طاعة ولي الامر
طاعة أولي الأمر
هذه المقالة توضح بأن آية الطاعة لأولي الأمر في سورة النساء تختص بطاعة أمراء الحرب وتحديدها وتحويل التنازع إلى الله ورسوله. قال تعالى في سورة النساء:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (59) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا (61) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَآؤُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغًا (63) وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا (64).
سورة النساء:
أظن بأن الذي يريد أن يفهم كتاب السماء فعليه أن يلبس جلابيب مناسبة لهذا الكتاب العظيم الذي أنزل بلغة البشر ولكنه ينطوي على أعمق الأسرار التي يمكن للبشر أن يستوعبها باعتباره الهدف من الخلق كله. لكن الذي يحمل أفكارا مصدقة مسبقا ويريد تحميل رأيه على القرآن فلا مجال للنقاش معه وليس لي أن أقنعه ولا أرغب في ذلك. إنني لا أحمل فكرا خاصا ولكنني تلميذ يسعى لفهم كلام ربه ويعلم بأنه يحمل إمكانات الفهم إلا أنه لو لم يسع جاهدا فلن يفلح. فمفسر القرآن سيبقى دائما تلميذا ولن يقتني خوذة العلم التي لا تتغير.
سبقت هذه السورة سورتان أساسيتان في الكتاب العظيم؛ أولاهما البقرة التي تناولت أمهات المفاهيم والأحكام المنزلة لتوضح للناس كيفية التمسك بالله تعالى وباللقاء معه سبحانه تمهيداً عملياً لتزكية النفس بواسطة رفع درجة المعرفة ودرجة التقوى. تلتها سورة آل عمران كسورة مساعدة بيانية تستعين بالأمثال وبالتطبيقات على البشر لتأكيد إمكانية التعامل مع سورة البقرة وبأنها ليست أجنبية عن الإنسان المكلف. ثم أنزل الله تعالى النساء ليعلم الناس حقوقهم الشخصية وحدود مشاركتهم في الحياة العامة وفي عملية التكاثر. ولذلك اهتمت السورة بالعوائل والمواريث والزواج؛ كما اهتمت بتشكيل الكيان الإسلامي والسعي لاتخاذ أم القرى مكانا باقياً للدعوة إلى الله تعالى. تتلو هذه السورة سورة القوانين والقواعد والعقود باسم المائدة حتى لا يشتبه الأمر على الناس فيظنون بأن السماء مهتمة بالعوائل والبيوت أكثر من العهود. فالبيوت مهمة جدا للحياة الفعلية في الدنيا ولا شأن لها في الآخرة كما لا شأن لها في كسب الرضوان وما يتبع رضوان الرحمان من فوائد دنيوية قد لا تقتصر على العلم والمعرفة بل تعم بقية شؤون الحياة الإنسانية. اللهم إلا إن كان الاهتمام بالأسرة مقدمة للاهتمام بالعهود. هذا ما أظنه والعلم عند الله تعالى.
بدأ الله تعالى سورة النساء بالخطاب للناس جميعا وهو دليل واضح على أن الاهتمام بالأسرة فيها ليست مقصورة على بعض الأسر بل المقصود تطهير النسل الإنساني وتزكية الجنس البشري لمواجهة أحكام الله تعالى والاستعداد للقاء معه بعد التعرف على ما يمكنه من معرفة الله تعالى إلها وربّا. معرفته إلها أخضع كل شيء لذاته القدسية وربا ساعد الكل على بلوغ ما يريده الله تعالى له من مراحل التطور مساعدا إياه لمحاربة الجهل والسعي للرشد الفكري والاجتماعي.
حددت السورة كل القوانين وأمرت الناس بطاعة الله تعالى الذي وضع القواعد بما يتناسب مع أهدافه وحكمته وبطاعة الرسول المبلغ الذي بلغ كتابه حرفيا وعمليا وبيانيا. كلما فعله رسول الله عليه الصلاة والسلام كانت لصالح صحابته الذين عاشوا معه كما كانت نبراسا لنا نحن لنستفيد منها في حدود ما وصلتنا من تطبيقاته العملية للتشريعات العامة التي تجمع كيان الأمة مثل الصلاة والحج. لقد تكرر لفظ الطاعة عدة مرات في السورة وكلها تقريبا لله ولرسوله وهي السورة التي تنطوي على أكبر تكرار لطاعة الله والرسول. ذلك لأن الله تعالى يريد بيان عدالته يوم الحساب بأنه سوف يطبق الناس جميعا (الحاضرين والقادمين) على الرسول وصحابته المؤمنين وكذلك الصحابة الفاسقين مثل المنافقين الذين لا نعرفهم بالأشخاص بل بالتعاريف القرآنية فقط. ولتحقيق ذلك على أحسن وجه يلزم تحديد مصادر الطاعة والعلم ليتم اختبار المجموعة النموذجية بيسر.
فبدأت الدعوة إلى طاعة الله ورسوله هكذا: تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ (14). وقد ذكر الله تعالى الحدود قبلها فهي حدود الله فعلا ولا رأي للرسول فيها. فما معنى طاعة الرسول المقترنة بطاعة الله تعالى إذن؟ والطاعة ليست تنفيذا للأمر بل هي قبول الأمر كحقيقة وهي المطلوب ممن حاموا حول الرسالة السماوية ألا يرفضوا الرسول ويتقبلوا رسالته. هناك مسألة يجب فهمها لفهم حقيقة الرسل الكرام. هل الرسل سعاة بريد أم هم سفراء أم لهم دور آخر؟
ساعي البريد هو الذي ينقل الرسالة من المرسِل بكسر السين إلى المرسَل إليه. والرسول يفعل ذلك قطعا ويتشرف بأن يكون ساعي بريد بين الله تعالى وخلقه.
أما السفير المصطلح بيننا فهو الذي يمثل حكومته وشعبه لدى حكومة وشعب غريبين. ليس الرسول كذلك طبعا، فليس هناك ند لله تعالى حتى يرسل سبحانه سفيرا له بهذا المعنى. والرسول في واقعه من نفس الأمة المرسل إليها فهو لم يأت من مكان آخر ولم يسافر إلى أحد بل هو مختار من بين أنفسهم.
لكن الرسول في واقعه يمثل دورا غير عادي في نقل الرسالة وليس في تمثيل الله تعالى. فهو رسول من الله لنفسه ولقومه وأحيانا لغير قومه أيضا. فموسى ومحمد رسولان لقومهما وللإنس والجن دون أن يكون لأي منهما ارتباط متبادل مع الجن أو مع الذين لم يحضروا أمامهما. فأهمية موسى ومحمد عليهما السلام بالنسبة لنا نحن تكمن في رسالتيهما وليست في شخصيهما. إنهما إنسانان مؤمنان طيبان في منتهى الإخلاص لله تعالى ولكل المؤمنين ويحبهما المؤمنون جميعا. ولكن ما دور موسى بعد وفاته بين قومه؟ لا دور إطلاقا حيث أرسل الله تعالى رسلا آخرين بعد وفاة موسى للمؤمنين وهم جميعا حكموا بين الناس بالتوراة بمن فيهم المسيح عيسى بن مريم. ولعلهم جميعا كانوا يشهدون بأن موسى رسول الله.
إن دور رسولنا مشابه لدور موسى ونحن نحبه حبا جما ونشهد يوميا بأنه رسول الله. كل هذه الشهادات وكل هذا الحب لا يفيد رسولنا شيئا لأنه ميت ولكنها تدل على أننا نحمل نفوسا طيبة تحب الله تعالى وتحب رسله لأنهم رسل الله. فالمرجع الحقيقي بعد الحب هو الرسالة إضافة إلى الله تعالى الذي أرسل الرسالة. شهادتنا للرسول تفيد بأننا لا نؤمن بمن يدعي الرسالة بعده ونؤمن بأنه خاتم النبيين وخاتم الرسل البشريين طبعا، حيث لا رسالة بلا نبوة. كل ما نفعله تفيدنا فقط ولا تفيد غيرنا. قال تعالى في سورة العنكبوت: وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (6).
وقد أكد الله تعالى هذا المعنى في نفس سورة النساء: مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا ﴿80﴾. فليس الرسول حفيظا على أحد ولكنه حمل رسالة السماء إلى قومه فوجب طاعته وقبول حكمه وبيانه لأنه مرسل من الله تعالى والأمر -بعد أن ينفذ الرسول أمر ربه- يعود إلى الله تعالى وحده. هذه الآية لا تنطبق علينا لأننا غير موجودين ولا يمكن أن نتولى عن طاعة الرسول. إن تولّينا عن طاعة الرسول غير ممكن ولكن تولينا عن طاعة الله تعالى فهو ممكن.
ولو فرضنا الآية سارية حتى اليوم فهل بين أيدينا كتاب مصان مثل القرآن ومنسوب إلى الرسول مثلا؟ كلا، لا يوجد أي كتاب منسوب إلى الرسول كما لا يوجد أي كتاب منسوب إلى أي من الخلفاء الراشدين ولا إلى الصحابة ولا إلى التابعين. فكلما نراه في مكتبتنا تمثل ادعاءات بشرية لا حجة لنا فيها ولا يمكن أن نواجه الله تعالى في محكمته الكبرى مستندين لصحة تصرفاتنا على البخاري والكافي ومسلم والتهذيب ولا على الفقه الحنفي والمالكي والجعفري. كل ما بأيدينا لا تحمل توقيع رسول الله ولا تواقيع المهاجرين الأولين ولا تواقيع زوجاته الكريمات ولا بقية الصحابة. كما لا تحمل تواقيع أئمة الشيعة حسب ادعائهم أيضا. اللهم إلا كتاب تفسير غير منطقي وغير كامل منسوب إلى الإمام حسن العسكري عليه السلام. إنه كتاب تأويلات باطنية لا ارتباط لتأويلاتها بالقرآن ولا أظن بأن أحدا من سلالة الرسول قد كتبه وخلفه لنا. لا يحتوي ذلك الكتاب على تفسير علمي لأية آية قرآنية ولا يضم جوابا على إشكالات الملحدين والمخالفين لكتاب الله تعالى. ولا ننس بأن الفاصلة بين العسكري ورسول الله يتجاوز القرنين.
