خطبة الاضحى
الخطبة الأولى
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للواحد الأزلي الذي أوجدنا دون حاجة منه إلينا وغمرنا بمكارمه لنشعر بأنه وحده الذي يساعدنا دون أن ينتظر منا أجرا نقدمه إياه. والصلاة والسلام على النماذج الخيّرة من البشر الذين خضعوا لوجه ربهم خير خضوع فجعلهم ربهم منائر نستضيء بهم ونهتدي بهداهم. وأخص بالسلام نوحا وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد الأخيار الأبرار الذين سعوا ليهدوا غيرهم وتحملوا الأذى ليعيش الآخرون بسلام ووئام ومعرفة.
سيرة إبراهيم:
السيرة والسنة والطريقة تعني كيفية تعامل الشخص مع مختلف القضايا. مثال ذلك شخص لا يدخل الصلاة إلا وقدماه مغطاتان بالجوارب. تلك سنته حين الدخول في الصلاة وتلك سيرته أيضا. ومثله شخص لا يؤذن إلا فوق السطح.
أبونا إبراهيم عليه السلام كان يهتم بالدليل ويعتني بالبحث عن كل شيء ليكشفه بنفسه أو يستيقن به. كان هو عليه السلام من شيعة نوح كما قال الله تعالى ولكنه شيعي يبحث عن كل شيء بنفسه ولا يكتفي بعلم إمامه.
لاحظوا كيفية بحثه عن الله تعالى. قال سبحانه في سورة الأنعام: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ (74) وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّآلِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَآ أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79) وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَاء رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (81).
فهو إما أنه اكتشف خضوع الكائنات لوجه الله تعالى بتلك الطريقة أو أنه أراد أن يُثبت أن الطلب من الله تعالى هو الصحيح والاستعانة بغيره غير مجد فقام بتلك الحركات في الأوقات المذكورة في الآيات الكريمة ليقول لقومه بأن كل ما ترونه من قوة وهيبة لغير الله تعالى فهي ليست مسعفة لكم دائما لأنها تأتي وتذهب ولعلها تزول؛ ولكن الله تعالى حي قائم دائما وأبدا ولا يمكن أن تأخذه أية غفلة عن خلقه. يمكنكم أن تطلبوا منه متى ما احتجتم إليه لأنه مستمر في إدارة خلقه دون توقف وهو معنا أين ما كنا ولن يغفل لحظة عن أي شيء من صنائعه وكل شيء غيره فهو من صنائعه جل جلاله.
هكذا يتعامل إبراهيم مع القضايا. إنه يسعى ليكتشف كل حقيقة بنفسه ولا يعتمد على غيره. نراه بأنه لم يتبع أباه بل سعى لتغيير مذهب أبيه. قال تعالى في سورة مريم: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا (41) إِذْ قَالَ ِلأبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43).
ولنمعن في حكاية أخرى منه عليه السلام. قال تعالى في سورة البقرة: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260).
كان عليه السلام يؤمن أيما إيمان بالله تعالى ولكنه يريد أن يكتشف كل شيء بنفسه. فكر ذات يوم بأن الدخول في التراب بعد البعث ليس صعبا لأننا سوف نكون في حالة نفسية بمعنى أننا نكون وحدة طاقوية يمكن أن ندخل في أي مكان. ولكن الخروج من الأرض سيتم بعد أن يُلبسنا الله تعالى لباس البدن فهو خائف من الخروج من الأرض بالبدن. فقال له ربه سبحانه افترض بأنك علّمت أربعة طيور على نفسك ثم طيرتهم في السماء. والطيران هو منية الطيور وسيرتهم. ولكنك لو طيرتهم على الجبال ثم ناديتهم فسوف يعودون إليك ساعين إليك وإلى إرضائك. لأنهن تعلمن عليك ويشعرن بالراحة حينما يقتربن منك. وهكذا حينما أناديكم لتخرجوا من قبوركم فتخرجون إلي لأن المنادي هو ربكم. قال تعالى في سورة الروم: وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاء وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الأَرْضِ إِذَا أَنتُمْ تَخْرُجُونَ (25) وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ (26). سوف نتعلم على ربنا ولا يهمنا ما يصيبنا في طريق العودة إليه. وحينما يدعونا فإننا سوف ننسى كل شيء لنلبي دعوته ولا نبالي بالخروج من التراب لأنه هو مالكنا وهو سبحانه الذي أكرمنا بالبدن الجديد بعد أن خسرنا بدننا الدنيوي.
فإبراهيم عليه السلام في حد ذاته مدرسة لمن يريد أن يتعلم وسيرته هو أن يصل بنفسه إلى الحقيقة دون أن يقلد غيره. فلو أردنا أن نسير على خطى أبينا إبراهيم عليه السلام فعلينا أن نتعرف على الحقائق بأنفسنا طالبين من ربنا المساعدة ولا نتبع غيرنا كائنا من كانوا.
الخطبة الثانية
ملة إبراهيم
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي خلق ثم هدى. وأرسل الرسل وأنزل الكتب ثم فصلها تفصيلا ليحيينا بالعلم ويحيي قلوبنا بالمعرفة. والصلاة والسلام على الذين اختارهم من بيننا نحن البشر، بشرا مثلنا يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق لكنهم يستوحون من ربهم علوما ما كان لنا أن نصل إليها بدونهم فعلَّموا وهدوا وعرَّفوا ربنا لآبائنا وأبقوا تلك العلوم في صدور الصادقين الذين آمنوا بربهم وبملائكته وكتبه ورسله. وأخص بالسلام نوحا وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمدا عليهم سلام ربنا وإليهم صلواتنا ليخرجنا العزيز الحكيم من ظلمات الجهل إلى نور العلم والعرفان.
لم يتركنا ربنا على ذمة الحوادث بل أقام لنا تشريعا سماويا رائعا لنهتدي بهداه سبحانه. نحن مأمورون بأن نتبع ملة إبراهيم وقد وضح الله تعالى معنى تلك الملة في سورة البقرة: وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131). فملة إبراهيم لا تعني أن نلبس كما لبس إبراهيم ولا أن نربي اللحى وإلا تعذر الاتباع على نسائنا. فالملة مشتقة من أملل يملل ملة. أملل هو باب الإفعال من مل. ومل أو ملل باعتبار أن شخصا يملل وآخر يكتب أو يتبع. قال تعالى ضمن الآية الطويلة 282: .. فَإن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ…
قال تعالى في نفس سورة البقرة: وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135) قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136). فكوننا من ملة إبراهيم لا يُناقض إيماننا بكل الأنبياء والرسل الذين سبقوه والذين لحقوه. إنما نحن بدورنا نترك كل الآراء وكل الأفكار وكل المواريث ونتبع الحقيقة المطلقة وهو الله تعالى بقدر معرفتنا وعلمنا به وبأوامره وننتهي من كل شيء نهانا عنه بقدر علمنا ومعرفتنا. فإبراهيم في حين أنه يستفسر عن كل شيء ويسعى ليتعلم بنفسه على الحقائق ولا يكتفي بما حقق فيه غيره؛ لكنه أمام الله تعالى وأوامره وتشريعاته مسلم يأتمر بأمر ربه دون نقاش.
هكذا نكون حنفاء غير مشركين بربنا ونكون على ملة إبراهيم عليه السلام. بمعنى أننا مستسلمون تسليما كاملا لأوامر الله تعالى وتشريعاته وأحكامه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أحمد المُهري
عيد الأضحى 21/7/2021
#تطوير_الفقه_الاسلامي