الدعاء المستجاب 3

تابع ما قبله

كيفية الدعاء المستجاب

ثالثا) – اليقين:

اليقين مشتق من الفعل الثلاثي يقن ولذلك أشار الله تعالى إليه بالياء حسب ظني. واليقين هو ما يقابل الشك، فهو أحق بأن يكون معك حينما تخاطب السميع البصير الذي يملكك ولا يريد لعبيده إلا الخير والهدى ولا يرضى لعباده الكفر. وليت شعري من الذي يشك في رحمة الله تعالى وهو يخاطبه إلا من أغفل الله تعالى قلبه ليتعلق بالأسباب المادية أكثر من السبب الحقيقي وراء كل مادة وكل شيء وهو الواحد القهار جل جلاله؟ وإنه فعلا وقاحة وحمق أيضا أن يُخاطب العبد المحتاج ربه وخالقه الغني الكريم وهو غير واثق من رحمته سبحانه. إنه واسع الرحمة وكريم فلا معنى للشعور بالخذلان إذا أحسن العبد المؤمن الوقوف أمام سيده وربه الذي لا سيد له غيره ولا مولى له إلا هو سبحانه وتعالى. ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم. إن معنى الشعور بالعبودية هو أن يكون المرء على علم وثقة بأن الله تعالى لا يسمعه فحسب بل يستجيب له ويقضي حاجته دون شك. ولعل التأخير هو خير له أو لعل الطلب غير صحيح لو أن الحاجة بقيت في حيز الطلب، وليس بأنه سبحانه لم يعبأ به أو أهمله. فعلى المرء السعي لكشف الحقيقة من دون أن يسمح للشك بأن يخصص لنفسه مكانا في قلبه إن كان مؤمنا محبا لله تعالى.

واليقين هي الصفة التي تجمع وتختزل كل الأسباب في مسببها كما أنها هي التي تمنع المرء من التشبث بالأسباب الفرعية الضعيفة بل العاجزة على تحقيق أي شيء بدون السبب الأول جل جلاله. فاليقين جامع ومانع وهو الذي يقوي إيمان المرء بالله تعالى ليترك كل شيء يُفيده وهو واقف أمام سيد الكائنات جل جلاله. ولن يتأتى اليقين لمن يظن بأن هناك سادة غير الله تعالى، ولا لمن يظن بأن الكائنات محكوم بغير حكم ربها جل جلاله. وما الذي كتم أمره عن غير الله تعالى وهمس معه سبحانه بقلبه ونفسه إلا الذي هو واثق من ربه بأنه ربه فعلا وبأنه هو الذي يطعمه ويسقيه وإذا مرض فهو يشفيه وبأنه تعالى هو الذي يغفر له خطيئته يوم الدين وبأن كلَّ من دونه عاجزٌ وضعيف مسلوبُ الإرادة أمام الله تعالى فلو أراد الله أن يُقضى حاجته قضاها ولا رادّ لقضائه ولو أراد غير ذلك فليس من يُجيره غير الله. قال تعالى في سورة الزمر:

أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ﴿36 وَمَن يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انتِقَامٍ ﴿37 وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ ﴿38 هذه هي مرتبة اليقين التي تمنح المؤمن الطمأنينة في النفس وتجعله بعيدا معزولا عن الناس كائنا ما كانوا إلا في ما شاء الله تعالى له ذلك. والمؤمنون الصادقون كانوا يرتبطون بالناس ليدعوهم معهم إلى الله تعالى، ليُصَـلّوا ويشكروا ويستمتعوا بنعمة الله تعالى وليحبوا الله تعالى مع بعض ويقدموا له الشكر على ما رزقهم من الرأفة المشتركة والاستئناس المشترك والقوة المشتركة ويستمتعوا بلذة التعاون في سبيل واحد وهو سبيل الله تعالى. فهم في ارتباطهم مع الناس يزيدون يقينا بالله وهم في الواقع يزدادون انعزالا عن المادة ليزيدوا من المفاهيم المعنوية مع بعضهم البعض؛ والمعنويات الحقيقية هي ما تقربك من الله تعالى لا ما تبعدك عن الساحة القدسية جل جلاله.

