نظرية ظهور العلم – 21-هجرة الكبابيش
نظرية ظهور العلم – 21
هجرة الكبابيش – وفكرة خير ثقافة أخرجت للناس
كشف البحث في مقال سابق بعنوان “الثمن الحقيقي لأسطورة الإسهام العربي في تقدم المعرفة البشرية” عن فكرتين رئيسيتين في منتهى الأهمية. تتعلق الأولى بـ”عاقبة الخلط بين الثقافة العربية والإسلام” بشكل عام. تتعلق الثانية بـ”عاقبة هذا الخلط على موقف الثقافة العربية المعاصرة من العلم”.
عاقبة الخلط بين الثقافة العربية والإسلام بشكل عام
يذهب البحث هنا إلى أنه:
“عندما يتم “الخلط”بين الثقافة العربية وبين الإسلام لا يعود من الممكن انتقاد الثقافة العربية لأن في ذلك انتقاد للإسلام، كما لا يعود من الممكن فهم الإسلام إلا “في إطار” الثقافة العربية. الأولى مصيبة، والثانية مصيبة.”
الفكرة واضحة، ولا تحتاج إلى إفاضة في الإيضاح.
عاقبة الخلط بين الثقافة العربية والإسلام على موقف الثقافة العربية من العلم
يذهب البحث هنا إلى أن:
“الثقافة العربية المعاصرة ثقافة معادية للعلم لأن العلم “يكشفها”. العلم “يكشفها” على حقيقتها. مجرد ثقافة بدائية تخفي بدائيتها خلف ثوب الإسلام. الإسلام براء من هذه الثقافة. الإسلام براء من هذه البدائية.”
وهذه فكرة تحتاج إلى بعض الإيضاح.
تقدم الثقافة العربية نفسها هنا على أنها “الثقافة الإسلامية النموذجية” ويقدم العرب أنفسهم على أنهم خير أمة أخرجت للناس. لاحظ الخلط مرة أخرى بين “العرب” وبين “المؤمنين”. هل كان الله يخاطب العرب عندما قال “كنتم خير أمة أخرجت للناس” أم كان يخاطب “المؤمنين”؟ هل كان الخطاب هنا موجها “للمسلمين” من ساعة نزول هذه الآية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها أم كان موجها “للمؤمنين”؟ هل كان الله يخاطب العرب, أم المسلمين, أم المؤمنين؟ هل يكفي أن يولد المرء مسلما لكي يكون من خير أمة أخرجت للناس, أم يحتاج الأمر إلى أن يؤمن بالله, ويأمر بالمعروف, وينهى عن المنكر؟ هل الخطاب هنا موجه إلى عموم العرب, أم عموم المسلمين, أم إلى المؤمنين الذين يؤمنون بالله, ويأمرون بالمعروف, وينهون عن المنكر؟ ولكنه الخلط.
الثقافة العربية هنا هي “خير ثقافة أخرجت للناس”. خير نظام حكم. خير معاملات. خير خلُق. وطبعا خير علم. حققت الثقافة العربية في القرون الأولى من الهجرة بدءًا من “عصر التدوين” في أواخر القرن الثاني من الهجرة وانتهاء بإغلاق أبواب الاجتهاد في أواخر القرن الخامس من الهجرة ما لم تحققه ثقافة بشرية من قبل ولا من بعد. فجأة وبدون أي مقدمات قامت أمة من البدو الرحل الذين لا يعرفون القراءة ولا الكتابة بإنتاج علوم لم يسبق للبشرية جمعاء أن أنتجتها وأسهمت في “تقدم المعرفة البشرية في قطاع العلوم الطبيعية والإنسانية“.
