رحمة للعالمين
بسم الله الرحمن الرحيم
وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين
أنا مشترك في جلسة يومية على برنامج زوم مع بعض زملائي في جلساتنا التفسيرية ومجموعة طيبة أخرى من المهتمين بالقرآن الكريم في جلسات شمال لندن وفي جلسات أخينا لقمان الداماد. في كل يوم يلقي أحد الإخوة المشتركين في البرامج محاضرة لأقل من ساعة ثم يناقشه الحاضرون فيرد عليهم أو يغير رأيه مثلا، وقلما ترى شخصا يغير رأيه طبعا.
يهمني جلسة الليلة الماضية التي ألقى فيها الأخ الكريم الدكتور حازم العبيدي محاضرة رائعة قاصدا كما ظهر لي من مناقشاته أن يضع كل شيء في موضعه دون التنقيص أو الغلو لنكون واقعيين. إنه كان موفقا في محاضرته طبعا ولكن الأسئلة والاعتراضات والرفض انهالت عليه من كل جانب. طلبات الرد كانت كثيرة ولم يتمكن مدير الجلسة من منحي فرصة للنقاش. ولعلي أجهل كيفية الطلب فأنا أرفع يدي ولا أدري كيف أفعل ذلك عن طريق البرنامج. والموضوع عام يهم كل المسلمين بل قد يهتم به غير المسلمين من أتباع الديانتين السماويتين الأوليين. رأيت بأن أكتب فهمي للآية الكريمة التي كانت مدارا لبحث الأخ حازم.
تلك هي هذه الآية من سورة الأنبياء: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ (107). لم ينف المحاضر الكريم بأن شخصية الرسول عليه السلام رحمة فعلا ولكنه لا يمكن أن يكون رحمة للعالمين بالمعنى المتداول بيننا الذي نفهمه من تكرارنا اليومي للآية الكريمة التالية من فاتحة القرآن المجيد: الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2). هناك فرق بين الرحمة الإلهية الواسعة سواء الرحمة الرحمانية التي تشمل كل الخلائق بمن فيهم الملائكة والأرواح القدسية وكذلك الحيوانات والنباتات والجمادات وكل السماوات ومن الأرض مثلهن ومن فيهما جميعا، وبين الرحمة الخاصة بالضعفاء مثل البشر والتي تأتي بصيغة الرحيم.
ولنبدأ بفهم الموضوع من زاوية تحقيقية بعيدين عن الموروث وبعيدين كذلك عن المعتقد السائد بيننا كمسلمين. وأحب أن أفتح الكلام بأنني مغرم بشخصية رسولنا الأمين وإخوانه الأنبياء جميعا. ولعل أحد أسباب سعيي لترك الأنانية الطبيعية التي تدعونا إلى الدفاع عن الموروث واستبدالها بأنانية أوسع منها لتشمل رضوان الله تعالى هو أنني أهوى جنات النعيم لأعيش مع أولئك النفر الطيب على سرر متقابلين ونناقش معا مسائل غامضة علي في معرفة الرحمن عز اسمه. فكل مسلم يحب رسول الله عليه السلام بطريقته الخاصة به ولكن الذين لا يحبون رسولنا فهم بالتأكيد ليسوا مسلمين. فواقع الرسول وجماله بالنسبة لنا أن يكون واحدا منا يعيش معنا ويتزوج منا ونتزوج منه ويأكل ويشرب معنا. وهكذا جماله في الآخرة بأن يكون أخا لنا وليس ملَكا أو روحا قدسيا يعيش في عالم المجردات.
1. من هم العالمون؟
قال الأخ حازم بأن العالمَ هو ما يُعلم به الشيء فيتغير مصداقه تبعا للموضوع الذي نتحدث عنه. فحينما نقول رب العالمين فإنه سبحانه يُعرف بكل الممكنات في أرجاء الكون المهيب فهو الذي رباهم جميعا بعد أن خلقهم وأعدهم إعدادا جيدا ثم ساعدهم ليتطوروا حتى وصلوا إلى ما نراه اليوم وسوف يتطورون إلى الحد الذي قدره الله تعالى.
ولكن الرسول البشري يُعرف ويُعلم بمن رآه من صحابته وأهل بيته فهم العالمَون بالنسبة له. هذا المعنى لا يشمل الذين سبقوا ولا يشمل الذين يأتوا بعد وفاته عليه السلام. وأنا أضيف ولا يشمل الذين لم يسمعوا عنه مثل الذين كانوا في الصين وما حولها من الدول التي تستعمل اللغات السنسكريتية أو في أوروبا أو الهنود الحمر في القارة الأمريكية برمتها.
