تصحيح اخطاءنا التراثية _ 16 – نفي الشفاعة 2 :
تصحيح اخطاءنا التراثية _ 16 – الشفاعة 2 :
عودة إجمالية إلى الآيات السبعة
من القسم الثالث وهي آيات شفاعة الوسطاء يوم الحساب
إذا نظر المرء وفكر طويلا في أعماق هذه الآيات السبعة من المجموعة الثالثة التي يستند إليها بعض المفسرين الكرام لإثبات الشفاعة المزعومة باعتبار أن بعضها تنفي الشفاعة عن الظالمين، فيظن الذين يتشبثون بكل حشيش لإثبات صحة الأحاديث التي أملاها عليهم أصحاب الأهواء، أنها لا تنفي الشفاعة عن المؤمنين. إذن هناك شفاعة خاصة بالمؤمنين وقد حرم الله غير المؤمنين منها. بالطبع فإن هذا الأمر حين ثبوته تنقيص من شأن كتاب الله الذي شاء الله تعالى له أن يكون موضحا للإيجابيات وليس مكتفيا بذكر السلبيات. ولكن المرء يحتار لهذا الخضوع الأحمق لغير الله تعالى.
أخي الكريم وأختي الكريمة: إن كنتم مؤمنين صالحين مستحقين للجنة فادخلوا الجنة واكتفوا بما يمنُّه عليكم ربكم الكريم الرحيم وعيشوا إلى الأبد تحت رحمته الواسعة التي لا ذل فيها ولا خضوع لمخلوق. إن كل منن الله تعالى مقبولة ومطلوبة لقلب العاقل، وأما منن الناس باعثة للاشمئزاز والأسى لكل ذي لب. إنكم بعد فترة قصيرة سوف تشعرون بأن الفرق بينكم وبين أبيكم إبراهيم ليس بذلك القدر الكبير، فلو كنتم قد دخلتم الجنة بشفاعته أو بشفاعة أولاده، فسوف تشعرون بالذل و الخضوع له ولغيره إلى الأبد. سوف يلازمكم الشعور القاتل بأنكم لم تكونوا مستحقين لتلك النعمة الكبرى وإنما أدخلوكم فيها إكراما لذلك الإنسان الذي هو في النهاية عبد مثلكم.
إن ذلك مؤلم حقا، كما أنه مبعث للكبرياء في قلب من يتشفع لكم وهو مما يكرهه لكم ربكم. إن المقصود من كل هذه العمليات المعقدة الطويلة الأمد أن يعيد الله تعالى كل الخلق إلى منطق الحق والصواب وإلى جادة العدل والصدق، وأن يميز بين من يستحق إكرام الكريم العظيم ومن لا يستحق. ليس المقصود تثبيت الذل والخضوع لغير الله تعالى البتة. إن الله تعالى يريد أن يثبت للعالمين كرمه وفضله وإحسانه التي يؤتيها من يشاء من عباده. وإنه جل أن يشاء غير الحق والعدل والصواب. ذلك لن يتحصل إلا إذا سلب الله الاختيار والإرادة والقدرة من كل مخلوق غيره سبحانه الذي هو بحق عادل وكريم وغني ومالك يهب من يشاء ويمنع ممن يشاء. لا أحد يستحق هذا الإكرام غير وجهه سبحانه.
إن كل شفاعة من نبي أو إنسان طيب أو جن أو ملك على أي إنسان أو جن لهو مجاراة لفضل الله تعالى وكرمه. كان رسول الله وهو قدوة لنا يكره أن يسأل أحدا شيئا وعلّم أصحابه ذلك حتى كانوا ينزلون من مركبهم لأخذ شيء من الأرض ويأبون أن يطلبوا ذلك من إخوانهم غير الراكبين. يُقال بأن الإمام جعفر الصادق قال: إني أكره السؤال بأين الطريق. فكيف تحبون أن تسألوا البشر أن يتشفعوا لكم عند ربكم؟ إنكم لا تستحقون صداقة الرسول وأبنائه البررة الكارهين للخضوع لغير الله تعالى، وسوف يكفرون بكم وبأفعالكم فافتحوا عيونكم وتبصروا يرحمكم الله وإياي. اطمئنوا بأن القرآن أحق من علمائكم الذين لا يعلمون إلا قليلا وقد قرر بأنه يوم لا تملك فيه نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله فلا تتمسكوا بالأوتار العنكبوتية تاركين حبل الله تعالى وراء ظهوركم.
هذه الآيات السبعة جامعة مانعة تقطع كل السبل. ولعل الإخوة المفسرين لم يسلطوا الضوء عليها كلها جملة واحدة ليعرفوا ذلك. إنها تمنع:
- أن يكون هناك شفعاء فيشفعوا لأحد في دخول الجنة دون أن يستحق هو ذلك فيدخل من دونهم النار ليجازوا بأكثر مما يستحقون! وكلهم في الواقع ظالمون. الآيات التالية من سورة الأعراف توضح ذلك. إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54) ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57) وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58) لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59).
- أن يكون هناك شفعاء يستوون مع الله تعالى في السلطة القضائية ولكنهم يرفضون العدالة ويحكمون بالخير لمريديهم دون استحقاق. هناك يميل الشفعاء من البشر إلى مريديهم دون وجه حق وخلافا لإرادة السماء، ولو كان الله يريد إدخالهم الجنة لأدخلهم دون الحاجة إلى شفعاء. الآيات التالية من سورة الشعراء توضح لكم ذلك: رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ﴿83﴾ وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ ﴿84﴾ وَاجْعَلْنِي مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ ﴿85﴾وَاغْفِرْ لأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ ﴿86﴾ وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ ﴿87﴾ يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ ﴿88﴾ إِلاّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴿89﴾ وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴿90﴾ وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ ﴿91﴾ وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ ﴿92﴾ مِن دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنصُرُونَكُمْ أَوْ يَنتَصِرُونَ ﴿93﴾ فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ ﴿94﴾ وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ ﴿95﴾ قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ ﴿96﴾ تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ﴿97﴾ إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴿98﴾ وَمَا أَضَلَّنَا إِلاّ الْمُجْرِمُونَ ﴿99﴾ فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ ﴿100﴾ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ ﴿101﴾ فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴿102﴾ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ ﴿103﴾ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴿104﴾.
- أن يكون التمتع بالشفاعة ممكنة يوم قضاء الديان. الحساب دقيق للكل وهو على الكافرين غير يسير في دار الحق والصدق والعدل، أمام الملك الحق جل جلاله. جميع النفسيات تُحشر كما أعدها أصحابها في الدنيا، وكل الكيفيات النفسية تبرز على شكل إيجابيات وسلبيات لا يتأتى لأحد تغييرها بعد الموت إلى الأبد. سوف يُضاف كرم الجبار للذين آمنوا به وحده ولم تشمئز قلوبهم حينما يُذكر الله وحده أمامهم ولم ينجذبوا لغير الله إطلاقا. فحب الله والولاء لله وحده هو الذي يُجدي يوم القيامة. اقرأوا سورة المدثر بالكامل وفكروا فيها لتعلموا ذلك بإذن الله تعالى.
- أن يخفى على الله شيء يوم الحساب فيحتاج سبحانه إلى الاستماع إلى شهادات وشفاعات البشر ليوضحوا له ما خفي عليه من أحوال المتهمين. سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا. كلا، بل سوف يجزي الله كل نفس ما كسبت، فادعوه وحده مخلصين له الدين. اقرأ من سورة غافر: فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ﴿14﴾ رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ ﴿15﴾ يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ﴿16﴾ الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴿17﴾ وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الأزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ ﴿18﴾ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ ﴿19﴾ وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴿20﴾
- أن يكون هناك مشاركة مع الله تعالى في مالكيته لعبيده كما يتظننه الذين يطلبون ممن اتخذوا شركاء في مالكية الله لهم أن يشفعوا لهم عند الشريك الأكبر الله تعالى! والعياذ بالله من هذا الشرك ومن هذا الجهل وهذا الضلال! كلا، سيعرفون ويرون الحق واضحا جليا يوم يقفون مع أولئك الشركاء خاضعين أمام محكمةٍ لا يقضي فيها أحد غير الله تعالى وحده. سوف يظهر لهم ما خفي عنهم مما وراء الطبيعة، وقد كانوا قادرين على التعرف على ذلك لو قرأوا كتاب الله تعالى وفكروا في خلق السماوات والأرض ولكنهم لم يفعلوا. اقرأ في سورة الروم : وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ﴿6﴾ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ ﴿7﴾ أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ بِلِقَاء رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ ﴿8﴾ أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴿9﴾ ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا السُّوأَى أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِؤُون ﴿10﴾ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴿11﴾ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ ﴿12﴾ وَلَمْ يَكُن لَّهُم مِّن شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاء وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ ﴿13﴾ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ ﴿14﴾ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ ﴿15﴾ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاء الآخِرَةِ فَأُوْلَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ ﴿16﴾
- أن يروا أحدا من الذين أشركوهم في المالكية حينما يُحشرون أمام الله بعد الموت وحتى يُحشروا من جديد للقضاء الفاصل يوم الحساب. سوف يخيب الذين ظنوا بأنهم سوف يرون شخصا آخر غير الله ليعلموا بأنهم كانوا خاطئين. لقد خسر الذين ظنوا بأنهم يرون علي بن أبي طالب مثلا كما يدعيه أحد الشعراء الذين لا يتبعهم إلا الغاوون. لقد اتهموا الإمام الصالح ظلما بأنه صلوات الله عليه قال: يا حار همدان من يمت يرني. والعياذ بالله. إليكم من سورة الأنعام: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ ﴿93﴾ وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ ﴿94﴾.
- أن يتضرر الناس أو ينتفعوا من أي شخص غير الله تعالى، الملكِ الحق العدلِ الذي لا يصدر منه غير اللطف والكرم والخير الكثير ولكن عدالته سبحانه تمنعه من أن يشمل خيره ونعمته الذين كفروا به وعصوه واتبعوا الشيطان وهم يمرون فترة اختبارهم في حياتهم الدنيا. نستفيد المزيد من الفهم من سورة يونس: إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ ﴿7﴾ أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النُّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ﴿8﴾ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ﴿9﴾ دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿10﴾ وَلَوْ يُعَجِّلُ اللّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُم بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴿11﴾
و هكذا فإن هذه الآيات مانعة لكل معاني وفوائد الشفاعة بين الله وعبيده يوم القضاء الحق كما أنها جامعة لكل المعاني الإيجابية التي تنفع الناس وتنجيهم من عذاب الخزي يوم القيامة. ولمعرفة ذلك أدعو القارئ الكريم أن يعود مرة أخرى إلى كل الآيات التي ذكرتها للقراءة بقصد التعرف على كيفية القضاء والحساب يوم القيامة. أتمنى لكل الإخوة والأخوات مزيدا من الصدق والخلوص لله تعالى حتى يفتح الله عليهم أبواب العلم ويريهم معنى القضاء المحتوم المقبل دون شك ويوفقهم وإياي لفهم الحقائق التي أخفتها عنا أياد غير أمينة على مر القرون الماضية، أو أهملها أناس لم يعطوا القرآن حقه من التبصر والإمعان. والله يوفق الجميع لكل خير ويزيدنا علما.
رابعا: نفي حق الناس في طلب الشفاعة إلى الله تعالى
وتأكيدا لما ذكرناه في الفصل السابق فسوف نقرأ معا في هذا الفصل آيات تنفي حق التشفع للناس كاملة، فليس لأحد الحق بأن يوسط شفيعا بينه وبين الله تعالى. ذلك لأن نسبة الإنسان إلى الله تعالى هي نسبة العبودية الأبدية إلى مالكه وخالقه، وليس بين مخلوق ومخلوق نسبة مشابهة ليطلب المحتاج وساطة محتاج آخر بينه وبين ربه الغني المتعالي. إن كل إنسان وكل جني وكل ملَك لوحده عبد لله تعالى، وليس هناك ملَك عبدا لملَك آخر؛ ولا إنسان عبدا لإنسان أو لملَك؛ ولا جني عبدا لجن أو لإنس أو ملَك وهكذا دواليك. وبما أن النسبة شخصية متساوية بين الخلق جميعا فلا معنى لاتخاذ أي مخلوق مخلوقا آخر للتوسط بينه وبين خالقه العظيم الذي لا يمكن أن يغفل عنه ولا عن غيره. ووجه التساوي هو أنهم جميعا مخلوقون لله تعالى وحده وليسوا مخلوقين لبعضهم البعض وما نراه من وساطة الإيجاد أو الهداية فإن القائمين بها هم أنفسهم مخلوقون لله أيضا.
