النفس والروح في القرآن الكريم 3/6
قسم 3 من 6
حقيقة النفس الإنسانية:
وأما النفس التي خلقها الله تعالى قبل التعديل الجيني. إنها حقيقة كل فرد منا وهي ليست مجردة من التركيبات الدنيوية. بمعنى أنها ليست مثل الله تعالى ولا مثل الملائكة. فالله تعالى ليس كمثله شيء باعتبار عدم وجود جنس له أو فصل فهو المجرد بكل معنى الكلمة وليس للكائنات أن تتعرف على حقيقة وجوده جل جلاله وكما قلت لا يمكن تعريفه أيضا بنفس الاعتبار.
وقد اعترض علي أخي الدكتور محمد التويج بأن الجنس والفصل غير واضح للكثير من رواد واحة الحوار القرآني ويجب تعريفهما. إنهما من الكليات التي وضحها المعلم أرسطو وهن:
كليات ذاتية:
1. النوع: فقولنا في تعريف الإنسان: حيوان ناطق، يعين نوع الإنسان بين بقية الحيوانات.
2. الجنس: فالإنسان من جنس الحيوان؛ حسب تعريف أرسطو وليس حسب تعريف القرآن طبعا.
3. الفصل: فصفة النطق تميز الإنسان من الحيوانات غير البشرية.
كليات عرضية:
4. الخاصة: فالضحك والبكاء صفتان تخصان الإنسان في قولنا الإنسان حيوان ضاحك أو باك. وهكذا النباح صفة تخص الكلاب. لكن هذه الصفات ليست من خواص الذات.
5. العرض: وهو القوة على الاتصاف بصفة دون الاستمرار عليه. فالتحدث باللسان والسير برجلين على الأرض وانتخاب الملابس؛ كلها صفات بالقوة تعرض على الإنسان دون فرض عليه. وبعضها مشترك مع غيره. فالطير تسير برجلين مثلا.
فبما أن ليس كمثل الله تعالى شيء في الوجود فهو الأحد الفرد فلا جنس له. بمعنى أنه ليس جزءا من كلية تشمل مجموعة آلهة. وبما أنه لا جنس له فلا معنى للفصل الذي وضع للتمييز بين أفراد جنس خاص.
وكل التقسيمات المادية تدخل ضمن هذه الكليات. فالحيوان جسم نام ذو أبعاد ثلاثية قادر على التنقل. والنبات جسم نام مستقر في مكانه. والحديد جسم غير نام. وهلم جرا.
وأما الملائكة فهي كائنات طاقوية أو نورية مركبة طبعا وليست مجردة من التركيب لكنها مجردة من المواد ثلاثية الأبعاد المعروفة ولذلك لا يمكن رؤيتها إلا إذا تمثلت بصورة بشر وبصورة مؤقتة طبعا. وأما نفوس البشر فهي كما أظن أقرب شيء إلى الملائكة من حيث حقيقتها. وقد شرحت سابقا تركيبة النفس الطاقوية أو النورية لزملائي في تفسير القرآن الكريم. وسوف أختصرها هنا بإذن ربي.
تلك هي الـ “أنا” الحقيقي. لكن النفس الإنسانية في الحياة الدنيا ضيف على البدن. بمعنى أننا نُخلق بعد خلق الأصل الأول لأبداننا كما عرفنا في سورة الانفطار. وسنكون بدائيين لحظات خلق البدن في الأرحام ولذلك ليست لنا القدرة على عمل شيء وسنكون مسيرين بالكامل. لكننا سنبقى ضمن الممكنات بقاء أبديا بفعل الله تعالى. بمعنى أن بقاءنا ليس بقاء ذاتيا بل هو بقاء بفعل الله تعالى وإن شاء أن يزيلنا سنزول دون ريب. البقاء الحقيقي خاص بالله تعالى ومن الأفضل أن نسميه الحي وليس الباقي كما هو معروف بيننا. إنه تعالى لم يسم نفسه الباقي والدقة مطلوبة حينما نتحدث عن القدوس عز اسمه.