لكن بعض الإخوة كانوا مصرين على أن العالمين يشمل كل أنبياء السلف وكل من عاصرهم وكل إنسان حتى يوم القيامة. وأضاف البعض وحتى الذين يحضرون حساب يوم القيامة أو ما بمعنى ذلك.
ولذلك نحتاج إلى أن نستعلم السبب في إنزال تلك الآية الكريمة بالنظر إليها في مجموعتها. قال تعالى قبلها: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101) لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ (102) لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ (103) يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاء كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104) وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ (106) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ (107).
ففيما قاله سبحانه قبلها من استثناء الذين سبقت لهم منه الحسنى عن التأثر بحوادث الدمار الكوني المذكورة قبلها في سورة الأنبياء إشارة إلى مجموعة من أتباع الرسل ولعل كلهم وليس خاصا بالمسلمين. ثم يعطف عليها سبحانه أو يبن ذلك بأنه تعالى ذكر في الزبور من بعد الذكر أن العباد الصالحين يرثون الأرض. والمقصود طبعا أرض الآخرة وليس أرضنا لأنه تعالى تحدث عن نهاية الكون بعد أن طوى السماء وهو السماء المحيط بالكون احتمالا ومعناه التدمير الشامل وإعادة صياغة الكون. أما هذه الأرض فإن الله تعالى يرثها. قال تعالى في سورة مريم: إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (40). فنحن نموت ونورثه سبحانه أرضنا بعد أن متنا جميعا. لكن أرض الآخرة بنعيمها فهو ميراث سماوي لعباد الله الصالحين. قال تعالى في سورة المؤمنون: أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11).
والذكر قد يعني الهدف الأساسي للخلق وهو الله تعالى. وقد يشمل الذكر الإيمان بالعودة إلى الله سبحانه. فالكتب السماوية تتحدث أساسا عن الله تعالى وعن اللقاء معه سبحانه ثم تتحدث عن مصير الناس بعد اللقاء معه في نعيم الجنة أو جحيم النار. لكن الذكر في هذه السورة تعني الذين أنزل عليهم الكتب السماوية. قال تعالى في بدايات سورة الأنبياء: لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (10). فهناك ذكر قوم نبينا في هذا الكتاب كما أنه سبحانه ذكر أقوام بقية الأنبياء في نفس السورة الكريمة. فالسورة تتحدث عن الأنبياء وأقوامهم ويمكنكم مراجعة كل قصصها.
ثم يقول تعالى بعد ذلك: إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ (106). فالمقصود بـ “هذا” هو القرآن الكريم باعتبار الزبور قبله. والزبور قد يعم زبور داود وكل الكتب والصحف السماوية قبل القرآن لأنها جميعا زبر بمعنى كتب قوية صحيحة لا عيب فيها. ففي القرآن الكريم بلاغ مشابه لقوم عابدين. بمعنى أن في القرآن بلاغا لقوم عابدين من الذين ذكرهم الله تعالى في القرآن. والقوم لا يعم كل أهل الأرض كما أن قوله تعالى إن في هذا لبلاغا لهم لا يعني بأنه ليس بلاغا لغيرهم. لكن الموضوع الذي تتحدث عنه الآيات هو ما يخص العابدين الحاضرين يوم نزول القرآن الكريم من ذلك القوم وهم الرسول والمؤمنون الصادقون من صحابته.
فمن هم أولئك القوم العابدون باختصار؟ هم الذين استضافوا رسول الله عليه السلام بمن فيهم محمد نفسه. ثم يقول سبحانه بعدها: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ (107). فتعني الآية الكريمة بأنه تعالى لم يرسل عبده المصطفى للمؤمنين فقط بل أرسله للعالمين. العالمون هم ليسوا كل أهل الأرض في ذلك الزمان بل كل الذين سمعوا عن النبي الجديد وحضروه. ذلك لأن محمدا عليه السلام كان يُعرف بهم. فهو رسولهم وأخوهم وصاحبهم. هذا هو مجال الآية الكريمة.
