حول الفطرة والنفس !!
حول الفطرة والنفس !!
الأخت الفقيهة الفاضلة هالة كمال زاد الله في علمهاأشكرك على ردك الذي يدل دلالة واضحة بأنك قرأت ما كتبه أخوك وفكرت فيه فلم تقتنعي بعكس أخي العزيز الدكتور سلامه الذي يكتب وواضح لي بأنه قد حكم حكما علميا مسبقا ولا ينتظر أن يسمع منا إلا الموافقة فهو لم يقرأ ولم يتفطن ما أكتبه ولا ما يكتبه سيادة الأخ العزيز الدكتور كمال مع الأسف.وسأرقم الرد على أساس المقاطع التي تفضلت بها واحدة تلو الأخرى.
1. الشر والسوء ليسا مترادفين بل هما متقاربان
ولكن لنفترض الترادف. تأمر النفس بالسوء لأن البدن يطلب ذلك. تماما مثل أب يرى ابنه في حالة مرضية شديدة ويحتاج إلى مال للعلاج فحالة ابنه تأمره بأن يسرق. وقديما قالوا: العقل السليم في الجسم السليم والصحيح هو النفس السليم في الجسم السليم. فالنفس تحب الجسم وتحب الأولاد والأحفاد والأزواج وتفعل كل سوء من أجلهم أحيانا.
2. النفوس العارية
بما أن النفوس عارية من أي أفكار تفرض عليها مسبقا فهي تتقبل الجديد بعد أن تدرك ما يُلقى فيها ولو كانت مليئة فهي ستكون مدينة لما فيها. مثال ذلك هو نفس الطبيب سلامه الذي يرى في نفسه معلومات يشعر بصحتها فلا يرضى عنها بديلا ويكافح ليقنع الآخرين بصحة ما في نفسه. فالنفس فعلا وعاء فارغ ولكنها قابلة لكل ما يُلقى فيها. فلو لم يكن صاحب النفس مقلدا فهو سوف يفكر ويستعمل كل معلوماته المكتسبة ليقبل أو يرفض. مثالها مثال الأسلاك الفارغة التي تستقبل الكهرباء وغيرها من الطاقات. ولذلك يصر الرحمن بأنه هو الذي يوحي بالخير. (وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة) ولم يقل أبدا في القرآن حسب ظني بأن النفس تنطوي على الخير أو تنطوي على الشر. كما أننا نتألم من إخواننا وأخواتنا الذين لا يرضون بأي تغيير في محتويات نفوسهم فهم متزمتون بآرائهم وغير مرنين لقبول الحقيقة. ولذلك فإن وجود صفات طبيعية في النفس تؤدي إلى المزيد من التزمت.
3. كلنا فطريون وليس فقط إبراهيم وقد قلت ذلك مرارا. آية سورة الروم لا تفصل بين الناس فالالتزام فطرتنا. كل الناس مفطورون على دين حتى لو ألحدوا. إنهم يلحدون في الأديان الموجودة ويتخذون لأنفسهم دينا خاصا بهم على أساس نفي النبوة أو نفي الألوهية أو نفي الآخرة. يسمون أنفسهم لا دينيين ولكنهم يدينون بدين خاص بهم ولحماية دينهم يكونون الجمعيات ويتعاونون معا.
