الاقتصاد المنهار والعم بانك (ابوكوفية)
مع العدد الجديد لمجلة الرابطة الاقتصادية 40 ، والذي تأخر اصداره بسبب وضع الكهرباء في عدن ، صفحة المقال 43 :

الاقتصاد المنهار والعم بانك (ابوكوفية)

مرحبا،
الحديث المتناقل عن رغبة الحكومة في عدن بطلب قرض من البنك الدولي (العم بانك) لدعم البنك المركزي، جعلني اعود بالذاكرة لقصة كوميديا سوداء كتبتها في 2010 وكانت متعلقة بطلب الأردن في حينها قرضاً من العم بانك، واعيد تكرارها كلما ظهر امامي هذا الخبر عن العم بانك ، والذي ابدأ بها كمدخل لهذا المقال:
أبو كوفيه والازمة المالية

يحكى في زمننا هذا المسمى بزمن العولمة حكاية ترددها الأجيال النائمة عن صاحب محلات في السوق تعرف بمحلات السيد زعلان، وكان زعلان يبيع في الشهر بألف دينار كاملة، و لكنه يعاني… فعليه التزامات بثلاثة آلاف دينار شهرية، ويمر الشهر و يتبعه الشهر، وزعلان يعاني والديون تزداد وقبضة الديانة قاتلة ، فالدين والالتزام هم الليل و ضيق النهار …
ولما ضاق به الحال استنجد بأشهر تجار السوق وكبيرها و هو معروف بأنه مراب كبير …ما كان امام زعلان أي حل، فكبير التجار واشهرهم في السوق هو المتحكم المتصرف في الاموال والحركة الاقتصادية.
المهم ماجاكم شر،
ذهب زعلان إلى السيد الشهير بأبي كوفية وحكى له قصته ودار حديث طويل منها باختصار:
كل اللي أنا محتاجه يابو كوفيه مئة الف دينار ، فبها افك ضيقتي ، وأسدد ديني ,افتح باب رزق أكبر وأسدد لك منه مالك .
- أممممممممممممممممممم!!
- تعرفنا وتعرف مكاني وكل أمري عندك لا يخفى.. يا سيدي!
- اسمع سأعطيك ولكن عليك أن تنفذ ما سأقوله وسيكون بيننا عقد بذلك…
- لك ما تريد .
- لديك بيت واسع ..
- أكيد ..
- ومن العيال أربعة!
- الحمد لله .
- وكلهم بلا عمل…!
- الله يسهل العافية .
- ما ينفع يا زعلان…
- والحل؟!
- بيتك فيه غرف كثيرة!
- تمام وهذا من فضل ربي .
- وحوش واسع!
- لله الحمد .
- عيالك ما يجلسون في الصالون ببلاش .
- كيف ؟؟؟؟!!!!
- الغرف لابد أن تأجر يومياً …
- نعم !!! أيش ..؟!
- زي ما اقولك ..
- والعيال ..!؟
- هم اللي يدفعوا الايجار ..
- بمعنى؟!
- ينزلوا للعمل يستفيدوا من الحوش معك ويفتحوا مشاريع صغيرة . ويزيد دخلك ودخلهم عبر سداد الإيجارات للغرف والجلوس في الصالون مش ببلاش …
- الله أكبر ..!
- أكيد .. يعني اللي حابب يجلس لابد يدفع واللي حابب يتفرج تلفزيون لازم يدفع .. واللي يشتي الحمام لازم يدفع ..
- بس هذا كثير ..
- براحتك .. أنت تشتي نقد .. وأنا اشتي فلوسي … وعندك الباب مفتوح …
- لا ما وصلنا كذا .. لازم نتفاهم!
- طيب ..
- خلاص .. ممكن بس متى تعطينا النقود الله يرضا عليك …
- ويرضا عليك .. لما نوقع العقد …
- عقد ايش ..؟!
- الاتفاقية …
- خلاص أنا ملزم .. ما تقبل كلمة الرجال …
- عقد وشهود … وإلا الباب مفتوح ..
