أزمة الأسواق!

لا تعطني سمكة، ولا تعلمني كيف اصطاد  بل دلني على السوق!

كالعادة المقال الشهري ، في مجلة الرابطة العدد 33 – صفحة 51

https://eaf-ye.com/admin/uploads/magazine/pdf/%D9%85%D8%AC%D9%84%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B1%D8%A7%D8%A8%D8%B7%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D9%82%D8%AA%D8%B5%D8%A7%D8%AF%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%AF%D8%AF33.pdf

أزمة الأسواق!

لا تعطني سمكة، ولا تعلمني كيف اصطاد  بل دلني على السوق!

الكثير من القضايا التي تمر في هذا الوطن الكسير، لكن ابرز قضاياه “الجوع”،

 حاجة الناس لما يسد رمقهم، ولولا رحمة من الله لما علمنا كيف تستمر الحياة لكثير من المواطنين الذين فقدوا مصادر دخلهم الأساسي الذي يغطي احتياجاتهم.

قبل أسابيع اثار رئيس مجلس القيادة دكتور رشاد ، في حوار له عن جمعية توزع في اليوم 50 الف وجبة لخمسين الف مستفيد في عدن ، مكونة من خبز وفاصوليا ،

 لا يعرف السيد الرئيس ان هناك اكثر من جمعية تمارس هذه المهمة منذ اندلاع الازمة في اليمن وفي اكثر من منطقة، في عدن ولحج ربما تجد 5-6 جمعيات عملها توزيع الخبز المدعوم لكل شخص قرصين بوزن 50 جراما للقرص،

اما الجمعية التي أشار اليها الرئيس ، معروفة من اهل الخير من القطاع الخاص الذين اضافوا لرغيفي الخبز فاصوليا مطبوخة ، الغريب في الموضوع المثار انه اصبح حديث الميديا، وسخرية بلا توقف ، بالتأكيد سيضيف “المفسبكين” اشاعات لا تتوقف عن ملكية تلك الجمعية ، رغم ان أصحابها لا علاقة لهم لا بالرئيس ، ولا قرابة لهم به ولا حتى من ذات النطاق الجغرافي الذي ينتسب اليه، وفي الخلاصة ليس هذا موضوعي ،

الموضوع هنا

في الرقم الذي تحدث عنه الرئيس وفي طريقة التفكير في معالجة ازمة الغذاء، لو افترضنا ان ما ذكره في حواره صحيحاً انه سيتم صرف مليار ريال لتغطية 100 الف شخص يومي اذا احتسبت ان كل وجبة تكلف 200 ريال أي حدود 10 سنت لكل وجبة اذا هذا صحيح، يعني هذا انه سيتم انفاق 4 مليون $ سنوياً وهذا اقل مما افترضه الرئيس مع حساب ان الدولار = 1900 ري ،

الاشكال العميق هنا اننا نتحدث عن اعلى مستوى قرار في الدولة، فما بالنا بالحكومة، لم يتم تقديم أي تصور لحل الازمة وانما زيادة تعميقها ، وهذا ليس دور القيادة السياسية وانما دور القطاع الخاص والمجتمع المدني ، فتعميق الازمة يبرز في أن المستفيدين في هذه الحالة فقط 100 الف نسمة من ملايين اليمنيين في عموم اليمن، كيف بهذا حل يصدر عن دائرة القرار الرئاسي؟ .

لا اريد هنا العاتب، انما لأضع بدائل في التفكير في حل ازمة عميقة من هذا النوع،

 اقدر كل الجهد الذي تبذله جمعيات “توزيع الخبز الخيرية في عدن ولحج وغيرها من مناطق اليمن”، قد لا يعلم الكثير من الناس ومنهم الحكومة ربما ! ، ان الرقم الذي يتم توزيعه يومياً لرغيف الخبز بين 400-600 الف قرص خبز يوزع من تلك الجمعيات، يتكفل بها منفرداً  القطاع الخاص وهذا جزء من اسهاماته الخيرية التي يقدمها للمواطنين ، ولا يمكن ان تيم محاسبة القطاع الخاص على تدخله الطارئ، لانه ليس الدولة بل مكون من مكوناتها ولا يمثل لا الحكومة ولا القيادة السياسية. فالقطاع الخاص رغم كل الظروف والضغط لم يتوقف عن تقديم اسناده للناس ، لانه جزء منهم ، يعي بعمق المشكلة ، منهم من اجتهد فأضاف الى ذلك التبرع الفاصوليا المطبوخ.

