الدعاء المستجاب 4
تابع ما قبله
كيفية الدعاء المستجاب
رابعا) – الاعتزال عن الناس:
هذا المعنى يتجلى كثيرا في قصة إبراهيم، بتصريح القرآن ولكنه كان ضمن الوسائل التي تشبثت بها مريم وتشبث بها زكريا وإسماعيل وكل أبطال سورة مريم. والانعزال عن الناس يبعد المرء من غير الله تعالى فيقرب العبد من رحمة الله تعالى بالنتيجة. إن الإنسان متوجه بطبيعته المحتاجة إلى جهة من الجهات؛ فهو إما أن يتوجه لنفسه وتطييبها وإرضاء شهواتها أو يتوجه إلى الآخرين ليأخذ منهم أو يُكرمهم أو يطلب اهتمامهم أو يسعى للدعاية لنفسه بينهم أو يُساعدهم وهكذا دواليك. ولكن الذي يعزل نفسه عن الناس فإنه يوجه نفسه إلى الله تعالى وحده الذي يستحق أن يوجّه الناس إليه سبحانه وجوهَهم. وما دعاء إبراهيم عليه السلام إلا تعبيرا واضحا عن الانعزال إليه سبحانه حيث يقول: إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين. والحنيف معناه المنحرف عن الوجهة التي يتوجه إليها المرء تحت ضغوط الطفولة والحاجة إلى المجتمع وإلى أصحاب القوة والنفوذ وترك كل الجاذبيات البشرية واستبدالها بجاذبية ملك الكون العظيم. القدرة التي تكمن وراء جاذبية الآباء والأمهات والمعلمين والملوك والرياضيين وأصحاب الجمال الجلدي التي هي ليست حقيقية ولا دائمة بل هي شكلية مؤقتة تنتهي بعد أمد. بيد أن كل مصادر القوة هذه تتضاءل وتخفى كل يوم عدة مرات: حين النوم وحين الانشغال بالعمل الكادح وحين الابتلاء بالمصائب وحين الجوع وحين العطش وحين المرض وحين الخوف والحرب وحينما يكون الشخص غافلا. ولكن الحي القيوم جل جلاله باق بقوته أبدا ودائما كما كان دون ابتداء ودون انتهاء ودون أن يتأثر بأي مؤثر ودون أن يغفل ودون أن تأخذه سنة ولا نوم. سيبقى هو كما كان مالكا للسماوات والأرض وما بينهما وما تحت الثرى.
فإبراهيم ومن سار سيره هم العقلاء والمفكرون الحقيقيون والفقهاء الصادقون الذين تخلوا عن كل شيء غير الواحد الأحد الفرد الصمد وقليل ما هم! إنهم انعزلوا عن المجتمع الضعيف البائس الفقير لينشغلوا بالنظر إلى القوي الغني القهار جل جلاله فكفاهم ربهم كل شيء وتركوا غيره ليتركوا السلبيات الفانية التي لا يملك إلا المظهر المؤقت. إن كل هالة وإشعاع يتخيله الجهلاء لغير الله تعالى فهو سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء فإذا دنا منه ليتحسسه يراه لا شيء. وأما الذين يدعون إلى إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم السلام وأمثالهم من البشر فهم يحملون هالة كاذبة أحاطوا أبدانهم ونفوسهم الفقيرة بها من ملابس وألقاب طويلة عريضة غير حقيقية ليخدعوا بها الناس فيعيشوا على أموالهم وإناثهم وسواعدهم العاملة فانخدعوا أنفسُهم بها أيضا كما فعله السامري فنسي. والذي أنساهم أنفسهم هو الله تعالى لأنهم نسوا الله حينما طلبوا الرزق من الناس وعن طريق إغواء الناس وتضليلهم ونسوا وعد الله تعالى للمؤمنين الذي هو وعد حسن حقيقي لا كذب فيه ولا مبالغة وليس لأحد أن يسلبه منهم إن كان الجبار يريد ذلك لهم، فما أبخس ما باعوا به آخرتهم ورضوان ربهم، وما عند الله خير وأبقى.