فنحن عمليا نطيع البخاري والنسائي والترمذي أوالكليني والطوسي وابن بابويه ولا نطيع رسول الله عليه الصلاة والسلام، فلا نخادع أنفسنا.
ومن الواضح كل الوضوح بأن الآية الكريمة لا تأمر بطاعة أشخاص غير معروفين بالاسم والعنوان الكامل؛ فإن ذلك يعني بأن الله تعالى أمر أمرا غامضا قابلا للتفسير حسب مزاج المفسر. إنه أمر أجنبي عن طبيعة الكتاب المبين وغير ممكن صدوره من سيد الكائنات العليم الحكيم جل جلاله. كل الجدل الذي نقرأه على المفسرين ونسمعه من أصحاب الشؤون الدينية والمَلكية وغيرها يدور حول توافقهم جميعا على وجوب طاعة فئة غير معلومة قرآنيا لا من حيث العنوان الكامل ولا من حيث الصفات. لو كان ظنهم صحيحا فعلينا إعادة النظر في صدور الكتاب الكريم من رب العالمين!
هذا بجانب عدم فهمهم الدقيق لمعنى الطاعة وظنهم بأن الطاعة تعني تنفيذ الأمر كائنا ما كان ذلك الأمر. وسنرى في هذا البحث بأن الطاعة لا تعني تنفيذ الأمر كما شاع بين الناس وبأن أولي الأمر كانوا موجودين وليس هناك إشارة إلى أناس غير موجودين وبأن مرجع الطاعة ليست أوامر المطاع بل قبول فهمه للقرآن فقط. قد يستغرب القارئ الكريم حينما يسمع هذا الكلام بداية ولكنه حقيقة فأرجو الإمعان بإذن الله تعالى.
وحينما نراجع السورة الكريمة التي احتوت هذا الأمر الكريم ونقارن الآية المباركة بقرينة أخرى مماثلة لها في نفس السورة نشعر بمغايرة المقصود مع ظنون أرباب التفسير المعروفين. والآية الثانية هي ضمن الآيات التالية: مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا ﴿79﴾ مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا ﴿80﴾ وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً ﴿81﴾ أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا ﴿82﴾ وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً ﴿83﴾ فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَاللّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنكِيلاً ﴿84﴾.
فحد الطاعة هو أن يقتنع المؤمن بكلام رسول الله لا غير. ليس هناك أي أمر بالتعزير أو التوبيخ أو أية مواجهة دنيوية أخرى إن لم يُطيعوا رسولهم. لو أمر الله تعالى بالمواجهة أو بإنزال أية عقوبة ولو جزئية على من لا يطيع الرسول لبطل الاختيار. ولذلك قال سبحانه في بداية الآيات: من يطع الرسول فقد أطاع الله. هذه الطاعة تشريعية يعود العمل بها إلى قناعة المرء واستعداده للعمل بأوامر الله تعالى ثم العمل أو عدمه ليكسب أو يخسر الرضوان. والرسول مرسل من رب الناس إلى الناس رسولا مبلغا دون أي يكون له حق الحكم بين الناس في علاقاتهم مع ربهم. ليس الرسول وكيلا على الناس ليُشرف على تصرفات المنذَرين وليس الرسول حفيظا عليهم ليطمئن بأن قومه أو من سمع عنه قد سمعوا وأطاعوا ونفذوا.
معنى الطاعة:
وحتى نعرف معنى الطاعة بدقة، حري بنا أن نمعن في الآيتين التاليتين من سورة المائدة أولا: فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30).
وتعني بأن ابن آدم اتبع نفسه التي أزالت قبح القتل وبدلته بالقبول دون الشعور بالكراهية. لا تتحدث الآية عن تقبل النفس لمعصية الله تعالى طبعا بل تكتفي بخروج الكراهية والاشمئزاز من القلب.
ثم من سورة التغابن: مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلاّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (12) اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (14) إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْرًا لِّأَنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) إِن تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18).
ومعناها باختصار: ليس للرسول أن يتصرف في قلوب الناس فيهديهم وليس له أية سلطة في أبدانهم فيعاقبهم. وقد أوجب الله تعالى طاعة الرسول واعتبرها طاعة لله تعالى. هذا يعني بأن ليس للرسول أن يأمر أمرا مطاعا من تلقاء نفسه أو من منطلق آرائه بل ينقل أمر الله تعالى فقط. بالطبع هذا الأمر لا يشمل أوامر الرسول المؤقتة كرئيس لصحابته ولا أوامره في كيفية أداء الناس لصلواتهم كشيخ للمسلمين وبانٍ للنهضة الإسلامية التي يجب علينا اتباعها لتتكامل وتتطور دون أن ننقص منها شيئا فتضمحل والعياذ بالله.
وأما تبعات عدم طاعة الرسول فهي أخروية وليست دنيوية فما على الرسول إلا البلاغ المبين. وقد تكون لمخالفة الرسول تبعات دنيوية ضمن نظام الطبيعة أو نظام الألوهية الحاكم على كل شيء وكلاهما باختيار الله تعالى وليس لأي بشر أي دخل فيهما. هذا حد الرسول مع صحابته ولذلك فإن الأحكام المطاعة التي أتى بها الرسول لكل أهل الأرض ليست من جنس الأحكام المؤقتة التي أصدرها لصحابته كالأحكام الحكومية. فلو لم يكن له أي سيطرة على صحابته في تشريعات السماء فهل يمكن أن يكون له سيطرة علينا حتى يأتي أناس ويدَّعون بأنهم يحلون محل رسول الله عليه السلام، كما نرى اليوم؟ أو كما سمعناه من بني أمية الذين حكموا وسيطروا على رقاب الناس باسم الصحابة أو من بني العباس الذين حكموا باسم أهل بيت النبي؟
والبلاغ المبين يعني البلاغ الواضح المتجلي المتفوق بكل وضوح. وذلك باعتبار أن الرسول يبلغ القرآن لا غيره والقرآن كتاب متفوق ومتجل على كل كلام فهو أحسن الحديث. ولعل أحدا يقول بأن المبين لو كان وصفا للقرآن لزم أن يقول سبحانه: فعلى رسولنا بلاغ المبين أو بلاغ الكتاب المبين. فأرجو الانتباه بأن القرآن بلاغ للناس جميعا بمن فيهم الرسول نفسه وجملة “فإنما على رسولنا” تتضمن معنى وجوب التبلغ على الرسول نفسه أيضا. فلو قال سبحانه بلاغ الكتاب لأصبح الرسول نفسه خارجا عن التبلُّغ وهو ليس كذلك فهو أول من يعمل بالقرآن وهو أول المسلمين الذين يسلمون وجههم لأمر الله تعالى ولكتابه الكريم.
ولمزيد من الوضوح؛ أرجو من القارئ الكريم أن يقرأ سورة التغابن من بدايتها بإمعان ليعلم بأن الحديث فيها عن البشر والله تعالى سوف يجمعهم جميعا يوم القيامة فهل يمكن اعتبار الرسول خارجا عن الجمع يوم الحساب؟ وصيغة البلاغ مستعملة في القرآن للتبلغ. قال تعالى في سورة إبراهيم: لِيَجْزِي اللّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (51) هَذَا بَلاَغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُواْ بِهِ وَلِيَعْلَمُواْ أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ (52).
والآية 13 من سورة التغابن تنفي أي دور تكويني لغير الله تعالى فليس محمد ولا غيره قادرين على تحريك أي ساكن في الكون لا بأمر الله تعالى ولا بغير أمر الله تعالى. فلو كان لهم أي دور جاز للمؤمنين أن يتوكلوا على رسولهم باعتبار أنه يتصرف في الطبيعة أو يتصرف في الأرض أو في زراعة ومياه وهواء مكة والمدينة والطائف مثلا.
والآيتان 14 و15 لمنع الناس عن اتباع طلبات وأوامر المقربين من الأسرة والذين قد يأمرونهم بالامتناع عن الإنفاق في سبيل الله. ذلك الإنفاق الذي ينجيهم من عذاب القيامة؛ إلا أن من واجبهم ألا يؤذوا أهليهم. فليعلموا بأن من يمنعهم من الانفاق فهو عدو لهم باعتبار نتائج منعه التي تؤكد عذاب الآخرة ولكن عليهم أن يغفروا لهم فلا يعاقبوهم بل يكتفوا بعدم اتباع الأهل. وليطلبوا وجه ربهم وأجره العظيم مراعين الاحتياط في التعامل والتعادل بين حاجة الأهل وأولوياتهم وبين ضرورات المجتمع البشري المحيط بهم ولذلك قال سبحانه في الآية 15:
فاتقوا الله ما استطعتم. وبعد التقوى تستعد النفس للسماع الكامل خوفا من أن يرى الله تعالى غاضبا عليه. هذا السماع يمثل مرحلة ما قبل الطاعة ثم الطاعة بمعنى القبول الكامل لموعظة ربهم ثم اتباع الأمر وتنفيذ أمر الإنفاق. ذلك ليكون الإنفاق سمعا لله وطاعة لله وانتظارا لمغفرة الله تعالى يوم الحساب إذا ما أنفقوا فعلا. ولو كانت عملية الإنفاق بيانا للطاعة لقال سبحانه: فأنفقوا ولكنه عطف بالواو فقال: وأنفقوا. والواو هنا ليست بيانية لأن هناك عدة أوامر قبلها وكلها معطوفة على بعضها البعض والعلم عند الله تعالى.