- خلاص .. جهز عقدك ..
- العقد جاهز ,,, والآن يجي الشهود ..
- وهكذا كان جاء الشهود وقاضي تجاري، وتم الاتفاق والتوقيع:
- مبروووك يازعلان….1
- طيب وقعنا هات الفلوس …!
- لن تستلم مني كل المبلغ دفعة واحدة بل سأعطيك المبلغ على خمس دفعات ,,
- بس اتفقنا على مئة ألف ..
- يا حبيبي هذه دفعة أولى تنفذ تجينا !!! ما تنفذ…. يبقى كأن شيئاً لم يكن …
- نعم ولكن !!
- تقبل !!
- الأمر لله ..نعم …………………….!!!
وبالفعل تم توقيع العقد واستلم زعلان المبلغ، وهو “فرحان” في يده 20 الف دينار .. توجه للبيت وجلس مع عياله الأربعة واخبرهم بالأمر، وقال لهم أن عليهم السعي في طلب الرزق، وسيعطيهم الدفعات موزعة بالتساوي ، وبالمرة عليهم الاستفادة من عمهم فرحان الذي اشتهر بالتجارة والحرفة والذكاء …
ومرت الأيام … الشهر … الثاني والثالث ..
اجتمع الاب والابناء ، وكلهم في استجداء لولدهم ان يسعفهم بالسيولة من ابي كوفيه فقد نفد ما لديهم و السوق لا يشجع احداً … وانهم يتعهدون بسداد جزء من القسط لأبيهم خلال شهرين …
وراح زعلان إلى أبي كوفية …
- يا زعيم نحن والله نحتاج باقي الفلوس والضغط علينا كبير …
- ما شيء جديد …!
- صدقنا لما نستلم المبلغ كامل يتغير الحال ..
- لا يمكن .. بسلمك خمسة عشر ألفاً .. وتجربة ثانية .. وخليك قدها..!
- قد ايش …؟!
- قد العمل و الكلمة .
- الأمر لله .!
وخرج زعلان وهو يدير رأسه ، وفي الأفكار خاطرة لو سلم الفلوس للعيال . . أكيد سيضيعونها .. إذن لابد أن يبدأ هو … ويعمل صح ويستفيد من موارده ، وبعد تفكير مجهد وليلة شديدة الظلمة ، أشرق عليه الفجر وهو يعد العدة للبدء … لقد قرر أن يوجه استثماره بشكل فعلي وجدي ، وليخرج من كل أزماته ، سيستثمر معه ..سيذهب مع ابي كوفيه ليستثمر له !!!!!
أول مرة افسر الكوميدية السابقة، لكن لتكون مرتبطة بهذا المقال:
- زعلان، تمثل الحكومة/ الحكومات المقترضة.
- أبو كوفية ، البنك الدولي (أو مانحي التمويل المشروط).
- العيال الأربعة، تمثل المؤسسات العامة، والقطاعات الإنتاجية، والمواطنين.
- البيت والغرف والحوش، تمثل الموارد المحلية و الجهاز الإداري للدولة.
- الدفعات المشروطة، تمثل التمويلات المتدرجة من البنك الدولي، وفق شروط إصلاح محددة.
- اتفاقية العقد، يمثل برنامج الإصلاح الاقتصادي، و الالتزامات نحو الحوكمة والشفافية التي يطلبها المقرض.
- الصدمة من شروط الاستفادة من البيت، تمثل اشهر الشروط التي تبرز في رفع الدعم، و الضرائب، وخصخصة الخدمات.
- العودة لأبي كوفية ، الذي يتمثل في الضغط المستمر للحصول على الدفعات التالية بسبب فشل التنفيذ الذاتي.