4. المعركة بين الخالق والشيطان:
هناك بالتأكيد معركة بين الخالق والشيطان وعداوتُه لله تعالى بسببنا وليس له عداوة شخصية مع الله تعالى. وأنا ما شرحت الموضوع لمركز التطوير ولكن شرحته في عدة محاضرات لزملائي في التفسير. فمن حقك أن تعترضي علي ولكن ما باليد حيلة إذ لا يمكن بيان مواضيع حساسة جدا وفي غاية الصعوبة لغير تلاميذ القرآن. ولعل من يأتي بعدي ويعرف كيف يبسط هذه المسائل المعقدة، أما أنا فهذا حد إمكاناتي.ولكن أقول لكم باختصار بأن الشيطان ضروري للاختبار وأنا أظن بأن إبليس لو لم يقم بعمله الأحمق من تلقاء نفسه لبقي آدم وزوجه دون تقارب جنسي ودون إنجاب طبعا وقد قال ذلك لهما. قال تعالى في سورة الأعراف: فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20). ولعلمك فهناك من يشعر بالمسألة حتى من غير المسلمين. فذات مرة ناقشني عجوز بريطاني بسيط حسب الظاهر حول الشياطين وفرحت حينما قال لي: الشيطان جزء من مسيرة الخلق ولا يمكن تجاهله.وعدالة الله تقتضي أن يخلقنا بلا عقائد ليرانا كيف نعمل فلو وضع في كياننا عقيدة أو فكرة فسنكون مدينين لتلك الفكرة ولا نرضى بها بديلا. نفوس عارية ولكنه سبحانه ألهمها فجورها وتقواها ولم يضع شيئا بداخلها. والإلهام لا يعني خلق شيء والفطرة تعني الخلق، بل الإلهام قد يكون مجرد وحي بسيط مستمر. ولفظ الماضي في ألهمها لا يعني الزمن الماضي بل يعني الثابت وخاصة إذا كان الله فاعلا للفعل، فهو تعالى يؤكد بأنه سوف يستمر بإلهام الفجور والتقوى. قال تعالى على لسان موسى في سورة الأعراف: قَالُواْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129). إنه تعالى يمنح أو يأخذ، يقبض أو يبسط ليرى كيف نعمل. الرحمن والشيطان يوحيان ونحن نملك نفسا يمكنها أن تميز بدون أن يكون بها عقيدة أو فكرة.أما لاحظتي الأطفال يركبون الأهوال وبمجرد أن يفتحوا عيونهم وتنشط قدرة الوعي لديهم فإنهم يقون أنفسهم. لو كان في نفس الإنسان شيء يمنعه لكان كذلك من لحظة الولادة ولو لم تكن النفس قادرة على التمييز لما تعلَّم كيف يقي نفسه فيما بعد.
5. محاربتنا للشيطان تحتاج إلى سلاح نفسي استدللت بقول الشيطان يوم القيامة بأنه دعانا فاستجبنا له لتثبيت أن النفس يجب أن تكون مسلحة بشيء يميز ما يفعله الله عما يفعله الشيطان.قلت بأن نفوسنا فارغة من الأفكار والعقائد والمثل العلا ولكنها قابلة للحسن والسوء بطبيعتها مثل الفنجان الفارغ الذي يستقبل الماء القراح كما يستقبل الخمر والسم وكل شيء ضار أيضا. والله تعالى يهديك بداية ثم ينتظر منك أن تشكر ليزيدك. وهديناه النجدين هي الهداية الأولية المقدمة لكل إنسان بلا استثناء وهذا الكلام متفق عليه تقريبا بين كل المفسرين وليس خاصا بي. لكن الهدى المتوالي الذي يوضح لك الطريق المستقيم هو هدى الله الذي يؤتيه من يشاء فيما بعد. وليس الله تعالى مثلنا محتاجا وما له أقارب وأصدقاء بل كل الناس أمامه بدرجة واحدة تميزهم أعمالهم وأفكارهم الشخصية. نحن واقعا لسنا ربوتات مبرمجة ولكننا كامبيوترات فارغة نبرمجها بأنفسنا والله تعالى يعلمنا شيئا فشيئا بحسب سعينا. فمشيئة الله تعالى تساعد كل من سعى وكل من كان طيبا دون تمييز.