فالـ “أنا” الحقيقي متمثل في نفسي وليس في بدني. وكل الأنفس التي أتت بعد آدم فهي مخلوقة من نفس آدم وليس من روح آدم كما يظن البعض. ولعل السر في أننا نُخلق من نفوسنا هو أن نحب بعضنا البعض كما تظنن بعض علماء التفسير رضي الله تعالى عنهم وعنا. هناك استثناء لشخصين بين البشر من حيث خلق البدن وهما آدم رحمه الله تعالى وعيسى عليه السلام. قال تعالى في سورة آل عمران: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ (59). هما مثلنا بأن نفسيهما خلقتا بعد خلق البدن من تراب تماما مثلنا كما وضحت أعلاه. لكن هناك مسألة يجب فهمها هنا.
ويمكن للمتدبر أن يشعر الفرق بين خلق كل الناس وخلق النبيين الكريمين عيسى ويحيى. قال تعالى في سورة مريم: يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّارًا عَصِيًّا (14). وقال سبحانه في سورة مريم أيضا: قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32). لعلكم لاحظتم بأن الله تعالى أوصى يحيى بأن يبر بوالديه وأوصى المسيح بأن يبر بوالدته فهل فكرتم في السبب؟ هل يحتاج الأنبياء إلى مثل هذه التوصيات أم هناك فرق بينهما وبين بقية البشر؟ أنا أجهل السر في خلق يحيى وهو عندي أهم بكثير من خلق المسيح. فالوالدان كانا عاجزين عن الإنجاب وهي مسألة طبيعية لا يمكن تغييرها فما الذي فعله الله تعالى بهما؟
لا أدري فعلا.
ولكن مسألة خلق المسيح هين جدا فإن الروح القدس جمع خليتين أنثويتين من خلايا مريم وأزال بعض القدرات من إحداهما فأصبحتا خليتين أحاديتين ذكورية وأنثوية وصارتا قابلتين للتكاثر بالشكل الجديد. تماما مثل خلق بقية الناس. كانت مريم شابة ولا إشكال في خلاياها البدنية عدا أنها لم تملك خلية أقل تطورا من خلاياها فقام الروح القدس بعمل ذلك.
كل التفاعلات التي ترتبط بالله تعالى في خلقنا فهي تتم بواسطة الروح. والروح يمثل أمر الله تعالى بمعنى أن الروح هو قبس من نور الله تعالى محمول على حامل يسميه الله تعالى “اسمه أو اسم الله”. هذه الوحدة النورية أو الوحدة الطاقوية قادرة على أن تفعل كل شيء ولذلك فهي بحاجة إلى أمر من الله جل جلاله لاختيار كيفية التفاعل. يسمي الله تعالى التركيبة المؤلفة من وحدة نورية صادرة منه مباشرة محمولة على شيء لا نعرفه ويقول ربنا بأنه اسمه وحاملة لأمر بالتفاعل، يسميها ربنا بالكلمة. فالكلمات هي أصول كل الخلق سواء منها المخلوقات المادية ذوات الأبعاد أو المخلوقات الطاقوية مثل الأرواح القدسية والملائكة والنفوس ويلحق بها الجن من بعض الحيثيات. ولذلك لا يمكن إطلاقا أن نحصي كلمات الله تعالى لأنها أصول كل الممكنات بلا استثناء وهي في حال تكاثر مستمر مع تكاثر الكائنات.