إن الأدوار التي يمثلونها ضئيلة جدا بالنسبة للخلق الذي انفرد الله تعالى بها، على أنهم في لعب أدوارهم غير قائمين على أنفسهم بل متكئون على رب العالمين عز اسمه فيفعلون ما يفعلون بأمره وإذنه سبحانه. وأما المنطق الهرمي الذي يؤمن به بعض المسيحيين من أن الله تعالى خلق المسيح فقام هو بخلق السماوات والأرض نيابة عن الله تعالى فهو منطق وهن زائف لا دليل عليه وهو مرفوض من قبل المسلمين عامة. لو كان الأمر كذلك، لزم أن يكون للمسيح دور في إمساك السماوات والأرض أو إمساك الناس. ولو أمسك الناس فإنه إما أن يمسكهم بطاقته الشخصية أو بطاقة الله تعالى فلو أمسكهم بطاقة الله لكان ملَكا وليس بشرا فليس له دور تلقائي ليستحق العبادة. ولو أمسكهم بطاقته الشخصية لانجذب الناس نحو مصدرين من الطاقة فسوف يموتون جميعا وينهارون. ولو انفرد بإمساكهم دون الله تعالى فقد الله هيمنته وانهاروا أيضا، لأن المسيح عاش في الأرض فكان لزاما أن ينهمر الوجود البشري وينهار أو أن يسيروا جميعا في صف واحد أمام المسيح دون الالتفات يمنة ويسرة وفوقا وتحتا. ثم إن المسيح قد قُتل على حد زعمهم فكيف كان ممسكا بحياة الناس وهو أضعف من أن يقاوم إرادة عبد من عبيده. وكيف كان فكان محتوما أن يموت الناس جميعا معه لفقدانهم الطاقة أو أن يتحول الناس جميعا إلى آلهة. والعياذ بالله من سخافتهم وحمقهم!!
ولو لم يكن الناس متساوين في نسبتهم إلى الله تعالى لكان الاختبار ظلما لعدم تكافؤ الفرص. كيف يمكن أن يخلق الله إنسانين في دار واحدة وزمان واحد ليختبرهما معا معطيا لأحد منهما ارتباطا أوثق بربه من الآخر؟ هذا ظلم وقبيح على ذي الجلال والإكرام. سوف يفقد الله تعالى حجته البالغة حينما يقف أبو جهل يوم القيامة ليقول لربه: لقد أعطيتني إنسانية أقل من محمد فكيف اختبرتني معه؟ ذلك لأن الإنسانية هو خيط الخلافة لله تعالى الذي وهب أبانا آدم من روحه ليصير إنسانا قادرا على ممارسة الإرادة في الأرض ثم أورثنا جميعا ذلك. فنحن بالفعل مع أنبيائنا بشر بالقدر الذي ورثناه من شخص واحد. لقد كان آباء الرسول الذين أورثوه الإنسانية أناسا عاديين ولعل بعضهم كانوا مشركين بالله تعالى وهو ظاهر من أسمائهم وعلاقات من بقي منهم مع بقية المشركين حين ظهور الدعوة. إن هناك جدلا بين الشيعة والسنة حول إسلام أبي طالب وتخليه عن الشرك، وليس هناك أي دليل على أن عبدالله أو عبد المطلب كانا موحدين غير بقية أفراد الأسرة. هناك دلائل على إيمان أبي طالب لدى بعض المسلمين. بالطبع فيما عدا محمد نفسه الذي فكر في ربه قبل الدعوة واستحق هداية الله تعالى كما تراءى لأبيه إبراهيم عليهما السلام.
ولو ننظر إلى إنسان ونقارن بينه وبين البقرة مثلا فإننا نجزم بأن البقرة لا يمكن أن يفكر مهما تطورت وتقدمت ولكن الناس جميعا يفكرون فهم فعلا متساوون في النسبة إلى الله. وأما الشدة والضعف فليس لنقص في الارتباط بل لنقص في التربية والسعي للوصول إلى الحقيقة. فلو كان الارتباط مختلفا لجزمنا أن ارتباط المسلمين مع الله أكثر من ارتباط أسر المشركين والحال أننا نرى في كل يوم مشركا من سلالة المشركين يعود إلى الله ليصير أكثر تمسكا بربه من المسلمين. ذلك لأن العلاقة بين أفرادنا جميعا وبين الله واحدة ونحن الذين نتمسك بها أو نتهاون في التمتع بها كاملة.
وعودة إلى رسول الله فقد كان أقل علما من بعض الناس القادرين على القراءة والكتابة، فلو كانت علاقته بالله أكبر منهم لكان لزاما أن يتفوق عليهم في كل شيء تبعا لشدة علم المبدأ والمصدر. ولذلك فإن الله تعالى يرفض أي توسيط بين الخلق ونفسه لعدم إمكانية ذلك علميا. ومعنى النفي أننا في الدنيا وباعتبار الاختيار لغرض الاختبار فيمكننا أن ندعي التوسيط كما يمكننا أن نرفض الله أو ندعي الألوهية والعياذ بالله، ولكننا في الآخرة ممنوعون تماما من التفوه بالباطل.
إن كلما نملكه حقا هو أن نتشفع بالله نفسه إلى نفسه كما فعل الإمام علي بن أبي طالب في دعائه المعروف: اللهم إني أستشفع بك إلى نفسك أو قوله مخاطبا ربه: أسألك برحمتك.. وبقوتك ..وبنور وجهك… لا يوسط الإمام أحدا بينه وبين الله لأن التوسيط محرم تشريعا وممنوع تكوينا. وآيات هذه المجموعة هي:
الآية الأولى: الأنعام: وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴿51﴾. هذه الآية الكريمة تعلّم رسول الله أن ينذر بالقرآن كل من يخاف من الحشر وهو يشمل الذين يؤمنون بالحشر مثله ومثل بعض صحابته أو الذين يشكون في الحشر حيث يتساوى لديهم الحشر وعدم الحشر وبما أن طرفي الشك متساويان أو بالتعبير الحديث: إن احتمال الحشر أمام الله هو 50% فهم يخافون بالطبع أيضا. ثم يوضح الله تعالى الحشر الذي قاله ليعلم الخائفون مدى جدية الحشر (ولو بنحو الاحتمال) فيقول سبحانه: {ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع} والجملة حالية برأيي. وقد ساوى الله تعالى بين الولاية لغير الله والشفاعة في هذه الآية. إنهما كما ذكرت سابقا تمثلان معنى واحدا فلا يمكن التوسيط بين العبد وربه إلا بمولى آخر وقد عرفنا أن لا مولى للمؤمنين غير الله تعالى كما قال عز وجل في سورة محمد: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ (11).
وكون الله وليا في آية الأنعام مساوق لكونه سبحانه مولى. والنفي هنا نفي مطلق دون تقييد للشفاعة في قضاء الله يوم الحساب مع الاستدلال لعدم وجودها بنفي ولاية غير الله تعالى. هذا النفي المطلق لا تنفي الآيات التي تقيد الشفاعة بمن رضي الله له، إذ أن هذه الآية تنفي أي تدخل من أي موجود في قضاء الله تعالى وتلك الآيات تثبت وساطة الملائكة بين الله وخلقه لتنفيذ الأوامر الملكوتية وليس للتوسط العاطفي بينه سبحانه وبين الذين ظلموا أنفسهم.
الآية الثانية: الأنعام أيضا: وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللّهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُواْ بِمَا كَسَبُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ (70) قُلْ أَنَدْعُو مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَىَ وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71) وَأَنْ أَقِيمُواْ الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِيَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّوَرِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73). الآية 70 مشابهة للآية السابقة من حيث النفي المطلق للشفاعة إلا أنها تضيف إليها الفدية. ومن الواضح أن الملكية لغير الله تعالى معدومة تماما يوم القيامة. يترك الإنسان كل ما تملّكه في الدنيا وراء ظهره فيخلفه غيره في التملك المؤقت أيضا. هناك يصبح المرء مرتهنا بما كسبه قبل موته.
هنالك تبقى النفس الإنسانية بعيدة عن كل نفس وعن كل شيء عدا الله تعالى. هناك لا تفيدها إلا ولاية الله تعالى وشفاعة الله تعالى ولا يمكن تفادي ما خسرته النفس بأية فدية. ولذلك نرى الطيبين من حكمائنا مثل الإمام علي عليه السلام يخاطب ربه: اللهم إني أستشفع بك إلى نفسك. ولا يقول الإمام: أستشفع بنبيك إلى نفسك! لا قوة لأحد بعد الموت.
هناك تستوي الشفاعة بغير الله والولاية لغير الله والتفادي بالفدية. ولعل ذلك لكونها جميعا مرفوضة وغير ممكنة. فلا العدل ممكن ولا يملك أحد شيئا ليعدل به ولا الولاية ممكنة ولا يملك شخص ولاية ليستند إليها الظالم لنفسه ولا الشفاعة ممكنة ولا يملك أحد الشفاعة بين الله وخلقه ليتمسك بها الذين أسرفوا على أنفسهم، فلم يبق لديهم إلا الخيبة والخذلان وهما مروّعان. وأما الآيات التالية لها فإنها توضح عدم جدوى التشفع بغير الله تعالى، لأنهم لا يضرون ولا ينفعون. ثم تعلّم الآياتُ الناسَ أن يتوجهوا إلى ربهم فيطيعوه ويخافوه لأنه هو الذي سوف يُحشرون إليه سبحانه لا غيره. وتوضح الآية الأخيرة حق الله تعالى المالك لكل الخلق في أن يمنع من التدخل في شؤونه الربوبية جل جلاله.
وجدير بالقول بأن الذين يتشبثون بغير الله تعالى يرون أنهم لا يضرونهم ولا ينفعونهم ولا سيما مسلمو عصرنا هذا الذين يلتمسون الشفاعة من الرسول أو من الأئمة والصحابة وبعض أهل البيت، وقد رأوا وعلموا أنهم جميعا قد ماتوا وفقدوا اختيارهم وقوتهم. وقد أمر الله تعالى نبيه المختار أن يأمر صحابته في حياته الشريفة في سورة الجن: قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَدًا (21). فكيف به بعد أن يفقد الإرادة والحياة ويموت كما يموت غيره. الزمر: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31)! وحسبنا هاتان الآيتان لإثبات عجز النبي عن الوساطة. إنه عليه السلام خصم في المحكمة الكبرى بنص القرآن الكريم، فكيف يتوسط الخصم لدى القاضي؟! معاذ الله من الجهل والضلال.
وبالمناسبة فإن الجملة الكريمة: وأبسلوا بما كسبوا؛ وكذلك: أن تُبسل نفس بما كسبت؛ تعنيان بأن الإنسان مرهون بما كسب فقط وهذا معنى الإبسال برأيي القاصر. قال تعالى في سورة المدثر: كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38). وقال تعالى في سورة الطور: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21).
الآية الثالثة: سورة سبأ: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ ﴿22﴾ وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ﴿23﴾. الآية 22 تستنكر دعوة غير الله تعالى باعتبار أنهم لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، إذ المالك الوحيد هو الله جل جلاله، وأما مالكية الناس فهي بالتمليك المؤقت بغية الاختبار وليست مالكية حقيقية باقية. وبما أنهم لا يملكون بحق شيئا من السماوات ولا من الأرض فما لهم فيهما أية مشاركة مع المالك الفرد العزيز سبحانه وتعالى كما لا يحتاج الله تعالى إليهم ليظهروه ويسندوه. ذلك بأن الشريك هو الذي يسند شريكه ولا يمكن تصور هذه النسبة بين الله تعالى وأي شخص آخر، فتوجيه الدعاء إلى غير الله تعالى خطأ وإثم وقول زور.
وأما الآية التالية فهي لاستثناء الشفاعة التي يقوم بها الملائكة لا غيرهم لحصره سبحانه بكلمة (عنده) أي عند الله وهو نوع تعبير خاص بفاقدي الإرادة وهم الملائكة المكرمون دائما وبقية المدركين بعد الموت وليس في الحياة الدنيا. ويوضح سبحانه شدة وقع الأمر على قلوب الملائكة حينما يصدر مباشرة من الله العلي الكبير فيتوجه إليهم باعتبار أنه كتلة طاقوية نفاذة وكبيرة، والعلم عند الله تعالى.
ومما يؤيد زعمي بأنهم هم الملائكة وليسوا الرسل الإنسيين مثلا هو جوابهم بعد أن ينتهي فزع استلام الحزمة الطاقوية الكبرى بأنه القول الحق والله هو العلي الكبير. وذلك بعكس رسولنا مثلا الذي كان في شك منه حين استلامه من الروح القدس مع قلة تأثيره الإشعاعي بعد توسط الملك الأمين. ويؤكد الله تعالى له كثيرا ألا يكون في شك فهو كلام الله تعالى سعيا منه سبحانه لإخراج الريب من قلب رسوله. ولعل السر في بيان كيفية نزول الأمر من العلي الكبير إلى الملَك المقرب هو التذكير بانعدام الخيار تماما قبالة رب العزة وهو الحق فعلا. هذه الآية تجاري بعض الشيء قوله تعالى في القصص: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68). فالكل أذلاء أمام الله تعالى ولنعلم أن شفاعة الملائكة ليست شفاعة اختيارية تفيدنا حتى نتقرب إليهم جلبا لشفاعتهم كما يفعله المسيحيون. إن شفاعتهم ووساطتهم مجرد وظيفة لمن يعمل تحت سلطة مولاه وهو منقاد تماما لأمره العزيز. وهذه الآية من القصص وما بعدها إلى الآية 70 تؤكد انفراد رب العالمين في حكم يوم القيامة وبأنه يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون، إشارة إلى عدم حاجته سبحانه لأية مساعدة في قضائه.
