ذكرى الاستقلال: من حلم التحرير إلى ضرورة بناء الدولة التنموية ..(البحث عن النموذج الاقتصادي للدولة!)
مرحباً بالجميع،
وكالعادة مع المقال الشهري عدد 46 من مجلة الرابطة في الصفحة 41،

المقال: ذكرى الاستقلال: من حلم التحرير إلى ضرورة بناء الدولة التنموية ..(البحث عن النموذج الاقتصادي للدولة!)
تطل علينا في الثلاثين من نوفمبر، يوم الاستقلال المجيد، يقف اليمنيون مرة أخرى أمام مرآة التاريخ.
حلم التحرر وبناء دولة وطنية مستقلة وقادرة،
اليوم، وبعد عقود من الآمال والطموحات، تبدو صورة اليمن في المرآة باهتة ومجزأة، فبدلاً من دولة الاستقلال والسيادة، نجد أنفسنا أمام واقع مرير من الانقسام والتبعية واقتصاد منهار يئن تحت وطأة صراع مدمر.
في مقالي السابق، “اليمن بين ثورتين واقتصاد منهار”، استعرضت المسار التاريخي الذي قاد اليمن إلى وضعه الاقتصادي الكارثي الحالي. وكان التساؤل عن المخرج الممكن من هذا النفق المظلم، برغم التوصيات التي قدمتها في المقال، إلا ان الحكاية لم تتوقف، لا اسعى ابداً الى رثاء الماضي، ولكن البحث عن الفهم، للعمل اليوم لبناء المستقبل.
هنا اضع ، محاولة جديدة لرسم خارطة طريق لنموذج اقتصادي تنموي، قد تتبناه الدولة، وقد يكون نموذجاً قادراً على انتشال اليمن من رماد الحرب إلى فضاء التنمية المستدامة.
الفجوة التي دندنت حولها في المقال السابق، كان غياب تصور عملي ومفصل لما يجب أن يكون عليه اقتصاد اليمن واقتصاد المستقبل، فالحديث عن الأمل وحده لا يكفي، والأفكار العامة لا تبني أوطاناً. غياب “العقل المشترك” والإرادة السياسية الحقيقية أدى إلى فشل الحكومات المتعاقبة في بناء اقتصاد مستدام. فمعاناة “أحمد”، الذي يمثل كل مواطن يمني، تتفاقم يومياً في ظل انهيار الخدمات وتآكل القدرة الشرائية. لذا، فإن هذا المقال لا يهدف إلى البكاء على الأطلال، بل يسعى، انطلاقاً من واقعنا المعقد، إلى رسم ملامح طريق للخروج من هذا النفق المظلم.
إنه محاولة للإجابة عن السؤال: بعد أن ضاعت أحلام الماضي، كيف يمكننا بناء مستقبل ممكن؟ ، اسعى هنا الى التركيز حول تقديم “نموذج الدولة التنموية ذات الاقتصادات المتنوعة”، كإطار عمل مستوحى من تجارب دول نهضت من كوارث أشد، ومبني على الإمكانيات الكامنة في اليمن.
دعونا ننظر للوضع الحالي:
قبل الحديث عن أي حلول، لا بد من الاعتراف بمرارة الوضع القائم.
ما نشهده اليوم في اليمن عموماً، وفي المناطق المحررة خصوصاً، ليس أزمة اقتصادية عابرة، بل انهيار بنيوي في المنظومة المالية والمؤسسية ما يمكن أن أسميه “اقتصاد الدكاكين”.
فالقطاع المالي يعيش حالة تفتت عميقة، إذ فقدت البنوك دورها كوسيط مالي قادر على تمويل التنمية، وتحول النشاط الاقتصادي إلى وحدات صغيرة ومعزولة.
في نظري، السياسات النقدية التي يتبعها البنك المركزي في عدن ، كمحاولة السيطرة على سعر الصرف عبر “تجفيف السيولة” من العملة المحلية لم تكن سوى علاج للعرض لا للمرض.
لقد أدت تلك السياسات إلى أزمة سيولة خانقة شلت ما تبقى من الحركة الاقتصادية، ودمرت ثقة المودعين في الجهاز المصرفي برمته. وفي ظل هذا الفراغ، مع انتشار شبكات بنوك التمويل الأصغر والصرافة بشكل غير مسبوق، ليس كدليل على العافية، بل كعرض من أعراض تحول الاقتصاد إلى وحدات صغيرة ومجزأة (دكاكين) عاجزة عن خلق نمو حقيقي أو وظائف مستدامة.