قال سبحانه في سورة الكهف: قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109). وقال تعالى في سورة لقمان: وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27). كل ذلك لأن كل شيء مخلوق من تلك الكلمات وهي في الواقع أصغر شيء في الممكنات فكلما نأتِ ببحار من المياه المتحولة إلى حبر، لنكتب عدد كلمات الله تعالى فإننا في الواقع عاجزون عن إحصاء الكلمات التي خلقت ذرات المياه نفسها. وسبعة أبحر تشير إلى بحار تتجاوز العد والإحصاء ليس من حيث الواقع العملي للإنسان بل من حيث حقيقة التكوين المستمر والتي لا تسمح أبدا بعملية الإحصاء الكاملة لغير الله تعالى نفسه. ذلك لأنه سبحانه لا يحتاج إلى ان يعد مثلنا فهو تعالى يحصي ويعد مع حركة الخلق مباشرة. والعلم عنده وحده.
وللنفس كيان خاص بها وهي مركبة دون ريب. وباختصار فإنها كما أظن ثلاث كرات طاقوية تحيط ببعضها البعض فستكون الكرة الأولى أصغر من أختيها كما أن الكرة الأخيرة أكبر من أختيها. الكرة الصغيرة في المنتصف هي القلب النفسي وهي مكان معالجة المعلومات. والكرة المتوسطة هي الفؤاد وهي شديدة الحساسية وتنتقل بالمعلومات من الصدر ومن العالم الخارجي إلى القلب للمعالجة. لكنها تتأثر بما تحملها فتشعر القلب بأن الوحدة الخبرية القادمة مؤلمة أو مفرحة أو حاملة حقيقة علمية أو ناقلة خبرا غير علمي. والكرة الكبرى المحيطة هي الصدر التي تحمل كل المعلومات عن كل ما فعلناه طيلة عمرنا. ولعل السبب بأن أعمارنا تتقلص كلما تطورت المدنية عندنا فحينما كان عمر نوح ومن معه في حدود ألف سنة فإن أعمارنا اليوم لا تتجاوز معدل الستينات؛ فلعل السبب أو أحد أهم الأسباب هو أن خزانة الصدر محدودة لا يمكن لها أن تجمع كما هائلا من المعلومات. وبما أن الصدر هو المسؤول عن حماية معلوماتنا فإننا نخزن فيه كل ما نفعل سواء ما سمعناه ورأيناه أو ما عالجناه أو ما شعرنا به من معلومات أو ما تقبلناه من أفكار وغيرها؛ فإنه هو الذي يعيش معنا ولا يموت أبدا فيحاكمنا ربنا يوم القيامة على أساس ما قمنا بتخزينه هناك من معلومات. والعلم عند المولى.
وأما الشهادات التي نسمعها يوم القيامة من أعضائنا فهي ليست من معلومات الصدر بل هي من تحولات الخلايا نفسها المخزنة عند الله تعالى على شكل رقمي.
هذا باختصار تركيبة النفس. وهي التي تعني أنا في واقعها.
التركيبة النفسية في القرآن الكريم:
قال تعالى في سورة الحج: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46). القلب هنا ليس هو القلب العضلي قطعيا باعتبار أن وظائف ذلك القلب مادية لا علاقة لها بالإدراك.
وعلى كل فالإدراك قوة سماوية ممنوحة للإنسان ليميزه عن أشباهه من الحيوانات ولا سيما الأنعام الأربعة وليجعله كائنا معرضا للاختبار وموعودا بالجزاء يوم القيامة. فهو دون شك يحمل شيئا معه بعد الموت ليبقى معه وهو نفسه كما يبدو. النفس ليست مادية وهي قادرة على البقاء وهناك ملك موكل بكل شخص وهو مأمور لينقذ النفس من الفناء إذا ما تعرض بدنه للموت تحت أي نوع من أنواع الضغوط على البدن. قال تعالى في سورة الزمر: اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيات لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42). موت النفس هنا هو باعتبار فقدانها لقدراتها التي تمتعت بها في الحياة الدنيا والمرتبطة بالبدن. ولكنها هي بنفسها المجردة عن البدن فهي لا تموت بل يتم استيفاؤها أو توفِّيها.