الآية الرابعة: الزمر: اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴿42﴾ أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ شُفَعَاء قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ ﴿43﴾ قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴿44﴾ وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ﴿45﴾. ينسب الله تعالى الوفاة إلى نفسه ولو أنها تتم بواسطة الملائكة الكرام. ذلك لأن الملائكة شفعاء بين الله وعباده للتنفيذ، فعملهم هو عمل الله تعالى. مثلهم مثل يد الإنسان، فلو كتبت بيديك فإنك تقول كتبته ولا يلزم أن تقول كتبته يدي أو كتبته بيدي. ذلك لأن اليد طوع أمرك. والملائكة هم طوع أمر الله تعالى بصدق أكثر بكثير من طوع اليد لصاحبها الإنسان. وقد بدأ الله تعالى ذكر الشفاعة بذكر الذين هم شفعاء في التكوين ليثبت للناس أن الشفاعة في القضاء غير واردة إطلاقا حتى تحتاج إلى تنفيذ. ذلك لأن الشفاعة في القضاء ويُقصد به الالتفاف على إرادة العدالة الإلهية طبعا فهي تعني إشراك الخلق مع الله في السيادة. ولذلك ذكرها هنا حسب ادعاء المشركين بصيغة السؤال بقصد الإنكار، واستدل على عدم جدواها بأن الشفعاء إما أنهم لا يملكون شيئا إن كانوا من الملائكة والأنبياء وغيرهم أو أنهم لا يعقلون إن كانوا أصناما وتماثيل.
ثم يختم سبحانه الموضوع بالقول بأن الشفاعة التي نشاهدها لدى الملائكة فهي مملوكة لله تعالى. وإنما تأتي بها الملائكة بأمر الله تعالى باعتبارهم وسائط ووسائل لامتثال المشيئة لا غير. المُلك جميعا لله تعالى والعودة إليه وحده فلا داعي للتقرب إلى أحد أو إلى شيء طلبا للوساطة. ويضيف الله تعالى استنتاجات خطيرة تتبع التشفع بغير الله الذي يؤدي إلى تعلق قلب المرء بغير ربه الكريم. فالأصنام مرئية أمام عيونهم والرسول إنسان مثلهم يستأنسون به والقبر ملموس ومحسوس بأيديهم وبأعينهم. كل ذلك أسهل للارتباط من مالك السماوات والأرضين الذي لا تناله العيون والأيدي إطلاقا.
ذلك من أوثق فرص الشيطان اللعين الذي يزين للناس تمسكهم بغير الله تعالى قائلا لهم: إن أيديكم لا تصل إلى ملك الكون العظيم، فتشبثوا بمن هو صغير مثلكم واتخذوه سُلّما إلى الجبار العظيم؛ فذلك أكثر سهولة وأصدق لمشاعركم وأحاسيسكم وأعز إلى قلوبكم ونفوسكم الضعيفة. وهم مع الأسف لا يعلمون أن ذلك شرك بالله العظيم وسوف يجرهم شيئا فشيئا للتمايل إلى غير الله تعالى بحيث يظن المرء أنه عاجز عن الوصول إلى خالقه العزيز دون وساطة. وهكذا سوف تشمئز نفسه من الانفراد بذكر الله تعالى ويستبشر بذكر الشركاء الذين يتظنن بأنهم يكفونه ويغنونه عن الله الحق العدل الذي لا يمكن أن يقضي بغير القسط. هذه الحالة دليل على عدم قناعة المرء بالآخرة كما يجب. إن مثل هذا الإنسان باق في تصوراته الدنيوية البائسة وغير مطمئن ولا منتظر لذلك المنقلب الخطير في حياة النفس الإنسانية.
الآية الخامسة: الزخرف: وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴿85﴾ وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلاّ مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴿86﴾ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴿87﴾. لقد توهم بعض المفسرين ومنهم الأستاذ العلامة الطباطبائي رضي الله تعالى عنهم أجمعين بأن هذه الآية تدل على وجود الشفاعة باعتبار الاستثناء. حينئذ وبموجب أقوالهم فسيكون معنى الآية: إن الذين يشهدون بالحق وهم يعلمون من الذين يدعون من دون الله، يملكون الشفاعة! لو صح ذلك لكان مناقضا للآية التي تقول بأن الشفاعة جميعا لله (الزمر:44 المذكورة أعلاه). أضف إلى ذلك أن قولهم هذا دليل على إثبات الملكية لغير الله تعالى في يوم القيامة. والحق أن الملك كله لله دائما ولكنه ولغرض الاختبار خولنا سبحانه أن نملك بعض الشيء في حياتنا الدنيا لتزول الملكية منا تماما حين الموت فيعود إلى الله ليقسمه بين من يرثوننا اختبارا لهم أيضا ولحِين. ولإثبات تمام ملكه في يوم الحساب يقول سبحانه في سورة الحمد: {مالك يوم الدين}. وأما الاستثناء فهي غير متصلة تعني بأن لا جدوى إلا بأن يشهد الناس بالحق ويذعنوا له؛ وهم لم يشهدوا به مع أنهم يعلمون الحق بدليل أنك لو سألتهم عمن خلقهم فسيقولون الله. فلو كان الله خلقهم فهو أقرب إليهم حتى من آبائهم وأمهاتهم فضلا عن الوسائط الأخرى، باعتبار أنهم صنائع الله تعالى، فإلى أين يأفكهم الشيطان ويخدعهم؟ وقد بدأ الله تعالى الحديث عن مالكيته وعلمه بالساعة ورجوع الناس إليه سبحانه وتعالى بالضرورة لا إلى غيره.
ولو فرضنا الاستثناء متصلة كما توهمها الأستاذ العلامة الطباطبائي وعامة مفسري الشيعة والسنة، فسوف يكون العلماء الذين يشهدون بالحق من فئة الذين يدعون من دون الله تعالى أو من فئة الذين يدعونهم من يدعون من دون الله تعالى وكلاهما مضادان مع الشاهدين بالحق. فالاستثناء غير متصل دون شك والذين يشهدون بالحق ليسوا من الذين يدعون من دون الله تعالى. الذين يدعون من دون الله هم فاسقون مشركون أو جاحدون والذين يشهدون بالحق عن علم فهم مؤمنون موحدون.
والعجيب أنهم لم يفكروا في سورة الزخرف كلها وأنها تتحدث عن نفي القرابة مع الله وكذلك نفي أن يكون أحد أقرب إلى الناس من الله نفسه. وقد استشهد الله تعالى في بداية السورة ونهايتها بأن المشركين يشهدون بأن الله خلقهم ولكنهم يتقربون إلى غيره. وقال سبحانه في نفس السورة: الأَخِلاّء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاّ الْمُتَّقِينَ (67) يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70). وكل السورة تشجع الناس على عدم التمسك بغير الله تعالى، وأن الأنبياء مبلغون للرسالة فحسب، وليس لهم دور آخر، وأن المرجو هو الله نفسه وأن المعبود هو الله وحده جل جلاله. والسورة بكاملها تنفي الشفاعة ولا تثبتها ولو جزئيا حسب ادعاء الأستاذ الطباطبائي. ليس لأحد إلا التسليم لله ليفوز بالجنة.
وتصريح عيسى بن مريم في هذه السورة بأن الله ربي وربكم فاعبدوه، أو أمر الله سبحانه محمدا أن يستمسك هو والمؤمنون بالقرآن بأنه ذكر له ولهم، وأن قوم فرعون كانوا يضحكون من آيات الله وليس من موسى، وأن القرآن هو الحق وليس الرسول بل الرسول رسول مبين وغير ذلك؛ كل هذه المحتويات تدل على أن السورة نازلة لإثبات أن كل شيء عائد إلى الله تعالى وأن ليست هناك وساطة ولا شفاعة يمكن التشبث بها بين الله وعبيده. وحتى وساطة الملائكة فهي ليست وساطة مفيدة لأحد ولا يمكن التعويل عليها ولا التمسك بها ولا يُجدي التقرب إلى الملائكة الذين هم شفعاء ووسطاء حقيقيون. إنهم مأمورو التنفيذ لا غير.
وأضاف العلامة أن الملك لله ولكنه يخول عبيده بالتمليك. وهو يوضح عند تفسيره للآية أن الشفعاء هم الملائكة والأنبياء والأولياء. والملائكة ليست لهم القدرة على التملك إطلاقا لأنهم غير مختارين إطلاقا فلا تمليك يصدق عليهم. الأنبياء: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ (26) لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27). فهم لا يأتون بأمر من عندهم لعدم وجود الخيار لديهم وعدم تمكنهم بأن يسبقوا الله بالقول مطلقا. ولكن الإنسان وحده هو الذي يمكنه أن يقول بغير ما يقوله الله باعتبار الاختيار. ونسي الإخوة جميعا بأن الخيار كله مسلوب يوم القيامة إلا من الله تعالى. وللعلامة قول خاطئ آخر وهو أن الشفاعة داخلة في الأسباب المتوسطة وسوف أوضحها في نهاية البحث بإذن الله تعالى.
خامسا: آيات تنفي الشفاعة المعروفة والمنتظَرة يوم القيامة نفيا قاطعا
هذه الآيات تقطع السبيل على كل من يدعي الشفاعة، فليس له لإثبات ذلك إلا أن يرفض القرآن الكريم والعياذ بالله. هذه الآيات النافية تشير فعلا إلى الشفاعة التي يتحدث عنها المسلمون ويُمَنّون بها أنفسهم: يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله. هذه الآيات تنفي الشفاعة التي يدعيها الأستاذ الطباطبائي وسوف أرد على العلامة رحمه الله تعالى في نهاية بيان الآيات الكريمة.
الآيتان الأولى والثانية: البقرة: وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ (48).
وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ (123)
هاتان الآيتان متشابهتان لفظا ومعنى. ولعل السبب في هذا التأكيد المكرر هو أن بني إسرائيل الذين فضلهم الله تعالى على العالمين باختيارهم لتجربة عهد الله عليهم، ظنوا وبوسوسة من إبليس، بأن لهذا الاختيار الرباني تأثير في محاسبتهم يوم القيامة وبأنهم فعلا شعب مميز عن بقية الشعوب وأمة مختارة يحبها الله تعالى دون غيرها. ولا يخفى بأن نسبة هذا النوع اليهودي من الاصطفاء إلى الله تعالى هو نسبة الظلم إلى الساحة المقدسة والعياذ بالله تعالى.
وحقيقة هذا الاصطفاء هي تفضيل مؤقت لسبب مبيت وباعتبارات دنيوية محضة ومعلومة. فبنو إسرائيل كانوا مجموعة من الأذكياء المنحدرين من عدة أنبياء والمتربين في أحضان أناس على غاية الإيمان والإحسان. وبما أن الله تعالى يسعى دائما لاختيار شعوب مميزة نوعا ما لإجراء مزيد من الاختبار عليهم ليكونوا نماذج يطبق عليهم الآخرين، فإنه سبحانه اختار في من اختار، بني إسرائيل لإجراء تجربة صعبة ومعقدة عليهم سماها بالعهد. هذا العهد يتقبله النصارى أيضا. هذا الاختبار لا يعطيهم أي امتياز في يوم القيامة كما أن اختياره سبحانه الأنبياء للنبوة أيضا غير مجد لهم يوم الحساب. اللهم إلا شدة المحاسبة ودقتها بالنسبة لهم جميعا لأنهم انفردوا من دوننا بمشاهدة بعض الآيات السماوية في أجلى وأكمل مظاهرها. وقد أفك الشيطان العرب والمسلمين أيضا بأنهم المصطفون وبأن نبيهم خير الأنبياء وسيدهم وسوف يتوسط لهم أمام الله ليُدخل أكثرهم إن لم يُدخل كلَّهم جنات النعيم ولكن بقية الأنبياء سيكونون مشغولين بأنفسهم عن أتباعهم. حتى محكمة المهداوي في العراق لم تكن كذلك!! فكيف بمحكمة رب العالمين جل جلاله؟
كل هذه الأفكار باطلة ومرفوضة قرآنيا وغير عقلانية، والقرآن الكريم يفندها بالبرهان واحدة واحدة. إن الله تعالى لا يفرق بين أمة وأمة، ولا بين إنسان وإنسان، ولا بين ذكر وأنثى، ولا بين سيد وعبد، ولا بين شيخ وشاب، ولا بين عربي وعجمي، ولا بين أبيض وأسود، ولا بين نبي وغير نبي، ولا بين أهل بيت نبي وأهل بيت غير نبي، ولا بين صحابة رسول الله وأمته ولا بين من انحدر من أصول إسلامية ومن انحدر من غير المسلمين. الكل متساوون أمام الملك الحق العدل وسوف يفصل الله بينهم جميعا يوم القيامة على السواء دون تمييز إطلاقا. وسوف تكون المحاسبة على أساس ما فعلوه بما منحهم الله من نعم بمقدار تأثير تلك الأعمال على نفسياتهم. فإذا أكرم الله أحدا بالنعيم الأخروي فهو محض كرم ورحمة منه سبحانه وحده على أساس استحقاقات المستفيد وحده أيضا، دون أن يتأثر عدل الرحمن بالوساطة والشفاعة والفداء أو بسبق التفضيلات الدنيوية العرقية واللونية والمالية والجنسية وكذلك الدينية الموروثة. إنها جميعا محض صدف بالنسبة لنا وليس لأحد أي يد في إثبات أو سلب أي منها عن نفسه.
