لغز الريال في عدن (الصدمة الإدارية بقيادة البنك المركزي)
لغز الريال في عدن (الصدمة الإدارية بقيادة البنك المركزي)

لغز الريال في عدن
(الصدمة الإدارية بقيادة البنك المركزي)
شهد سوق الصرف في العاصمة عدن خلال الأسبوع الماضي تحولاً ملفتاً وسريعاً، حيث تعافت قيمة الريال اليمني بشكل ملحوظ أمام العملات الصعبة تحديداً الريال السعودي والدولار الامريكي.
هذا التحسن يمثل انحرافاً عن المسار المعتاد والمستمر من التدهور الذي عانى منه الريال في السنوات الأخيرة وتحديداً من العام 2024 وحتى منتصف شهر يوليو 2025، والذي أوصله إلى مستويات قياسية من الضعف 2800 قبل أقل من أسبوع للدولار الواحد.
بالتأكيد هذا التحول المفاجئ ليس دليلاً على تعافٍ اقتصادي حقيقي، بل هو نتيجة مقصودة ومخطط لها لحملة “الصدمة الإدارية” العنيفة والمنسقة التي يقودها البنك المركزي اليمني في عدن. تجمع هذه الحملة بين:
- استخدام القوة التنظيمية،
- وأدوات الحرب المالية الاستراتيجية،
- والتأثير النفسي على السوق،
بهدف انتزاع السيطرة على سوق الصرف من شبكات المضاربة والكيانات المالية المرتبطة بحكومة صنعاء.
يوضح ذلك ما جاء في التصريح الرسمي لمحافظ البنك المركزي، أحمد غالب المعبقي، ليؤكد هذه الفرضية، محولاً إياها من مستوى “التحليل والافتراض” إلى مستوى “الاستراتيجية المُعلنة”.
يكشف هذا التصريح أن ما نشهده ليس لغزاً اقتصادياً ، بل نتيجة مباشرة لعملية جراحية دقيقة في قلب النظام المالي اليمني، تم التخطيط لها وتنفيذها بقرار سيادي بهدف استعادة المركزي في عدن لهيمنته على السياسة النقدية.
لفهم دلالات التحسن الأخير، لا بد من وضعه في سياقه التاريخي، وهو سياق من الضعف الهيكلي المستمر الذي أصاب العملة اليمنية منذ اندلاع الصراع، وتعود جذوره إلى عدة عوامل مترابطة:
- قرار نقل مقر البنك المركزي إلى عدن في عام 2016 كان نقطة تحول كارثية، حيث أدى إلى خلق سلطتين نقديتين متنافستين بسياسات متضاربة، مما عمق الفوضى في النظام المالي.
- هجمات الحوثيين على موانئ تصدير النفط والغاز حرمت الحكومة من حوالي 70% من إيراداتها المتاحة، وخسارة البنك المركزي لمصدره الرئيسي من العملة الصعبة.
- انكمش الناتج المحلي الإجمالي بنسبة تزيد عن 50% منذ بداية الحرب، مما جعل الاقتصاد يعتمد بشكل حاسم على التدفقات الخارجية، وتحديداً تحويلات المغتربين والمساعدات الدولية.
هذا الضعف الهيكلي خلق بيئة خصبة للمضاربة، حيث أصبحت التوقعات السلبية وحدها كافية لإحداث انهيارات متتالية في قيمة العملة، مما أدخل السوق في حلقة مفرغة من التدهور. حيث تحول البنك المركزي في عدن إلى أكبر صراف (ومضارب) في سوق العملة بغرض الحصول على الريال من أجل صرف المرتبات.
لمواجهة هذا الانهيار، انتقل البنك المركزي في عدن من سياسة نقدية تفاعلية مع الحدث، إلى استراتيجية هجومية استباقية، مستخدماً أدوات قاسية وقسرية تهدف إلى إخضاع السوق بدلاً من مجاراته. وقد ربط تصريح المحافظ بين الإجراءات الأمنية، والقرارات الاستراتيجية، والتطوير التقني، مما يؤكد أننا أمام خطة متكاملة وليست مجرد ردود أفعال متفرقة. برز ذلك في:
- حملات متتابعة ضد شركات الصرافة غير المرخصة والمخالفة. بهدف كبح المضاربة، بهدف غير المعلن تفكيك البنية التحتية للسوق الموازية، وخلق مناخ من الخوف يردع المضاربين، ويفرض هيمنة البنك المركزي ومؤثر بل صانع رئيسي في السوق النقدي.