وقال سبحانه في سورة السجدة: قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11). فكأن النفس في الدنيا تحمل قدرة أو أمانة يجب تسليمها عند الموت. تلك هي الإرادة كما نعرف. قال تعالى في سورة الأحزاب: إِنَّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً (72). فالإنسان يحمل أمانة سماوية معه في الدنيا وهي التي يتوفاها الله تعالى حين موتنا لنفقدها إلى الأبد. وبما أننا قادرون على حمل الإرادة بنفوسنا فكان علينا أن نستعملها في سبيل مستقبل مشرق مع ربنا ولكننا مارسنا الظلم ولم نسع لنتعلم فبقينا في جهلنا مع الأسف إلا القليل من بني جنسنا.
فنفوسنا لا تموت بل تنتقل إلى الحياة الجديدة تحت رعاية ربها. وليس لنا إلا أن نبحث عن سر الإدراك ومركز المعلومات وكذلك المعالجات في نفوسنا. علمنا من آية سورة الحج أعلاه بأن قلوبنا النفسية موجودة داخل صدورنا النفسية. والآن نبحث عن الفؤاد.
قال تعالى في سورة السجدة أيضا: ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ (9). فالله تعالى جعل لنا السمع والبصر والفؤاد بعد أن نفخ من روحه في نفوسنا التي سواها معادلة لأبداننا.
ثم إن هناك علاقة وثيقة للفؤاد بالإدراك كما أن الفؤاد يتعاون تعاونا جازما مع السمع والبصر. والسمع والبصر المعروفان وسيلتان قطعيتان لجلب المعلومات والشروع بالإدراك العقلي. وإذا عرفنا بأن العمى في الآية 46 من سورة الحج هو عمى القلب كما صرحت الآية فإن للفؤاد دورا لنقل المعلومات إلى القلب للمعالجة والإدراك.
وبمعنى أوضح فإن الإنسان حينما يرى أو يسمع خبرا ويريد أن يحلله ليعرف مغزى الخبر؛ فإن من واجبه ألا يُضيف شيئا من عنده على الخبر أو ينقص منه شيئا قبل أن يرسله إلى القلب للتحليل والإدراك النهائي. نرى وجدانا بأن بعض الناس يقتلون الأبرياء وحينما يُقبض عليهم فإنهم فعلا يتحدثون عن أن ما فعلوه كان عين الصواب. لماذا؟
لأنهم لم ينقلوا الخبر الصحيح إلى قلوبهم لتحليله. لقد اصطنعوا أحاديث وأخبارا وأفكارا وآراء سلطانية وفتاوى مرجعية دينية وعواطف تهمهم وكذلك من وحي مذاهبهم ووحي عقائدهم المشوبة إلى قلوبهم فحَكَم القلب لهم بأنهم على صواب. لكنهم لو كانوا يرسلون الحقائق السمعية والبصرية كما هي عن طريق الفؤاد إلى القلب لكان الحكم أكثر دقة وأصوب قضاءً. ولنا في المثل العربي المعروف:
الحب يُعمي ويصم؛
خير تنبيه لنا لننظر إلى القضايا بدون الحب والبغض وبدون سبق الحكم وبدون استعمال التبعية والتقليد الأعمى لنصل إلى الحقيقة. هذه هي مشكلة البشرية جمعاء والقرآن يعلمنا لنحل المشكلة عن طريق تنظيم الأخبار التي تنتقل إلى قلوبنا عن طريق أفئدتنا والعلم عنده سبحانه.
