الهندسة المعقدة المذهلة
الهندسة المعقدة المذهلة
بسم الله الرحمن الرحيم
كنت في هولندا قبل أكثر من نصف قرن وكان لي صديق هولندي يتحدث 11 لغة وبطلاقة. إن فهم اللغات ليس غريبا هناك. الغالبية يتكلمون ثلاث أو أربع لغات. تحدث معي ذات يوم ونحن نمر على مفترق طرق داخل روتردام أو أمستردام (لا أتذكر أيهما بالضبط)؛ قال لي بأن البلدية تريد إحداث مفرق طرق عظيم يربط حوالي عشر طرق ببعضها البعض في هذا الدوار. والربط ليس مقتصرا على الشوارع المستقيمة بل هناك عدة جسور للتخلص من ازدحام السيارات. هناك في باريس دوار يسمى دوار النجمة (Etoile) عليها 11 طريقا بما فيها الشارع المعروف بالإليزيه أو بساتين الإليزيه (Champs Elysees) حيث مسكن ومقر عمل رئيس الجمهورية الفرنسية. لكن شوارع الإتوال مستقيمة بدون جسور.
والآن لننتقل إلى السماء ذات الحبك. نحن عادة ما نتحدث عن عدد النجوم وبعدها عنا أو عن بعضها البعض وكذلك الكواكب الكثيرة المحيطة بكل نجمة من نجوم السماء. أو ننتقل بفكرنا إلى المجرات التي تضم مئات البلايين من النجوم. البليون أقصد به ألف مليون والنجمة هي شمس مثل شمسنا أو أكبر بكثير ولعل أصغر أيضا. لكن مَن منا فكر في مسارات هذه النجوم الضخمة؟ الذي سمى مفرق النجمة في باريس بالنجمة كان ينظر إلى مسارات النجوم احتمالا ولكن بصورة جزئية كما أظن. لو نظر إليها بما فيها من تعقيد لانقلب إليه البصر خاسئا وهو حسير. أنا لا أعرف اسم المكان المشابه في هولندا اليوم وأتمنى ألا يكونوا أسموها النجمة.
نحن إلى اليوم يصعب علينا تحديد حركات هذه الكواكب حتى كواكب منظومتنا الشمسية. ولكن دعنا نفكر في إحدى حركات نجمتنا الشمس. لننظر إلى حجم الشمس بداية. إنها تسع لمائة ألف كرة أرضية مثل أرضنا. هكذا يمكنكم أن تتصوروا الفجوات العظيمة في الفضاء بين الشمس وكواكبها التي تفوق العدد. هذه الشمس تحمل جاذبية تؤثر في كل ما تحيط بها من كواكب وكويكبات وغيرها على بعد سنتين ضوئيتين منها. وهناك على بعد سنة ونصف ضوئية مجموعة كبيرة من المذنبات أو الكويكبات التي تحيط بتلك الكرة الكبيرة المهولة فلا تسمح للشياطين بأن يركبوا أية موجة ضوئية ليسترقوا السمع. سوف تواجههم كويكب تخرقه ولا تسمح له بالإنصات. قال تعالى في سورة الصافات: إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6) وَحِفْظًا مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ (7) لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلا الأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ (8) دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (9) إِلاّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ (10).
نظرت إليها تصويريا فتلك المجموعة التي تفوق آلاف الملايين من الكويكبات وبعمق نصف سنة ضوئية تشكل للناظر سماء مزينا بالأضواء. نحتاج إلى آلة لننظر إليها طبعا لأنها بعيدة عنا ولكنها ضمن نظامنا الشمسي.
والآن لنتصور هذه النجمة التي نسميها الشمس بكواكبها وهي تتحرك عدة حركات فلكية دائرية ومنها حركة عمودية تقريبا باتجاه النجمة القطبية. وأظن بأن سرعتها في هذه الحركة تقدر بمائة ألف كيلو مترا في الساعة. هي تجري لمستقر لها وقد أسموا ذلك المستقر بالإنجليزية (Apex). نحن جميعا نتحرك مع شمسنا دون أن نشعر. فالشمس بمجموعتها التي تسمى النظام الشمسي كبير جدا وهي تسير بسرعات تفوق الوصف.
وصلنا إلى الحبك. الحبك تمثل المسارات المعقدة التي تسير خلالها هذه المجرات الضخمة بشموسها أو نجومها البليونية وبكواكب كل نجمة وأقمار كل كوكب وكويكبات بليونية لكل نجمة. تصوروا هذه المسارات التي لا يمكن لنا رسمها في الوقت الحاضر وبالإمكانات الفعلية. الرسوم المتحركة التي نراها ليست صحيحة وليست تقريبية ولكنها توضح بعض الحركات فقط دون إمكانية رسم بياني لها فالرسم البياني مستحيل لاستحالة المقاييس.
تصوروا هذه المسارات المعقدة التي مرت عليها حوالي 10 آلاف مليون سنة من يوم الانفجار الكوني كما يحتمل الفيزيائيون وهناك احتمالات تصل إلى 23 بليون سنة. بمعنى أننا لا نكتفي بالنظر إلى عدد الأجسام المهولة في السماء بل نفكر في مساراتها التي لا توقف السيارات وليس بها إشارات مرور ولا جسور والأجسام كبيرة أكبر من كل أرضنا ملايين الملايين الملايين من المرات. أليست هي هندسة معقدة؟ قال تعالى وهو يقسم بهذه الهندسة العظيمة احتمالا في سورة الذاريات: وَالسَّمَاء ذَاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ (8). خلاصة القول بأننا يكفينا أن ننظر إلى عظمة مسارات الكون البديع والمهول لنتعرف على عظمة المحاسبات السماوية لربنا العظيم فلا نختلف مع بعض حول وعود ربنا. علينا بأن نقبل الآخرة ونتهيأ لها ونترك الأقوال غير القرآنية لأنها عاجزة عن فهم هندسة الكون العظيم.
أحمد المُهري
3/8/2020
#تطوير_الفقه_الاسلامي