والآيتان الأخيرتان بيان لقبول الرحمن للإنفاق الصادر من قلب متق يحب الله تعالى ويحب عبيده من أجل ربهم فهو سبحانه يتقبله ويضاعف لهم نوع الأجر طبعا وليس مقداره ويضيف عليهم المزيد من المغفرة ليستحقوا أنواعا أخرى من نعم الآخرة ولكنه سبحانه يعامل الكل بعلمه الكامل بالنوايا والإمكانات وبعزته القاهرة فيرفض الصدقات غير الطيبة وغير الصادقة؛ ويعاملهم بحكمته فيمنح كل شخص من كرمه بقدر ما ضحى به من نفسه وليس بمقادير الإنفاق التي تتفاوت بقدر الإمكانات.
الطاعة لدى أرباب اللغة:
وأما علماء اللغة فأكتفي بقول الراغب الأصفهاني حيث يقول:
الطوع: الانقياد، ويضاده الكره قال عز وجل: {ائتيا طوعا أو كرها} [فصلت/11]، {وله أسلم من في السموات والأرض طوعا وكرها} [آل عمران/83]، والطاعة مثله لكن أكثر ما تقال في الائتمار لما أمر، والارتسام فيما رسم. قال تعالى: {ويقولون طاعة} [النساء/81]، {طاعة وقول معروف} [محمد/21]، أي: أطيعوا، وقد طاع له يطوع، وأطاعه يطيعه. قال تعالى: {وأطيعوا الرسول} [التغابن/12]، {من يطع الرسول فقد أطاع الله} [النساء/80]، {ولا تطع الكافرين} [الأحزاب/48]، وقوله في صفة جبريل عليه السلام: {مطاع ثم أمين} [التكوير/21]،.
انتهى كلام الراغب، ولكن اسمحوا لي أن أصحح خطأ عند الراغب رحمه الله تعالى. المطاع في آية التكوير هو الرسول البشري وليس جبريل لقوله تعالى بعدها: وما صاحبكم بمجنون.
فالطاعة في حقيقتها مقابل للكره وليس للعصيان. وهي تعني السمع الكامل. والسمع الكامل ينطوي على نوع من القبول ولو كان من غير اقتناع. قال تعالى في سورة النور: قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (54).
والاتباع هو المقابل الصحيح للعصيان. وهو يعني القبول الكامل. بمعنى عدم الكره والقناعة بصحة الحديث أو صحة الأمر. قال تعالى في سورة هود: وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ وَاتَّبَعُواْ أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59). فالجحود هو عدم الطاعة والإنكار؛ والعصيان معناه عدم الاتباع؛ وفي المقابل اتبعوا أمر كل جبار عنيد.
ويتلوهما مرحلة التنفيذ.
والطاعة والاتباع قد يتحققان في مرحلة واحدة كطاعة الملائكة وتتلوها مرحلة الاتباع بمعنى تنفيذ الأمر. قال تعالى في سورة التحريم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6). فلو كان عدم المعصية بمعنى التنفيذ لما احتاج إلى إضافة ويفعلون ما يؤمرون.
لننظر إلى الآيات التالية من سورة طه: وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِن قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُم بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90) قَالُوا لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى (91) قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93).
نلاحظ بأن هارون قال لقومه اتبعوني وأطيعوا أمري ولكن موسى يقول له لماذا لم تتبعني، فهل عصيت أمري؟ نعرف منها بأن قوم هارون لم يتبعوه ولم يطيعوا أمره بالكامل ولكن اكتفوا بأن يحددوا عصيانهم وعبادتهم للعجل حتى يعود موسى. نفهم من ذلك بأنهم قالوا لهارون: سوف نعبد العجل حتى يعود موسى ثم نتركه. هذا يعني بأن هارون لم يعبد العجل كما ظن البعض وذكر لهم السبب وقال اتبعوني في عدم عبادة العجل وأطيعوا أمري يعني واقبلوا أمري بالواجب الشرعي وهو عبادة الله تعالى وعدم الخضوع لغيره.
فما هو خطأ هارون حتى يقول له موسى لماذا لم تتبعن؟
وما هو أمر موسى الذي أشار إليه بقوله: أفعصيت أمري؟
فأما أمر موسى لهارون فهو أن يخلفه في قومه بمعنى أن يكون خليفة لحكمه بين القوم. كان على هارون أن يقوم بما قام به موسى حينما عاد من الطور بأن يهدم العجل ويحاكم السامري ولا يعبأ بالذين اتبعوا دعوة السامري. كان هناك جمع يتبعونه وينفذون أوامره ولكن هارون خاف من شيء آخر حيث قال لأخيه كما نقرأ بعدها في نفس السورة: قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94). بمعنى أن يسلط فرقة يتبعونه على فرقة يتبعون السامري فيكون قد فرق بين بني إسرائيل. فخطأ هارون هو عدم تنفيذ حكم الخلافة. إذن اتباع هارون لموسى يعني قبول حكم موسى وتنفيذه دون خوف ولكن موسى لم يقل له بأن عليه أن يتبعه حتى لو أدى إلى التفريق بين بني إسرائيل ولذلك أمسك هارون عن الاتباع. والاتباع هو إصدار الأمر لفرقة التنفيذ لينفذ القانون فقط وليس أمرا آخر. وعصيان الأمر الذي يشير إليه موسى هو عدم السمع الكامل لحكمه في الخلافة بمعنى قبوله الكامل لحكم رسول الله. وأما القبول الابتدائي بمعنى الطاعة فهارون كان قابلا له ولذلك قام ببعض النهي ولكن لم يشفع نهيه بالشدة المطلوبة كحاكم، فهو أطاع ولكنه لم يتبع اتباعا كاملا. فالاتباع الكامل هو عدم العصيان، (أفعصيت أمري؟).
أولو الأمر:
والغريب أن كلمة أولي الأمر لم ينزل في القرآن أكثر من مرتين وكلاهما في سورة النساء هذه. فلنبدأ بفهم المقصود من أولي الأمر بداية.
ظنوا بأن أولي الأمر جمع لولي الأمر احتمالا والحال أنَّ أولي ليس جمعا لولي بل جمع الولي هو الأولياء. وأما أولي أو أولو (رفعا عادة) اسم جمع لكلمة ذو أو ما بمعناها. فأولو الأمر مثل أولي العلم أو
أولي الألباب بمعنى ذوي العلم وأصحاب اللب. والحديث في الآيات المتأخرة يدور حول القرآن الكريم وحول تفسيره وتأويله بكل يقين. وهكذا الأمر في الآية 59 تلك. ولذلك يقول سبحانه في نهاية الآية: ذلك خير وأحسن تأويلا. وقول الزمخشري بأن أحسن تأويلا تعني أحسن عاقبة ليس دقيقا ولا منسجما مع الآية إلا أنه ينسجم مع تفسيرهم الخاطئ والعلم عند الله تعالى. فأولو الأمر لا يعدو مشيرا إلى أصحاب الشأن من كل مجموعة مثل المهندسين والأطباء وقادة العسكر وأرباب اللغة ومفسري القرآن وغير ذلك من ذوي الاختصاص.
والطاعة لا تعني الانقياد بل تعني تقبّل الحقيقة من أصحاب الشأن إن كانوا معقولين في بيانهم وفي حال وجود الرسول بينهم فالمرجع هو الله ورسوله الموجود معهم حال كونه موجودا. ومتعلق الطاعة ليس الأمور العامة بل ما يرتبط بفهم الكتاب الكريم الذي أرسل إلى الرسول الأمين باللغة التي يفهمها. إنه أجدر الناس لزمانه ومكانه بفهم ما يريد الخالق فهمه من كتابه آنذاك ومن يطلب معنى آخر من عنده في حضور الرسول الأمين فهو في ضلال.
وأما قوله تعالى في نفس سورة النساء: مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِن لَّعَنَهُمُ اللّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (46). فالعصيان في المقطع الأول من الآية ليس في مقابل الطاعة في المقطع التالي منها. بل إن العصيان هناك لإظهار أنهم يرفضون ويخالفون معا. ولذلك قالوا: واسمع غير مسمع، يعني بأن كلام الرسول غير واضح. كما كانوا يقولون للرسول: راعنا، بمعنى أنه عليه السلام لا يرعى صحبه. فراعنا لا يعني لاحظ ضعف فهمنا بل يعني ارع أو قم بالقيادة ليتبعك قومك. هذا ما يفعله كل الزعماء الدينيين بعد الرسل حتى المسلمين. ولكنهم في حضرة الرسل يعتبرون أنفسهم إخوانا للرسل وليس أتباعا لأشخاصهم فيسمعون من رسولهم أمر ربهم ويتدبرونه بأنفسهم مستفيدين من بيانات أخيهم الرسول. فقال لهم الله تعالى ليس الرسول قادرا على إيتائكم العلم ولكنكم ولتفهموا قوله بالكامل قولوا له: انظرنا. فالمعلم بالنظر يضيف الإيحاء إلى قوله وهذا ثابت علميا اليوم. وجدير بالذكر أنني لاحظت أحد الإخوة وهو أستاذ الطب النفسي يسعى دائما ليجلس مواجها لمن يلقي المحاضرة. إنه يعلم بأن المحاضر يوحي المعنى لمن ينظر إليه.
فالمعصية مقتصرة على عدم سعيهم ليعرفوا ما قاله الرسول فيخالفوه بعلم ودراية على الأقل. والعلم عند الله تعالى.
وحتى نختصر الطريق دعنا نفترض صحة ادعائي بأن أولي الأمر تعني أصحاب الشأن في كل فن وبأن الطاعة تعني قبول الكلام أو قبول البيان ونفسر الآية على أساسها لننظر النتيجة.
يا أيها الذين آمنوا:
خطاب لصحابة رسول الله من الذين كانوا من المشركين ولأهل الكتاب الذين تخلوا عن عقائدهم وأفكارهم وآمنوا بدعوة الرسول الأمين. والخطاب خاص بهم لأن الله تعالى يأمرهم بأن يعودوا إلى الرسول ولازمه أن يكون الرسول بينهم حتى يعودوا إليه. وإذا فرضنا أن الأمر عام وعلينا أن نعود إلى أحاديث الرسول فسوف يكون القرآن غير دقيق. إنه في تلك الحالة يأمرنا بأن نعود إلى شيء غير موجود أصلا حتى ادعاء. ولنفرض بأن ما كتبه المحدثون صحيح فكيف عاد التابعون إلى الرسول في غياب كتب الحديث؟ لو كان العود إلى الرسول يعني العود إلى أحاديثه فالأحاديث اليوم صحيحا أو كذبا موجودة ولا ننتظر منها شيئا جديدا حتى نعود إليها.