أهمية السرعة في الإدراك وأخذ القرار:
يتجلى لنا بعد هذا البحث أن الانتقال من البصر والسمع (والمقصود هو الرؤية العينية والاستماع بالأذنين) إلى القلب لأخذ القرار حينما تصادفنا الحوادث التي نحتاج معها إلى أخذ القرار السريع في أقل من الثانية لا يمكن أن يتم داخل الفجوات البدنية المادية. نحتاج إلى حركة سريعة بسرعة الضوء على الأقل وهي لن تتأتى إلا إذا كان التركيب النفسي طاقويا قادرا على التحرك السريع. ومثل ذلك تحرُّكُ العباقرة حين البحث في المخزونات الذهنية عما يتناسب مع الموضوع الذي يناقشونه لإيجاد الحل المناسب أو لإيجاد مجموعة من المسائل لمعالجتها واستخراج شيء جديد منها. تحتاج العملية فعلا إلى سرعة فائقة تتعدى التحرك بين الأعضاء المادية. إنكم تعلمون بأن التحركات البيولوجية في الإنسان مهما كانت دقيقة وسريعة فإنها ليست بسرعة التحرك العقلي وجدانا. وإن لم يعلم أحد ذلك فأنا أطلب منه أن يقوم بالتجربة ليشعر فعلا بأن السرعة التي يتمثل بها المسؤول عن نقل المعلومات لدينا تفوق الكثير من السرعات التي ألفناها في تحرك الماديات.
فهل الفؤاد كائن خارج عن سيطرتنا كما يتراءى أم هو داخل في سيطرة النفس؟ قال تعالى في سورة الإسراء: وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً (36). كيف يسألنا ربنا عن كائن خارج عن نطاق خياراتنا؟ فالفؤاد هو ضمن القدرات الممنوحة لنا وبيدنا تحريك الفؤاد كما نشاء ولو إلى حد بسيط. ولذلك نكون مسؤولين عن الفؤاد. دعنا ننظر إلى أي عضو من أعضائنا فنحن مسؤولون عن حمايتها دون ريب ولكننا لسنا مسؤولين عن تركيبتها ووجودها وما لحق بها من أمراض وعيوب خارجة عن إرادتنا. لأننا لا نملك ذلك. قال تعالى في سورة الأنعام: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ (165). فهو تعالى يختبرنا فيما آتانا وأوصلها إلينا وجعلها تحت اختيارنا ولا يختبرنا فيما لم يؤتنا ولم يخولنا للتصرف فيه.
والآن لنحل مشكلة في التفريق بين القدرات الثلاث وهي أن الله تعالى قال السمع بالمفرد ولكنه جمع بعد ذلك فقال الأبصار والأفئدة. قال تعالى في سورة المؤمنون: وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ (78). وقال سبحانه في سورة السجدة: ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ (9).
أما با لنسبة للسمع والبصر؛ فالأصوات تنتشر في المحيط الذي نستمع فيه ولا يمكن التفريق بينها بالأذن العضوي بل يحتاج إلى آلة إلكترونية للتفريق، ونحن لا نملك تلك الآلة في كياننا. فهي بالنسبة للناس شيء واحد منتشر يسمعونه إذا لم يغلقوا آذانهم.
وأما البصر العيني فأنت تنظر إلى زاوية من الصورة وغيرك ينظر إلى زاوية أخرى منها فالمجموع في الواقع ينظرون إلى مناظر مختلفة من الصور أوالأفراد أو التماثيل الحاضرة في محيطهم.
وهكذا الفؤاد. فإن فؤاد زيد ينقل للقلب النفسي خبرا مفرحا لأنه استمع إلى مقتل أعدائه من الأخبار مثلا. لكن عمرواً وفي نفس الحكاية ينقل إلى قلبه خبرا مزعجا لأنه تألم لمقتل نفس الشخص. فالفؤاد ينقل الخبر الذي وضعناه فيه بإرادتنا ولذلك رأينا بأنه سبحانه جعل الفؤاد مثل السمع والبصر مسؤولا كما قرأناه في الآية 36 من سورة الإسراء أعلاه.