قال تعالى في سورة الأعراف: وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاء وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158) وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159). الآيات الكريمة تتحدث عن المؤمنين من بني إسرائيل ولعل بقية أهل الكتاب الذين آمنوا بموسى ثم عيسى ثم محمد عليهم السلام. وفي نهايتها تأمر نبيا أن يبلغ الناس بأنه رسول الله إليهم جميعا. فمن هم الناس الذين أمر الله تعالى محمدا بأن يخاطبهم؟
هم المؤمنون من المشركين ومن بني إسرائيل ومن بقايا اليهود والنصارى والذين لم يؤمنوا بخاتم النبيين والمشركين جميعا. لكن الآية الكريمة لا تشملنا لأن من واجب الرسول أن ينفذ أمر الله تعالى وقد توفى قبل أن يرانا ويبلغنا رسالته. لكن الصحابة وأولادهم وأحفادهم بمن فيهم أهل بيت النبي فإنهم جميعا بقوا على إسلامهم وعلموا أطفالهم وأحفادهم ونحن ورثناهم. هذا يدل بأن الآية وإن خاطبت الموجودين ولكن الحكم السماوي غير مقتصر عليهم بل يشملنا جميعا.
نلاحظ من مجموع ما قلنا بأن الرسول محمدا عليه السلام كغيره من الرسل لم يتجاوز حدود إبلاغ الرسالة السماوية إليه وإلى قومه الذين أورثونا إياها. هل الرسول عليه السلام قادر على أن يعلمنا اليوم أو يرد على استفساراتنا أو يشفينا إذا مرضنا أو يدفع عنا شر كورونا أو أي وباء آخر؟ هل بإمكانه عليه السلام أن يصلح إقتصاد الدول التي خسرت ولا زالت من جراء الوباء وقد تخسر مصداقيتها وأكثر قدراتها؟ والواقع بأنه عليه السلام وكل الرسل الذين سبقوه لا دور لهم إطلاقا في يومنا هذا ولكننا نحبهم ونشهد بأنهم رسل الله تعالى لأن الله أمر كل المسلمين بأن يؤمنوا بالرسل السابقين. قال تعالى في سورة النساء: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا (136). فنحن نؤمن به عليه السلام ولكنه عاجز عن أن يساعدنا. إنه رسول الله دون ريب وإنه ميت فاقد الحركة دون ريب أيضا.
والآن نسعى لندرس الرحمة المذكورة في الآية الكريمة لنرى هل هي رحمة الله تعالى أم هي رحمة الرسول. بمعنى هل أن الله تعالى رحم ذلك القوم فاختار من بينهم رسولا أم أنه سبحانه بعث إليهم الرسول ليكون الرسول رحمة لهم. وقد استشهد أحد الإخوة المكرمين بأن المطر رحمة والكهرباء رحمة وكل شيء مفيد رحمة فما ضير أن يكون الرسول البشري رحمة أيضا. كلامه صحيح ولا ضير بأنه عليه السلام رحمة ولكن هل الآية تقول ذلك أم أنها بصدد بيان أمر آخر؟ بمعنى استفهامنا عن حقيقة موضوع الآية الكريمة؛ هل هو بيان رحمة الرسول أم هو بيان رحمة الله تعالى في إرسال الرسل.
لقد وضح سبحانه قبلها بأنه في صدد بيان رسالاته للناس ولم يقل بأنه بصدد بيان فضائل رسله. قال سبحانه بأن في هذا القرآن بلاغا لقوم عابدين. ففي القرآن بلاغ لقوم عابدين والله تعالى أرسل رسوله ليس لهم فقط بل ليكون إرساله رحمة لغيرهم أيضا. رحمة الرسول لا تتعدى كونه رحيما بالمؤمنين الذين يعيشون معه ويستفيدون منه مباشرة. وأما بالنسبة لكل من أرسل إليهم جميعا فهو غير ذلك كما نعرف من نهاية سورة التوبة. إنه عزيز عليه ما عنتوا. بمعنى أنه عليه السلام يحبهم ويتأثر قلبيا حينما يراهم يتعبون جراء رفضهم رسالة السماء في الدنيا وفي الآخرة. إنه حريص عليهم إلا أنه رؤوف رحيم بالمؤمنين فقط.
لكن الله تعالى رحمان لكل الكائنات ورحيم لكل الجن والإنس باعتبار ضعفهم أمام بقية الكائنات كما أظن. لم يقل الله تعالى بأنه رحيم بالمؤمنين فقط. بالطبع أن المؤمنين ينالون رحمته أكثر من غيرهم.
أنى لبشر أن يرحم من قبله أو يرحم من بعده أو يرحم البعيدين عنه؟ حتى القريبون منه فهو رحمة لهم بأنه يعلمهم الكتاب والحكمة وليس رحمة لهم في الملمات ولا رحمة لهم في حل مشاكلهم الاقتصادية والمالية الشخصية ولا رحمة لهم في مشاكلهم العائلية. لنلاحظ هذه الآية من سورة المجادلة: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1). لماذا لم تطلب المرأة المؤمنة رحمة الرسول عليه السلام بل اشتكت على أحد أتباعه عنده ولكنها توجهت إلى الله تعالى تطلب رحمة الله في تلك المشكلة العائلية. لم تر المسلمة في رسولها وهي صحابية تمثلت بها السورة لبيان مشاعرها الكبرى تجاه ربها ولكنها تعامل رسولها كحاكم لهم فقط.