- قرار زعلان أن يستثمر مع أبو كوفية نفسه ، هذا عندما تقرر الحكومة تسليم مواردها للبنك أو للمانحين لإدارتها بذاتهم، لتصبح الدولة مرهونة بالكامل (حدث ذلك في دول هشة منها لبنان والصومال وتيمور الشرقية …)
لماذا عدت لكتابة القصة السابقة مع التحليل، كما اشرت في مطلع المقال في الحديث عن رغبة الحكومة في عدن الاقتراض من البنك الدولي ، وقبل ان اخوض في عمق هذا الطلب، دعونا نطوف على السريع حول ابرز المعالم عن الاقتصاد اليمني وسأستعين هنا بتقريرين:
- الاقتصاد اليمني 2024 – عقوبات متزايدة وتدهور مستمر، الصادر عن مركز الدراسات والإعلام الاقتصادي.[1]
- تقرير البنك الدولي: الاقتصاد اليمني في 2024 . [2]
معالم التقريرين متقاربة جداً، اقدم تلخيصها هنا:
المعالم | المؤشر |
الناتج المحلي الإجمالي | انكماش -1% في 2024، -2% في 2023. |
سعر صرف الريال اليمني | تجاوز 2000 ، وحتى الان تعدى 2500. |
العقوبات الدولية | تصعيد ضد الحوثيين وشبكاتهم المالية وتضرر التحويلات النفطية. |
تأثير العقوبات | بحسب نتائج الاستبيان لمركز الدراسات في التقرير أظهرت نتائج التأثير ، ان : 36% قالوا إنها مؤثرة، و27% قالوا بلا تأثير. |
الوضع المصرفي | أزمة انقسام بنكي، و ضعف الثقة، وصدور قرارات من الخزانة الامريكية لتصنيف بعض البنوك. |
العجز المالي | 382.9 مليار ري |
الواردات والصادرات | زيادة كلفة الواردات، شلل في التصدير، بسبب ازمة البحر الأحمر. |
الوضع الإنساني والغذائي | ارتفاع الأسعار ، انسحاب عدد من المنظمات 60% يعانون من انعدام الامن الغذائي19% عمالة اطفال |
القطاع الخاص | انتهاكات واسعة خاصة في مناطق حكومة صنعاء. |
أشار التقريرين الى عدد من التوصيات تلخيصها كما يلي:
- الحاجة العاجلة لتنشيط الإنتاج وتقليل الاعتماد على المعونات.
- ضرورة ضبط سوق الصرف ودعم البنك المركزي في عدن.
- تقليص المخاطر المصرفية ومراجعة أدوات العقوبات.
- توحيد السياسات المصرفية وتسهيل التحويلات.
- ترشيد الإنفاق وزيادة الإيرادات غير النفطية.
- تحسين سلاسل التوريد، دعم الإنتاج المحلي.
- تعزيز برامج الحماية الاجتماعية والغذائية.
- توحيد المؤسسات المالية وتحقيق الاستقرار المؤسسي.
- حماية القطاع وتحفيز بيئة الأعمال.
- إصلاح هيكلي متكامل، ودعم سياسي واقتصادي مشترك.
لكن هل فعلاً يمكن تطبيق هذه التوصيات؟! مع اخذ العلم بأن التقريرين لم يغطيا عدد من المواضيع التي يعرفها الجميع وتتناولها الصحافة اليمنية، ولا تخفى على أحد من ذلك:
- كيف ستتعامل الحكومة في عدن مع أي تواصل في ظل انقسامها الداخلي وغياب فريقها عن العاصمة عدن؟!
- الوضع المضطرب في ادارة القيادة الأمنية والعسكرية، كأننا نتعامل مع وضع شبيه بلبنان لحزب الله الذي يمتلك قوة عسكرية ويعمل مع الحكومة ولكنه في ذات الوقت معارض للحكومة، دولة بداخل دولة (الثلث المعطل) والذي تحاول لبنان الخروج منه الان، ولم تتمكن فهل تتمكن الحكومة اليمنية؟!
- لا سيطرة كاملة على الموارد وانقطاع مصادر دعم الميزان التجاري في اليمن، تخيل عزيزي الحكومة ليس لديها موازنة من بداية الاحداث 2015، وهناك ميزانية وحيدة في 2021 في ولاية بن دغر، ولم تتكرر وحتى الأخيرة لم تنفذ، وحتى اللحظة الحكومة (متخانقة) ولم تجتمع لان وزراء لا يرغبون برئيسهم ، ورئيسهم غير راغب بهم ، فهل يحسم مجلس القيادة اللي هو مختلف على نفسه أي شيء؟
- أضف الى ذلك التحديات في استقلالية المنظومة العدلية، وهذه كل مرة اكررها.