والآيتان صريحتان بألا تجزي نفس عن نفس شيئا ومعناها ألا تقضي أي نفس عن نفس ولا تقوم نفس مقام نفس أخرى. وهكذا، فلا يُقبل من نفس شفاعة سواء بالإيجاب أو بالقبول (بالفاعلية أو بالمفعولية). وهذا يعني أن الديان العظيم يرفض كل وساطة وشفاعة حين الحساب كما يرفض طلب ذلك، بل يعتمد سبحانه على علمه وقضائه سبحانه ونعم قضاؤه و بئس للظالمين بدلا عذاب الله. وأما جملة (لا يؤخذ منها عدل) فهي استحالة تفادي الحكم الربوبي بأي شيء، فلا النسب ولا الشرف ولا النبوة ولا الملك ولا المحبة للطيبين ولا الكرامة ولا حتى المناصب والتفاضلات الممنوحة من السماء تفيد صاحبها. ليس في اليد شيء يقدمه المرء هناك عدا ما جناه بيديه في الدنيا من عبادة خالصة وإنفاق في سبيل الله وفك رقبة أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما ذا مقربة أو مسكينا ذا متربة. ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة.
الآية الثالثة: البقرة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254). لو تقدمنا عدة آيات قبل هذه الآية وبالتحديد من الآية 245 فقرأناها قاصدين هذه الآية لنعطيها حقها من الاهتمام فسوف نعلم بأن الله تعالى يحدثنا في كلها عن قوة المال بغية التحديد وليس تشجيعا لجمعه. فخير للمرء أن يُنفق المال في سبيل الله ليعوضه الله تعالى يوم القيامة أضعافا مضاعفة. هكذا يصرف ماله في الطريق الصحيحة والمفيدة. ومهما عظم شأن المال فهو لا يملك أي شأن في كسب التعيينات السماوية بين الخلق كما ظن قوم طالوت. كما أنه لا شأن له في ضرب المشركين إذا أراد الله النصر لقوم ما. والله تعالى يفضل الرسل على أسس أخرى لا ترتبط بالمال كما أنها لا ترتبط بالقوة القتالية أيضا.
وبعد أن ذكر الله تعالى خير السبل للتصرف في المال وهو صرفه في سبيل رضوان الله تعالى وانتظار الأرباح الأخروية فإنه يستدرك خطورة هذا الأمر فلعل من يظن بأنه قادر على أن يشتري الجنة بماله وينفقها ثمنا لجنات النعيم، والحال أن الجنات أغلى من أن يُدفع لها ثمن. و ليعلم الأغنياء بأن الدعوة لصرف المال هي للتمييز بين قلوب المُحسنين من المسيئين وليس لاستلام الثمن مقابل شيء في المستقبل. لو كان كذلك لكان الله ظالما، حيث أنه سبحانه يكون قد أمدَّ شخصا بالمال ليشتري ببعض ما يملكه الجنةَ وحرم شخصا آخر من هذه الفرصة الثمينة! ولو كان كذلك لا استمتع الأغنياء بمالهم في حياتهم الدنيوية وأوصوا بأن يُصرف أموالهم بعد موتهم فيما يُشترى بها الجنة، وهو باطل قطعا والذين يعدون أنفسهم بذلك فسوف يُمنون بالخسارة قطعا.
وعلى المرء أن يُنفق مما رزقه الله مالا أو علما أو قوة بدنية بنفسه ليثبت اهتمامه بالتضحية في سبيل الله فيُرضيه تعالى ويستحق الثواب من العزيز الكريم. وأما من يُرسل الثمن فهو خائب. إن الله يشتري من المؤمنين أنفسهم وأموالهم وليس هناك مكتب مبيعات أملاك الجنة وليست الجنة لمن يُمتع نفسه ويرسل قسما من فائض ماله لشراء الجنة. إذا أراد الإنسان كسب الجنة فعليه أن يضحي: فإن أعطاه العزيز سبحانه مالا ضحى به وأشعر نفسه نفاد ماله إرضاء لربه الكريم، ولو أعطاه قوة سياسية استخدمها في سبيل الله، ولو منحه تفوقا بدنيا أو علميا أباحها فيما يُرضي الخالق العظيم ولم يكتف بما يُرضي خلق الله تعالى.
وفي الواقع أن الذي يضحي بنفسه في سبيل الله وهو مؤمن به فهو الذي يكسب وليس غيره. ولذلك قال الله تعالى وهو يصف الذين استرخصوا كل ما يملكون أمام الله في سورة التوبة: إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111). ولم يقل: إن الله اشترى أموالهم كما لم يقل: أموالهم وأنفسهم، بل قدم النفس على المال فيكون المتبرع مضحيا بنفسه لا مبدلا بعض ماله بالجنة. وهكذا يكون من الذين خضعوا لله تعالى واتخذوه وكيلا في كل أمورهم فأسلموا وجههم وكرامتهم لله وهم محسنون. قال سبحانه بعدها في سورة البقرة :بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (112)
وسوف يخيب الذي يريد أن يشتري الجنة بالمال أو الذي يُصادق ويُصاحب الذين يظن بأنهم أهل الجنة وهو في الدنيا ليكسب ودهم فيدخل معهم الجنة أو الذي يصرف بعض ماله وشيئا من قدراته في سبيل غير الله ولو كانوا طيبين ليتوسطوا له ويتشفعوا يوم القيامة. وأكثرهم حمقا الذين يصرفون المال على الموتى من الطيبين طلبا لشفاعتهم فهم لا يسمعون منهم في الواقع حتى مجرد تجاوب لأنهم منفصلون عن من في الحياة الدنيا انفصالا كاملا بعد أن ماتوا. إنهم يبكون على مظلوميتهم ويزينون قبورهم ويزورون رفاتهم أو يؤذون أنفسهم حزنا على فقدانهم ولا يستعملون عقولهم ليُدركوا أن الذي يتعرض للظلم فهو ضعيف عاجز عن الدفاع عن نفسه، فكيف يُدافع عن هؤلاء. إنهم ظُلموا في حياتهم فكيف ينصروننا في مماتهم؟!! أعوذ بربي من همزات وإيحاءات الشياطين.
والمؤمن العاقل الحصيف ينظر إلى تضحيات أولئك الطيبين ليتخذ من الشرفاء الذين وقفوا أمام الظالمين أسوة حسنة فيتعرف على مدى خضوع أولئك النفر الطيب لله تعالى فيعمل مثلهم ويخضع لله ربه ويضحي بماله وإمكاناته وراحته في سبيل الله تعالى لا في سبيل عبيده الطيبين. ويعتبر الله تعالى كل الذين يلجئون إلى هذه الأساليب الضالة (بعلم ودراية بالطبع) كافرين بالحقائق وبكتاب الله وبالله تعالى في النتيجة.
الآية الرابعة: مريم: يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86) لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلاّ مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (87).
في هذه السورة الكريمة يذكر الله تعالى نفرا من الطيبين من عباده الذين تليت عليهم آيات الرحمن إما مباشرة بتكليم الرحمن لهم أو بواسطة الروح القدس وهم مريم العذراء وبعض الرسل الكرام ثم كيفية دعوتهم للآخرين بالانفراد بعبادة الله تعالى فحسب. فلم يطلب أحد منهم من أحد أن يدعو الرسول أو يدعو النبية المؤمنة الصالحة مريم أو ينتظر منهم أي شيء غدا بل دعوا آباءهم وقومهم أن يعبدوا الله وحده ويطلبوا منه سبحانه النجاة من النار والفوز بالنعيم. ثم يخوف الله الناس بأن الجميع في الواقع يُحشرون في جهنم بمن فيهم أنبياؤهم ثم يفرز الله تعالى المؤمنين ليبقى الفاسقون واردين في مستودع النيران. فكيف يمكن لمن يدخل بنفسه في جهنم أن ينجي أحدا من النار؟ إنه بنفسه محتاج للنجاة فهو فاقد للنجاة وفاقد الشيء لا يعطيه بالطبع. يخاطب الله تعالى نبيه في نفس سورة مريم: وهو يذكره بأنه هو أعلم بمن هو مستحق للنار وبأنه (اي الرسول) وارد في جهنم: ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا (70) وَإِن مِّنكُمْ إِلاّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا (71). فإذا كان الذين كلمهم الله في الدنيا والذين التقوا بالروح القدس كلهم واردين إلى جهنم فمن الذي يتوسط بين الله المنفرد بالقضاء والحكم هناك وبين العصاة من خلقه؟!
وقال أيضا في نفس سورة مريم: وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ (36). وتعني أن الطريق الوحيدة أو الصراط المستقيم الصادق هو أن نعبد الله وكفى. وكذلك قوله في نفس السورة الكريمة: تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيًّا (63). فالله هو وليس غيره الذي يورث الأتقياء لا غيرهم جنات النعيم. والدليل على ذلك هو أنه سبحانه قدم الجنة التي هي في مقام المفعول على نفسه وهو الفاعل في التوريث ليفيد حصر التوريث على الله تعالى وقال من عبادنا من كان تقيا ولم يقل من كان تقيا من عبادنا لئلا يتوهم أحد أن هناك أشخاص يدخلون الجنة وهم غير أتقياء، فالأمر كما فسرتُ والحمد لله تعالى.
وأما تفسير الآيات المنوه عنها والتي يستند إليها الأِخوة المفسرون لإثبات الشفاعة وبأن من اتخذ عند الرحمن عهدا فهو الذي يملك الشفاعة. بكل بساطة، فإن الخطاب للرسول نفسه الذي يطلب منتظرو الشفاعة (من المسلمين) شفاعته قبل أي شخص آخر ولا تشير الآية إليه إطلاقا فيما عدا لحن الخطاب الموجه إليه بقصد التبليغ. كما لا تشركه بالشفعاء المقصودين فتقول مثلا: لا تملكون الشفاعة! ولو كان ما تظننه المفسرون صحيحا بأن المشار إليه في (لا يملكون) هم الذين يقومون بالشفاعة لكانت الآية 19 من سورة الإنفطار متناقضة مع هذه الآية. هناك يقول الجبار، ديان الدين: يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19). كل النفوس التي حشرت يوم القيامة للفصل وهم الجن والإنس بكامل عددهم فكل نفس منهم لا تملك لأي نفس سواء نفسها أو نفس غيرها شيئا. ولقد أفكهم الشيطان الرجيم وذهب بهم بعيدا عن المرمى حيث ظنوا بأن المقصود من التملك هو التملك المباشر فقالوا بأن كل شخص لا يملك شيئا إلا بتمليك من الله تعالى. هذا محض الخطإ. إن الملكية تنتهي بانتهاء الحياة الدنيوية حيث أن المال والبنين هم زينة الحياة الدنيا. أما الآخرة فتنعدم فيها ملكية الأفراد بأية طريقة بل يستمتع المؤمن فيها مُكرما بإرادة الله تعالى. سوف تُخصَص الكثير من المقومات لكل مؤمن ليستمتع بها دون أن يتملكها. إن التمليك غير ممكن في الآخرة لعدم وجود المال. وإيجاد المال غير ممكن في دارٍ قُدّر لها البقاء الأبدي. كيف يتخلص مالكو القصور من مخلفاتهم الثمينة مثلا؟. إنهم يتبرعون بها أو يبيعونها في الدنيا، ولكن لا تبرع ولا بيع في الآخرة. فلا يمكن التمليك إطلاقا. سيبقى الناس جميعا في ضيافة الله تعالى إلى الأبد وهو الصحيح والممكن وخلافه محال فانتبه.
فمثلا حينما يجعل الله تعالى لنبينا قصورا فهل بإمكانه أن يمنح بعض قصوره لابنته فاطمة؟ كلا وألف كلا. لو حصل ذلك فإن درجات الجنة تفقد معناها. لا يمكن أن يسكن من استحق الجنة بكرم خالص من الله تعالى باعتبار ضعف فيه مع إبراهيم ومحمد عليهما السلام في مكان واحد لأن إبراهيم أو محمد يحبان أن يملكاه قصرا من قصورهما مثلا. إنهما استحقا الدرجات العلا بما عملاه من خيرات تفوق الآخرين.
