. هكذا يتفاعل المسلمون مع عباداتهم فلا يشعرون بأن العبادة زائدة على حياتهم اليومية بل هي تمثل حياتهم وتساعدهم على المزيد من الإنتاج والنشاط .
الخروج من الصلاة بالسلام
كم هو جميل أن نكبر قبل صلاتنا ونكبر في نهاية صلاتنا وكم هو جميل ألا ننسى أنفسنا وحاجتنا إلى السلام فندعو لأنفسنا ونعد إخواننا وأخواتنا بألا يصيبهم أذى منا. وقبل بيان السلام فإني أوضح مسألة السلام على الملائكة الواردة لدى كثير من المسلمين. إن عمل الملائكة يقتضي إحاطتهم بالخوف لأنهم يحملون أمر الله تعالى لإدارة شؤون الخلق وأبسط خطأ أو إهمال احتمالي منهم يضعف كيان الخلق ويؤثر في البنيان الاجتماعي. ولذلك يقول سبحانه في سورة الرعد: وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاء وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ ﴿13﴾. ويقول في سورة الإسراء: قُل لَّوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلآئِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاء مَلَكًا رَّسُولاً ﴿95﴾. فالملائكة يسبحون خوفا من الله تعالى وتسبيحهم هو تجاوبهم مع أمر الله تعالى ويمكننا التعرف على كيفية ذلك في التعمق بتفسير سورة الرعد بإذن العزيز العليم سبحانه. كما يقول سبحانه في سورة سبإ: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ ولا فِي الأرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ ﴿22﴾ ولا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إلاّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ﴿23﴾.وهؤلاء هم الملائكة الذين يحملون أمر الله فينفذونه وهم في أشد أنواع الخوف بحيث أنهم لا يشعرون ماذا يفعلون من شدة الفزع.
إنهم في الواقع مثل أسلاك الكهرباء التي تنقل الطاقة دون أن تكون قادرة على الامتناع منها مع فارق واحد هو أن السلك محض جماد والملائكة بحكم عملهم المعقد ليسوا جمادات ولكنهم موجودات طاقية تفهم وتشعر بطريقتها الخاصة بها. كما أن الملائكة تحمل نفوسا خاصة بها لتحس بالخوف وإلا كانت مثل الشمس والقمر تطيع ربها ولا تخاف خوفا فعليا. إنهم يشعرون بأنهم نفذوا أمرا حقا صحيحا وهو أمر الله تعالى ولكن شعورهم بأنه حق يدل على أنهم من ذوي الأنفس الطاقية التي تشعر وتدرك. وجملة فزع عن قلوبهم تعني أذهب الله الفزع عن قلوبهم، وهي غير حاصلة إلا إذا شاء الله تعالى بعد أن تنتهي مهمتهم مثلا. أما كيفية ذلك فسأشرحه في التفسير إن شاء الله تعالى والمقصود هو بيان التجاوب مع أمر الله تعالى بحيث لا يملكون أية فرصة لأي تدخل شخصي ولا يملكون أي رأي مع أنهم يعقلون ويشعرون، لكن هيمنة الجبار مسيطرة على كل كيانهم فلا رأي لهم أبدا ولا يمكن أن يُسيِّروا أمر إلا كما أراده الله تعالى طابق النعل بالنعل.
وخلاصة ما نفهمه من الآيات الثلاث أن الملائكة لا تعيش مطمئنة بل تعيش في الخوف. ثم ما معنى تقديم الإنسان الضعيف سلامه للملكِ القوي الذي يمكنه أن يدمرك وأرضك وكل من فيه إنْ أمَره ربُّه به؟ ونحن لا يمكننا أن نضر الملائكة أبدا فقولنا: السلام على الملائكة هجو جاهل يعيب الإتيان به ويوصى بترك ذلك لنكون من ذوي الألباب. ثم إن الملكين المعروفين بالرقيب والعتيد ليسا على جانبي الكتفين كما يتراءى للناس. إنهما موجودان مشعان ليس لهما ارتباط بكتف الانسان بل يتفاعلان مع النفس. إنهما يصوران تفاعل النفس مع الفعل ولا يصوران الفعل في الواقع والذي يقدم صورة العمل هو العضو نفسه وليس الملَك يوم القيامة. هكذا تشهد الأعضاء على أعمال الإنسان. والأعضاء الفعلية ميتة في الواقع ولكنها سوف تكون ممثلة بطريقة خاصة نعرفهامن سورة ق بإذن الله تعالى، والسر في كونهما ملَكين هو أن الملك باعتبار أنه مصنوع من الطاقة فهو عاجز عن أن يفعل شيئا ضد غيره إلا إذا رافقه ملَك آخر قادر على استلام الالكترونات الإشعاعية منه. إنها مثل الكهرباء تحتاج إلى حقل لتحريك الطاقة فيه. فالرقيب هو الذي يقوم بالعمل في الواقع والعتيد هو الذي يخزن نتائج عمل الرقيب كما أنه يسبب تحريك إشعاعاته ليصور ويكتب ويتفاعل مع النفس التي هو مسؤول عنها. وأنا أستغرب من أن نقوم بما قام به جدودنا لجهلهم ونحن في عصر العلم. وكلما أذهب إلى المسجد أتألم من تكرار أخينا الإمام دعوته للناس أن يسدوا الخلل والفرج بينهم ثم يقول بلغة الأردو الشبيهة بالفارسية التي أعرفها، ما يعني أن لا تتركوا المجال للشياطين ليتخلل بينكم. هذا الأخ لا زال يجهل بأن الشيطان موجود طاقي أيضا ولا يأخذ حيزا من المكان. إنه محتاج إلى المكان ليستقر فيه ولكنه لا يشغل المكان ولذلك لا نشعر بهم وهم والجن موجودون معنا ويتحركون بيننا ولا نشعر بهم.