أما الحكومة، التي تعاني من ضعف هيكلي وخلافات داخلية، وعجز مزمن عن صرف المرتبات بانتظام، فقد وجدت نفسها في موقف أشد حرجاً. اعتمادها شبه الكامل على تصدير النفط الذي توقف بعد هجمات الحوثيين على منشآت التصدير، حرمها من أهم مصادر الإيرادات. أما الإيرادات الداخلية، فلا تمتلك منها إلا “النفس”، إذ ما يصل إلى الخزينة لا يرى أثره، بينما تتبدد بقية الموارد في مسارات لا يعلمها (أحد!).
وزاد الوضع تعقيداً أزمة الملاحة في البحر الأحمر، التي كان يُعتقد أنها قد تمنح الحكومة أوراق قوة دولية، لكنها في الواقع عمقت أزمتها المالية عبر تقليص إيرادات الجمارك في الموانئ الخاضعة لسيطرتها.
وفي محاولة أخيرة يائسة، تسعى الحكومة لرفع الفاتورة الجمركية بحثاً عن إيرادات جديدة، لكنها بذلك تعزز موجات التضخم وأشعال الأسعار أكثر.
ومع محاولاتها كبح الغلاء ، إلا انها تفشل وتستمر في الفشل، “وكأنك يا بوزيد ما غزيت”.
وإذا نظرنا إلى الوضع بلغة الأرقام، نجد ما يلي:
- انخفض نصيب الفرد من الناتج المحلي الحقيقي بنسبة 58% منذ عام 2015[1]. وصل الناتج المحلي الإجمالي إلى حوالي 19.10 مليار دولار في 2024، مع توقعات بانكماش مستمر. هذا الرقم يمثل أقل من نصف ما كان عليه في ذروته قبل الحرب (43.23 مليار دولار).[2]
- 47% من السكان يعيشون على أقل من دولارين في اليوم، تقريبا أكثر من 17 مليون شخص يواجهون انعدام الأمن الغذائي، و18 مليون يفتقرون للمياه النظيفة ، حسب تقارير البنك الدولي.
- تجاوز التضخم في مناطق الحكومة المعترف بها دولياً 30% في عام 2024 ، بحسب تقارير البنك الدولي.
هذه الأرقام ليست مجرد إحصائيات، إنها قصص ملايين اليمنيين الذين يكافحون يومياً من أجل البقاء،
السؤال الآن: كيف يمكن تحويل هذا الواقع؟
وهل علينا أن نستمر في الانتظار حتى الوصول إلى حل سياسي شامل؟
في ظني، لا.
فكل تأخير هو تدميرٌ لما تبقى من الحياة في هذا البلد الطيب أهله.
لقد حان الوقت للتفكير بطريقة مختلفة ولا بد من ذلك.
نموذج الدولة (البراغماتية) التنموية ذات الاقتصادات المتنوعة
الجواب الذي اقترحه يكمن في تبني نموذج مزدوج:
- الدولة التنموية كآلية للحكم،
- والاقتصادات المتنوعة كاستراتيجية للنمو.
- و اللامركزية كمسار للاستقرار والتنمية.
أنا لا أزعم اختراع العجلة، بل أدعو إلى الاستفادة من تجارب الدول التي حققت قفزات تاريخية، ليس لأنها ديمقراطية بالمفهوم الأوروبي، بل لأنها كانت براغماتية تسعى لمصالحها أولاً ، ونحن أولى بأن نقول: (اليمن أولا”).
المسار التاريخي لليمن أثبت فشل النماذج الاقتصادية التي جُربت:
- التخطيط المركزي الجامد في الجنوب، الذي انهار مع انهيار داعمه الخارجي (الاتحاد السوفيتي).
- اقتصاد السوق المشوّه في الشمال، الذي تحوّل إلى رأسمالية محاسيب تعيد إنتاج الفساد.
- النموذج الريعي بعد الوحدة، القائم على النفط والتحويلات والهبات الخارجية، دون أساس إنتاجي حقيقي.
- وأخيراً، اقتصاد الحرب الذي نعيشه اليوم، وهو نموذج باطش دمر كل الممكنات التنموية، وأفرز طبقة من المتغولين على الثروة تتجاوز في فسادها حدود الفساد ذاته.
الطريق الأمثل للمستقبل يكمن في نموذج تنموي براغماتي أثبت نجاحه في دول خرجت من ظروف مشابهة: نموذج “الدولة التنموية”، هذا النموذج لا يعني عودة الدولة المتسلطة التي تمتلك كل شيء، بل يعني بناء دولة ذكية واستراتيجية تتمتع بالقدرة والرؤية لتوجيه مسار التنمية.