ولو أننا نفتح عيوننا لنرى بأن الجمع بين الله والعبيد غير ممكن قطعا ولكن الجمع بين التوجه إلى الله تعالى بالقلب والتفاعل مع الناس بالبدن ممكن جدا. ألا يعيش الذين يعبدون الله تعالى بأبدانهم أحياء يتنفسون ويسمعون أصوات الآخرين ويرون ما يمكن أن يضرهم من الأعداء ويهضمون الأكل وتسير في أوردتهم الدورة الدموية وتعمل كل أجهزتهم البدنية تقريبا. إن المصلي يصلي وهو فاتح العينين غير مغطى الأذنين فاتح جيوبه الأنفية والحلقية للشهيق والزفير وهكذا. فالانعزال يكون بالقلب النفسي وبقية عناصر النفس عما يُزاحم التوجه إلى الله تعالى وليس الانعزال الكامل. حتى الذي ينتقل إلى زاوية بعيدة عن الناس لينفرد بالصلاة إلى الله تعالى فإنه لا ينعزل تماما عن الناس بل يعود إليهم حين يحتاج إليهم مما أحوجه الله تعالى بطبيعته الإنسانية إليها. كان الرسول عليه السلام متزوجا يعود إلى أهله بعد الفراغ من الاختلاء بربه في غار حراء وكانت مريم تعود إلى بيت أبويها لتأكل وتشرب وتنام بعد الفراغ من عبادتها التي لم تكن حركةَ أعضاء ولقلقةَ لسان فحسب بل كانت حركة نحو المعرفة والعلم كما سنسعى لنعلم بعد قليل.
وهذا الاعتزال يشتد بالنسبة لإبراهيم تبعا للطبيعة التي عاش فيها إبراهيم وقريب منه اعتزال نبينا محمد، ويقل بالنسبة لمريم. ذلك لأن مريم عاشت في أسرة مسلمة مؤمنة بالله تعالى كما عاش زكريا، ولكن إبراهيم ومحمد عاشا بين المشركين الذين يتخذون من الأصنام وسائل تقربهم إلى الله زلفى وهو شرك بعينه. لا يجوز للناس أن يوسطوا شيئا أو أحدا بينهم وبين الله لأن ذلك يعني بأن هذه الواسطة أقرب إليهم من الله بل عليهم أن يسعوا للتمسك بالله تعالى واستشعار أنفسهم بالوجود القدسي دون واسطة. وليس أحد أرحم إلى الإنسان من ربه ولذلك فهو سبحانه أرحم الراحمين جل جلاله. ولعل هذا المعنى غير ملائم لأكثر الناس بمن فيهم المؤمنون بالله من اليهود والمسيحيين والمسلمين، ولكنه حقيقة قرآنية يجب الإذعان بها ولا ضير بأن نسمي كل العلماء المعروفين في الأديان الثلاثة، جاهلين لا يعلمون إلا قليلا. ومن الواضح أن بينهم بعض الذين يعلمون الحقيقة ويعترفون بها ولا يدعون إلى غير الله ويعتبرون الأنبياء عبيدا صاغرين أمام ربهم وليس لهم أي دور غير نقل الرسالة التي نقلوها فعلا وأنهم قد ماتوا وهم عند ربهم اليوم مكرمون يُرزقون الأمان من كل خوف. فسلام عليهم بما صبروا وسلام عليهم من ربهم، وهنيئا لهم العبودية الصادقة. جعلنا الله تعالى معهم إخوانا في يوم القيامة لنستمتع بالمجالسة معهم على سرر متقابلين نتهنأ في ضيافة رب العالمين على موائد الجنة بمنّه ولطفه سبحانه؛ آمين.
والاعتزال بحقيقته يعني الانفراد بالله تعالى فيما لا يخص غيره. إن الاعتزال حينذاك دليل على اعتراف المؤمن بكامل القوة لرب العالمين وعلى ضعف كل من دونه كائنا من كانوا. ذلك لأن القوة الحقيقية من خواص رب العالمين وما نراه من قوة لدى الناس لهي قوة غير ذاتية. والصورة الشبيهة بالذاتية لهذه القدرات هي للاختبار فلا تعني بالنسبة لمن يتشبث بها إلا استدراجا من العزيز الحكيم للنفوس الضعيفة الفاسقة التي لا تؤمن بالرحمن. إن المؤمن يعتزل عن الناس ليقول لهم بأنكم لستم إلا إخوانا ضعفاء لي وأنتم مثلي في الضعف وأن القوة لله جميعا. إنه يقول ذلك للمعلمين والآباء والأنبياء والملوك وأصحاب النفوذ والجاه في الأمة. هذا هو السبب الأول للإعتزال وهناك سبب آخر للاعتزال وهو عدم الانخراط مع العصاة الفاسقين بأمر الله تعالى نفسه كما وضحه الحكيم العليم في مثل سورة النساء: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا ﴿140﴾ أو في سورة الأنعام: وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴿68﴾ وفي سورة الطور: وَإِن يَرَوْا كِسْفًا مِّنَ السَّمَاء سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَّرْكُومٌ ﴿44﴾ فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ ﴿45﴾ يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلا هُمْ يُنصَرُونَ ﴿46﴾
وبما أن الاعتزال شرط أساسي لاستجابة الدعاء كما يظهر بجلاء في الآية 49 من سورة مريم هذه: فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِيًّا، فإن القرآن الكريم يوضح السبب في هذا الشرط وهو ترك الناس في عبادتهم لغير الله تعالى. والواقع أن غالبية الناس ولو بحالة لا شعورية، فإنهم يعبدون غير الله ويظنون أنهم على حق. سواء في ذلك الذي يغيّر أو يجهل معنى العبادة كما هو الحال لدينا نحن المسلمين شيعة وسنة أو يُجيز العبادة لغير الله كما عليه المسيحيون الكاثوليك والبروتستانت أو يعتبرها عبادة من الدرجة الثانية كما يزعمه المسيحيون من شهداء اليهوه. وسوف نشرح هذا الموضوع في مكان آخر بمشيئة الرحمن عز اسمه، والمقصود من الإشارة إليه هنا هو تحديد معنى الاعتزال بأنه يعني الحذر من الاقتراب غير الهادف من الذين يعبدون غير الله تعالى ولو كانوا جاهلين. ذلك لأن الدعاء لن يتحقق قبل أن يُخلص المرء قلبه من كل زيغ وفساد وأنى يمكن ذلك لشخص يتعاطف مع الذين أشركوا بربهم.