أطيعوا الله:
بأن يعودوا إلى كتاب الله تعالى الموجود بين أيديهم. هذا الكتاب ينطوي على مسائل علمية وعقائدية وعلى عبادات مشتركة بين الأديان وعبادات ومقدمات عبادة خاصة بالمسلمين وعلى أحكام قضائية مفيدة وعلى الديات والحدود. نحن نرى اليوم بأن كل المسائل بما فيها قصص الأنبياء مفصلة تفصيلا علميا لا يمكن العمل بها دون الرجوع إلى كلها وتركيز الفكر وتسليطه عليها للتعرف على كل جوانب القضايا ثم فهم الرسالة. بالطبع أن ذلك ضروري لكتاب بهذه العظمة أنزل لهم ولغيرهم ليبقى حتى انتهاء الحياة في هذا الكوكب. وهناك ضرورات اختبارية تفرض نفسها على المواضيع ليعود كل فرد إلى عقله وفكره ويرتبط بربه ليعلم رسالة ربه إليه في زمانه ومكانه. فلا مناص من أن يكون القرآن المفصل والمبين مختلفا عن الكتب العادية التفصيلية التي تمثل شخصا أو قوما معينا في زمان ومكان واحد.
وأطيعوا الرسول:
حسب فهمي يعني بأن يقبلوا تفسير الرسول لكتاب ربه وربهم لأنه يعيش بينهم في زمانهم ومكانهم وهو الموحى إليه مباشرة فهو أجدر بفهم القرآن من غيره. وهناك مسألة جانبية أخرى وهي كونه بجانب عبقريته الفذة وذاكرته القوية جدا وقلبه النقي الخالص كان بعيدا عن العلوم الإنسانية آنذاك فكان قلبه النفسي مستعدا فعلا لاستلام الوحي ولفهم الوحي لعدم وجود أفكار ومسلمات علمية تزاحم فكره. هكذا يقبلون القرآن وحيا ويقبلون تفسير رسولهم بكل اطمئنان فيؤدون الاختبار الخاص بهم دوننا. ألا وهو اختبار الشهادة ليكونوا شهداء ونماذج على غيرهم كما يكون الرسول نفسه نموذجا لهم.
وأولي الأمر منكم:
نرى بأنه سبحانه كرر فعل أمر الطاعة قبل الرسول ولم يكرره قبل أولي الأمر. فيكون المعنى بأن القرآن واجب القبول في أصله ومفاهيمه حتى لو لم يفهموا كل معانيه. ولكن قول الرسول أو بيانه مناسب لهم فلزم الفصل بين وجهي الطاعة. فطاعة الرسول هو طاعته في فهم القرآن وطاعة الله تعالى هي طاعة الله تعالى في أوامر القرآن حتى لو لم يدركوا عمقه مثلا. قال تعالى في سورة آل عمران: هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ؛ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ (7). والرسول نفسه من أولي الألباب ويقول بأنه آمن بالقرآن ولو لم يعلم كل معانيه. ذلك لأن الذي يعلم التأويل الكامل هو الله تعالى وحده وليس أحد غيره. فأنى للرسول أن يعرف معنى المتشابهات كلها؟ إذن طاعة الرسول مختلفة عن طاعة الله تعالى في هذه الآية باعتبار فهم وتأويل القرآن لا باعتبار أصل القرآن ولا باعتبار أوامر الرسول الرسالية. فحينما يقول الله تعالى لرسوله مثلا: خذ من أموالهم، فهو يأخذ من أموالهم كما قاله الله تعالى ويجب طاعته فهو طاعة لله تعالى. لكنه حينما يقول بأن تفسير والنازعات غرقا، هكذا فهم يطيعونه ويقبلون فهمه باعتباره أكثر منهم فهما ولا يلزم أن يكون تفسيره صحيحا أو كاملا. ونحن نرى اليوم وجود مسائل كثيرة في القرآن لا نرى لأي منها أثرا في فهم السابقين أو فيما نقل عنهم من روايات.
والله سبحانه لم يفصل بين طاعة الرسول وطاعة أولي الأمر في هذه الآية لأنهما متشابهتان من الحيثية التالية:
الرسول إنسان يقود أمة بكل مقتضياتها المختلفة ويستعين في قيادته بالقرآن. فهو يعرف أمر الحرب ويجمع الناس للجهاد وينظم صفوفهم ولكنه لا يعرف جزئيات الحرب كلها. فقائد المشاة يعرف جزئيات حرب المشاة أكثر من القائد الأعلى ومسؤول التموين يعرف جزئيات وكيفية التموين وإيصالها إلى المحاربين أكثر من رسول الله نفسه الذي يقوم بالقيادة العامة. وهكذا جزئيات وتفاصيل كل نوع من أنواع المواجهة. فلكل فن من فنون الدفاع والحماية وحراسة المدينة، أهلُها ومتخصصوها. فيجب طاعة مسؤول في مهمته صونا للنظام كما يجب طاعة الرسول ولكن ليس كما يجب طاعة الله تعالى.
والدليل على ذلك هذه الآية من سورة التوبة: عَفَا اللّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43). فالرسول الواجب طاعته على صحابته في تفسيره لكتاب ربه ولأوامر القرآن أخطأ في مسألة عسكرية ولكن الجنود المسلمين قبلوا فهمه ونفذوه ولم يفاجئه الوحي ليوقفه وصبر حتى يتم تنفيذ الأمر ليرى الله تعالى مدى تجاوب قومه معه احتمالا ويروا هم ورسولهم مدى خطأ الأمر. ثم يعفو الله تعالى عنه وحده دونهم. إنهم نفذوا أمرا واجب النفاذ والخطأ من قائدهم وليس منهم. وقد عفا الله تعالى عن الرسول لأنه لم يأمر أمرا من منطلق شهواته سواء عداء أو حبا ولكنه أمر أمرا حسب فهمه وكان مخطئا. والله تعالى أكرم من أن يحاسب الذين يجهلون مسألة أو لم يملكوا خبرة كافية فيها.
فلو يخطئ إنسان عظيم برفعة خاتم النبيين فكيف لا نتصور الخطأ من أولي الأمر الذين عينهم الناس بموافقة شيخهم وزعيمهم أو عينهم الرسول نفسه باعتباره حاكما تقبَّله كل المؤمنين بكل قلوبهم؟
ويؤكد سبحانه عليهم بأن هذا الأمر متعلق بالذين عينوهم بأنفسهم لتسلم الأمور ورعايتها بقوله: منكم.
وحتى يقلل الله تعالى من الخطأِ وهو خطأ في تفسير الحكم المنزل من السماء في الواقع فإنه قال:
فإن تنازعتم في شيء:
واضح بأن الحكم السماوي الذي ينزل ضمن الكتاب العظيم لا يمكن أن يتم تنفيذه بدون دراسة وفهم لكل حيثياته وإكمال للاستعدادات وإعداد للناس ولأصحاب الشأن. قال تعالى في سورة الشورى: وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (38). والشورى هي من السور السبع التي يكرر الله تعالى فيها حجية القرآن على رسول الله وعلى من آمن به وعلى الناس أجمعين. يقول سبحانه فيها: فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15).
فأمر المؤمنين بمن فيهم صحابة الرسول عائد إليهم عن طريق الشورى. ولذلك قد يتنازعون على فهم مسألة غامضة لا يتفقون عليها فما الحل؟
فردوه إلى الله والرسول:
نلاحظ بأنه سبحانه هنا عند بيان الرد لم يفرق بين الله تعالى والرسول. دعنا نحلل النزاع أولا لنعلم طبيعة النزاع والمتنازعين. نعرف من ختام الآية بأن النزاع حول فهم موضوع منزل يحتاج إلى تأويل وليس أمراً آخر. ثم من هم المتنازعون؟ هل هم نفس أولي الأمر أم هم الصحابة المخاطبون في بداية الآية الكريمة؟
قد يكون النزاع بين أولي الأمر أنفسهم باعتبار تداخل المسؤوليات وقد يكون بين بقية الصحابة وبعض المسؤولين باعتبار أن من حق الجميع أن يعلموا تفاصيل كل حكم ليكونوا على علم قبل أن يبدأوا بالتنفيذ إن أمكن. فالإسلام ليس دين الطاعة وتقبيل الأيادي كما نراه اليوم بين أصحاب الادعاءات ولكنه دين الشورى الذي يفرض على الحاكم إقناع كل مأمور بصحة الأمر وبأن الله تعالى وراءه قبل أن يتوكل على الله تعالى ويصدر حكمه.
قال تعالى في سورة آل عمران: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159). يجب على الرسول المطاع نفسه أن يشاورهم قبل إصدار حكم فكيف بغيره؟ كما يجب عليه أن يعفوَ ويستغفر لهم قبل المشورة ليعلموا بأن الرسول لا يحمل أمرا ضدهم بالعفو ولا يكمن حرجا ضدهم ولو آذوه ولم يطيعوه في بعض الأمر وسببوا له ولبقية المسلمين الخسارة بالاستغفار لهم. والاستغفار علامة الرضا.
فإذا تنازع أولو الأمر أو بقية الصحابة في شيء يردونه إلى الله والرسول. كيف يردونه إلى الله تعالى؟
بأن يعودوا إلى القرآن طبعا إذ لا يمكن لنا أن نسأل الله تعالى مباشرة ونسمع الجواب القولي بلغتنا مباشرة. لكن صحابة الرسول وفي حين وجود الرسول يعودون إلى الرسول ليعود الرسول إلى الله تعالى ويأتي بالحل القاطع لهم. هذه هي طبيعة أصحاب الرسل. قال تعالى في سورة البقرة: أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ…
وحينما يذكر القرآن الله والرسول أو الله ورسوله معطوفين فهو يعني بأن الرسول هو الذي ينقل كلام الله تعالى من دون تغيير أو تدخل من شخصه. لنقرأ بعض الآيات لفهم المعنى بدقة.