رغم هذا الحل، الا انه أيضا مشكلة:

  • هؤلاء المستفيدون يحصلون على وجبة واحدة فقط، قرصين خبز في كل اليوم، بمعنى ان هذا هو الغذاء الرئيسي لمئتين او ثلاثمئة الف نسمة، خبز وماء ، وهذا ان وصل الماء الى منازلهم.
  • عمق المشكلة الحقيقية ان الحكومة لم تبذل أي مجهود في فهم كيف يمكن معالجة ازمة الحاجة، سوى اصدار التعليقات.
  • هل المهم ان يتم إضافة نقد الى الجمعيات لزيادة كميات الخبز، ام المعالجة ان يتم وضع آلية جديدة لخلق حركة نقد للناس المحتاجة، والتي من خلالها يمكنهم الحصول على احتياجاتهم بأنفسهم. ” توليد فرص عمل، رفع مستوى الأجور ” هذا ما يأتي في البال الان لكن ليس هذا التصور بخصوص موضوع الخبز والفاصوليا.

إذن ما البديل الفاعل؟

لمن يهتم من الحكومة او من القطاع الخاص وحتى التنموي، لهذا النوع من التدخل ، الذي يرهق مادياً ولا يؤدي الى انهاء الازمة.

هناك مثل كثيراً ما يتردد: لا تعطني سمكة ولكن علمني كيف اصطاد.

رغم ان المثل او الحكمة تشجع التعلم والاعتماد على النفس، من خلال تزويد الشخص بالمهارات التي تمكنه من تلبية احتياجاته بشكل مستدام،

 لكن

  • كيف لو علمته وهو جائع عاجز عن الحركة؟
  • ماذا لو علمته ولا يمتلك أدوات الصيد؟
  • ماذا لو علمته ولم يكن في البحر اسماك؟
  • ماذا لو علمته ولم يكن هناك سوق لشراء سمكاته؟
  • ماذا ان لم تكن الأسماك كافية لإشباعه؟

اعتقد أن المشكلة في هذه المثل او الحكمة، انه بحاجة لتعديل مناسب لفهم نظام السوق ، الذي هو أوسع من مجرد شخص في قرية نائية جدا يمكنه الاكتفاء بالسمك.

يحتاج لاعادة صياغة لفهم كل زوايا الممارسة الفعلية في نظام الأسواق لمساعدة الناس للحصول على احتياجاتهم ، مع التركيز على الأثر من الصحابي الجليل عبدا لرحمن بن عوف: ” دلني على السوق!”

قد يتساءل البعض منكم ، ما نظام الأسواق وما الأسواق:

  • الأسواق: يمكن أن تكون هياكل رسمية أو غير رسمية (وليست بالضرورة مكانًا ماديًا) حيث يتم تبادل السلع، أو الخدمات أو العمل مقابل النقد أو مقابل سلع أخرى. تُعرّف الأسواق أنها قوة العرض والطلب بدلاً، ومكان السوق هو الموقع الجغرافي للسوق.
  • نظام السوق: ” شبكة تتألف من الأفراد، والهياكل التجارية، والقواعد التي تحكم كيفية إنتاج سلعة أو خدمة معينة، وكيفية الوصول إليها وتبادلها. يشمل النظام السوقي العديد من الفاعلين في السوق (مثل المشترين والبائعين) ويعتمد على البنية التحتية والخدمات التي تدعمه، ويعمل ضمن بيئة تجارية تتأثر بالمؤسسات والقواعد أو الأعراف.”
  • في نظام السوق هناك عدد مهول من سلاسل القيمة والامداد لكل منتج سلسلته، فالدقيق له سلسلة، والخبز له سلسلة أخرى ، وهكذا.

تعالوا نعيد تشكيل المثل او الحكمة السابق، بناء على هذه المفاهيم الجديدة التي تساعد في فهم ما الذي نسعى معاً اليه في هذا المقال:

” لا تعطني سمكة، بل علمني كيف أصطاد، اعطني أدوات الصيد، ودلني على البحر المناسب، ودلني على السوق.”