وكان أبونا إبراهيم على علم بلزوم الانعزال عن الناس قبل أن يتوقع الاستجابة الدائمة من ربه سبحانه لدعائه أو دعواته، ولكنه كان يشعر بوجوب هداية قومه وأهله إرضاء لله تعالى. لقد وضح الله تعالى لنا ذلك في الكتاب الكريم بقوله في سورة التحريم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ﴿6﴾. وإبراهيم كان مسلما يعرف ما نعرفه اليوم عن طريق صحيفة الله تعالى، فكان مهتما بالسعي لتقديم الهدى لقومه وأهله ولو كان ذلك على حساب حوائجه الشخصية التي يمكن أن نتعرف عليها بمشيئة الله تعالى ضمن هذه السورة الكريمة. ذلك بالنسبة له عليه السلام تضحية وتفان في سبيل الدعوة إلى الله تعالى، ولكنه على كل حال مانع من تحقق كل حوائج المؤمن. وهكذا نعرف معنى آخر من معاني عدالة من في السماء جل جلاله.
لقد من الله تعالى على محمد عليه السلام بأمة من الناس يصلون خلفه ويهتمون به ويطيعون أمره فحرمه من الذكور بل من كل الأولاد حتى تجاوز الخمسين من العمر. وما يدعيه البعض بأن كان له صبايا وصبيان من خديجة قبل ميلاد السيدة فاطمة، فهو غير صحيح باعتقادي وقد شرحته عند تفسيري لسورة الكوثر. حتى المعروف عن ابن له يُدعى إبراهيم من المصرية مارية غير صحيح بظني. وكان إبراهيم في معرض نفس المكرمة حتى اطمأن بأن قومه لن يؤمنوا فتركهم وبنى أمة بل أمتين جديدتين من نسله الطيب، من إسحاق ومن إسماعيل. ولما ترك نوح قومه ودعا عليهم بعد أن يئس من قبولهم لدعوته، جعل الله تعالى ذريته هم الباقين. وأما موسى فنحن لا نعرف الكثير عن أولاده الذين رزقه الله تعالى إياهم حينما كان في معزل عن قومه وأهله من أبناء مصر. والقرآن الكريم يذكر لنا ذرية هارون دون موسى. وعيسى كان محفوفا بأصحاب الحوائج الذين يحبونه ويودونه بعيدا حتى عن الزواج كما يبدو. عليهم جميعا سلام الله تعالى.
ولا تقف أهمية الاعتزال عند هذا الحد بل هو الذي يسهل نزول الرحمة بتحديد من تتنزل عليه الرحمة. نحن نعرف بأن الله تعالى يراعي استحقاق الخلق للرحمة قبل أن يسمح لها بالنزول عليهم، فما دام الذين يستحقون المطر بعيدين عن مكان نزول المطر فإن النزول أقل احتمالا وكلما دنوا من مكان النزول زاد احتمال التفعيل. ونعرف بأن استجابة الدعاء لشخص ما يؤثر سلبيا أو إيجابيا في الآخرين، فكلما ابتعد الذي يرجو ربه عن الناس، كلما اقترب من موجبات الرحمة ولذلك فالاعتزال عن الناس يؤثر كثيرا في سرعة نزول الرحمة من الله تعالى.
تم المقطع الرابع ويتلوه المقطع الخامس وأوله: خامسا) – الصبر الجميل:.
أحمد المُهري
9/5/2021
يتبع
#تطوير_الفقه_الاسلامي
#الدعاء_المستجاب