والخلاصة هي أن الفؤاد في واقعه يمثل آلة بيدنا نحَمله ما نشاء من تفاسير وإشارات لأي شيء نسمعه أو نراه. فالفؤاد ينقل للقلب ما أضفناه إلى الموضوع أو نقصنا منه. ولذلك فإن القلب لا يسعه أن يكون صادقا معنا لو لم نكن أمناء فيما نُحمِّلُه الفؤادَ. أضف إلى ذلك حساسية الفؤاد المشروحة في هذه المقالة.
إذن أسماعنا دائما تسمع شيئا واحدا ولكن أبصارنا وافئدتنا ليست كذلك. إنها تحمل ما حملناها إياها. كما أنها تحمل مختلف الحالات ومختلف المناظر ومختلف التفسيرات. والعلم عند المولى عز اسمه.
كيف نسيطر على النفس:
قال امرؤ القيس مخاطبا عشيقته:
وإن تك قد ساءتك مني خليقة فسلي ثيابي من ثيابك ننسل
الثياب هو القلب عند العرب القدامى. والسل يعني الإخراج بقوة والانسال يعني الانقطاع وفك الارتباط.
يعرف الشاعر العربي بأن هناك شيئا من النفس بيد الإنسان نفسه. يريد أن يقول لها بأن بينهما ارتباط قلبي لا يمكن قطعه بسهولة. كما يعتقد الشاعر بأن تداخل القلوب ممكنة ولذلك يؤكد بأن قلبه داخل في قلبها ولا يمكنها طرد ذلك القلب بمجرد زلة تراها منه. إنه يتحدث عن أمر محسوس لنا جميعا فعلا. فالمحبة تمثل تعلقا قلبيا بين شخص وشخص سببه الصداقة أو البنوة أو بقية العلاقات العائلية أو الغرام وغيرها. وأجلى مظاهر المحبة هو علاقة المؤمن بربه طبعا وبرسوله وملائكته وكتبه وكلما يظن المؤمن بأنه مرتبط بربه جل ثناؤه.
ولا أظن بأن امرئ القيس يعرف الفرق بين القلب والفؤاد والصدر في التركيبة النفسية. وهو كغيره من الذين يتحدثون عن القلب فهم في واقعهم يتحدثون عن النفس ولكنهم غير منتبهين لتركيبة النفس. نقلت الشعر لأوفر على القارئ الكريم مؤونة البحث العلمي والتجارب المحتاجة إلى سبق التفكير وفهم الأسس. لعل البعض يظن بأن القلب هو عين القلب العضلي وقد ذهلت قبل عدة عقود حينما سمعت شيخ دين معروف ويحمل شهادة الدكتوراة من ألمانيا كما أظن وهو يتحدث عن القلب ويعتبره عينا القلب النفسي. لكن امرئ القيس استعمل لفظ الثياب للتعبير عن القلب والثياب لا يمكن أن تعني القلب العضلي. وامرئ القيس يخاطب عشيقته بدون دراسة وعلم مستعينا فقط بالأحاسيس الطبيعية لديهما. فهو يعكس الحركات الطبيعية فحسب، دون أن يستند إلى الكليات العلمية.
فما الذي يمكن أن تسله هي من ثيابها؟ إنه يتحدث عن الفؤاد في الواقع وليس عن القلب ولا عن الصدر. الفؤاد هو جزء لا ينفك عن النفس وهو شديد الحساسية ويتحرك بسرعة داخل الكيان الإنساني ليأخذ المعلومات من الصدر ومن السمع والبصر اللتين تمثلان المرئيات العينية والمسموعات الأذنية. الفؤاد متعطش للمعلومات ليؤدي وظيفته تجاه القلب.
قال تعالى في سورة القصص: وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10). أم موسى تبحث عن معلومات عن رضيعها الذي وضعته في تابوت وتركته باختيار البحر ممتثلا أمر الله تعالى. وحينما اختفى التابوت فإنها فقدت كل المعلومات الضرورية لتحليلها والاطلاع على ما جرى لوليدها الرضيع. فقال تعالى بأن فؤادها أصبح فارغا. الفؤاد هو الباص الحامل للمعلومات إلى قلبها للمعالجة ومنحها الاطمئنان على الرضيع الصغير.