قال تعالى في سورة الأحزاب: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا (57). فهل يمكن لأحد أن يؤذي الله تعالى؟ لكن الذي يؤذي رسول الله فهو لا يبالي بأنه رسول الله فهو مستعد لأن يؤذي الله تعالى ولو أنه سبحانه لا يمكن إيذاؤه. فالذي يؤذي رسول الله سوف يجازى كمن يقصد إيذاء الله تعالى. ولذلك يلعنهم الله تعالى باعتبار نواياهم الفاسدة التي تأمرهم بإيذاء الذي لعنهم.
وقال تعالى في سورة الفتح: إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (9). فنحن نعزر الله ونوقر الله ونسبح الله بكرة وأصيلا ولكن الآية تعطف الرسول على الله ولا شأن له في هذه الأمور عدا تبليغ أمر الله تعالى.
وقال تعالى في سورة التوبة: يَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ (62). فمن هو مرجع الضمير في يرضوه؟ هل هو الله أو رسوله؟ بالطبع أنه هو الله تعالى ولكن الرسول المعطوف على الله يحمل دور التبليغ فقط وليس هو شريكا لله سبحانه.
فالرد إلى الله والرسول معطوفين هو الرد إلى الله تعالى في الواقع ولكن عن طريق الرسول. فكما أن بني إسرائيل عادوا إلى نبي لهم فصحابة نبينا يردون إلى رسولهم ولكن المرجع الحقيقي هو الله تعالى.
فهل مثل هذا الإرجاع ممكن في غياب الرسول؟ كلا لأن الوحي مقطوع وإلا لم يكن محمد خاتم النبيين.
ولذلك نقول بأن مخاطب الآية هم الصحابة دون غيرهم.
إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر:
يعني بأن علامة الإيمان بالله واليوم الآخر هو أن يعود الصحابة في نزاعهم إلى الله والرسول. لنعرف معنى الإيمان بالله واليوم الآخر. بالطبع أن الإيمان بالله غير مرتبط بالإيمان بالرسول وإلا لقال سبحانه: إن كنتم تؤمنون بالله ورسوله واليوم الآخر. والإيمان بشيء ينطوي على الاعتماد على ذلك الشيء والاطمئنان به. ذلك لأن الإيمان يعني اتباع العقيدة وجعل العقيدة موجِّهة لنفسه. فالمؤمن يسير وراء إيمانه أو عقيدته. كان الصحابة المحيطين بالرسول، مؤمنين بالله ورسوله طبعا باعتبار أن الرسول ينقل لهم أمر الله تعالى ولكن الآية تتحدث عن الإيمان بالله واليوم الآخر. أليس المقصود بأن الذي يؤمن بأن مرجعه ومعاده إلى الله تعالى في النهاية فهو يتبع أمر الله تعالى بكل دقة؟ فالمقصود في الواقع أن لا يبقوا في الشك ولا يعتمدوا على الظن بل يعودوا إلى الله ورسوله ويطلبوا حكم الله تعالى. فهل مثل هذا السيناريو ممكن في غياب الرسول وتوقف الوحي؟
ونراه سبحانه يأمر النبي أن يقول نفس الشيء لأزواجه كما في سورة الأحزاب: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل ِلأزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً (28) وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (29). والموضوع هناك مرتبط بفهم القرآن أيضا؛ فإنه سبحانه يؤكد ذلك لهن بعد عدة آيات: وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا (34). فالخطاب للنبي ومتعلق “تُردن” هو الله ورسوله وليس الله والنبي. فالرسول مجرد ناقل لزوجات النبي محمد والمطلوب منهن أن يردن الله ورسوله ولا يردن الله ونبيه. فهما اعتباران مختلفان.
ثم إننا نرى نتاج وجود الرسول بين آبائنا قبل مئات السنين في مكة وهو هذا الكتاب العظيم الذي بين يدينا فهل هناك كتاب يماثله في الكرة الأرضية ليكون نتاج عودة المؤمنين إلى غير الرسول؟ وهل يتأتى لغير رسول الله عليه السلام أن يأتي بالحكم المباشر من الله تعالى ليقطع كل حديث ويثبت الحقيقة عن طريق الوحي؟ فكيف يفسرون أولي الأمر بالذين أتوا في غياب رسول الله؟ معاذ الله من ذلك.
فطاعة الله ورسوله لا ارتباط لها بالمسائل التشريعية خارج القرآن إذ لا علاقة بين تلك المسائل والإيمان بالله واليوم الآخر.
ذلك خير وأحسن تأويلا:
ما معنى التأويل أولا؟ التأويل يعني العودة إلى الأول أو إلى البداية ليعلم المؤوِّل مقصود الكاتب أو المنزل بالنسبة للقرآن. فهل هذا في مقدور أحد. ولذلك قال تعالى بأنه هو وحده يعلم تأويل القرآن. وهل استعمل العرب كلمة التأويل في غير معنى التفسير الدقيق والصحيح؟ إذن فالآية الكريمة لا تتحدث عن كل المسائل بل عن فهم آيات الله تعالى التي نحتاج معها إلى التفسير والتأويل الدقيق. وأما معنى الخير؛ فإن الرسول الذي أنزل عليه الوحي هو خير من يعودوا إليه لفهم الكتاب الذي أنزل على قلبه الشريف باعتبار ارتباطه بالوحي واستلهامه من ربه ما دام موجودا بينهم.
بموجب هذا الفهم يمكننا أن نعرف معنى الآية التالية لها والتي تبدأ بـ “ألم تر“. وقبل أن نفهم معناها دعنا نلاحظ أهم أقوال بعض المفسرين في الآية التي شرحناها ونحللها فلعلهم كانوا مصيبين دوننا.
أقوال المفسرين:
قال الطباطبائي في الميزان:
و أما أولوا الأمر فهم – كائنين من كانوا – لا نصيب لهم من الوحي، و إنما شأنهم الرأي الذي يستصوبونه فلهم افتراض الطاعة نظير ما للرسول في رأيهم و قولهم، و لذلك لما ذكر وجوب الرد و التسليم عند المشاجرة لم يذكرهم بل خص الله و الرسول فقال: فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله و الرسول إن كنتم تؤمنون بالله و اليوم الآخر، و ذلك أن المخاطبين بهذا الرد هم المؤمنون المخاطبون بقوله في صدر الآية: يا أيها الذين آمنوا، و التنازع تنازعهم بلا ريب، و لا يجوز أن يفرض تنازعهم مع أولي الأمر مع افتراض طاعتهم بل هذا التنازع هو ما يقع بين المؤمنين أنفسهم، و ليس في أمر الرأي بل من حيث حكم الله في القضية المتنازع فيها بقرينة الآيات التالية الذامة لمن يرجع إلى حكم الطاغوت دون حكم الله و رسوله، و هذا الحكم يجب الرجوع فيه إلى أحكام الدين المبينة المقررة في الكتاب و السنة، و الكتاب و السنة حجتان قاطعتان في الأمر لمن يسعه فهم الحكم منهما، و قول أولي الأمر في أن الكتاب و السنة يحكمان بكذا أيضا حجة قاطعة فإن الآية تقرر افتراض الطاعة من غير أي قيد أو شرط، و الجميع راجع بالآخرة إلى الكتاب و السنة.
يقول المُهري ردا على الطباطبائي:
هذه الآية والتي بعدها المذكورة أعلاه والتي بعدها وهي: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا (61). كلها تدل دلالة واضحة على أن الأوامر مختصة بزمن رسول الله ولم يأت الطباطبائي بأي دليل من الآية بوجوب الرجوع إلى السنة بالنسبة لمن يأتون بعد رسول الله. هو محض ادعاء من نفسه كما ادعى غيره ولا عبرة بالادعاء المحض عند العقلاء.
ونحن نرى بأن الله تعالى الذي أنزل القرآن فقد صانه وحفظه إلى يومنا هذا. ونراه صرح بذلك أيضا في سورة الحجر: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9). ولكننا لا نرى كتاب أحاديث مصانة ولا نرى وعدا من الرحمن بصيانتها فكيف يعتبرها حجة قطعية وهي غير مصونة وغير واضحة؟
وأما تقييد الطباطبائي حجية السنة والكتاب بمن يسعه فهم الحكم منهما فهو ادعاء غير مستدل أيضا. هذا تمهيد لبناء نظام هرمي ديني يكثر فيه الادعاءات ويقل الدلائل. إنه بناء كثير النظائر لدى الشيعة والسنة والظاهرية والباطنية والصوفية والعرفاء وغير ذلك من الأبنية التي بناها البشر لتثبيت أنواع الزعامات ولا دليل لهم عليها ولا قيمة لها لا علميا ولا قرآنيا. هذا الكلام يعني بأن من واجبنا نحن مهما بلغنا من العلم أن نرجع إلى أصحاب تلك المؤسسات الكبيرة التي ينفق عليها أصحاب الثروات وأصحاب السلطة ليستفيدوا منها وكلها باطلة ومرفوضة قرآنيا. إن الله تعالى يُعلن بأن لا تزر وازرة وزر أخرى وبأن كل الناس مسؤولون بأنفسهم يوم القيامة أمام ربهم ويعلن سبحانه رفضه لأي شيء غير القرآن. هذا ما أكد سبحانه عليه في كل القرآن وخاصة في السور التي تبدأ بـ حم. وقد أعلن سبحانه في أول سورة كبيرة في القرآن بأن القرآن هدى للناس ولم يقل في أي مكان بأن علينا الرجوع إلى أحد.