والرحمة عادة ما تظهر بمظهر الهدى فرحمة الله تعالى تتجلى بأنه يهدي من يستعين به ويهدي من يشاء بصورة عامة. ولذلك نرى القرآن في كثير من الآيات الكريمة تنادي بأن القرآن والتوراة هدى ورحمة لعبيد الرحمن الرحيم. فإذا فسرنا الرحمة في الآية بالرحمة البشرية بقدر قدرة الإنسان فيمكن تفسيرها بأن المقصود هو الرسول بعينه مع صحابته الذين تهنؤوا وتشرفوا بالحضور أمامه عليه السلام ونالوا من فيض مكارمه ومن كرم اخلاقه ومن واضح هداه.
ولكن سورة الأنبياء برمته تتحدث عن مسألة مهمة واحدة. ألا وهي أن الله تعالى لم يترك الناس دون أن يرسل لهم رسلا من أنفسهم يهديهم الطريق الصحيحة إلى ربهم. يكفينا الآية السابقة لها بأن في هذا القرآن لبلاغا لقوم يتوخون عبادة الرحمن. فهل الناس أو الصحابة في عباداتهم يحتاجون إلى نبينا؟ لو كان ذلك صحيحا لكان ضروريا أن يبقى الرسول حيا وتبقى إشعاعاته منتشرة على أرجاء البسيطة ليمد العابدين جميعا بالطاقة الضرورية للحركات العبادية وبالعلم الضروري لنتعلم منه في كل زمان ومكان معنى وكيفية العبادة وكذلك معنى الأذكار التي نتفوه بها في الصلاة. ولننظر إلى إمكانية أن يكون الرسول رحمة كاملة أو شاملة من واقع الأحداث التالية. وسأضيف إليها بعض المسائل المهمة التي تمت مناقشتها في المحاضرات.
1. قال تعالى في سورة البقرة: أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ (214). لقد وعد الله تعالى رسله بالنصر فكيف استعجل رسولنا نصر الله تعالى؟ لا فرق بينه وبين المؤمنين من صحابته في ذلك الموقف. ثم ما الفرق بينه وبين صحابته في استحقاق الجنة في الآية؟ فهو عليه السلام لم يكن رحمة شاملة حتى لصحابته ولنفسه. بمعنى أنه لم يعلم بأن هناك حكمة سماوية لتأخير النصر لهم لغرض سماوي لم يعرفها أي منهم. كما أن الجنة لم تكن مكتوبة له أو لصحابته قبل أن يأتيهم مثل الذين خلوا من قبلهم. فهو عليه السلام حتى في رسالته في موقع الاختبار فكيف يكون رحمة لصحابته مع جهله بما سيقع عليهم؟
2. قال تعالى في سورة المائدة: لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّمَا جَاءهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُواْ وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ ﴿70﴾. استند بعض الإخوة إلى هذه الآية الكريمة لإثبات أن بني إسرائيل قتلوا بعض الأنبياء فعلا. وقد قال تعالى في سورة الصافات: وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181). فلو تمكن أحد من قتل الأنبياء وهم كلهم رسل بالقوة فذلك يتناقض مع آية الصافات. ولم ينتبه الإخوة إلى فعلي التكذيب والقتل. فريقا كذبتم، بالماضي وهو يعني ثبوت الشيء وتحققه فعلا. ولكن قتل الأنبياء لم يأت بالماضي بل بالمضارع. فريقا يقتلون؛ يعني بأنهم يسعون لقتل الرسل. ذلك لأن من يسعى لقتل الأنبياء أو يرضى بقتلهم فهو قاتل الرسل في منطق الرحمن وسوف يحاسب يوم القيامة بأنه قاتل الرسل.
قال تعالى في سورة آل عمران: لَّقَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ (181) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ (182) الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّىَ يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (183). استند بعض الإخوة في الجلسة إلى الجملة الكريمة: فلم قتلتموهم؛ بالماضي وهو يعني الثبوت فعلا لإثبات أن بني إسرائيل تمكنوا فعلا من قتل بعض الرسل. لنفكر في الآية الأولى هنا: وقتلهم الأنبياء بغير حق. فهل هناك أنبياء يُقتلون بحق؟ إذن تعني الجملة الكريمة بغير أن يتحقق، بمعنى بغير أن يتحقق القتل فعلا.