- أوامر نقل مقرات البنوك التجارية والإسلامية من صنعاء إلى عدن. هذا القرار كان تصعيداً استراتيجي في الحرب الاقتصادية (حرب البنوك) بهدف:
- تمكين البنك المركزي في عدن من ممارسة رقابة مباشرة وفعالة على كامل القطاع المصرفي.
- السيطرة على نقاط الدخول الرئيسية للعملة الصعبة إلى البلاد، وخاصة تحويلات المغتربين والمساعدات الدولية، وتعزيز الامتثال للمعايير الدولية لمكافحة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب.
- محاولة مباشرة لـ “تجفيف منابع التمويل” لحكومة صنعاء.
- أشار المحافظ إلى “إطلاق الشبكة المالية الموحدة وأنظمة حديثة للمدفوعات” والتي اطلقت من قبل وكانت مخصصة للصيرفة ، والان حسب المحافظ ستكون للبنوك، هذه النقطة تمثل المرحلة التالية من الاستراتيجية. فبعد فرض السيطرة بالقوة، يسعى البنك الآن إلى ترسيخ هذه السيطرة عبر التكنولوجيا والبنية التحتية المالية، مما يعزز الرقابة ويجعل من الصعب على السوق الموازية أن تنشط مجدداً.
بناءً على ما سبق، يمكننا تقييم لغز الريال في عدن حول أسباب هذا التحول:
- ليس بهدف التحول الى سياسة تثبيت السعر ، وإنما التعويم المدار بقوة تنظيمية من البنك المركزي ، لإن تثبتي سعر الصرف يتطلب موارد هائلة غير متوفرة لدى المركزي، بالتالي هذا التعويم المدار تنظيمياً لا يستخدم الأدوات التقليدية الناعمة في سوق التعويم ، بل يستخدم أدوات صادمة وعنيفة لكسر ” التدهور” وتوجيه السعر نحو مستوى أكثر استقراراً.
- احتمالية كبيرة في تغيير سياسي كبير ، لكن التغيير الذي نشهده فعلياً هو في السياسة الاقتصادية التي يقودها المركزي بالقوة وبرغم عدم توفر أي موارد لدى المركزي ، لذا كان اتخاذ القرار في الوقت الحرج.
ومن هذا يمكننا وضع حل اللغز لتعافي الريال السريع في تفعيل ثلاث مستويات بشكل متزامن:
- قرار نقل البنوك والتشديد على تنفيذه. (وقد تم نقل البنوك الكبرى إدارياً بشكل كامل).
- الحملات المتتالية على شركات الصرافة. (كل يوم تقريباً قرار على عدد من شركات الصرافة).
- خلق حالة من “الذعر والخوف” لحائزي الدولار والسعودي والمضاربين فيها، مما أدى إلى موجة بيع واسعة. (مما يسهم في استرداد كمية كبيرة من العملة جراء الخوف من انهيار السعر).
لكن علي التنبيه، أن القوة التي اكتسبها الريال هشة ومن المرجح أن تكون غير مستدامة على المدى المتوسط ما لم تحدث تغييرات جوهرية، فالصدمة الإدارية أسهمت في كسر فقاعة المضاربة،
لكنها لا تستطيع خلق قيمة اقتصادية حقيقية.
وهذه يتطلب تدخلاً اقتصادياً واسعاً ودعماً واضحاً من التحالف ، واسترداد جزء من القدرة النقدية للواردات من العملة الصعبة. يمكن تحديد ذلك في توفير ما يلي في الحد الأدنى:
- استئناف صادرات النفط والغاز بشكل آمن ومستمر. (إزالة المخاوف من التصدير وتحريك هذا الملف، مما يتطلب دعماً من التحالف العربي والدول الداعمة).
- الحصول على دعم مالي خارجي كبير ومستدام. (استراتيجية واضحة مع التحالف العربي لدعم الحكومة مما يوفر غطاء مالياً ، ويدعم الاستقرار.)
- وضع آلية لتفعيل الموانئ والمنافذ اليمنية ، والتخفيف من متطلبات التأمين التي يفرضها الفصل السابع على اليمن.
- التوصل إلى تسوية سياسية شاملة وإنهاء الحرب. (هذا المراد الأساسي، والذي ينهي كافة الاحتمالات السلبية.)
ختاماً
الوضع الحالي، مناورة ذكية و معقدة في الحرب اليمنية الطويلة وفي حرب البنوك، و التي يتصدرها البنك المركزي اليمني ، في استرداد قوة الريال ، لكنها معركة مالية قصيرة الأجل، إلا أن الحرب الاقتصادية الأوسع والحرب ذاتها مازالت مستمرة ولم يقرر (المخرج) متى يأتي الفصل الأخير من هذه الحرب المؤلمة.
و اصلح الله بالكم
احمد مبارك بشير
31/07/2025