كل ما في الأمر هو أنه سبحانه أمر بأن ينفر من كل فرقة من الفرق المعروفة بين الناس طائفة منهم ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم ولم يأمر أحداً بطاعتهم أبدا. قال تعالى في سورة التوبة: وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122). لم يعط الله تعالى أيا منهم من أية فرقة وتحت أية عباءة أي تخويل أو أي إذن بأن يفتي أو أن يعلن مرجعيته. ليس في القرآن أي إذن لأي شخص بعد الرسول بمن فيهم الراشدون الذين حكموا بأن ينوبوا عن رسول الله أو بأن يفتوا في أمور الناس. كلهم يدعون وكل من ادعى أمرا منسوبا إلى الله تعالى فهو مفتر حتى يثبت العكس. لا أستثني أحدا.
علينا أن نعرف وجدانا بأن الله ورسوله لا يعني أبا بكر ولا علي بن أبي طالب و لا أبا حنيفة ولا جعفر الصادق ولا مراجع التقليد ولا الولي الفقيه ولا ولي الأمر ولا الحكام والملوك ولا شيخ الأزهر ولا مفتي الديار ولا مفتي عام المملكة ولا ولا. كما يجب أن نعرف بأن الله تعالى لا يمكن أن يأمرنا باتباع أفراد لم يأتوا ويشير إليهم بأولي الأمر ليفسره كل فرقة حسب مزاجه. هذا كتاب الله تعالى وليس كتاب الطباطبائي حتى يدعي ويكتب ما يثبت أركان حزبه، مع احترامي له كزميل مفسر للقرآن.
وأما قوله بأن المخاطبين بهذا الرد هم المؤمنون؛ فهو أيضا ادعاء واضح البطلان. لقد خاطب سبحانه الذين آمنوا وهم كل المؤمنين بمن فيهم أولو الأمر منهم. فكيف يفصل الطباطبائي بينهم وبين أولي الأمر حين التنازع؟
وقال الطباطبائي في معرض استدلاله على ادعائه اعلاه بأنه لا يجوز أن يفرض تنازعهم مع أولي الأمر مع افتراض طاعتهم. فأقول له بأن فرض التنازع دليل على عدم وجوب طاعتهم على الإطلاق؛ إذ لا معنى للتنازع بينهم لو كان طاعة أولي الأمر واجبا حيث يعودون إليهم لأنهم منهم. و “منهم” لا يعني من جنسهم بل يعني من الموجودين بينهم الذين اختاروهم بأنفسهم. ما فائدة إضافة منهم على أولي الأمر لولا المقصود وجودهم بينهم؟ هل يمكن تصور ذوي أمر من الملائكة أو من غير الإنسان عامة؟ ولو كان طاعة أولي الأمر واجبة فإذا تنازعوا في أمر من أوامرهم فهم يعودون إليهم أنفسهم لا إلى الله ورسوله.
وقد قرأت جملته هذه أكثر من مرة لأعرف مقصوده منها دون جدوى:
(بل هذا التنازع هو ما يقع بين المؤمنين أنفسهم، وليس في أمر الرأي بل من حيث حكم الله في القضية المتنازع فيها بقرينة الآيات التالية الذامة لمن يرجع إلى حكم الطاغوت دون حكم الله ورسوله). انتهى النقل.
ما كنت أنتظر هذا التناقض من فيلسوف كبير مثل العلامة الطباطبائي. فاسمحوا لي بأن أحلل كلامه. يقول بأن التنازع ليس في أمر الرأي بل من حيث حكم الله. معنى كلام الأخ الطباطبائي هو أن المؤمنين لا يمكن أو لا يجوز أن يتنازعوا في فتوى أو رأي أولي الأمر ولهم أن يتنازعوا في حكم الله تعالى في القضية. يعني إذا قال الله تعالى بأن حكم الذي يزني هو 100 جلدة وأفتى أولو الأمر بـ 100 جلدة لمن زنى فليس لهم أن ينازعوا أولي الأمر ولكن من حقهم أن يتنازعوا في أصل الحكم الذي عينه الله تعالى في كتابه!!! ذلك لأن أولي الأمر أفتوا بما قاله الله تعالى فالإشكال على الله فعليهم أن يعودوا إلى الله ورسوله.
لم يعط الطباطبائي أي مثال فاضطررت أن أذكر هذا المثال الذي يتطابق تماما مع افتراضه وهو أن أولي الأمر يفتون بما قاله الله تعالى وأي إشكال على أمر الله يعودون إلى الله.
وأنا أقول للمرحوم الطباطبائي ولمن يسير على دربه: لو انحصر دور أولي الأمر على بيان فتوى الله تعالى فنحن نعود مباشرة إلى القرآن ولماذا نعود إليهم؟ كل القرآن عبارة عن نقل نقله رسول الله لكل الناس وقد صانه الله تعالى وهو موجود وواضح ولا نزاع فيه فما حاجتنا إلى طاعة أولي الأمر حسب رأي الطباطبائي؟ ثم إن الطباطبائي يؤمن بانقطاع الوحي وبعدم ارتباط أولي الأمر كائنا من كانوا بالوحي؛ ومع هذا يقول بأن لا جدال في وجوب الطاعة لهم وقبول رأيهم ولكن يجوز التنازع في أصل الحكم الصادر من الله تعالى!! إذن فما هو دور أولي الأمر في إبداء الرأي في أمر أو حكم تشريعي يمكن التنازع عليه؟ هذا تناقض غريب. لا جدال في رأي يشرح الحكم الصادر من الله تعالى ولكن يجوز الجدال في حكم الله تعالى؛ إذن فما معنى الفتوى أو الرأي في حكم متنازع على أصله؟ أليس معنى كلام المرحوم العلامة بأن كلام أولي الأمر في بيان الوحي أهم من أصل الوحي الذي يمثل كلام الله تعالى ورسوله؟؟؟
وهل يمكن القول بأن أولي الأمر لن يخطئوا ولن يتنازعوا والله تعالى يؤكد بأن النبي نفسه يخطئ وبأنه يتنازع. قال سبحانه في سورة الأنفال مخاطبا نبينا: إِذْ يُرِيكَهُمُ اللّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَكِنَّ اللّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (43).
والنبي نفسه في معرض الخطأ وفي معرض الضلال. قال تعالى في سورة يونس: فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (94) وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِ اللّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (95).
والله تعالى يمنع نبينا أن يطيع غير الله تعالى ويتبع غير القرآن لأن أكثر من في الأرض يضلون ولا يهدون. ومما لا ريب فيه أن عامة الناس لا يمكنهم أن يضلوا عبقريا فذا مثل محمد بن عبد الله عليه السلام، بل هم العلماء ورجال الدين الذين كانوا آنذاك من بني إسرائيل. قال تعالى في سورة الأنعام في بيان لسان حال النبي: أَفَغَيْرَ اللّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114) وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115) وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (116).
لقد تمت فعلا كلمة الله تعالى ولا حاجة للمزيد فلا نكذب على الله.
ما حاجتنا إلى الطباطبائي وإلى أولي أمره بعد ما قال الله تعالى بأن كتابه مفصل؟
وقال الطباطبائي أيضا وهو لا زال في تفسيره للآية: و لا ينبغي أن يرتاب في أن الله سبحانه لا يريد بإطاعته إلا إطاعته في ما يوحيه إلينا من طريق رسوله من المعارف و الشرائع، و أما رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) فله حيثيتان: إحداهما: حيثية التشريع بما يوحيه إليه ربه من غير كتاب، و هو ما يبينه للناس من تفاصيل ما يشتمل على إجماله الكتاب و ما يتعلق و يرتبط بها كما قال تعالى: و أنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم: – النحل 44. انتهى النقل.
قال المُهري:
ادعاء بلا دليل. وهو ادعاء مشترك بين كل الفرق والأحزاب الإسلامية الشيعية والسنية. هذا ادعاء على وجود وحي تشريعي آخر غير القرآن والله تعالى يصرح بعدم جواز الرجوع إلى أي كتاب غير القرآن. قال سبحانه في بداية سورة الأعراف: كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ (3). هذا أمر جازم لكل الناس أن يتبعوا ما أنزل إليهم من ربهم ولا يتبعوا أي كتاب آخر. فكل ما يدعونه مرفوض قرآنيا وأمرهم يوم القيامة إلى الله تعالى. هذا الكتاب هو القرآن لأنه ذكرى للمؤمنين ولأنه تعالى أمر المؤمنين أن يتبعوا ما أنزل إليهم من ربهم. والحمد لله على أن الذين افتروا الأحاديث نسوا بأن يقولوا يوم الافتراء وهو إبان الحكم العباسي الفاسد، أن يقولوا بأن ما يدعونه وحي للناس بل قالوا وحي للرسول. والله تعالى أمرنا أن نرفض أي شيء إلا الوحي الذي أنزل إلينا وهو محصور في القرآن والحمد للعليم الخبير.
وأضاف الطباطبائي: ولا ينبغي أن يرتاب في أن هذه الإطاعة المأمور بها في قوله: أطيعوا الله وأطيعوا الرسول، إطاعة مطلقة غير مشروطة بشرط، ولا مقيدة بقيد وهو الدليل على أن الرسول لا يأمر بشيء، ولا ينهى عن شيء يخالف حكم الله في الواقعة وإلا كان فرض طاعته تناقضا منه تعالى وتقدس ولا يتم ذلك إلا بعصمة فيه (صلى الله عليه وآله وسلم). انتهى النقل.
قال المُهري:
العقل يحكم بعصمة كل الرسل في رسالتهم كما يحكم أيضا بعدم عصمتهم في غير الرسالة وإلا فهم ملائكة لا يستحقون الجنة ولا يُهددون بالنار. والله تعالى وعدهم جميعا بالجنة إن أطاعوه وبالنار إن عصوه. وهو سبحانه ذكر في القرآن أخطاء موسى ومحمد وهما الوحيدان الذين أنزل عليهما التشريع السماوي. وأثبت سبحانه الذنب المتكرر لنبينا. قال تعالى في سورة الفتح: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا (2). فادعاء الطباطبائي رحمه الله تعالى باطل.