وقرأت في أحد الكتب الفقهية القديمة للمحقق الحلي رحمه الله تعالى أنه يفتي بأن يتوجه الإمام بصفحة وجهه يمينا للخروج من الصلاة ويسلم على المؤمنين بقوله السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ويقوم بنفس الحركة باتجاه اليسار لو كان هناك مأمومون في يساره وهكذا يفعل المصلون. هذا كلام معقول وصحيح وهو شيعي ولكن الشيعة لا يتبعونه لأنهم أيضا يجهلون ما قاله المحقق قبل أكثر من سبعة قرون. ويقول المحقق بأن الذي يصلي لوحده يومئ بطرف عينه للمؤمنين فيسلم عليهم. كل ذلك صحيح فنحن يجب أن نسلم على أنفسنا وليس على الملائكة والجن والموجودات التي ليس لدينا معها تجاوب واضح ولا يمكن لنا أن نؤثر فيهم. أما جبريل فإن كل من ذكر اسمه ختمه بجملة عليه السلام. ولا أدري أي سلا م نقدمه نحن لذلك الملك العظيم الذي يدير النظام الشمسي المهيب احتمالا؟! وللعلم فهو أيضا عاجز عن إنجاز أي شيء دون مساعدة ميكال الذي يمثل البطارية لإلكتروناته أو ما يضاهيها والعلم عند الله تعالى. أكثر التصرفات الخاطئة انتقلت إلينا من المسيحيين وهم بدورهم أخذوها من الشياطين. ولعلنا نحن أيضا استقيناها مباشرة من هذه الموجودات الجنية الشريرة التي تكرهنا جدا وتعادينا ونحن نكرههم ونلعنهم لو كنا مؤمنين عاقلين.
خاتمة
هناك مسائل كثيرة تابعة للصلاة التقليدية ونتحاشى ذكرها في هذا المختصر خوفا من الإطالة وسوف نشرحها جميعا خلا ل التفسير بإذن العلي القدير. بقي أن نعلم بأن هذه الصلاة تمثل التدريب العملي الواجب لكل مسلم ليجاري فيها بقية الأديان التي سبقتنا في الوقوف أمام ربها خاضعة خاشعة بأمر الله تعالى نفسه وبتعليم من أنبيائه الكرام. فتركهُا خروج عن أمر الله تعالى ويستوجب العقاب الأخروي دون شك ولكن الإتيان بها لو كان بالوجه والنية المطلوبة فستؤتي ثمارها بإذن الله تعالى دنيويا. وأهم فوائدها أن الإنسان يتعلم من خلالها البقاء على الصلاة إلى الله تعالى طيلة الوقت. وسوف نتحدث في المستقبل عن الصلاة القلبية التي يجب البقاء عليها وهي الصلاة التي تُدخلنا جنات النعيم بإذن الرحمن عز اسمه. هناك نعرف المعنى الواقعي للصلاة بإذن الله تعالى. ولا يسعني إلا أن أحيي من يقرأ هذا المختصر فيصحح أخطائي ويُعلمني بذلك، فنحن جميعا فقراء نحتاج إلى بعضنا البعض. وعلى هذا الأساس فإني أسمح لنفسي أن أطلب من الذين يتولون تشييد وإدارة المساجد بعد أن أشكرهم كأخ مسلم لهم، أطلب منهم ألا يبالغوا في صلاة الجماعة ولا يسعوا لجني أية مصلحة مالية أو شخصية من عملهم ليبقى العمل مشكورا عند ربنا ولا يتحول عملهم الإيجابي إلى مقمعة من حديد ضدهم يوم الفصل. ليس المسجد مكانا للدعاية التجارية وليس مكانا لاستثماراتنا المالية ولا لمكاسبنا السياسية البحتة. ذروا هذا الخيط الرفيع يبقى بيننا وبين ربنا فلا تخلطوا همومكم القومية والمذهبية التي هي سياسية فعلا مع عبادتكم للواحد القهار جل جلاله. كفانا ما يصيبنا من خزي وآلام وموت ودمار كل يوم في كل مجال سياسي واجتماعي. لقد أصبحنا فريسة سهلة لليهود والغربيين وقريبا سوف يتحكم فينا الصينيون. إن القرآن كتاب علم وفضائل ولا يمكن أن يفيدنا مالم نتمتع بالعلم والفكر الصحيح ونتخلص من المواريث الذهنية العالقة. لقد أضحت صلواتنا لربنا خليطا بدعاياتنا العقائدية والمذهبية البعيدة عن مفاهيم القرآن الكريم.وكأننا نريد أن نصحح القرآن ولا نريد أن نتعلم من القرآن.
انتهى المفهوم
أحمد المُهري
14/1/2017
كتبت الأصل في 31/7/2007