لم يصرح القرآن أبدا بقتل أي نبي سواء صار رسولا أم بقي على نبوته عدا الحديث عن قتل المسيح عليه السلام. فنحن ليس لدينا أي سند قرآني على حصول القتل الفعلي لأي من الرسل الكرام. وكل آيات قتل الرسل الفعلي تتحدث عن المسيح فقط وكلها تقول بغير حق عدا الآية التالية من سورة الحج فهي لا تتحدث عن الرسول المقتول دون وجه حق: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40). لننظر هل قام المشركون بإخراج أحد من مكة أم أمرهم الله تعالى بالهجرة؟ حتى الرسول عليه السلام فإنهم لم يُخرجوه من مسقط رأسه بل حاولوا إقناعه ثم سعوا لقتله ولم يُخرجوه من مكة.
3. قال تعالى في سورة الحشر: مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاء مِنكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7) لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8). هل أخرج مشركو مكة أحدا منهم أم هم الذين خرجوا. إنهم خرجوا من مكة لينصروا رسول الله ولم يخرجهم أحد عنوة. كان المشركون يسعون لإبقائهم في مكة بل يسعون لإعادة من هاجر إلى مكة. لكن الصحابة هم الذين شعروا بأنهم فقدوا رسول الله جراء عمل المشركين الذين تسببوا لهجرتهم فاعتبر الله تعالى مشركي مكة مجحفين بحقهم ومخرجيهم من بلادهم.
قال تعالى في سورة الأنفال: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72). أليست الآيات تأمر المسلمين بأن يهاجروا من مكة؟
4. هناك مستضعفون كانوا يشعرون بالعنت بأنهم عاجزون عن الهجرة التي أمرهم ربهم بها فدعوا ربهم لينجيهم من مكة، وذلك يعني بأن المسلمين جميعا كانوا راغبين في الهجرة. قال تعالى في سورة النساء: وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا (75).
5. هناك أزواج مسلمات تركن أزواجهن في مكة وهاجرن منها إلى مدينة الرسول عليه السلام. قال تعالى في سورة الممتحنة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُم مَّا أَنفَقُوا وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10). فلم نجد في القرآن أية حكاية تقص علينا بأن المشركين أخرجوا أحدا من مكة بل تحكي جميعها بأن الله تعالى أمرهم بالهجرة. لكنه سبحانه اعتبر المشركين ساعين لفرض الهجرة على المسلمين وسوف يحاسبهم على ذلك الأساس.
6. ولنلق نظرة إلى حكاية قوم صالح. قال تعالى في سورة الشمس: فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُم بِذَنبِهِمْ فَسَوَّاهَا (14). فهل اشترك قوم صالح في عقر الناقة معا أم قام واحد منهم بذلك؟ والقرآن يعترف بأن الفاعل شخص واحد في سورة القمر: فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ (29). شخص واحد عقر الناقة ولم يقتل إنسانا ولكن الله تعالى أهلك كل القوم مقابل قيام واحد منهم بعقر الناقة التي تحمل النور السماوي. لكنهم رضوا بفعله بل قام بعضهم بدعوته للقيام بعقر الناقة.
7. وأخيرا نستنتج من هذا البحث أن الرسل جميعا ما كان ممكنا أن يكونوا رحمة للعالمين. فإن الكثير منهم كانوا سببا في نزول العذاب عليهم. وهكذا رسولنا فإن وجوده الشريف كان سببا في عدة حروب قتل فيها خلق كثير. فمنهم من سيدخل الجنة ومنهم من سيدخل النار. إنهم جميعا من العالمين فكيف يكون رسولنا رحمة لهم وكيف يكون لوط رحمة لقومه وكيف يكون نوح رحمة للغالبية من قومه الذين أغرقهم الله تعالى بسببه على الرسل جميعا السلام؟
فالواقع أن إرسال رسولنا الذي حمل القرآن الذي نستنير به نحن بعد أربعة عشر قرنا كان رحمة للعالمين. فالله تعالى تحدث عن رحمته لعبيده وليس عن رحمة بشر مثلنا. فالرحمة ليس عنوانا لشخص بعينه بل هي عنوان لرحمة ربانية رحم بها عبيده بأن أرسل لهم رسولا أو كتابا سماويا.
والسلام على من يطلع على هذا الموجز.
أحمد المُهري
27/4/2020
#تطوير_الفقه_الاسلامي