فالذي يزداد يقينا ينعزل عن الناس بأجسامهم ثم يعود إلى قلوب الناس بقلبه ليدعوهم مع نفسه إلى العزيز الكريم سبحانه. ولذلك أعقب الله تعالى اليقين بالانعزال كما سيأتي. بعد ذلك سيكون البدن طوع إرادة النفس المؤمنة ولن تكون النفس المؤمنة مطيعا للشهوات البدنية. إن التمثل باليقين القاطع ضروري لمن يقف أمام ربه الذي هو سبحانه حق ومؤمن بنفسه وبقوته فكيف تتقرب إليه بنفس غير واثقة من قوة الله ورحمته وحتى عفوه وصفحه عما يحول دون بلوغ المرام إن كان المرام شرعيا مقبولا لدى العزيز الكريم. ولذلك فلن يصل إلى مرتبة اليقين من لم يكن على علم بالحقائق التي تمنح النفس الثقة الطبيعية في الواقع. فاليقين في حد ذاته ليس اكتسابيا بل هو حاصل بحصول العلم الصحيح في القلب. ذلك العلم الذي يسبق الإيمان والذي هو بدوره حاصل بعد السعي وراء طلب الحقيقة. هذا النوع من السعي هو إيمان أيضا ولذلك يأمر الله تعالى المؤمنين بأن يؤمنوا ليتعلموا فيزدادوا يقينا وثقة بالله تعالى. لننظر إلى سورة الحجر: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ ﴿98 وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ﴿99

قاله الله تعالى لرسوله ليخفف عنه آلامه حينما كان غير المؤمنين يطلبون منه المعاجز مثل إظهار الملائكة أمام عيونهم فيضيق صدر الرسول بما يطلبون منه وهو عاجز عن الإتيان به. واليقين هنا يفيد الرسول ليشعر بالسلامة والطمأنينة دونهم فلا يتألم ولا يضيق صدره من مطالباتهم التعجيزية الحمقاء. إن رسول الله عليه السلام كان عالما مؤمنا بالله تعالى ولكنه يحتاج إلى مزيد من الإيمان والعلمِ الحاصل للمرء بالعبادة وإظهار الخضوع لله تعالى. فاليقين مرتبة عالية من مراتب الإيمان مما يمكن تصور عدمه لدى الكثير من المؤمنين بمن فيهم الأنبياء أنفسهم. هذا اليقين هو نفسه الذي نصل إليه بعد الموت وحينما نرى الحقائق بعينها وهو نفسه الذي يحصل لكل الناس بمن فيهم المشركون والكافرون وقد قال الله تعالى عن الكافرين في سورة المدثر: {حتى أتانا اليقين}. وهو يأتي ولا يُكتسب ولكنه لا يفيد المرء أبدا في الآخرة بل يفيده في الدنيا فحسب. والقرآن هو حق اليقين كما في سورة الحاقة لأن القرآن هو الذي يُعلّم الذي يطلب العلم فيتعلم منه حقائق الوجود ومتى ما أدركه بلطف الله تعالى فسيكون في مشارف اليقين. ومما لا شك فيه بأن اليقين لن يتأتى بدون العبادة لأنه مرتبة القرب من الله تعالى فكيف يؤتيها الله تعالى من لا يعبده ولا يخضع له. تعلمون بأن خضوع الفقير إلى الله تعالى يمثل في حقيقته الخضوع للحقيقة التي لا شك فيها ولا شك في قوتها وجلالها وهيبتها وتعاليها.