وأما مسألة التمييز بين الوحيين فهو ليس صعبا. نعلم بأن الله تعالى إيجابي وليس سلبيا وكل الفلاسفة المؤمنين بالله تقريبا يقبلون بأنه تعالى لا يفعل إلا ما هو إيجابي ولن يأتي بالسلبيات ولكن الشيطان بعكس ذلك فهو لا يأتي بالإيجابيات بل يأمر دائما بالسلبيات. ونعلم بأن القتل سلبي فحينما تسمع نداء القلب يمنعك عن أمر سلبي فهو نداء الملك لأن نفي السلب إيجاب وبجواره تسمع وحي القلب يأمرك بأمر سلبي فهو وحي الشيطان. ولو رأيت فقيرا يحتاج إلى مال تملكه أنت وسمعت نداء القلب يأمرك بأن تساعد الفقير إرضاء لربك فهو وحي الملك دون شك لأن الشياطين لا يأمرون بالإيجاب بل يوحون إليك ألا تدفع وتترك الفقير وشأنه. ولكننا مع كل ذلك نحتاج إلى الهدى الأولي من الله تعالى لنشعر بأن القتل أمر عدمي شرس فاسد وأن مساعدة الآخرين أمر إيجابي مفيد وممتع لمن يدفع ولمن يُدفع له. وحينما نستعمل القوة المدركة فإننا سنشعر بلزوم الحفاظ على متعة الآخرين فنسعى بأن ندفع المال بالخفاء دون أن يشعر الفقير أو يرى شخصية المانح. هذه المسائل يتعلمها الإنسان من المجتمع ومن الاحتكاك بالآخرين أو من التعلم ولذلك نرى الذين يظنون بأنهم فوق الناس مثل الملوك والخلفاء المجرمين لا يشعرون ببشاعة قتل الآخر وسرقة أمواله وتجويعه لأنهم غير محتكين بالناس إلا قليلا. كان المجرم الفاسد صدام حسين يقول: أنا أقتل عشرة آلاف شخص ولا يهتز شعرة من بدني. إنه شيطان مارد وليس إنسانا. ولكن سؤالي هو: أين المثل العلا في قلب صدام الزنخ الفاسد؟ وهل جعل الله المثل العلا في قلوب الناس دون المجرمين؟
6. الميل إلى الدين، أي دين؟قلنا بأننا كمسلمين مؤمنين بالقرآن نقبل خاضعين كل ما صرح به الكتاب الكريم ولكننا نرفض بكل قوة أي ادعاء غيبي من خارج القرآن. والالتزام بالدين ليس أخلاقا ولا مثاليات بل هو نوع النفس التي خلقها الله تعالى للإنسان. خلق سبحانه نفسا تلتزم بالدين ولولا ذلك لكان الفوضى سائدا بين البشر. ونحن سمعنا ممن مضوا ونرى اليوم الغالبية العظمى من أمم الأرض ملتزمة بدين من الأديان. هناك القليلون من الفوضويين الذين يرفضون الأديان مثل الملحدين أو الذين يستهزؤون عمليا بالأديان مثل الدواعش وبقية القتلة. هم يدينون بدين خاص بهم فلا يوجد إنسان بلا دين في واقع الأمر. والدين عامل قوي ليمنع الكثير من أسباب الفوضى ولعل هذا هو السبب لخلق النفس الإنسانية نفسا ميالة بالدين. لولا ذلك لكنا مثل الحيوانات برأيي المتواضع.واسمح لي بأن أضرب لك مثلا مما يقوله قليلو العلم لعله يساعد القارئ على تمييز الفرق بين وحي الشيطان ووحي الرحمن حول الدين بلا تعيين. قال تعالى في سورة البقرة: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54). قال بعض المفسرين بأن الله تعالى أمر بني إسرائيل بأن يأخذوا السكاكين ويقتل كل منهم الآخرين. فقتل الأب ابنه والأخ أخاه حتى قُتل سبعون ألفا من بني إسرائيل ثم تاب الله عليهم.بالله عليك، هل يمكن أن يأمر الله تعالى الناس بالقتل الفوضوي؟ إنهم لا يفكرون في حقيقة قول الله تعالى وكما يقول أخي عبد السلام لا ينتبهون للانسجام بين أوامر الله تعالى مع واقع الإنسان. مثل هذا الكلام من وحي الشيطان وحينما نفكر متدبرين نعلم بأن الله تعالى أمرهم بقتل شهواتهم النفسية وهي قتل للنفس من حيث ما تشتهيه وليس من حيث وجود النفس.أو حينما قرأوا قصة منام أبينا إبراهيم حيث رأى بأنه يذبح ابنه إسماعيل فظن هو وابنه إسماعيل على أن الله أمر إبراهيم فعلا بذبح ابنه. لم يفكر إبراهيم عليه السلام بأن الله تعالى لا يمكن أن يأمر أحدا بذبح ابنه ولا سيما ابنا بقامة إسماعيل عليه السلام. كان ذلك وحي الشيطان لإبراهيم وإسماعيل لأنه أمر بالسلب وليس وحي الله تعالى إلا أنهما لم ينتبها تبعا للتطور الإنساني الناقص في تلك الحقبة من الزمان كما أظن. ولذلك فإنه سبحانه تدارك الأمر ومنع من حصول القضية كما أن إبراهيم بنفسه لم يتمكن من إجراء ما ظنه أمرا وسال العرق من جبينه وهو من علامات السكتة القلبية.