المالكية تنتهي تماما بعد الموت وكل المؤمنين سيكونون في ضيافة الله تعالى إلى الأبد. إن الله تعالى نسب حشر المتقين إليه سبحانه كما نسب سوق المجرمين إلى نفسه أيضا، مع أن الملائكة هم الذين يقومون بالأمر بأمر الله تعالى. ذلك ليُزيل الشفاعة الإرادية من الأذهان. ثم إنه سبحانه أشار إلى أهم أسمائه من حيث الرحمة وهو الرحمان ليؤكد لنا بأن الذي يُمكن أن تناله الرحمة فسوف تناله ومن لم تنله الرحمة فهو غير مستحق لها إطلاقا. فنسب الحشر إلى نفسه ونسب مرجع الحشر إلى الرحمان لا إلى الجنة. فكل من يستحق بأي شكل من الأشكال فسوف يفد إلى الرحمان لينال ما يمكن أن يناله من سفرة الكرم الملكوتي العظيم. وأما المجرمون فسوف يخرجون تماما من رحمة الرحمان فلا يملكون حتى القدرة على التحرك ولذلك فهم يُساقون إلى جهنم والعلم عند الله تعالى.
وهم جميعا مؤمنهم و مجرمهم لا يملكون الشفاعة. ومعناه أنهم ليسوا في طور يتقبل الشفاعة سواء بالإيجاب أو بالقبول. وهو مثل قولنا بأن النملة لا تملك التعقل والخشبة اليابسة لا تملك النمو وقطعة الثلج الجامد لا تملك الحرارة. ولذلك فالاستثناء منقطع وليس متصلا. وقد أشار سبحانه إلى هذا العهد في سورة التوبة: إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111) التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112)
فكل مؤمن بموسى أو بعيسى أو بمحمد باع نفسه على الله تعالى فإما أن يقتل أو يُقتل وإما ألا يكون هناك مورد للجهاد فيكون من التائبين … فهو الذي اتخذ عند الله عهدا. وقد كرر الله تعالى لفظ الرحمان في الآية 87 المذكورة من سورة مريم ليؤكد أن الذين يُحشرون إلى الرحمن وفدا هم الذين اتخذوا عند الرحمن عهدا وأما الذين فعلوا ما فعلوا بانتظار الشفاعة فسوف يخيبون إذ لا مجال للشفاعة في يوم القيامة. والعلم عند الله تعالى. وقد ذكر الله حرمان الذين يظنون بأن النار هي في مقابل الأعمال فيدخل العصاة النار أياما معدودة لينالوا جزاء أعمالهم ثم يخرجوا منها باتجاه الجنة. وهناك الكثير من المسلمين يتخيلون ذلك فيقول الله عنهم هل اتخذوا عند الله عهدا؟ سورة البقرة: وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللّهِ عَهْدًا فَلَن يُخْلِفَ اللّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (80) بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81). فيوضح لهم سبحانه بأن دخول النار أبدي إذ أنها راجعة إلى مكاسب النفس وليس إلى الأعمال نفسها. ولذلك فمن أتى بسيئة دون أن تحيط به خطيئته فهو لا يدخل النار بل يشمله الرحمة الواسعة من الله وحده ومن أحاطت به خطيئته فقد حرم من سعة رحمة الله تعالى إلى الأبد. ليس هناك من يدخل النار أياما معدودات وهذا خطأ آخر وقع فيه المسلمون مع الأسف ويكررها الخطباء على المنابر ليشجعوا الغافلين على المضي في الآثام!
الآية الخامسة: سورة يس: وَمَا لِي لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَن بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلاَ يُنقِذُونِ (23) إِنِّي إِذًا لَّفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ (24) وفي هذه الآية يوضح سبحانه بأن الذي يتخذ شفعاء بينه وبين ربه فهو يعبدهم وبأن الواجب أن يتوجه الشخص إلى الذي خلقه وسوف يعود إليه في النهاية، وإذا أراد أن يضره فإن الشفاعة غير مجدية والشفعاء عاجزون عن إنقاذه، فهو في ضلال مبين. إنه يترك الحقيقة القادرة على فعل كل شيء وقد سمح له بالدعاء والإنابة والتوبة والتوجه إليه تعالى مباشرة، ثم يتشبث بالأوهام التي تفسد لقاءه بربه بدلا من أن تصلحه، فلما ذا يتبع الضلال؟ هذه الآية الكريمة تقطع السبيل على الذين يقولون بأن الرسول والأئمة يدعون لنا فيستجيب الله لنا أو بأنهم يستغلون مكانتهم عند الله ليخلصونا من القضاء الحق والعدل أو بأنهم يسدون النقص الموجود في أعمالنا بأن يتفادوه بمنزلتهم عند الله، حيث يؤكد سبحانه بأن شفاعتهم ووساطتهم لا تغني شيئا ولا تمنح خلاصا!! وهو سبحانه ينوه بأن الله تعالى هو الرحمن الذي يوسع من يستحق بالخير والبركة فلا يدع مجالا لرحمة أخرى أن تضاهيه وتضاهي كبرياءه.
ثم يبين الكريم سبحانه فضله على الناس وهو قادر على أن يتركهم فيغرقوا في متاهات الأرض وانفراده سبحانه بالتدمير الكوني الكبير وبإعادة الناس ثانية إلى الحياة بدافع الأبدية ففي ذلك اليوم يأخذ كل شخص جزاء عمله فحسب. إنه سبحانه يعني بأنه لن يتأتى لأحد أن ينال من جزاء عمل غيره، فلا يمكن أن يستولي أحد على شيء من أعماله هو أيضا نتيجة لذلك. فقال سبحانه في نفس يس: وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (48) مَا يَنظُرُونَ إِلاّ صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49) فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الأجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ (51) قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا؟ هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) إِن كَانَتْ إِلاّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ (53) فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلا تُجْزَوْنَ إِلاّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (54). ذلك لأن الأعمال في الواقع ليست إلا دليلا على حالة النفس التي بها ينال المرء ما يستحقه من الجزاء أمام الديان العظيم.
وفي ختام الآيات الكريمة فإني أذكر بعض الآيات التي تنفي معنى الشفاعة دون التطرق لتفسيرها لأعطي مزيدا من الثقة للقارئ الكريم:
أولا: سورة الدخان: إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40) يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئًا وَلا هُمْ يُنصَرُونَ (41) إِلاّ مَن رَّحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42).
ثانيا: سورة الزمر: إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ (2) أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3).
ثالثا: سورة غافر: وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33).
رابعا: سورة الصافات: هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِن دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ (24) مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26).
خامسا: سورة الانفطار: إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ (15) وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ (16) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19).
قصور رأي العلامة الطباطبائي رضي الله تعالى عنه في الشفاعة
أما بعد ذكر الآيات الكريمة فإني وقبل أن أختم الموضوع فسوف أذكر بعض استدلالات المفسرين الكرام وسوف أستشهد بما قاله الأستاذ الطباطبائي الذي أتى متأخرا عمن سبقه وحاول أن يأتي بتفسير مقبول يومه عن الشفاعة المرفوضة قرآنيا. ذلك سعيا منه رحمه الله لعدم نفي الكم الكبير من الروايات والأحاديث النبوية من المصادر السنية والشيعية التي تؤكد وجود الشفاعة المعروفة بين الناس. رضي الله تعالى عن الأستاذ الفاضل وعنا ولكنه أراد أن يكحل الشفاعة فعماها من حيث لا يدري؛
فقال في تفسيره للآية 143 من سورة البقرة والتي أفرد لها فصلا في البحث حول الشفاعة: قال في الصفحة 158 من الجزء الأول من تفسير الميزان: “فتفيد أن الموجودات –غيره تعالى- لا تملك ما تملك من هذه الكمالات بنفسها واستقلالها، وإنما تملك بتمليك الله لها إياها”. انتهى النقل.
لقد نسي الأستاذ أن الملكية برمتها غير أصيلة لغير الله تعالى بل هو بالتمليك. إن كل صفة وكل صبغة وكل شيء يحملها أي مخلوق فهي بنعمة الله تعالى وليست مملوكة لأحد غيره سبحانه. لقد خولنا الله سبحانه نوعا محدودا من الملكية في هذه الدنيا لغرض الامتحان وسوف يُنهي سبحانه كل مظاهر الملكية بمجرد الموت وللأبد. وعلى هذا الأساس يسمي تعالى نفسه {مالك يوم الدين}؛ إذ أن كل الملكيات الاعتبارية تنتهي بانتهاء الحياة الدنيا. فلا تمليك في يوم الحساب إطلاقا ولا توجد آية واحدة في الكتاب الكريم تثبت أية ملكية لأي موجود في يوم الحساب فما بعد. قال تعالى في سورة الأنعام: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ (94). فلم يقل سبحانه ما ملَّكناكم بل قال ما خولناكم.
ويضيف العلامة في الصفحة 159: و من هنا يظهر أن الآيات النافية للشفاعة …. والآيات المثبتة تثبتها لله بنحو الإصالة ولغيره تعالى بإذنه وتمليكه. انتهى النقل.
التمليك باطل يوم القيامة ولكن الإذن فهو صحيح ولكن بالنسبة للملائكة القادرين على الإنجاز وتحقيق الفعل وليس للبشر. يقول الله تعالى لنبيه في سورة ق: وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22). كل البشر و كل الجن الذين يحملون النفس يُساقون فردا فردا يوم القيامة بواسطة ملائكتهم ولا يمكنهم أن يسوقوا أنفسهم لانعدام الإرادة لديهم كليا. لكن الملائكة تسوقهم بأمر الله تعالى لأنهم شفعاء التنفيذ. يعلم العلامة الطباطبائي بأن شفاعة الملائكة ثابتة باعتبار الوساطة التنفيذية وأما الشفاعة التشريعية أو الوساطة التكريمية فبحاجة إلى البرهان ولا برهان عليها في كتاب الله تعالى. فالشفاعة (بإذن الله) هي شفاعة الملائكة التنفيذية وليست شفاعة المكرمين التي ادعاها سلفنا الطيب رحمهم الله وإيانا.
فالملكية في الدنيا هي ملكية بالتمليك ولا ملكية في الآخرة حتى بالتمليك. والوفاة تعني انتهاء الملكية وتوفي الله تعالى إرادته التي استخلف بها أفراد عبيده في الدنيا لغرض الاختبار والامتحان. والإنسان أو الجن الذي لا إرادة له فهو غير صالح لأن يكون مالكا لا بالأصالة ولا بالتمليك. وأكرر بأن الملائكة تفعل ما تفعل بالشفاعة التكوينية وليس بالتمليك.
ثم تشبث العلامة بتفسير الشفاعة حسبما يروق له وللذين يؤمنون بها وهم غالبية المسلمين مع الأسف. ذلك التفسير للشفاعة غير معروف إيجابيا في كتاب الله تعالى وإنما مذكور بالسلب فقط كما وضحته عند بياني لكل الآيات التي تحتوي على تركيبة من “شفع”. إن تعريف العلامة للشفاعة بحيث تشمل الشفاعة التشريعية تعريف شخصي غير مستدل قرآنيا. فقال في الصفحة 160: وبعبارة واضحة: إذا أراد نيل ثواب من غير تهيئة أسبابه أو التخلص من عقاب من غير إتيان التكليف المتوجه إليه فذلك مورد الشفاعة”. انتهى النقل.
فعلا، إن هذا الشرح للشفاعة بليغ جدا وهو ما يتوخاها منتظرو الشفاعة. لكنه يخالف نص القرآن الكريم. يقول سبحانه في سورة يس: فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلا تُجْزَوْنَ إِلاّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (54). والعلامة كما يبدو متفطن لذلك، فيسترسل في تحليله بقوله في الصفحة 161: “فلا نفوذ ولا تأثير للشفيع في مولوية ولا عبودية ولا في حكم ولا في جزاء حكم. بل الشفيع، بعدما يسلم جميع الجهات الثلاث المذكورة، إنما يتمسك: إما بصفات في المولى الحاكم توجب العفو والصفح… وإما بصفات في العبد تستدعي الرأفة… وإما بصفات في نفسه أعني نفس الشفيع من قربه إلى المولى وكرامته وعلو منزلته عنده …. انتهى النقل.
هذا الشفيع هو بالتأكيد أرحم من الله نفسه إلى عبيده الظالمين! إن العلامة يعني بأن الله تعالى ليس أرحم الراحمين. معاذ الله. ويريد العلامة بقوله هذا إثبات زيف محكمة القسط التي وعدنا الله تعالى بها يوم القيامة. إن محكمة تتأثر بما ذكرها الأستاذ من مؤثرات ظالمة، لهي محكمة غير نزيهة حتى في منطق أهل الدنيا وحتى في منطق الشيوعيين والديمقراطيين وكل المحاكم غير الدينية.