إذا كان العالم قد تحدث في الستينيات من القرن الماضي عن “المعجزة الألمانية” عندما تحولت ألمانيا إلى أكبر قوة اقتصادية في أوربا في أقل من عشرين عاما على تدميرها بالكامل من أقصاها إلى أقصاها, وإذا كان العالم قد تحدث دوما عن “المعجزة اليونانية” عندما “انفجرت” براكين العلم في اليونان في القرن السادس قبل الميلاد وسط الجهل المطبق للبشرية جمعاء, فمن العجيب أن أحدًا لم يلحظ “المعجزة العربية” التي حققها الناطقون بالعربية في “عصر إنتاج العلم باللغة العربية” من أواخر القرن الثاني الهجري إلى أواخر القرن الخامس الهجري عندما قاموا بإنتاج علوم لم يسبق للبشر أن سمعوا عنها. وللحق فإنها لمعجزة حقًا إذ لم يكن أحد في ذلك الوقت يتحدث العربية سوى أهلنا في نجد والحجاز ومواليهم من الفرس في البصرة والكوفة. لم يكن أحد في موريتانيا, ولا في المغرب, ولا في الجزائر, ولا في تونس, ولا في ليبيا, ولا في مصر, ولا في السودان, ولا في إريتريا, ولا في جيبوتي, ولا في الصومال, ولا في جزر القُمُر, ولا في فلسطين, ولا في لبنان, ولا في سوريا, ولا في العراق, ولا حتى في الكويت. حقيقة الأمر, لم يكن هناك أحد أصلا في الكويت, ولا في قطر, ولا حتى في دبي. ربما كان هناك أحد في البحرين. حقيقة الأمر, لا أعلم. الذي أعلمه هو أن لا أحد على الإطلاق كان يتكلم العربية في تلك القرون سوى المتحدثين بالعربية في نجد والحجاز ومواليهم في البصرة والكوفة. وفجأة قام هؤلاء المتحدثون بالعربية الذين لا يعرفون حتى الكتابة بالعربية بإنتاج علوم لم يسبق للبشرية العلم بها. فهم يكتبون (على الرغم من أميتهم) في الكيمياء, والفيزياء, والأحياء, والجغرافيا, والطب, والصيدلة, بل والفلك. كما أنهم كتبوا (متحدين بذلك أميتهم) في الصرف, والنحو, والأصوات, وعلم الفقه, وعلم الحديث.
لا بد من الاعتراف, في حقيقة الأمر, بأن هذا عمل غير مسبوق. حقيقة الأمر, لإدراك مدى “هول” ما نتحدث عنه فعليك بالذهاب إلى جوجل وكتابة كلمة “الكبابيش”, وهو اسم قبيلة عربية من أهالينا الذين غادروا جزيرتنا واتجهوا إلى كردفان حيث استقروا هناك. عليك بعد ذلك أن تأخذ جولة على الشبكة لترى الأحوال هناك. وأخيرًا, عليك أن “تتخيل” أن الكبابيش قد استطاعوا “بجهودهم الذاتية”, وبدون الاستعانة بأي مخلوق من خارج الكبابيش, إقامة “نفق فضائي” لنقل الكبابيش من كردفان إلى المريخ مباشرة كمرحلة أولى من مراحل هجرة الكبابيش من “الأرض” إلى “كوكب آخر” خارج المجموعة الشمسية. هذا, بالضبط, ما يوازي ما حدث في أواخر القرن الثاني من الهجرة عندما بدأ الناطقون باللغة العربية الذين لا يعرفون حتى الكتابة باللغة العربية بإنتاج علوم لم يسبق للبشرية على الإطلاق معرفتها. فجأة, وبدون سابق إنذار, قام الناطقون باللغة العربية الذين لم يسبق لهم في حياتهم كتابة صفحة واحدة في أي موضوع, بكتابة مئات الصفحات, بل آلافها, في عشرات العلوم. هذه هي المعجزة العربية في تقدم المعرفة البشرية في قطاع العلوم الطبيعية والإنسانية.
رجاء ملاحظة أننا لا نتحدث هنا عن الفترة الممتدة من نهاية القرن الخامس الهجري إلى أواسط القرن الخامس عشر الهجري (نحن الآن في الثلث الثاني من القرن الخامس عشر الهجري). أي أننا لا نتحدث عما حدث في الألف عام الأخيرة بعد دخول مجموعة الشعوب التي تتحدث العربية الآن إلى الثقافة العربية – أي بعد استعراب موريتانيا, والمغرب, إلى آخره. هذه قصة أخرى. نحن نتحدث عن “عصر التدوين”, “عصر إنتاج العلم”. نحن نتحدث عن عصر ظهور العلم في الثقافة العربية.