7. غنى الخالق عن خلقه حتى في طلب الشرائع.
لا شك بأنه سبحانه في غنى عن كل خلقه ولكن هناك هدف للخلق. والهدف هو أن الله تعالى يحب أن يرى العابدين الذين يخضعون له باختيارهم. هكذا تتجلى حقيقة العدالة عند الله تعالى. وهكذا تعلم الملائكة والأرواح القدسية بأن ربهم مستبد بحق بدليل خضوع الكثير من الكائنات المدركة له من دون أن يشعروا بخطورة عدم الخضوع. وهذا من حق الله تعالى.ولكن وجود كتاب سماوي اليوم بيد البشر وهو يتحدى الجميع ولم يتمكنوا من أن يجدوا فيه اختلافا، يعطينا الثقة في أنه كتاب الله تعالى. كما أن قوة الإدراك لدينا محسوسة إلى جانب قدرتنا على الإرادة الحرة فلو أن الله تعالى عالم مدرك وهو عالم مدرك، فلا يجوز له بأن يعطي هذه الإمكانيات الخطيرة لبعض خلقه دون أن يوجههم التوجيه الصحيح. لا نريد أن نفرض أمرا على الله تعالى ولكنه هو سبحانه كتب على نفسه الرحمة فلا يجوز له أن يتركنا هملا. فعلى الإخوة الذين تتحدثين عنهم أن يأتوا بكتاب أقوى من هذا القرآن لنخضع له بدل القرآن أو يأتوا بكتاب يضاهئ هذا القرآن لنقارن بينهما فنميز الصحيح من بينهما. وتمييز الصحيح لكل الكتاب وليس لبعض الكتاب لأن المفروض ألا يتحدث الله تعالى بالباطل إطلاقا. نحن حتى الآن لم نر كتابا يضاهئ القرآن فنتبع القرآن خاضعين ونحن على استعداد لأن نترك ما نحن عليه لو ثبت العكس.فلو كان الإخوة الذين تتحدثين عنهم فعلا في شك من القرآن فقد يكون عذرهم مقبولا عند الله تعالى ولكن يجب أن نسمهم بالجهل. إذ لا يمكن أن نعرف الله تعالى ولا نرى له أثرا توجيهيا لنا.
8. فراغ النفس من العلم وعلم الله المسبق بأفعال عباده.في المقطع الأخير تتعرضين لمسألتين مهمتين وهمافراغ النفس من العلم وعلم الله المسبق بأحوال عباده
.1. فراغ النفس:طلبت مني دليلا على ادعائي فراغ النفس. الفراغ مسألة طبيعية ولكن الملاءة تحتاج إلى دليل. كما أن العدم طبيعي والوجود غير مقبول إلا بالمشاهدة أو بالدليل. الجنة والنار ليستا حقيقتين بطبيعتهما فالأصل أن لا جنة ولا نار. ولكننا نستدل عليهما بوعد الله تعالى في القرآن وفي ما سبق من كتب السماء. يقول سيادة الدكتور سلامه بأن الله تعالى وضع في نفوسنا مثلا علا فهو يدعي ادعاء باطلا حتى يأتي بتصريح من الله تعالى. وأنا أدعي بأن الله تعالى (والعياذ بالله) لم يكن أحدا فردا وكان هناك إله آخر مثله لكنه حارب الإله الآخر فتغلب عليه وأفناه ثم ادعى بأنه الأحد الصمد. هذا الادعاء باطل ومردود إلا إذا أتيت بدليل واضح محسوس على ذلك أو أتيت باعتراف من الله تعالى بذلك. هذا هو أصل حكمنا على أي ادعاء.وحتى الآن فإن سيادة الطبيب سلامه حفظه الله تعالى لم يأت بأي دليل وإنما يسرد لنا الآيات الكريمة دون أن يعطينا أية أمارة بأنه يعرف معاني تلك الآيات فضلا عن أن تلك الآيات ليست دليلا واضحا على ادعاءاته. وأخيرا تشبث بالاستنتاجات وهو مع الأسف يظن بأن احترامنا له وحبنا إياه دليل على جهلنا وعلى تفوقه علينا. إنه مع الأسف يستعجل في الرد لأنه يؤمن إيمانا مسبقا بأن ما يقوله حق ويتهمنا بالجهل. سيادة الدكتور كمال يمارس الاستنتاج في كل مقالاته ولكن سيادة الطبيب يظن بأن الدكتور كمال يجهل الاستنتاج ويسعى في مقالته الأخيرة بأن يأتي بأمثلة وهنة لتثبيت مسألة الاستنتاج.