يعني في الخلاصة هذا ما سينظر اليه البنك الدولي، خلطة من مزيج الانقسام السياسي والعسكري والأمني في حكومة يفترض ان تمثل الدولة اليمنية ، ولا مرجعية مالية ولا نفقات مرصودة ولا خطة للإيرادات، والقضاء للأسف يتم اضعافه والتدخل فيه فما فائدة القانون ان لم يكن فاعلاً ومحامياً ، بالتالي كيف تضمن أي جهة العقود والمناقصات في ظل هذا الوضع، سلطات عسكرية وكل من (صنف) ومعه تمويل شكل مكون عسكري ، وهذا يسهم في تقييم عالٍ للمخاطر المالية، والجهاز المعني بالتقييم والمساءلة شبه معطل اعني الجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة.
فلو كنت أنا (العم بانك) وجاءت الي الحكومة اليمنية بطلب القرض، ما الذي سأقوله لهم، ليس الموضوع شروط البنك فقط ، لكن من الواضح انه لا شيء قابل للتطبيق،
لكن دعوني أضع بعض الامل ان تم توضيح التالي:
تقديم أي دعم مالي مباشر يمر عبر قنوات رسمية يتطلب الحد الأدنى من الشروط المؤسساتية والسيادية لضمان جدوى التدخل وتأثيره، نحن لا نمول الفوضى المقننة، برغم انكم الحكومة المعترف بها دولياً وتمثلون الجمهورية اليمنية لكنكم في وضع صعب تنظيمياً.ربما يمكن وضع آلية ان كان هناك توافق مع الدعم المقدم من التحالف العربي تحديداً السعودي والإماراتي التي تكون الضامن للعمل مع الحكومة.هل لدى الحكومة القرار في تشكيل لجنة إصلاح اقتصادي مستقلة، تمنح لها التفويض من الحكومة بكل اطيافها، وتدعم البناء المؤسسي وتفرض قراراتها؟قد يتطلب العمل مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP) أو IFC كمشغلين لبرامج تمويل مشروط في غياب قدرة تنفيذ حكومية مباشرة ، وبالتالي نعود لقصة أبو كوفية وتسليم زعلان القرار له. هل ستعمل الحكومة على تعزيز استقلالية البنك المركزي في عدن تماماً وتبعده عن التجاذبات السياسية، وتعمل معه في إعداد مشروع موازنة سنوية للعام 2026؟ |
لا اعلم مدى جدية الحكومة في طلب القرض، وهي كما اشرت في ذاتها منقسمة من مجلس القيادة الى اصغر مؤسسة عامة، اذا ما كان الوزراء يرغبون في العمل مع رئيسهم! ، وان كان مجلس القيادة عاجز عن الزام الوزراء بالعمل بل عاجز عن الزام المحافظين، بل عاجز عن الزام أعضائه بالعمل المشترك وتوحيد الجهود، إن كانوا غير قادرين على إدارة العلاقة بينهم وبين حليفهم الرئيسي الداعم الأول والاقوى السعودية والامارات (التحالف العربي) ، اعتقد ان اغلبهم كل همهم في كل لقاء بهم (أيش غدانا اليوم؟!) وينسى تماماً انه يمثل الدولة التي ينتمون لها (الجمهورية اليمنية) وينسون مصالحها ومصالح أبنائها…
آسف! اثقلت عليكم… ورغم كل ذلك لازلت مؤملاً بالله أن وراء كل شر خير.
مودتي
احمد مبارك بشبر
22/04/2025
[1] https://economicmedia.net/?p=5280
[2] https://www.albankaldawli.org/ar/news/press-release/2024/06/26/yemen-s-economy-faces-mounting-crises-report