الدولة التنموية ليست الدولة الشمولية التي تسيطر على كل شيء، وليست الدولة الحارسة التي تترك كل شيء للسوق.
إنها دولة ذكية، قوية، وذات رؤية.
دولة تلعب دوراً نشطاً في توجيه الاقتصاد، وتصحيح اختلالات السوق، وتحفيز القطاعات الاستراتيجية، وحماية الفئات الضعيفة.
الدولة التنموية دولة تتدخل بشكل مستقل في الاقتصاد لتعزيز التنمية طويلة الأجل للبلاد.
فإذن في دولة هشة كاليمن، لا يمكن الاعتماد على “اليد الخفية” للسوق وحدها لإعادة البناء. نحن بحاجة إلى “يد مرئية” قادرة على تحديد القطاعات الاستراتيجية، وتوفير البنية التحتية، ووضع سياسات تحفز الاستثمار المنتج بدلاً من الأنشطة الريعية.
لماذا هذا النموذج مناسب لليمن؟
- حجم الدمار في البنية التحتية والمؤسسات يتطلب تدخلاً قوياً ومنظماً من الدولة لإعادة البناء، وهو ما لا يستطيع القطاع الخاص القيام به وحده.
- سنوات الحرب دمرت الثقة بين الفاعلين الاقتصاديين. الدولة هي الوحيدة القادرة على إعادة بناء هذه الثقة من خلال فرض القانون وتوفير بيئة مستقرة.
- ترك الاقتصاد لقوى السوق وحدها في مرحلة ما بعد الصراع سيؤدي إلى تفاقم الفوارق وزيادة التوترات. الدولة التنموية تضمن توزيعاً عادلاً لثمار النمو.
تجارب دول مثل فيتنام ورواندا لم تكن بالضرورة نماذج ديمقراطية بالمعنى الغربي، لكنها كانت “دولاً قوية ذات رؤية”. القوة هنا لا تعني القمع، بل تعني “القدرة المؤسسية”:
- القدرة على إنفاذ القانون، ومحاربة الفساد بحسم،
- وتنفيذ السياسات بفعالية.
- دولة قادرة على توفير الأمن، وخلق الوظائف، وتقديم الخدمات.
إن بناء الدولة التنموية يتطلب محركاً قوياً، وهذا المحرك يتكون من جزأين +1 :
- العقل المخطط: مؤسسات الدولة القادرة على التخطيط والرؤية.
- والقطاعات المنتجة: المحرك الواقعي للنمو، من الصناعة والزراعة إلى الاقتصاد الإبداعي والخدمات الحديثة.
- اللامركزية كمسار للاستقرار والتنمية.
أولاً، العقل المخطط:
لا يمكن تحقيق ذلك عبر الآليات الحكومية التقليدية المشلولة بالسياسة والمحاصصة.
نحن بحاجة إلى ما يمكن تسميته “فريق اقتصادي موازٍ” أو “حكومة ظل اقتصادية”.
فريق من أفضل الكفاءات والخبرات اليمنية، معزول عن السياسة اليومية، مهمته الرئيسية التخطيط الاستراتيجي ، وتصميم السياسات، ومراقبة الأداء، على أن يكون هدفه الأسمى هو “بناء اقتصاد غني بالوظائف على نطاق واسع“، لأن خلق الوظائف هو أقوى أداة لمحاربة الفقر وتحقيق الاستقرار.
وهذا يتطلب ان يكون الفريق لديه كافة الصلاحيات ، بما يضمن تطبيق توصياته ، ولا يحق لأي مكون حكومي او سياسي التدخل في انشطته او منعه، وما يصدره يصبح امراً قاطع التنفيذ،
ولذا يجب ان يدعمه التحالف العربي ، وتتحول توصياته الى وقاع تنفيذي عبر دعم التحالف اولاً ، والقيادة السياسة ثانياً، والمانحين وتوجهاتهم التنموية في اليمن ثالثاً،
قد يتطلب تغيير في السياسات والإجراءات والمشاريع، فكيف يمكن تنفيذها دون هذا الدعم، وان تطلب هيكلة أي وزارة او هيئة او مؤسسة حكومية ، أو تقليص وظائفها او اضافتها بما يحقق الهدف المنشود.