الصدر فارغ من معلومة مناسبة والعين لا ترى شيئا والأذن لا يسمع حسيسا فمن أين يأتي الفؤاد بالمعلومات؟ إن أم موسى تحمل الكثير من المعلومات في صدرها النفسي حول الوليد ولكنها في تلك اللحظة كانت محتاجة إلى معلومات جديدة تحمل طابعا خبريا. فلماذا لم يقل ربنا بأن قلب أم موسى أصبح فارغا؟ ذلك لأن القلب فعال غير متوقف ولكنه ينتظر ما يحتاج إليه من معلومات ليعطي الأم تحليلا عن حال الطفل. المعلومات الموجودة في القلب لا تكفي لمنحها الطمأنينة. السيارة الحاملة للأخبار فارغة من المعلومات. ولذلك أسرعت تطلب من أخت موسى أن تبحث عن أخيها. قال تعالى في سورة القصص: وَقَالَتْ ِلأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (11).
تحتاج الأم في تلك اللحظة إلى الاطمئنان على طفلها ليتوقف الفؤاد عن البحث عن شيء غير موجود في حوزته. فكأن الفؤاد يأمرها بأن تقصه أو تفعل شيئا للحصول على معلومات لأن القلب بانتظاره. فلو كان الفؤاد كائنا ماديا فلن تتمكن الأخت من أن يساعده على الارتياح. قال تعالى في سورة هود: وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120).
إن مشكلة رسولنا عليه السلام هي نفس مشكلة أم موسى رضي الله عنها. إنه نقل القرآن للناس ولا يعرف تفاعل الناس مع تلك المعلومات. أصبح فؤاده فارغا من المعلومات لأن التجاوبات توقفت والناس مشغولون بالتفكير. لكنه عليه السلام يريد أن يطمئن. ولذلك أخبره ربه بأن من سبقه من الرسل مروا بنفس المرحلة وكان الفوز لهم في النهاية. هذا ما يوقف الاضطراب في فؤاده عليه السلام. ثم يؤكد له ربه عز اسمه بأن ما أوصله إلى الناس يمثل الحق الذي لا يشوبه أي خطأ فهي موعظة وذكرى لمن كان مؤمنا وليس مفيدا لمن لم يتصف بالإيمان.
فالرسول العربي والأم الإسرائيلية يبحثان عن المعلومات لأن فؤاديهما يحثانهما على ذلك. كان فؤادُ رسولنا فارغا أيضا لأنه يجهل تفاعل الناس مع ما أوصله إليهم من وحي السماء.
نفهم من كل ذلك أن بإمكاننا أن نوقف اضطراب الفؤاد ومن ورائه إيقاف اضطراب القلب ومن ورائه الراحة النفسية لو أننا لم نترك باص المعلومات فارغا من المعلومات. كل ذلك لو كنا مهتمين ومفكرين ولكننا لو كنا كالأنعام فلا نحتاج إلى أن نهتم بباص المعلومات لأننا حينئذ لا نفكر ولا نستعمل القوة النفسية الدقيقة للإدراك. سوف نأكل ونشرب كما يأكل ويشرب الثور. قال تعالى في سورة محمد: إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ (12). فمسؤوليتنا عن الفؤاد هو ألّا نتركه يبحث عن المزيد من المعلومات ليزيدنا القلب علما ومعرفة وسيرا مع الحياة في درب مريب ومليء بالمشاكل والمنغصات.
تم القسم 3 من 6 ويتلوه القسم 4 من 6 وأوله: التعامل مع الصدر النفسي.
أحمد المُهري
17/10/2020
#تطوير_الفقه_الاسلامي