اما الشخص الكفؤ والماهر فكل ما يحتاج اليه “دلني على السوق” هو يعرف ماذا عليه ان يعمل للحصول على احتياجاته.

ربما يفهم من إعادة تشكيل المثل:

  1. المهارات: تعلم كيفية الصيد (أو أي مهارة أخرى)، لا تضيعوا أوقات الشباب بسنين وهمية للحصول على العمل.
  2. الموارد: أدوات العمل، و وجود أسماك في البحر أو موارد قابلة للاستغلال. والحمد لله في بلدنا الكثير من الموارد التي يعجز ابناءها عن الاستفادة منها لأنهم لا يمتلكون مهارات العمل المناسبة.
  3. الفرص: وجود سوق أو بيئة تتيح الاستفادة من المهارات والموارد. بيئة عمل فاعلة تسهم في توليد الوظائف لا توليد العوز والحاجة.

دعونا نفكر في ذات الموضوع الذي بدأت به “فاصوليا وخبز”، دعوني استخدمه معكم كمثال، لفهم النموذج لا لان تتبناه الدولة في توزيع الفاصوليا والخبز،

  1. تحليل نظام السوق وسلسلته: مع دعم وتنشيط السوق المحلي:  المثال هنا على سلسلة القيمة للخبز والفاصوليا:
    1. بحاجة ان نفهم: فهذا التحليل يتيح فهم جميع المراحل التي تشمل: توريد المواد الخام (الدقيق والفاصوليا)، الإنتاج (الخبازين والمطابخ المحلية)، التوزيع (العاملين والجمعيات)، والتسليم للمستفيدين.
    1. يجب فحص كل مرحلة لمعرفة الفرص لتحسين الكفاءة وزيادة القيمة المضافة.
    1. هل يمكن توسيع نطاق إنتاج المكونات المحلية؟ مثل دعم زراعة الفاصوليا محليًا في اليمن، مما سيخلق فرص عمل للفقراء ويقلل من الاعتماد على الواردات؟
مثلاً: توريد الدقيق والفاصوليا: هل هناك فرص لاستيراد المواد بأسعار أفضل أو بالشراكة مع موردين محليين؟ هل يمكن تشجيع الزراعة المحلية أو الصناعة الغذائية المحلية لتقليل الاعتماد على الاستيراد؟ وخاصة للفاصوليا، وبما ان زراعة القمح غير مجدية الا ان هناك بدائل:الدخن، الشعير، والذرة يمكن أن تكون بدائل ممتازة للقمح، خصوصًا في المناطق التي يصعب فيها زراعة القمح مثل أبين ولحج. هذه الحبوب ليست فقط أكثر ملاءمة للبيئة المحلية، بل يمكن أن تسهم في تقليل الاعتماد على الاستيراد وزيادة إنتاجية المزارعين المحليين.مزج الدقيق المستورد مع المكونات المحلية (مثل الدخن والشعير) لصنع منتج جديد للخبز سيخلق نوعًا من التنوع الغذائي المحلي، ويوفر منتجات صحية تتناسب مع عادات الأكل المحلية.تعزيز المخابز المحلية أو مشروعات الطهي المجتمعية لتصبح جزءًا من سلسلة الإنتاج، مما يساهم في خلق فرص عمل محلية بدلا من الاعتماد على مخابز الجمعيات. تحسين سلاسل التوزيع بطرق أكثر كفاءة قد يقلل من التكاليف ويزيد من سرعة وصول الطعام للمستفيدين، عن طريق الإنتاج المباشر في الاحياء وبيع المنتج لا توزيعه بأسعار تتناسب مع السعي لخفض الكلفة، مما يشجع بقية المخابز على الاقتداء بهذا النموذج وبالتالي توسيع دائرة الاستهداف، لا يعني هذا الانسحاب الكلي من التوزيع حيث لا يمكن اغلاق الباب بصورة سريعة على المحتاج قبل توفير كل ما يحتاج اليه،  الا انه يمكن توفير نموذج آخر “التوظيف المؤقت او الاعمال المؤقتة او النقد مقابل العمل” لتشغيل شباب الاسر المحتاجة في نموذج السلسلة مما يعني