إن الله تعالى قريب منك وأنت لا تشعر به إلا قليلا. واليقين هو المرتبة التي تساعدك على أن تشعر بالله القريب منك أكثر فأكثر. فكلما ازددت علما به سبحانه اقتربت خطوة نحو اليقين به سبحانه، فإذا حصل لك اليقين فعلا كما حصل لمريم وزكريا وإبراهيم وموسى وإسماعيل وإدريس ولقليل آخر من الصالحين فأنت في معرض استجابة الدعاء ولو كان دعاؤك بما لا ينسجم مع ما اعتاد عليه الناس حولك. وسنسعى في تفسيرنا لسورة مريم لنفهم ما الذي طلبته مريم وما الذي طلبه زكريا وإبراهيم وما طلبه إسماعيل فقضى الله تعالى لهم جميعا حوائجهم ولو أن تلك الحوائج كانت مستلزمة لتغيير مسيرة الناس وحتى مسيرة الطبيعة أو العادة الطبيعية. ولنكن واقعيين حينما نفكر في حكايات هؤلاء الطيبين الذين يرجون من ربهم ما هو غير مألوف وهم على يقين وثقة من ربهم؛ كيف يمكن أن يكون تجاوب ربهم معهم لو لم تكن طلباتهم مخالفة لتشريع الله تعالى ولم تكن ضارا بعدالة السماء، إلا أن يقضي الله تعالى لهم ذلك؟ وهذا ليس حكرا للأنبياء بل هو وجه آخر من وجوه الرحمة الخاصة لله تعالى، ومن حق كل إنسان أن يتشبث بحبل الله تعالى ويطلب منه حاجته ولو كانت غريبة دون خوف أو وجل أو خجل. إنه ربنا العزيز العليم الجبار القادر الكريم الرحيم فلمَ لا نطلب منه، ولِمَ لا نطرق بابه الواسع المفتوح لكل العبيد؟ لماذا نُحرم أنفسنا مما نحبه لو كنا مؤمنين عابدين واثقين من ربنا؟ فلنطرق باب الحوائج الحقيقي الصادق جل جلاله بصدق وخضوع ويقين وسوف نرى الحاجة مقضية دون أدنى شك.

علينا بأن نعرف هذا المعنى بكل دقة لنتعرف على المعاني المقصودة للكلمات التي تعني أكثر من معنى واحد في السورة المباركة هذه. هكذا سوف نعيش مع مريم في قطار العبودية التي سارت بها العذراء المؤمنة بربها بكل إخلاص وعبودية وصدق فنسمع همساتها مع ربها ونعرف معانيها ثم نقلدها ونعمل مثلها كما فعل زكريا فكان له ما أراد. وسنعرف فيما بعد أن مريم كانت مدرسة كبيرة بعلمها وإيمانها ويقينها بالله تعالى وهي التي طلبت أغرب الحوائج فكان لها أن تسمى سورةُ الدعاء هذه باسمها عليها السلام. هي معلمة الأنبياء وتلميذة التقوى والعبادة الخالصة. هي التي تمكنت من مناقشة الروح القدس وجها لوجه ولم يكن لأحد غيرها ذلك في هذا الكوكب طيلة التاريخ البشري الذي يمر القرآن على كل مراحلها المهمة، فيختار منها كل ما يتناسب مع ضرورات الهداية فلو كان هناك أحد غيرها قامت بنفس العمل لذكره لنا القرآن ولو بالإشارة. إن الكتاب الكريم لم يبخل علينا بذكر بعض الأنبياء الذين لا نحتاج في الواقع إلى معرفة جزئيات حكاياتهم مثل إدريس. إنه نبي لا نعرف عنه إلا أنه دعا كما دعا إبراهيم وقد ذكره القرآن بالاسم ولم يتركه في زاوية النسيان.

تم المقطع الثالث ويتلوه المقطع الرابع وأوله: رابعا) – الاعتزال عن الناس:.

أحمد المُهري

6/5/2021

يتبع 

#تطوير_الفقه_الاسلامي

#الدعاء_المستجاب

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.