وأما قوله بأن الطاعة طاعة مطلقة بدون قيد أو شرط؛ فدعني أعكس المسألة. لو أن الله تعالى أرسل رسولا ولم يأمرنا بطاعته طاعة مطلقة بل أمرنا بأن نطيعه طاعة مقيدة؛ فهل يمكن أن نتصور لذلك الرسول شأنا واقعيا في حياتنا كبشر. ولقد قيد الله تعالى الطاعة بكونه رسولا ولم يقل أطيعوا محمد بن عبد الله. وقد قال في سورة الجن بأنه حين تبليغ الرسالة محاط بالملائكة الراصدين له فلا يمكنه أن يتحدث برأيه كما لا يمكن أن يخطئ.
قال تعالى في سورة الجن: عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلاّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27) لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (28). حال الرسول حين استلام الرسالة والتفوه بها هو حال جهاز الراديو الذي يستلم الرسالة الصوتية ويبلغها إيانا بدون أي تغيير. ذلك لأن الراديو محاط بالكثير من المؤثرات التي تحول دون دخول أي صوت آخر عدا الصوت المبرمج المرسل من الجهة التي تملك الذبذبات الحاملة له. فالآيات لا تعني بأن الرسول مطلع على الغيب بل تعني بأن الرسول واسطة بين الله تعالى وعبيده تحت مراقبة ملائكية شاملة ليستلم ويبلغ. بالطبع أنه عليه السلام يتبلغ بنفسه أيضا ولا شيء غيره. وكيفما فسرنا فعل الطاعة فإنه فعلا مطلقة لأنه مرتبط برسالة السماء ارتباطا غير منقطع فمن أطاعه أطاع الله ومن عصاه عصى الله تعالى. فلا حاجة لأن يكون الرسول معصوما في كل شيء كما يقولون، بل يكفي بأن يكون عاجزا عن أي تدخل شخصي، وهو فعل مستسلم تحت ضغوط الملائكة الراصدين.
وأما طاعة أصحاب الشأن أو أولي الأمر المعطوف على طاعة الرسول فإنها طاعة مقيدة بما يتفق مع رسالة الرسول ولذلك قال سبحانه بعدها: فإن تنازعتم في شيء… وقد يكون الواو واو حال بمعنى: أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأنتم تطيعون من جعلتموهم أصحاب أمر وشأن منكم. ولذلك لم يكرر كلمة الطاعة مرة ثالثة على رأس أولي الأمر.
والحال هنا هو جملة “وأولي الأمر منكم” بتقدير “وأطيعوا أولي الأمر منكم” والرابط هو الواو على رأس الجملة. ويمكن تغيير الواو بـ إذ فنقول: أطيعوا الله وأطيعوا الرسول إذ تطيعون أولي الأمر منكم. وإمكانية تغيير الواو بـ إذ علامة أخرى بأن الجملة قد تكون حالية وتكون الواو رابطاً لها. هكذا فسرتها والعلم عند الله تعالى.
لكن الذي يأتي بالذنب ويعبس ويتولى عن الأعمى فهو محمد بن عبد الله بدون أن يكون في حالة تبليغ الوحي التي يكون فيها تحت رصد الأرصاد. إنه في حال الدعوة أو أي حال شخصي أو اجتماعي آخر. مثاله آنذاك مثال أي واحد من صحابته أو من بقية البشر.
ولقد سمعنا بأنه عليه السلام أمر بكتابة الوحي فقط ولم يأمر بكتابة التفسير ولا قصص الدعوة ولا السيرة. ولم يزعم أحد بوجود أي شيء من ذلك القبيل بل قالوا بأن المسلمين وبعد قرن أو أكثر بدأوا بالتدوين. هذا الوحي الذي بين يدينا باسم القرآن هو بكامله بحروفه ونقطه وحركاته كُتب أيام الرسول وبقي بيننا حتى اليوم كما أوحى به الله تعالى دون ناسخ أو منسوخ. وكل ادعاءاتهم بالتجميع والتنقيط والتحريك كلها ادعاءات باطلة وفاقدة لكل قيمة. قالوا ذلك بقصد اللعب بالقرآن الكريم وتحريف معانيه وأهدافه ولم ولن يفلحوا.
وأما الزمخشري في الكشاف فهو يقبل تفسير غيره بأنهم ولاة الأمر من الحكام ولا يرفض أمراء العسكر إلا أنه لا يُشير في تفسيره إلى أشخاص معينين كما يفعله مختلف الطوائف الشيعية. ثم إنه يستثني منهم الفاسدين والجائرين ويعتبرهم لصوصا لا حكاما. إن تفسيره غير بليغ برأيي ولكنه لا يؤول تأويلات باطنية بعيدة عن روح القرآن كما فعله الطباطبائي المعاصر مع الأسف. رحمهما الله تعالى وغفر لهما ولنا.
فأقول للزمخشري هل نحتاج أن يقول الله تعالى لنا في كتابه الكريم أن نطيع أمير عسكر اخترناه أو نطيع حاكما تقبلناه وما فائدة ذلك؟ ما ارتباط مثل هذا الأمر البديهي الذي يعرفه كل الناس بكتاب الهدى الذي جاء ليهدينا إلى الله تعالى ويحذرنا من عذابه ويشجعنا لكسب رضوانه؟ لو أن الله تعالى قال لنا كما قال الزمخشري بأن لا نطيع أميرا فاسقا لكان هدى لنا؟ لكن هذا القول المفيد هو قول الزمخشري وليس قول الله تعالى. أظن بأن المرحوم الزمخشري قد ضاع في خضم الأقوال السخيفة لمجموعة المفسرين فأراد أن يصلحها قليلا ولم يفكر في الآية ليعرف معناها بنفسه.
وقال القرطبي في تفسيره بأن الله تعالى أمر الولاة في الآية السابقة بأداء الأمانة والحكم بالعدل ثم عدل إلى الرعية ليأمرهم بطاعتهم في آية الأمر بالطاعة. وهو أيضا يعتبر الآيات عامة للصحابة ولنا جميعا فلا مناص له من تقبل السنة التي كتبها البشر ليفسر لنا كيفية ردنا النزاع إلى رسول الله. بالطبع أن القرطبي أيضا لا يجيز طاعة الفاسقين كما يقوله أصحاب الفتاوى. لكن القرطبي يستند إلى فهمه الخاطئ عن الآيتين ليعتبر السنة جزءا لا يمكن فصله عن الدين باعتبار قوله تعالى في نهاية الآية: إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر. فهو لا شعوريا يعتبر السنة مكملة للقرآن الكريم. لو كان هذا صحيحا فلا معنى لأن يكون القرآن فيصلا بين الحق والباطل. فمثلا لا ينطوي القرآن على حكم شارب الخمر ولا يفصل بين الزنا وزنا المحصن والمحصنة في الحد. والله تعالى يصرح في القرآن بأنه هو الفرقان.
قال تعالى في سورة الفرقان: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1). وقال في آية الصيام: شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان. فحكم الرجم مخالف للقرآن لأنه وضح حكم الزاني والزانية وتحدث في نفس السورة عن زنا المحصنة وأشار إلى الحكم الذي ذكره في بداية السورة: بقوله الكريم: ويدرأُ عنها العذاب أن… فكيف تكون السنة التي اتفقوا عليها دون خلاف في حكم الرجم مكملا للقرآن؟ إنها مخالف للقرآن. إن الله تعالى حرم القتل إلا لأهل المقتول أن يقتلوا القاتل فقط فكيف نوفق بين حكم الرجم في السنة وهو القتل تحت التعذيب وبين تحريم قتل النفس في القرآن وتعيين حد الزاني والزانية بالجلد بصورة عامة؟ هذا شطط واضح عن القرآن الكريم فعلى المسلمين أن يعيدوا النظر في تفاسيرهم ويتركوا أوهام المفسرين والمحدثين ويعودوا إلى كتاب ربهم وحده.
ومن الضروري أن يهتم المسلم بالآيات المكملة على الأقل ليضمن صحة فهمه لكتاب ربه. والآية التالية لآية الطاعة تشير فعلا إليها بذكر مثال. هذا المثال دليل واضح على أن الحكم للرسول في حياته ولا ارتباط له بعد وفاته. الرسول ميت اليوم وقد عاش المسلمون فترة قرن بعد الرسول بدون سنة فهل كانوا في ضلال؟ هل كان الصحابة والتابعون في ضلال؟ إن علي بن أبي طالب والحسنين من الصحابة وزين العابدين والباقر والصادق من التابعين، فهل كانوا في ضلال لعدم وجود السنة في أيديهم؟ وأما قول محدثي الشيعة بأن قول الأئمة هو قول الرسول باعتبار أنهم ينقلون من الرسول فهو قول ساذج. لو كان كذلك فلماذا لم يأمر الأئمةُ بكتابة أقوالهم. هل هناك كتاب حديث شيعي كتبه جعفر الصادق عليه السلام أو كتب بأمره؟ فلو فرضنا صحة قولهم فلقد عاش الشيعة أيضا فترة بدون كتب الحديث المنقولة عن غير رسول الله فهل كانوا في ضلال؟
وقد يقول قائل بأن الأحاديث منقولة عن الصحابة والتابعين فليس لهم حاجة في كتاب حديث. والواقع أن الصحابة لم يكونوا جميعا حاضري الرسالة دائما، فمنهم المسافر ومنهم الغائب ومنهم الشاب والطفل ومنهم الذي تأخر إسلامه مثل الطلقاء وبقية المشركين. ولذلك نرى المحدثين ينقلون كل مجموعة غير متجانسة من الأحاديث من أحد الصحابة أو التابعين. فالصحابة والتابعون بأنفسهم يحتاجون إلى كتب الحديث لو كان ادعاء المفسرين صحيحا. وبما أنهم لم يحتاجوا فهو دليل واضح على عدم الحاجة إلى ما جمعوه بعد وفاة آخر تابعي.
نعود إلى الآية المكملة في نفس سورة النساء وهي:
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا ﴿60﴾.