فكرة أن المتحدثين باللغة العربية – الذين لم يسبق لهم كتابة صفحة واحدة باللغة العربية – قاموا في القرون الأولى من الهجرة بكتابة مئات الكتب التي ساهمت في تقدم المعرفة البشرية في قطاع العلوم الطبيعية والإنسانية على الرغم من عدم معرفتهم بالقراءة والكتابة هي, بهذا الشكل, معجزة لا تقل عن معجزة “النفق الفضائي” الذي سينقل الكبابيش من كردفان إلى المريخ تمهيدًا لهجرتهم إلى كوكب آخر خارج المجموعة الشمسية. المسألة ليست مسألة علم, وإنما مسألة خيال علمي. وهذا هو السبب في أن الثقافة العربية المعاصرة هي “ثقافة معادية للعلم”.
“الثقافة العربية المعاصرة ثقافة معادية للعلم لأن العلم “يكشفها”. العلم “يكشفها” على حقيقتها. مجرد ثقافة بدائية تخفي بدائيتها خلف ثوب الإسلام. الإسلام براء من هذه الثقافة. الإسلام براء من هذه البدائية.”
فكرة أن الثقافة العربية قد ساهمت في تقدم المعرفة البشرية في قطاع العلوم الطبيعية والإنسانية هي فكرة وهمية. مثلها في ذلك مثل فكرة أن نظام الحكم في الثقافة العربية القديمة هو خير نظام حكم. مثلها في ذلك مثل فكرة أن “خُلُق” الثقافة العربية القديمة هو خير خُلُق. مثلها في ذلك مثل فكرة أن الثقافة العربية هي خير ثقافة أخرجت للناس. الأولى وهم, والثانية وهم, والثالثة وهم, والرابعة وهم.
“أثبت” بحثنا هذا – هل هناك ما هو مطلوب أكثر مما قدمنا من أدلة؟ – أن فكرة إسهام الثقافة العربية في تقدم المعرفة البشرية في قطاع العلوم الطبيعية والإنسانية هي فكرة “خيالية”. أدعو الله أن يوفق القادرين منا على بيان فساد فكرة “خير ثقافة أخرجت للناس”. أدعو الله أن يمكننا من بيان أن خير أمة أخرجت للناس إنما هي أمة المؤمنين بالله, الآمرين بالمعروف, والناهين عن المنكر, لا أمة العرب. أدعو الله أن يمكننا من بيان أن خير خَلْق الله هو من تخلَّق بخُلُق كتاب الله, لا من تخلَّق بخُلُق الثقافة العربية القديمة.
حقيقة الأمر, هل نحن مطالبون بـ”إثبات” فساد فكرة “خير ثقافة أخرجت للناس”؟ هل منا من يقول بأن الثقافة العربية القديمة كانت خير ثقافة أخرجت للناس؟ هل منا من يقول إن نظام الحكم في الثقافة العربية القديمة هو “خير نظام أخرج للناس”؟ هل منا من يقول بأن “الأعراف الاجتماعية” في الثقافة العربية القديمة هي “خير أعراف أخرجت للناس”؟ هل منا من يقول بأن ثقافة تعارفت على “التلذذ” بـ “نساء” في الخامسة من العمر, وقتل الأسرى, واستعباد البشر هي “خير ثقافة أخرجت للناس”؟ هل منا من “يجرؤ” على الخلط بين الثقافة العربية القديمة وبين دين الله؟ تبيح لك الثقافة العربية القديمة غزو الناس في دارهم, وتدمير مدنهم, وتحريقهم, وتغريقهم, ومجنقتهم, وعرقبة حيواناتهم, وقتل رجالهم, وسبي نسائهم, واستعباد أطفالهم. وهذا عين ما يحرمه كتاب الله. فكرة “خير ثقافة أخرجت للناس” هي فكرة معادية لدين الله.
كمال شاهين
#تطوير_الفقه_الاسلامي
#نظرية_ظهرة_العلم