إن أقرب الناس إلى رسول الله هم نساؤه اللاتي عشن معه وأفضى بعضهم إلى بعض والله يعدهن عذابا ضعفا من النار إن أتين بفاحشة مبينة. لا يعدهن الله تعالى شفاعة ولا وساطة من رسوله بل يؤكد إمكانية دخولهن الجنة بالصالح من أعمالهن فحسب. سورة الأحزاب: يَا نِسَاء النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30) وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُّؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا (31).ويقول تعالى في سورة لقمان: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لاّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33).
وفي سورة غافر : يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (16) الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (17) وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ (18) يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19) وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20) أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ (21) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (22). وفي سورة الشورى: وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن يُدْخِلُ مَن يَشَاء فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُم مِّن وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (8). وفي المدثر: كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38). وفي النازعات: إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا (45).ولم يقل: إنما أنت منذر من يخشاها وشفيع من يتخطاها!
حتى الاعتذار ممنوع أو غير مسموع يوم القيامة. يقول سبحانه في الروم: فَيَوْمَئِذٍ لا يَنفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57). وفي غافر : يَوْمَ لا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52). وفي التحريم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (7). وفي المرسلات: هَذَا يَوْمُ لا يَنطِقُونَ (35) وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36).
وأما قول العلامة السالف الذكر : “… وإما بصفات في نفسه أعني نفس الشفيع من قربه إلى المولى وكرامته وعلو منزلته عنده “. انتهى النقل.
غريب من العلامة الطباطبائي أن يعتقد بأن هناك موجود قريب من الله تعالى. لا أدري من أين أتى بهذا الاستنتاج الساذج؟ إن الموجودات برمتها ممكنة وبعيدة عن الوجود الواجب الأزلي والأبدي. إن الله تعالى قريب من كل ما صنع باعتبار إحاطته بها وإمداده سبحانه إياها بأسباب الوجود والحياة والقدرة على التماسك، ولكن الله تعالى يسعى بلطفه إلى تقريب عبيده منه سبحانه معرفيا فقط وليس قربا مكانيا ولا زمانيا. فالملائكة مثلا مقربون وليسوا قريبين. وهكذا الصالحون الطيبون مقربون ولكنهم غير قريبين. لا يوجد آية واحدة في كتاب الله تقول بقرب أي موجود من الله جل جلاله. معاذ الله من ذلك. وقرب الله تعالى إلينا باعتبار الإحاطة ولعل كيفية الاقتراب من خلقه هو إشعاعات نوره التي تتصل بكل ذرة في الوجود لتكون على مرأى من الله تعالى باعتبار إشعاعاته والعلم عنده سبحانه.
ولعل الذي أبعد العلامة النحرير من شاطئ الحقيقة هو إفراطه في حب النبي وبعض أولاده وأهله حتى أوصلهم دون أن يعلم إلى رفعة الربوبية، والعياذ بالله. ولعل جولة العلامة المريبة في الشفاعة منطلقة أيضا من هذا الخطأ الكبير، بأن هناك من هو قريب من الله، تعالى عن ذلك علوا كبيرا. إن الكثير من المعممين السنة والشيعة والمسيحيين واليهود يقولون بذلك دون أن يثيروا استغرابي فمعلوماتهم عن القدوس العظيم لا تتعدى الادعاء، ولكني محق في الاستغراب من عالم فاضل مثل العلامة الطباطبائي.
ويقول العلامة في الصفحة 161: “فحقيقة الشفاعة التوسط في إيصال نفع أو دفع شر بنحو الحكومة دون المضادة” انتهى النقل.
وقد شرح الحكومة قبله هكذا: “ونعني بالحكومة أن يخرج مورد الحكم من كونه موردا بإدخاله في مورد حكم آخر، فلا يشتمله الحكم الأول لعدم كونه من مصاديقه؛ لا أن يشمله فيبطل حكمه بعد الشمول بالمضادة. كإبطال الأسباب المتضادة في الطبيعة” انتهى النقل.
ويضيف في الصفحة 161: “وأما من الجهة الثانية وهي النظر إليه من جهة التشريع، فالذي ينبغي أن يقال: إن مفهوم الشفاعة على ما سبق من التحليل يصح صدقه في مورده ولا محذور في ذلك وعليه ينطبق قوله تعالى… سبأ 23… النجم 26…. الأنبياء 28 …. الزخرف 86 … طه 109 …. انتهى النقل.
ولما نراجع تفسير العلامة نفسه في مورد الآيات الثلاث الأول في أماكنها فهو يثبتها للملائكة لا للبشر. ففي سبأ يعترف بأنها شفاعة تكوينية وفي النجم يقول بأنها إثبات للشفاعة في الجملة. إنه رضي الله عنه يناقض نفسه.
والغريب أن العلامة يعتقد بأن الملائكة يتوسطون بين الله وعباده الظالمين لينجوهم من النار. ثم لم يتعرض العلامة للسبب الداعي للملائكة أن يقوموا بهذا الدور المخالف لطبيعتهم. لم نر في الدنيا منفذا للأحكام يتوسط لدى رئيسه شافعا وهم بشر ذوو قلوب ويحملون المشاعر والأحاسيس. فكيف بالملائكة وهم لا يملكون قلوبا ولا مشاعر مثلنا، بل هم عباد خلقهم الله لتنفيذ أوامره فحسب. إنهم يعملون بأمر الله تعالى وليس لهم قرابة مع الناس. معذرة من الأستاذ العلامة: هذا محض هراء.
وفي الصفحة 162 قال العلامة: “فإن الآيات كما ترى تثبت الشفاعة بمعنى الشافعية لعدة من عباده من الملائكة والناس من بعد الإذن والارتضاء، فهو تمليك وله الملك وله الأمر. فلهم أن يتمسكوا برحمته وعفوه ومغفرته وما أشبه ذلك من صفاته العليا لتشمل عبدا من عباده ساءت حاله بالمعصية وشملته بلية العقوبة؛ فيخرج من كونه مصداقا للحكم الشامل والجرم العامل على ما عرفت أن تأثير الشفاعة بنحو الحكومة دون التضاد”. انتهى النقل.
ثم حاول العلامة أن يستشهد بثمانية آيات قرآنية لا تشتمل أي منها على أية إشارة لشفاعة الشافعين، بل تعيد كل الأمر إليه سبحانه.
ولكن العلامة أضاف من عنده في الصفحة 163: “نعم، إنما يفعل لمصلحة مقتضية وعلة متوسطة. ولتكن من جملتها شفاعة الشافعين من أنبيائه وأوليائه والمقربين من عباده من غير جزاف ولا ظلم.” انتهى النقل.
وخلص العلامة الطباطبائي القول ثانية: “فقد ثبت بما مر صحة تحقق الشفاعة عنده تعالى في الجملة فيما لا يوجب محذورا لا يليق بساحة كبريائه تعالى” انتهى النقل.
واعترف العلامة ضمن بحثه أن الشفاعة ليست سببا كاملا بل سبب متوسط يمكن لها أن تؤثر نسبيا في الحكم فقال في الصفحة 164: “قد عرفت أن الشفاعة ثابتة في الجملة لا بالجملة” انتهى النقل.
وعلى هذا الأساس بادر العلامة بالرد على الذين يردون على الشفاعة المطلقة.
وأما العلة المتوسطة التي تشبث بها العلامة عدة مرات في حديثه عن الشفاعة وجاراها بالمصلحة المقتضية فهي غير بليغ باعتقادي. إن العلامة رحمه الله لم يأت بأي دليل قرآني على كل هذه الجزئية بل كتبها من عند نفسه وظن بأن الدليل غير لازم في هذا الشأن كما يبدو. وكما يبدو أيضا بأنه اخترع العلة المتوسطة والمصلحة المقتضية في يوم القسط والعدل لتكون بمثابةِ عجلة مسننةٍ تتركب فيها دولاب الشفاعة ليتكامل بكل العملية ميكانيك العبودية لغير الله تعالى دون أن تؤثر في العبودية للواحد الأحد جل جلاله!!
ليس في الحياة الأخروية مجال للمصلحة المقتضية ولا للعلة المتوسطة كما تصورها الأستاذ رحمه الله. والعلامة معترف بذلك، إذ أنه يؤمن بأن الأعمال تتجسم يوم القيامة وبأن الجنة والنار هما النتيجتان الحتميتان لأعمال الناس. وحتى أكون أكثر دقة فإنهما نتيجتان حتميتان لنفسيات الجن والإنس. ولذلك فهما غير مخلوقتين اليوم وسوف تُخلقان ويتم تجهيزهما بعد الحشر الأخير أو إبّانه. وقد شرحت الموضوع في التفسير بفضل من الله تعالى ولا مجال لاختزاله هنا.
ليس هناك شيء يتوسط بل كلها مفاهيم لمعنى واحد وهو العدالة والقسط. ولذلك يقول الله تعالى لبيان الفرق بين النشأتين: قال تعالى في سورة القصص: تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83). وقال تعالى في سورة الأعراف: وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاء وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156).
إذ لو وسع الرحمة في الآخرة كما يفعله سبحانه في نشأتنا الأولى لما تحققت العدالة. إن نسبة التوسيط والتشفيع إلى محكمة العدل التي سيقيمها ربنا الرحيم الودود كما وعد، بمثابة تصغير لشأن العزيز الحكيم وتفخيم لشأن الشافعين المفترضين. وهكذا فستكون الملائكة والأنبياء أو الأئمة الذين أضافهم العلامة من عنده، سيكونون أرحم علينا من ذي الرحمة سبحانه وتعالى. ألا وإن الملائكة مع جلال شأنهم فهم ليسوا من أهل الرحمة والعواطف حسب الرأي الساذج للذين توهموا وهموا بشفاعتهم.
كل الإنذار والتبشير لإبلاغ الناس بعدم وجود العلل المتوسطة أو المصالح المقتضية. لا يوجد شيء غير العدل والقسط ولذلك فسوف يخصص الله المؤمنين بالرحمة لانطباق ذلك تماما مع مقتضيات العدالة. أتمنى أن يعرف الناس جميعا بألا مجاملة ولا مساهلة ولا مماشاة في يوم العدل الأكبر. حتى الرحمة الواسعة سوف تتخصص للذين استعدوا لها بأعمالهم واجتهادهم في الدنيا. فهي واسعة للمؤمنين ومقطوعة عن الجاحدين والكافرين. هذا هو مغزى الخطر ولا سبيل لتغييره. إن كل المؤثرات مرفوعة يوم القيامة حتى الأبوة والبنوة مرفوعة تمهيدا لبسط العدالة. سامح الله العلامة الطباطبائي.
ثم يتفرغ العلامة للرد على مناهضي الشفاعة فيذكر إشكالهم الأول وهو أن حكم الله عدل بالضرورة فيكون عكسه ظلما. وعليه فإن طلب الشفعاء ظلم وهو عيب على عباد الله الصالحين. ثم يرد عليهم الأستاذ بالنقض مستشهدا بالأوامر الاختيارية الدنيوية التي يثبتها الله تعالى أحيانا ثم يزيلها حسب المورد لغرض الاختبار. فاحتمل العلامة أن تكون النجاة مكتوبة لجميع المؤمنين، محسنين أو مسيئين الخ… ثم يغير الله ما يشاء منها! هذا الكلام باطل برأيي لأن الناس يأتون ربهم عبيدا بغض النظر عن إيمانهم أو عدم إيمانهم فلا يمكن أن تكون الجنة مكتوبة لهم. قال تعالى في سورة مريم: إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ إِلاّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96).
سوف يتم تمييز المؤمنين من الكافرين يوم القيامة وفق الموازين التي ذكر الله بعضها في الكتاب المنزل. لم يقل الله (قد جعل لهم الرحمن ودا ) بل قال سبحانه سيجعل. وأما مسألة أن كل مؤمن يدخل الجنة فهو قانون سماوي وليس مكتوبا لأشخاص بعينهم. ولعل العلامة يقصد بالمؤمنين الشيعة وهو خطأ أيضا. سوف نُحشر مع آبائنا الأولين وهم ليسوا شيعة ولا سنة. ناهيك عن أن أكثر المقربين منهم وليسوا منا بإخبار القرآن عنهم في سورة الواقعة. واستشهاده بالأمور الاختبارية خطأ فادح، حيث أن القسط مكتوب للآخرة وليس للدنيا، كما لا يوجد أحكام اختباريه في الآخرة. وبما أن الله تعالى لم يكتب على نفسه العدالة في الدنيا فإنه سبحانه قد أباح لنفسه إثبات الحكم الاختياري تارة ورفعه تارة أخرى حسب المورد. فقد استشهد العلامة بمثال غير صادق.