سيادة الطبيب مع احترامي له وحبي الشديد إياه لأنني أثق بأنه رجل مؤمن وطيب فإنه يظن بأن مسألة غيبية مثل خلق المثل العلا في النفوس بواسطة سيد الكائنات يمكن إثباتها بالاستنتاجات البسيطة. إنه يجهل بأن حكم القاضي لا يفيد العلم ولكنه مضطر للفصل حقا أو باطلا. هل سمعتم بأن مجموعة من العلماء الباحثين اختلفوا في استنتاج علمي فذهبوا إلى القاضي ليحكم بينهم وهل لو فعلوا ذلك فنحن سنعتبر حكم القاضي علما؟ إثبات أي أمر بالعلم يحتاج إلى تجارب كبيرة وموسعة وقلت بأن إثبات خلق المثل العلا في النفس علميا يحتاج إلى قرن من الزمان ويقوم بها عدة جامعات علمية في الأرض حتى تتمكن البشرية في النهاية من أن تعطي الاستنتاج المشترك بين مجموعة من العلماء قيمة علمية. وكل ذلك في النهاية قد يكون باطلا وخطأ.المشكلة هي أن سيادة الطبيب حينما يرى تواضعا من إخوانه يظن بأنهم فعلا جاهلون وبأن سيادته حاز المراتب العليا من التحضر. وأنا باعتبار اتصالاتي الكثيرة بالفلاسفة المعاصرين لاحظت هذا الشعور بالفوقية لديهم جميعا مع الأسف. فهل يجوز لي الآن بأن أقول بأن الفلسفة تؤدي إلى الشعور بالفوقية؟لو قلت ذلك فأنا شيخ الجاهلين. لفهم هذه الحقيقة البسيطة نحتاج إلى عشرين أو ثلاثين سنة من دراسة وافية يقوم بها مجموعة من العلماء على مختلف طلاب وأساتذة الفلسفة في كل الأرض وفي النهاية يمكن القول بأن الفلاسفة في الغالب يشعرون بالفوقية.فأتمنى أن يفرق سيادته بين العلم والقضاء الذي يقوم به القاضي وليس باليد طريقة لتجنب القضاء. أنا في قرارة نفسي أحتمل بأن صحة أحكام قضاة التميز قد تصل إلى 1% من أحكامهم في القضايا عدديا. كل أحكامهم باطلة إلا النزر منها ولكن ليس بيدنا طريق أخرى للفصل في القضايا الحقوقية والجزائية.كما أتمنى أن يعلم سيادته بأن الذين لم يقرؤوا كتابه قد يكون الملل عاملا لتركهم قراءة الكتاب وليس تفوق كتابه على معلومات القارئين. أنا شخصيا أحب المطالعة ولكنني حينما أرى تعابير جميلة غير ذات معنى دقيق فأنا أترك الكتاب.ولعلمكم فإنني أستهزئ بفلسفة الإغريق وقد صرفت شطرا من وقتي لاستيعابها ثم علمت بأن فلسفتهم سفسفة وأكثرها ادعاءات غير دقيقة وهي شعر وليس علما. وأعطيك مثالين واضحين للجميع:
1. هناك عالم يوناني ولد في مصر وأنا أحتمل دون دليل بأنه مصري واسمه بتاليموس والعرب يسمونه بطلميوس. هذا العالم ظن كغيره من فلاسفة اليونان بأن الأرض هي أصل الكون وكل الكواكب بما فيها الشمس والنجوم تدور حول الأرض. نقول تدور حولها لأن اليونانيين أدركوا بأن الأرض كروية. قام هذا الرياضي العالم بمحاسبة كل الحركات الباطلة وأخرج للناس محاسبة دقيقة للشروق والغروب والخسوف والكسوف في كل بقعة من الأرض. سار الناس على حساباته وعظموه وعظموا علمه لأن النتائج كانت صحيحة. وبعد ألفي عام ظهر العالم الحقيقي كبرنيكوس فقال بأن الأرض ليست مركز الكون وهي جرم صغير تدور حول الشمس وحول نفسها بالنسبة للشمس. أثبت كبرنيكوس بعد ألفي عام من انخداع العالمين بعلم بطليموس بأنه لم يأت بعلم.