فالله تعالى يعطي رسولنا مثالا على عمل بعض المخالفين بأنهم يعودون إلى الطواغيت بقوله الكريم: ألم تر؟ فهذه الآية مرتبطة ومتصلة بآية الطاعة السابقة. والتحاكم إلى الطاغوت لا يعني الذهاب إلى محكمة أحد الطواغيت وتقديم الشكوى لديها، فالشيطان هو كبير الطواغيت ولا يمكن لأحد أن يتحاكم لديه. لكنه يعني الاستماع إلى ذلك الطاغوت واتباعه في توحيد المعنى لموضوع علمي أو اجتماعي بين الناس لزوال الاختلاف بينهم. هذا ما يفعله الناس اليوم ويبدو بأن بعض الضعفاء أو المنافقين من الصحابة كانوا يأتون بمثله أيام رسول الله نفسه وبالنسبة للكتاب الذي سمعوه من لسان الرسول الصادق عليه الصلاة والسلام. فلو كان القرآن منزلا على الرسول فهو بنفسه على أي حال أجدر من غيره لفهم معناه باعتبار أنه كان يمارس التفسير ولو بعد حين.
معنى الطاغوت:
الطغيان مساوق للغليان ولكن الغليان يسبقه بالنسبة للمواد السائلة إلا أنه بالنسبة للصفات البشرية فإن الذي يغلو فهو يغلو في غيره وإن الذي يطغى هو الذي يطغى في نفسه من شدة الإفراط في تفخيم الذات. ولا يمكن أن يتحقق الطغيان في الإنسان إلا إذا شعر المرء بالاستغناء عن غيره إذ أنه آنذاك لا يرى مناصا دونه لعمل ما يشاء ولو في شأن واحد. مثاله: الشخص الذي يطغى في توصيف نفسه بالجمال أو بالقوة البدنية أو بالمال أو بالعلم أو بالذكاء والعبقرية. إنه يشعر بالاستغناء عن غيره فيما يتجلى فيه وهو خاطئ في حقيقة الأمر. فكل ذي شأن يحتاج إلى غيره حتى في الشأن الذي يتجلى فيه. كل ما نراه من مظاهر القوة فهي في الواقع مظاهر للضعف والضعة. فكل ما ازداد مال المرء ازدادت حاجته لمن يساعده على حفظه وصيانته وتكثيره. وهكذا بقية مظاهر القوة.
وكلمة الطاغوت تُطلق على المفرد والجمع والمذكر والمؤنث. وأنا أظن بأنها صيغة مبالغة تعني المفرط في حب نفسه وفي ممارسة التكبر والخيلاء. والمصداق المناسب لهذا المكان هو رجال الدين وليس الحكام السياسيين. ومن الواضح أن المسلمين لم يكونوا قد تشكلوا بعد ليتكون لديهم المجموعات التي تُعرِّف نفسها بأهل العلم ولكن ذلك كان متوفرا لدى أهل الكتاب فالمقصود هم علماء أهل الكتاب باعتقادي والعلم عند الله تعالى. وكما يبدو بأن بعض الذين أسلموا من الصحابة كانوا يُظهرون نيتهم لمراجعة الأحبار لتفسير بعض الآيات أمام الرسول ولذلك قال سبحانه: يريدون أن يتحاكموا. وهو مؤلم فعلا بالنسبة لإنسان أرسله الله تعالى ليتلو عليهم الكتاب ثم يعلمهم ويزكيهم.
والتحاكم هنا ليس في القضايا الشخصية التي تحصل بين الناس وتحتاج إلى محاكمة وحكم قضائي كما تراءى للكثير من المفسرين. بل التحاكم يعني الرجوع إلى شخص لفهم الحكم العلمي. فالحكم في القرآن الكريم عادة ما يكون في المسائل العلمية. اللهم إلا إذا ذكر الله تعالى الحكم بين الناس كما فعله في آية: وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل، أعلاه.
مثال الحكم العلمي هو ما قاله سبحانه لبيان قصة اكتشاف السماد العضوي على يد داوود وسليمان حيث بين الله تعالى القصة بقوله الكريم: إذ يحكمان في الحرث. فكان النبيان العالمان يحققان في أسباب النمو غير المعهود في مزرعة من المزارع حيث انتبه سليمان بأن السر هو أن الغنم قد نفشت في تلك المزرعة. هذا الحكم العلمي جاء بعد تفكير وبحث وتحقيق غير قصير احتمالا حتى توصل سليمان إلى اكتشاف آثار السماد العضوي في تحريك النبات.
إذا قبلنا هذا التفسير لكلمة يتحاكمون فالمعنى سوف يستقر تماما. فالله تعالى أمر الذين آمنوا بأن يربطوا قبولهم لفهم أصحاب الاختصاص في بيان مختلف المسائل العلمية في القرآن بفهم الرسول نفسه. إنه تعالى أمرهم أن يتركوا الفصل في المناقشات العلمية لله والرسول وهو يعني تفسير القرآن حسب فهم الرسول. ثم أراد سبحانه أن يعطي الرسول مثالا لرجوع بعض الصحابة إلى غيره عليه السلام فقال: ألم تنظر وتفكر في بعض أهل الكتاب الذين يزعمون أنهم آمنوا واتبعوا ما أنزل إليك من القرآن وما أنزل من قبلك من التوراة والإنجيل وهو إشارة إلى أنهم من أهل الكتاب الذين أسلموا. وبكلمة واحدة يفرق سبحانه بين ظاهر الرسول الأمين المتواضع الذي يبث العلم دون أن يتكبر على الناس وكأنه أخ لهم؛ وبين رجال الدين من أهل الكتاب الذين لم يؤمنوا برسالته ولكنهم علماء بأنهم طاغوت. والطاغوت يعني الذين يتكبرون على الناس بملابسهم وألقابهم ويُخضعون الناس لأنفسهم بتقبيل أياديهم وتوقيرهم وتعظيمهم.
يريد سبحانه أن يقول للرسول بأنه هو أكثر علما بالقرآن وبالتوراة والإنجيل من أولئك المتكبرين من رجال الدين لكن صحابته يغترون بالتشريفات والتقديسات الحمقاء التي يقدمها الناس لأصحاب الألقاب من رجال الدين. والله تعالى منع عبيده أن يقبلوا كلام المتكبرين بل أمرهم بأن يتفهموا ويتعلموا ويتدبروا العلم بأنفسهم. إنه سبحانه أمر رسوله بأن يستشير الناس ولم يرض تعالى بأن يقبل الناس أوامر أخيهم النبي دون مناقشة ودون إدراك بعقولهم.
وأقول بالمناسبة بأنني أفسر القرآن على أنه كتاب عقلي يوضح أسباب الأحكام وعللها بكل دقة. وقد فسرت أكثر من نصف القرآن حتى يومنا هذا على هذا الأساس ولم أر فيه كما لم ير فيه زملائي أي موضوع لا يتفق مع العقل أو ينطوي على محظورات عقلية. ولذلك رأينا القرآن مختلفا تماما عن كتب الحديث وبعيدا عن فتاوى أصحاب الألقاب والملابس الدينية ومع بعض عباداتهم وتشريعاتهم. سواء في ذلك كل فرق ومذاهب المسلمين مع الأسف.
والشيطان الذي يقف وراء رجال الدين الطواغيت فهو يريد أن يضلهم ويضل أتباعهم ضلالا بعيدا بأن اللعين يلعب في مفاهيم القرآن. فمثال الضلال البعيد هو أن تسأل دليلا عن الطريق إلى مكان فيقول لك خذ يمينك ثم سر مسافة كيلو متر واذهب شمالا ووووو. ولنفرض بأن الطريق الذي وصفه لك كان صحيحا فيما عدا البداية. كان عليك أن تأخذ بداية جهة الشمال بدل اليمين فكل ما سرت ابتعدت أكثر وأكثر عن الهدف. فالشيطان يغير مفهوم العبادة في أذهان الناس مثلا فيعبدون ويظنون أنهم لا يعبدون أو يغير مفهوم القيامة في الأذهان فيعتقد المؤمنون بالحساب وبالجنة والنار ولكن يظنون بأنه هناك مهرب من كل ذلك بالقيام ببعض الأعمال الأخرى التي يعلمهم الشيطان وهي كلها مرفوضة في كتاب الله تعالى.
لهذا السبب يمنع الله تعالى المؤمنين من مراجعة كل من يتكبر على الناس ويتشبث بملابسه وألقابه ويسعى لإخضاع الناس لنفسه. إنهم طاغوت وإنهم أتباع الشياطين بغض النظر عن ادعاءاتهم وعن بعض مظاهر العلم والإيمان الزائف لديهم.
والآية واضحة المناسبة بأنها أمام رسول الله وفي حضوره ولا ارتباط لهذه الآيات بما يلي حياة الرسول. ولو نقرأ الآيات حتى الآية 70 من سورة النساء لنراها جميعا تتحدث مع الرسول وفي حضوره. ثم بعد ذلك يخاطب الصحابة ليأمرهم بالقتال في سبيل الله. والقتال في سبيل الله لن يتحقق في غياب الوحي إذ ليس من حق أحد أن ينسب القتال حتى القتال الدفاعي إلى الله تعالى دون أن يأمر الله به. لا نجد في القرآن إذنا عاما للرسل بالقتال فكيف بغير الرسل فكل قتال خاص بمعركة ينزل فيها آية أو سورة فكيف يمكن أن ننسب القتال إلى الله تعالى في غياب الوحي. وهذا ضلال آخر من ضلالات الشياطين ضد المؤمنين بالله تعالى مع بالغ الأسف.
والخلاصة فإن الآية لا يمكن تفسيرها بأولياء الأمر أو الحكام في غياب رسول الله كما لا يمكن تفسيرها بأناس عينهم الناس أئمة لهم وليس في القرآن أي ذكر لأسمائهم أو أوصافهم. كل ذلك تخرصات خطيرة لا يمكن أن نفرضها على دين الله تعالى. أتمنى أن يدرك المؤمنون خطورة الاعتقاد بهذه المسائل الباطنية ويتورعوا عن مخالفة كتاب الله تعالى ويتقوا عذاب الله تعالى.
أحمد المُهري
4/9/2009
#تطوير_الفقه_الاسلامي