ثم رد عليهم الأستاذ بالحل. وهو أن يخرج الله تعالى المجرم من كونه مصداقا لشمول العقاب بجعله مصداقا لشمول الرحمة تبعا لإفضاله للشافع بالإكرام والإعظام… فلو فعل الله ذلك فسيكون الله مقرا على نفسه بأن الشافعين أرحم على عبيده المذنبين منه سبحانه. هكذا وحسب رأي العلامة الطباطبائي فإن أرحم الراحمين سوف يناقض نفسه عمليا. المطلوب برأيي أن يفتح المؤمنون أعينهم قليلا!!
وأما مسألة تكريم الخالق لخلقه فقد ذكرها ربنا في ثمانية أماكن في القرآن الكريم. الإسراء: 70 والحج: 18 والأنبياء: 26 ويس : 27 والصافات: 42 والحجرات: 13 والمعارج: 35 والفجر: 15 ؛ ولم يشر في أي منها إلى المعنى المتعارف بيننا، وهو قبول شفاعة أحد بالنسبة لشخص آخر. فلا أدري كيف توصل العلامة إلى حقيقة قرآنية باختراعه هو وليس بإقرار من القرآن. لقد سبقني العلامة الطباطبائي بالسعي لتفسير القرآن بالقرآن باعتبار القرآن تبيانا لكل شيء فهو تبيان لنفسه أيضا. ولكنه نسي هنا أن يعود إلى القرآن نفسه ليفسر معنى الإكرام المذكور في السور المذكورة. إن الله تعالى يسعى في كل الكتاب لإبعاد الناس عن الاهتمام بغير الله ويأمر رسله بإرجاع المؤمنين جميعا إلى الله وحده، فكيف يعين وسطاء غير ضروريين بينه وبين خلقه لمجرد إكرامهم. إن الله قادر على أن يكرم عبيده الصالحين بما وعدهم من الرضوان والحبور في جنات النعيم وليس بأن يعينهم وسطاء بينه وبين خلقه فيشركهم بنفسه. هذا ما يكرهه الله ويحبه العلامة مع الأسف. معاذ الله.
وأما إشكالهم الثاني وهو أن رفع بعض الجرائم عن بعض الناس يمثل اختلافا في فعل الله تعالى باعتبار أن سنة الله جارية لا تبديل لها. ويرد عليهم العلامة بأن مقتضى مختلف صفات الله تعالى هي أحكام متغايرة في الظاهر باعتبار مختلف صفات الخالق جل شأنه. ولي عليه إشكال بسيط لا أرى ضرورة لذكره ولكني في العموم موافق مع العلامة بأن هذا الإشكال غير صحيح. إن يد الله مبسوطة لفعل ما يشاء إذا رأى في ذلك مصلحة وحكمة.
وأما إشكالهم الثالث: هو أن علم الله أزلي والشفاعة بمثابة تغيير في علم الله تعالى وهو محال أو أن تكون الشفاعة سببا في تغيير الله حكمه الأزلي العدل إرضاء لعبد من عبيده وهو ظلم وعيب على الله تعالى. وقد رد عليهم العلامة ردا معروفا بين العلماء وهو مرفوض عندي. إنني أعتقد بأن العلم بما سيفعله فلان غير ممكن فلا يمكن أن يستقر عليه علم الله تعالى. ولذلك فإن إشكال التسيير في منطقي غير وارد حتى أتحمل عناء الرد عليه. على كل حال فإن إشكالهم هذا غير صحيح ولا داعي لفتح مبحث طويل في هذه الرسالة المختصرة.
وأما إشكالهم الرابع وهو أن الوعد بالشفاعة يستتبع تجرؤ الناس على العصيان اتكاء على الشفاعة. وقد رد عليهم العلامة وعلى كل حال فإشكالهم غير صحيح عندي أيضا. يمكن أن تكون الشفاعة موجودة ولا يستلزم التجري على الله تعالى فلا يمكن لأحد أن يقول: إن فلانا وفلانا سيمنحان الشفاعة. بالطبع أن بعض المقرئين يوهمون لحاضري مجالسهم باستحقاقهم للشفاعة وخاصة إذا بكوا أو أبكوا أو تباكوا، وحالهم معلوم لدى الناس. إنهم يقيمون أسواقهم بهذا الشكل ولا يمكن اتخاذ أفعال هؤلاء ذريعة لرفض الشفاعة إن كانت الشفاعة ثابتة في كتاب الله. فإشكالهم هذا أيضا باطل وأنا لا أخالف الأستاذ في بطلان الإشكال.
وأما إشكالهم الخامس فهو أن العقل يمكن أن يدل على إمكانية وقوع الشفاعة لا على فعلية وقوعها، وأن النقل فالقرآن غير مبين للشفاعة بصورة إيجابية، والأحاديث لا يعول عليها. وقد رد عليهم العلامة بأن الإضافة في آية {فما تنفعهم شفاعة الشافعين} في سورة المدثر دليل على وقوع الشفاعة وقد قمت بالرد على العلامة في مقطع الآيات في هذه الرسالة. ويسترسل العلامة في الرد عليهم باعتبار المصادر المضافة وقد قلنا بأن الشفاعة موجودة ولكنها شفاعة الملائكة المنفذين لأمر الله تعالى وهو تنفع المؤمنين الذين يستحقون الجنة وتضر الكافرين ولا تغير من حكم الله لكنها توضح الحكم فقط.
ودعني أعود إلى المقطع الأول من قولهم وهو أن العقل يمكن أن تثبت الشفاعة ولكن لا دليل على فعلية وقوعها. إن جملة كلام العلامة معولة على ما يقع في الدنيا من تقدم إنسان إلى إنسان آخر بالشفاعة والوساطة لإنسان ثالث باعتبار علو مرتبة الإنسان الآخر أو ضعف الإنسان الثالث أو كرامته الشخصية لدى الإنسان الآخر. هذا المعنى ممنوع في الساحة القدسية لأن الله تعالى ليس إنسانا ولا يوجد أحد مثله فيتقدم إليه بكرامته عنده ليطلب منه مساعدة إنسان آخر مثله. ليس لأحد دالة على الله تعالى لأن ما يصدر منه مجرد فضل مولوي خالص وليس فضلا متبادلا مع الآخرين كما هو الحال بيننا نحن البشر.
ليس بين الموجودات الممكنة -وهي تمثل كلما هو غير الله- موجود يمكن أن نتخذه قربانا إلى الله تعالى لعدم إمكانية هذا القرب من القوي العزيز. فلو أنك أردت أن تتشفع لدى ملك أو قاض دنيوي فسوف تتشبث بمن هو مثله أو قريب منه مقاما ومنزلة ورفعة شأن ولا يمكن أن تقدم إليه فقيرا فالكل فقراء أمام الله تعالى فعلا. كما لا يمكن أن تقدم بقرة أو نملة أو جملا أو وردة جميلة شفيعا بينك وبين الملك أو القاضي بل عليك أن تبحث عن إنسان مثله يفوقه أو يجاريه في جزئية من الجزئيات على الأقل. ولا غرو أن كل إنسان محتاج لأخيه الإنسان، فسوف تقدم إنسانا يحتاج إليه المتشفع عنده إلى حد كبير قابل لتحريك عواطفه أو مصالحه باتجاه حاجتك. هذا غير وارد أمام الله جل جلاله. يقول الله تعالى في سورة الأحقاف:وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُم مِّنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (28). إذ لا يمكن أن يتخذ الإنسان من دون الله نفسه قربانا إلى الله تعالى لعدم الجنسية والسنخية مع الله. ولذلك وصف الله تعالى اتخاذهم القرابين بالإفك والافتراء.
لا يمكن تصور قربان إلى الله تعالى غير الله نفسه. ولذلك فإننا نضحي في سبيل الله بأنفسنا وأموالنا وراحتنا لعلنا نُرضي الله تعالى فيكون رضاه سبحانه قربانا إليه تعالى. لا يمكن أن نتصور واسطة إلى الله تعالى غير وسائط الطاعة وتنفيذ أوامر الجبار ولا دالة للمنفذ على الله تعالى. ذلك لعدم وجود نسبة القرب إلى الله تعالى إطلاقا. غاية ما هنالك السعي للتقرب وهو سعي مطلوب وغير محقق بالطبع. لكن الشيطان أفك ويأفك الناس ليقلص من عظمة الخالق في عيونهم فيشغلهم بالشفاعة والكرامة عند الله وما شابه ذلك من البنوة لله والعياذ بالله من جميع ذلك.
وأما إشكالهم السادس: هو أن القرآن لا يصرح بالشفاعة وإنما الأنبياء شفعاء ووسطاء للتبليغ وأن سعي الأنبياء ينمو ويتكاثر فيكون الأنبياء شفعاء يوم القيامة باعتبار ما فعلوه في الناس. هذا الإشكال باطل برأيي لأن فعل الأنبياء في الدنيا ينمو للأنبياء أنفسهم وليس بين الناس. إن كل إنسان يفعل ما يفعل ليكسب رضوان الله تعالى فيؤثر عمله في صبغة نفسه ولا يمكن أن يؤثر عمل شخص في شخص آخر ولو حصل ذلك لكان الله ظالما والعياذ بالله جل جلاله. فإشكالهم سخيف ولا يحتاج إلى جواب.
وأما إشكالهم السابع فهو سخيف أيضا ولا يعتد به.
ثم يعقب العلامة الطباطبائي بحثه عن الشفاعة فيقول في الصفحة 169 من الجزء الأول من الميزان: تحت عنوان: “3- فيمن تجري الشفاعة”
وقد أعرضت عنه لأني أرفض الشفاعة التشريعية من اصلها. ثم يأتي بعنوان رابع في الصفحة 171 ” من تقع منه الشفاعة”
فذكر وسائط للشفاعة التشريعية هكذا: التوبة، الإيمان، كل عمل صالح، القرآن. وأتى ببعض الآيات القرآنية شواهد على تلك الوسائط؛ ثم أضاف: “ومنه كل ما له ارتباط بعمل صالح والمساجد والأمكنة المتبركة والأيام الشريفة”
ولكن العلامة لم يأت بشواهد قرآنية على ما ادعاه. ذلك لعدم وجود أي ذكر لها في الكتاب الكريم بالطبع. ثم أضاف مسترسلا:
ومنه الأنبياء والرسل باستغفارهم لأممهم”. واستشهد عليها بالآية 64 من سورة النساء: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا (64). هذه الآية تتحدث عن المنافقين الذين كانوا في حرب خفية مع الرسول. قال تعالى قبلها: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا (61). فتح الله لهم بابا للعودة وترك الخصام مع رسول الله. ولذلك يرجعهم الله إلى الرسول نفسه ليستغفر لهم، فاستغفاره دليل على رضاه عليهم. هذا هو أدب الرسل، أن يبدوا رضاهم وعفوهم عن طريق الاستغفار لمن اعتدى عليهم. ألا ترى أن إخوان يوسف لم يعتذروا من يوسف ويعقوب إلا عن طريق الطلب منهما ليستغفرا لهم. على أن استغفار الرسول بصورة عامة مطلوبة وجميلة وكذلك استغفارنا نحن لإخواننا، ولكن هذا الاستغفار ليس شفيعا إلى الله بل هو دليل على حرصنا على أنفسنا وإخواننا للتمسك بحبل الله وحده. وإذا كان الاستغفار للغير شفيعا فهو شفيع للذي يستغفر، لا للذي يُستغفر له. الناس مجزيون بأعمالهم لا أعمال غيرهم. ثم إن الآية المذكورة لا تدل على استغفار الأنبياء لأممهم بل تدل على إمكانية استغفار الرسول للذين ظلموا أنفسهم بالاعتداء عليه كما تشهد عليه الآية التي تسبقها.
ثم أضاف العلامة: “ومنهم الملائكة في استغفارهم للمؤمنين”. بالطبع هذا الاستغفار تنفيذ لأمر الله تعالى بسبب كوني سوف أشرحه بإذن الله في مكانه. ليس للملائكة الذين يحملون العرش أية صداقة أو صحبة أو تعاطف خاص مع الذين يعيشون في إحدى الكرات الأرضية التي تربو على بلايين البلايين. إنهم يؤدون واجبا ملقى عليهم ولا يمكن أن يدخل دعاؤهم ضمن أسباب استحقاق الجنة أو النجاة من النار كما تراءى للأستاذ الكبير. ولو قلنا بأن الإنسان الذي يتوب إلى الله ويتبع سبيل ربه فسوف يكون إضبارته ناقصة بانتظار إضافة استغفار الملائكة لتكميلها، لكانت مقولتنا مهزلة. يقول الله تعالى في القصص: تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83).وكثير مثل ذلك في القرآن ولم يضف سبحانه شرط استغفار الملائكة لهم. إنه ظلم بالغ أن يعلق الملك الحق نجاة أحد على استغفار شخص آخر له سواء كان ملكا أو نبيا أو صديقا أو قريبا. هذا منطق سخيف مع الأسف.