2. قام أرسطو ويسمونه المعلم الأول بكتابة المنطق والفلسفة الاستدلالية وجند مجموعة من طلابه ليمشوا في الأرض وينشروا علمه ولذلك سموهم المشائين كما سموا فلسفته بفلسفة المشّاء. ادعى سيادته بأن العقل والاستنتاجات العقلية كافية لتكون برهانا على الحقائق و بأن التجربة مهما كبرت فهي باطلة. قام الفلاسفة بتثبيت هذا القول الأرسطي بأن العقل يحكم بأن آلاف التجارب قد تعطي نتيجة واحدة ثم يأتي شخص ويقوم بتجربة جديدة ليرى العلماء نتيجة أخرى والعقل يقبل ذلك. خدع سيادته العالم العلمي أكثر من ألفي سنة ليكتفي العلماء بعقولهم الضعيفة وظنونهم الكبيرة. ثم جاء المرحوم جاليليو بعد حوالي ألفي سنة وقال دعني أجرب مسألة واحدة من مسائل أرسطو لأرى صحة ادعاءه قبل أن أقبل بأن العقل البشري يحل محل التجربة. كان أرسطو يعتقد بأن الأجسام تهوي إلى الأرض بسرعة تناسب وزنها. فهذا يعني بأننا لو وضعنا خمس كرات بأوزان مختلفة في وقت واحد فوق برج مرتفع على مسار مسطح ثم سرحناها دفعة واحدة فإن الكرة الأكثر وزنا ستصل إلى الأرض قبل الكرة الأقل وزنا. قام جاليليو بتجربة مكلفة في ذلك الزمان سعيا منه ليدرك حقيقة تفوق العلوم العقلية على العلوم التجربية. فرأى ما لم يره علماء الأرض المخدوعين بأرسطو بأن الكرات المتعددة وصلت الأرض في لحظة واحدة. أدرك جاليليو بأن حكم أرسطو باطل في قضية واحدة فهذا يعني بأن الأساس الذي بنى عليه أرسطو أحكامه ضد التجارب أساس باطل.فتح الله تعالى على البشرية من جاليليو العلم حيث ترك العلماء مسألة المعقولات وذهبوا وراء التجارب فظهرت الصناعات ثم ظهرت التقنيات المعقدة مثل الكمبيوتر وتعرفت البشرية على الكيمياء بكل دقة ووضوح وتعلم سيادة الطبيب محمد سلامه من العلم التجربي في الطب المعارض للعلم العقلي في الطب فلم يدرس الطب من كتاب القانون في الطب لابن سينا بل درس الطب في المدارس والجامعات التجربية التي حاربت عمليا الطب العقلي.وأخيرا فإن التجربة تقول لي بأن سيادة الأخ العزيز الطبيب سلامه سيأتي بعد قليل وبعد أن يطالع ما كتبته كما يطالع جريدة الأهرام ويرد علي بتكرار ما قاله من قبل دون دليل ولكن بتعابير بديعة وجميلة ويعطينا أمثالا ساذجة بسيطة ولكنها مسلية فعلا. أنا فعلا اشعر بالراحة حينما اقرأ أمثال سيادته فهي تنم عن فكر مبدع ولكنه يستعمل هذا الفكر في كتابة الشعر عوضا عن التحقيق العلمي أو دراسة القرآن دراسة عميقة.لقد أطلت عليك وعلى القارئ الكريم ولكن بقيت المسألة الثانية وهي علم الله المسبق بأفعال عباده. إنه قول جاهل اعتقد به السلف وقلدهم الخلف وقد ناقشناه مع إخواني الذين تعلموا القرآن مني تقريبا في المودة واختلفنا وذهب كل منا في النهاية إلى مذهبه وأقفلنا البحث دون أن يتمكنوا من الرد علي أو يقنعوني بادعاءاتهم الوهمية. انشقت المودة بعدها شقين وتوقفتُ عن إدارة جلسات شمال لندن والبحث موجود في المودة ولا داعي للتكرار. أحمد المُهري
#تطوير_الفقه_الاسلامي
12/8/2016