توفير سيولة تساعدهم على توفير الغذاء لأسرهم، تقليص فترات الدوام لصالح زيادة التوظيف في لقطاع الخاص او العام مما يزيد عدد الموظفين في كثير من القطاعات، بدلا من دوام 8 ساعات لنجعله دوام 5-6 ساعات ، ومقابل توظيف لفترة دوام 5-6 ساعات أخرى ، بمعنى ان كل وظيفة تحتاج الى اثنين. يمكن تدريب الأفراد المحليين من المجتمعات الفقيرة على مهارات مثل الخبز، الطهي، التوزيع، والإدارة. توفير فرص العمل في جميع مراحل سلسلة الإنتاج سيسهم في تحقيق أهداف الاستدامة الاقتصادية للفقراء.
  1. توفير الدعم المالي والتقني:
    1. تقديم دعم مالي وتقني للعاملين في الإنتاج مثل المخابز الصغيرة والمطابخ المجتمعية لتوسيع قدرتهم الإنتاجية. هذا يمكن أن يتحقق من خلال برامج التمويل الصغيرة أو الشراكات بهذا النموذج من الإنتاج.
    1. إدخال التكنولوجيا بسيطة تساعد في تقليل التكاليف وتحسين الإنتاجية.، مثل أفران محسّنة أو أدوات للطهي. الخ
    1. مبادرات لدعم تقليل الهدر للطعام بدعم حكومي ومجتمعي كبير.
  2. التعاون مع القطاع الخاص والمجتمع المدني مع دعم حكومي وتشجيع الشراكات المؤسسية:
    1. يمكن التعاون مع الشركات الخاصة لتوريد المواد بأسعار مخفضة أو بالشراكة لتوسيع نطاق التوزيع، مما قد يحفز الاقتصاد المحلي ويقلل من التكلفة على الجمعيات الخيرية.
    1. يمكن للحكومة التدخل عبر المؤسسة الاقتصادية لدعم هذه المبادرات، من خلال تقديم تسهيلات مالية ولوجستية للمزارعين المحليين والمخابز التي ستعتمد على هذه المواد.
    1. تسهيل التجارة الداخلية لتشجيع بيع هذه المنتجات محليًا وخارجيًا، وتقديم حوافز للتجار لشراء المنتجات الزراعية المحلية.
    1. توجيه الجمعيات الخيرية والشركات المحلية للعمل مع المزارعين لضمان وجود سوق لمنتجاتهم، وتعزيز فكرة الاستدامة في إنتاج الخبز والفاصوليا.
    1. تشجيع الشراكات بين القطاعين العام والخاص لتطوير سلاسل القيمة للمواد الغذائية وتحسين قدرتها على تلبية احتياجات السكان.
    1. من خلال التعاونيات في أبين ولحج، يمكن تنظيم الإنتاج بشكل أكثر فعالية وتحسين قدرات التفاوض والتسويق لهذه التعاونيات.
  3. المراقبة والتقييم المستمر:
    1. متابعة أداء الأسواق المحلية عبر الجهات المعنية في السلطة والغرف التجارية، للمراقبة والتقييم المستمر.

الخلاصة لمن يهمه الامر:

قصور الحلول الحالية، التي تعمل بها القيادة السياسة والحكومة، و عدم تقديم رؤية شاملة فعّالة لمعالجة أزمة الغذاء بشكل مستدام، بل اعتمدت على إجراءات تزيد من تعميق المشكلة، ولا زالت للأسف كل التركيز على توزيع المساعدات الغذائية دون تمكين الناس من الحصول على احتياجاتهم بأنفسهم من خلال فرص العمل ورفع الأجور.

البديل بعيداً عن المثال في هذا المقال، في هذه الحكمة المحسنة:

” لا تعطني سمكة، بل علمني كيف أصطاد، اعطني أدوات الصيد، ودلني على البحر المناسب، ودلني على السوق.”

مهارات + موارد + سوق، سيصنع الناس التغيير .

شكرا

احمد مبارك بشبر

‏25‏/09‏/2024

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.