ثانياً، القطاعات المنتجة:
يجب أن يتجاوز التنويع الاقتصادي مجرد الاعتماد على النفط المحدود والمتقلب. يجب أن نفكر في خلق “منظومة اقتصادات” متكاملة ومترابطة، تستغل كل مقومات اليمن الكامنة، قد يشمل ذلك:
- الاقتصاد الأزرق: استثمار الشريط الساحلي الهائل ليس فقط في الصيد، بل في الاستزراع السمكي، وتطوير الموانئ لتصبح مراكز لوجستية عالمية، والسياحة الساحلية.
- الاقتصاد الرقمي: الاستفادة من التركيبة السكانية الشابة، وتجاوز تحديات البنية التحتية المدمرة، عبر تمكين الشباب من تقديم خدمات للعالم (خدمات لوجستية رقمية ، برمجة، تصميم، استشارات) من داخل اليمن، مما يوفر دخلاً بالعملة الصعبة مباشرة للأفراد.
- الاقتصاد البرتقالي: تحويل الإرث الثقافي والتاريخي الغني لليمن (الفنون، الحرف اليدوية، التراث المعماري) إلى منتجات وخدمات ذات قيمة اقتصادية، وربطها بالسياحة والاقتصاد الرقمي.
- الاقتصاد الزراعي ، و الاقتصاد الاجتماعي ، والاقتصاد التعاوني ، والاقتصاد اللوجستي …واخرى كلما تطلب.
+1 : اللامركزية كمسار للاستقرار والتنمية
الحديث عن بناء نموذج اقتصادي ناجح في “المناطق المحررة” يصطدم بواقع التشظي السياسي والاجتماعي. وهنا، يجب أن نكون براغماتيين. إن فكرة “الحكم الذاتي للمحافظات” أو اللامركزية الاقتصادية الموسعة لم تعد ترفاً فكرياً، بل قد تكون ضرورة عملية للانطلاق.
إن منح المحافظات القادرة، مثل حضرموت وغيرها، صلاحيات واسعة لإدارة مواردها الاقتصادية بشكل مباشر، مع تقاسم العائدات بنسبة عادلة مع المركز، يمكن أن يحقق عدة أهداف:
- يعالج المظالم التاريخية المتعلقة بالتهميش،
- يخلق حافزاً للتنافس التنموي الإيجابي بين المحافظات،
- يقدم نموذجاً عملياً يمكن البناء عليه مستقبلاً في أي تسوية سياسية شاملة.
لكن هذا الطرح، يحتاج الى تفصيل، اجعله لمقال قادم، ليس دعوة للانفصال، بل هو اعتراف بالواقع، ومحاولة لبناء النجاح من الأسفل إلى الأعلى، بدلاً من انتظار حلول لن تأتي من الأعلى.
أيها السادة ،
دولة تنموية. فريق اقتصادي خبير. منظومة اقتصادات متنوعة. حكم لا مركزي.
قد تبدو هذه رؤية طموحة، لكن السؤال الجوهري هو: من أين نبدأ؟
حجر الزاوية: الإنسان أولاً، جواب بسيط في مضمونه، عميق في أثره: منظومة التعلم.
حجر الزاوية الذي يجب أن يُبنى عليه كل هذا المشروع هو إعادة النظر جذرياً في منظومة التعلم، بكل مستوياتها: التعليم، التدريب، والتنمية.
لا يمكن بناء اقتصاد رقمي من دون مبرمجين ومسوقين رقميين،
ولا اقتصاد أزرق من دون مهندسين بحريين وخبراء في الاستزراع السمكي، ومحترفين في المجال السياحي،
ولا يمكن قيام دولة قادرة من دون إداريين وقانونيين أكفاء.
الاستثمار في رأس المال البشري ليس ترفاً،
بل هو الشرط الأول لأي نهضة قادمة.
وسيكون هذا الملف، بإذن الله، موضوع مقالات قادمة بعد مقالة اللامركزية، لأن كل إصلاح يبدأ من الإنسان.
في الختام وفي ذكرى الاستقلال،
علينا أن نتذكر أن التحرر الحقيقي ليس رفع علمٍ أو ترسيم حدودٍ،
بل امتلاك القدرة على بناء المستقبل.
لقد حان الوقت لأن ننتقل:
من اقتصاد الريع والصدقات إلى اقتصاد الإنتاج والإبداع،
ومن دولة المحاصصة المنهارة إلى دولة المؤسسات القادرة.
الطريق طويل وشاق، نعم،
لكن الخطوة الأولى تبدأ دائماً ، بعد التوكل على الله ، برؤية واضحة وإرادة صلبة.
وما دامت الإرادة موجودة، فالبناء ممكن.
أصلح الله بالكم
ودمتم سالمين،
أحمد مبارك بشير
25/10/2025