ثم أضاف الأستاذ رحمه الله تعالى: “ومنهم المؤمنون” واستشهد عليها بالأدعية الجماعية التي يعلم الله المؤمنين أن يأتوا بها بصيغة المتكلم مع الغير. هذا أيضا تعليق لنجاة فرد على دعاء فرد آخر له وهو غير عادل. إن المؤمن يدعو أحيانا ربه بصيغة المفرد ليفيد المزيد من الضعة أمام الله ويأتي أحيانا بصيغة الجمع ليفيد المزيد من التحقير لنفسه فهو لا شيء لوحده. كما أن المؤمن يخاطب الله بصيغة المفرد ليفيد المزيد من الاسترحام أو يخاطبه سبحانه بصيغة الجميع ليفيد ما يليق بساحة القدس من تكبير وتعظيم، جل جلال الله.
وأضاف العلامة: “ومنها الشفيع يوم القيامة بالمعنى الذي عرفت فمنهم الأنبياء”. واستشهد ببعض الآيات التي شرحتها وأثبتت أنها لا تتحدث عن شفاعة الأنبياء يوم القيامة ولا داعي للتكرار. والملفت للنظر أن العلامة رحمه الله يذكر الأنبياء حين الاستشهاد بالقرآن ولكنه حين الحديث عن الشفاعة فإنه يذكر نبيا واحدا مضافا إلى 13 شخصا من أهله دون أي دليل قرآني ولو بالغلط؛ فلعل العلامة يسمح لنفسه أن يفسر بقية الأنبياء بأئمتنا الإثني عشر مع السيدة الفاضلة فاطمة بنت الرسول !!! صلوات الله على الرسول وأهل بيته أجمعين.
وكرر العلامة مرة أخرى : “ومنهم الملائكة” واستشهد بآيات تدل على الشفاعة التكوينية وقد اعترف العلامة نفسه ببعضها ولكنه حينما يسترسل في الاستدلال مع يد خالية فهو يشفعها على دلائله الواهنة مع الأسف. هذا عين التناقض، غفر الله له ولي. وفي المرحلة الخامسة ذكر “بماذا تتعلق الشفاعة”
وأنها تتعلق بالمعاصي الكبيرة؛ معاذ الله! وقبل قليل استشهد بالملائكة الذين يحملون العرش وهم الذين يستغفرون للذين تابوا واتبعوا سبيل الله. فهل الزنا والسرقة وبقية المعاصي الكبيرة اتباع لسبيل الله؟! ما هذا التخبط يا شيخنا؟ غفر الله لك ولنا.
واختتم العلامة الطباطبائي بحثه بـ “متى تنفع الشفاعة”. فختم بها مقولته عن الشفاعة وختمها رحمه الله تعالى بتخبط آخر. فقال:
“وأما نشأة البرزخ وما يدل على حضور النبي عليه السلام والأئمة عليهم السلام عند الموت وعند مسائلة القبر وإعانته إياه على الشدائد كما سيأتي في قوله تعالى: (وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به) النساء – 158، فليس من الشفاعة عند الله في شيء وإنما هو من سبيل التصرفات والحكومة الموهوبة لهم بإذن الله سبحانه”. انتهى النقل.
أما الآية فقد شرحتها باختصار في المفاهيم الصحيحة بنفس موقعي الفكري كما فسرتها بالتفصيل في الجلسات التفسيرية وأتمنى أن يوفقني الله تعالى لأكتب تفسيرها في المستقبل. وخلاصة القول بأن الكثير من الإخوة المفسرين ومع بالغ الأسف لم يتمكنوا من تلاوة الآية الكريمة تلاوة صحيحة مشعرة بالمعنى. يجهل الكثيرون بأن الله تعالى لن يرضى بأن يقول أحد بأنه لم يحم أيا من رسله حيث أنه تعالى وعد الرسل جميعا بالسلام بقوله الكريم في سورة الصافات: وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181). ليس هناك رسول ولا نبي مقتول إطلاقا، وكل ما يقولونه مجرد حكايات بشرية لا علاقة لها بكتاب الله تعالى الصادق الصحيح. وآية النساء بصدد إثبات أن كل من كان ممكنا أن يؤمن بالمسيح فقد آمن به قبل موته بأمر الله تعالى. بمعنى أن الرسول عيسى قد أكمل فعلا رسالته لبني إسرائيل. ولننظر إلى الآية الكريمة:
بَل رَّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158) وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (159). والسبب في استعمال صيغة المضارع باعتبار أن المضارع وهو يعني المشابه للاسم فهي الصيغة المناسبة لبيان الحقائق والأنظمة. لقد مات المسيح عليه السلام قبل نزول القرآن وبالضبط يوم اختفائه كما أحتمل حيث ظن بعض المسيحيين أنه قد قتل فعلا. قال تعالى في سورة آل عمران: وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54) إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55). فلو تلاحظوها مع آية النساء 158 ستعلمون بأنه متوفى وما يقولون بأنه حي سيظهر في المستقبل وهم لا غير.
وأما حضور النبي والأئمة عند موت الناس حسب ادعاء الأستاذ الفاضل ، فإن هناك في الكرة الأرضية أكثر من 200 مليون شيعي وهم المسلمون الحقيقيون في اعتقاد الأستاذ الطباطبائي. ثم إن متوسط الأعمار هو أقل من خمسين سنة ولنفترض أنها خمسون سنة. فلو نضرب المتوسط في 365 يوم في 24 ساعة في 60 دقيقة في 14 معصوم فسوف نجني حوالي 400 مليون دقيقة. هذا يعني أن نصيب كل ميت من الشيعة هو حوالي دقيقتين من وقت شخص واحد من المعصومين الأربعة عشر! هذا العدد في تزايد هندسي كما أن عدد غير المسلمين في تناقص فسوف يصل نصيب كل شخص إلى دقيقة أو بعض ثوان في المستقبل. والمعصومون بحاجة إلى (بُراق!) سريع أسرع من النور ليطوفوا حول موتاهم دون أن يتلفوا الوقت في الطريق. وليس للمعصومين شغل آخر غير الحضور على رؤوس الموتى ومساعدتهم! كم تعب المعصومون خلال القرون الأربعة عشر التي مضت بعد موتهم. يا ليتهم كانوا غير شيعة فكانوا يرتاحون بعد الموت حتى يبعثهم الله لا أن يبقوا حتى انتهاء الحياة في الكرة الأرضية مشغولين بالحضور على رؤوس الموتى من الشيعة إرضاء لشهوة الذين افتروا عليهم الكذب!!
ولم يبق للمعصومين وقت حتى يردوا على الذين يزورونهم في مقابرهم والذين يتجمعون بالملايين عدة مرات كل سنة ليلطموا وجوههم من أجلهم ويطلبوا منهم البركات وكذلك الذين يطلبون منهم قضاء بقية الحاجات والشفاء للمرضى وغير ذلك. ولكني حينما أقيسهم بالمسيح المسكين فإن حالهم خير منه بكثير!! هناك عدد يربو عدة مرات على عدد الشيعة من المسيحيين وليس لهم إلا معصوم واحد هو عيسى بن مريم ولعل أمه تشاركه أيضا وهم في كل أقطار الأرض ومنذ أكثر من عشرين قرنا يدعون المسيح ليكفيهم حوائجهم!
بالله عليكم؛ أليس هذا شركا بالله تعالى؟ معاذ الله من السخافة. وقبل أن أختتم كلامي فإني أستغفر الله لي وللعلامة الطباطبائي ولكل سلفنا الطيب ولكل أصدقائنا من المسيحيين وأدعوهم جميعا للعودة إلى الله الحي القيوم جل جلاله، وترك هذه الخزعبلات السخيفة.
رأي المفسر المحقق المرحوم جاد الله محمود الزمخشري في الشفاعة
وقبل أن نختم الكلام حول الشفاعة المزعومة أنقل رأي العلامة الزمخشري في الكشاف فهو مغاير لرأي العلامة الطباطبائي. قال في تفسيره للآية 254 من البقرة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254). قال ما نصه: وإن أردتم أن يحط عنكم ما في ذمّتكم من الواجب لم تجدوا شفيعاً يشفع لكم في حط الواجبات ، لأنّ الشفاعة ثمة في زيادة الفضل لا غير. انتهى النقل.
وقد رد عليه المرحوم أحمد بن المنير الإسكندري في الانتصاف من الكشاف المطبوع في حاشية الكشاف وهو يذكر رأي السنة فيما لا يتوافق مع رأي المعتزلة التي ينتمي إليها الزمخشري. قال ما نصه: وأدلة أهل السنة على إثباتها للعصاة من المؤمنين أوسع من أن تحصى. وما أنكرها القدرية إلا لايجابهم مجازاة اللَّه تعالى للمطيع على الطاعة وللعاصي على المعصية إيجابا عقليا على زعمهم. فهذه الحالة في إنكار الشفاعة نتيجة تلك الضلالة. وقد تقدم جواب عن التمسك بإطلاق مثل هذه الآية في نفى الشفاعة ، ونعبده فنقول : أيام القيامة متعددة والشفاعة في بعضها ثابتة ، فكل ما ورد مفهما لتفيها حمل على الأيام الخالية منها جمعا بين الأدلة ، كما ورد قوله تعالى : (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ) وورد (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) وورد (فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ) وورد (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ) ولا تخلص في أمثال هذه الآي باتفاق إلا الحمل على تعدد أوقات القيامة واختلاف أحوالها وأيامها ، وكذلك أمر الشفاعة سواء. انتهى النقل.
فأقول بأن الزمخشري لم يأت بدليل على وجود أصل الشفاعة من القرآن. وأما تحديد الشفاعة بالفضل فهو اجتهاد لا دليل عليه من القرآن. وأما عقيدة أهل السنة في الشفاعة وهي أن المؤمنين إذا دخلوا النار فسيخرجون منها بالشفاعة أو بالعفو فهو مخالف لنص القرآن وقد قالها اليهود من قبل فرد الله عليهم كما في سورة البقرة: وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللّهِ عَهْدًا فَلَن يُخْلِفَ اللّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (80) بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81) وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (82). لقد حدد الله تعالى صفة الداخلين في النار وكذلك صفة الداخلين في الجنة وبأنهم جميعا خالدون في المستقرين. فمقالة بعض أهل السنة غير دقيق ومرفوض قرآنيا.
وما ظنه الإمام أحمد الإسكندري فإنه لم يأت بآية تثبت الشفاعة بوضوح. ثم إنه رحمه الله تعالى وكما يبدو لم يعرف بأن هناك يوم واحد للحساب وهو يوم يقوم الناس لرب العالمين. وأما الأيام الأخرى فهي أيام التقلبات الكونية لإعادة النجوم والكواكب والأراضي إلى مركز الكون ثم إعادة خلقها ليعطيها الله تعالى القدرة على البقاء الأبدي. هناك عمليات سابقة لها مثل يوم تدمير الشمس وعمليات تلحقها مثل يوم إدخال النفوس في الأرض الجديدة ثم إخراجها منها ملبسة بالأبدان الأبدية. فلو كانت هناك شفاعة فعلا فهو في يوم واحد وهو يوم الحساب ونفسه مسمى بيوم الفصل باعتبار أن الله تعالى في نهايته يفصل بين المؤمنين والكافرين فصلا أبديا ولذلك يسميه أحيانا باليوم الآخِر باعتباره آخر يوم يجتمع فيه المؤمنون والكافرون معا. لكن الشيخ الإسكندري لم يحقق وتحدث بحديث تخيلي ليفسر كلام الله تعالى بلا دليل. فحينما يقول سبحانه لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة؛ فهو ينفي الشفاعة نفيا كاملا. يحتاج الذين يدعون الشفاعة أن يأتوا بآية بوضوحها تنص على وجود الشفاعة في بعض الحالات كما أراد السكندري أو الإسكندري.
وأجمل كلام نختتم به هو القرآن الكريم. يقول الله تعالى في سورة التحريم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8). فالنبي وصحابته يستغفرون الله لأنفسهم يوم القيامة لأنهم وحتى يتمكنوا من الاستمتاع الصحيح بنعم الله في جناته محتاجون إلى مزيد من الطاقة النورية. فأين الأعمال الإضافية للرسول حتى يمنحها أمته؟ بل سوف يشكو الرسول من قومه ولن يتعب نفسه للتشفع لهم بنص القرآن. قال الله تعالى في سورة الفرقان: وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (30).
فالرسول يشتكي على الناس ولن يتوسط لهم. فاقرؤوا القرآن إخواني وأخواتي واتركوا الخرافات يرحمكم الله وإياي، والسلام على أهلي جميعا وعلى كل من اتبع الهدى وأراد الحياة الطيبة في مقعد صدق عند مليك مقتدر؛ جل جلاله ونعم به ربا قويا قادرا رحيما لا نحتاج معه إلى غيره، بل يحتاج معنا غيره إليه سبحانه وتعالى عما يشركون علوا كبيرا.
أحمد المُهري
17/12/2016
ملاحظة: كتبت الأصل قبل عدة سنوات ونشرته ولكن تاريخ الكتابة غير متوفر لدي.
#تطويرالفقهالاسلامي
https://www.facebook.com/pg/Islamijurisprudence