يوسف أيها الصديق ح 46 – وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا
تواصلا مع شرح سورة يوسف :
يوسف أيها الصديق ح 46 – وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا
وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا ۖ وَقَالَ يَا أَبَتِ هَٰذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا ۖ وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي ۚ إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاءُ ۚ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100)
دعنا ننتقل الان إلى القسم الأخير من السورة الذي ينطوي على الحكم والعبر الربانية وسنشرح كلمتي الخر والنزغ أو نزغ الشيطان الواردتين في الآية المكملة للمائة أعلاه 77.
يبتع …..
(هامش 77: حتى نعلم معنى الخر سجدا فإننا نستنجد بالقرآن نفسه. ولأهمية الموضوع فإني أذكر بعض أقوال أرباب اللغة وأناقشها.
قال الراغب في مفردات ألفاظ القرآن: فمعنى خر سقط سقوطا يسمع منه خرير، والخرير يقال لصوت الماء والريح وغير ذلك مما يسقط من علو.
وقال ابن منظور في لسان العرب: الخَرِيرُ: صوت الماء والريح والعُقاب إِذا حَفَّتْ. ثم أضاف التالي: وخَرَّ الحَجَرُ يَخُرُّ خُرُوراً: صَوَّتَ في انحداره.
وقال ابن فارس في مقاييس اللغة: الخاء والراء أصلٌ واحدٌ، وهو اضطرابٌ وسُقوطٌ مع صوتٍ.
لكن الجوهري لم يربط الصوت بالسقوط في صحاحه فقال: الخَريرُ: صوت الماء. ثم أضاف: وخَرَّ لله ساجداً يَخِرُّ خُروراً، أي سَقَط. فهو يفرق بين صوت الماء الذي ذكره كأول معنى ثم يعطي معنى ثانيا هو السقوط بغض النظر عن اقتران السقوط بالصوت.
وأما القرآن الكريم فلا يذكر الكلمة بمعنى الصوت فضلا عن صوت الماء. وقد استند الراغب رحمه الله تعالى في مفرداته على الآية التالية لإثبات الصوت في إحدى مكررات الخرير الإثني عشر في الكتاب العزيز فقال: وقوله تعالى: {خروا سجدا} [السجدة/15]، فاستعمال الخر تنبيه على اجتماع أمرين: السقوط، وحصول الصوت منهم بالتسبيح، وقوله من بعده: {وسبحوا بحمد ربهم} [السجدة/15]، فتنبيه أن ذلك الخرير كان تسبيحا بحمد الله لا بشيء آخر. انتهى كلام الراغب.
وسأبدأ بالرد على الراغب في سعيه لإثبات الخرير الصوتي من القرآن. قال تعالى في سورة الفرقان 73: وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّواْ عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَانا.
فهل يمكن أن نفسر جملة خر عليه صما بأنه أخرج صوتاً حينما مر على آية من آيات ربه؟ ولو قلنا ذلك جدلا فما نفعل بمعنى العمى المعطوف عليه؟ فقول الراغب في هذا الصدد لا يتجاوز الوهم برأيي. ثم إنه تعالى يقول في سورة الحج 31:
حُنَفَآءَ للَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ ٱلسَّمَآءِ فَتَخْطَفُهُ الطير أَوْ تَهْوِي بِهِ الريحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ.
فالذي يخر من السماء ليركب على جناح الريح أو الطير فهو لا يسقط على الأرض ولا يصدر منه صوت.
وأما تفسير الراغب بأن الخرير يقال لصوت الماء والريح مما يسقط من علو فهو غير دقيق. ذلك لأن الخرير هو صوت الماء بغض النظر عن سقوطه من علو أو سرعة جريانه في الجداول بحيث يصدر منه صوت أو أي حالة أخرى من حالات الطَّرْق المحدث للصوت ولو بالوسائل الميكانيكية الحديثة.
فلو سمعنا صوتا من الماء فهل علينا أن نتأكد من أنه يسقط من علو لنسميه الخرير أم أننا نقول سمعنا خرير الماء بدون النظر إلى مصدره؟ لو كان ذلك لما جاز للأعمى أن يسمي صوت خرير الماء خريرا.
وأما قول ابن منظور فهو أكثر صحة من قول الراغب الإصفهاني. لكنه غير دقيق أيضا. فلو انحدرت صخرة دون أن تصوت فهلا نقول لها قد خرت الصخرة؟ أو أن إنسانا خر على اسفنجة ناعمة بدون أن نسمع له صوتا فهلا يجوز أن نصف سقوطه بالخر لأننا لم نسمع منه صوتا؟
أما زكريا الرازي في المقاييس فقد خلط بين الاضطراب والسقوط مع الصوت. ولا أدري هل يقصد الاضطراب مع الصوت أيضا وأظن بأنه يقصد ذلك فعلا.
إنه يعتبر الخاء والراء أصلا واحدا لا أصلين. لعله أراد أن يجمع بين الخرير الصادر من اضطراب الماء مع سقوط الجسم الصلب من الأعلى الذي يكون عادة مقرونا بالصوت. وعلى أي حال فإضافة الصوت إلى السقوط ليس دقيقا برأيي ولا أثر له في القرآن على الرغم من تكرار الجذر 12 مرة.
وقد تعجبت من قول المحقق الراغب في استناده إلى آية السجدة 15 وهي هكذا:
إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُواْ بِهَا خَرُّواْ سُجَّداً وَسَبَّحُواْ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ.
فالتسبيح معطوف على خرهم سجدا كأنهم أتوا بفعل التسبيح بعد خرهم سجدا ولا نعرف هل هو تلفظ باللسان أم خضوع بالجنان؟ والتسبيح في حقيقته لا يمكن أن يتمثل لسانيا إلا في حدود الاعتراف بتنزيه الله تعالى أمام الناس للتدريب أو لإثبات المعية وتكوين الأمة المتوحدة. لكن حقيقة التسبيح هو الخضوع القلبي لله تعالى وامتثال أوامره ولا ارتباط له بما يخرج من لساننا من كلمات.
نرى الجبابرة اليوم وحينما يسمعون ذكر الله تعالى فإنهم يسبحونه باللسان وهم في أكبر حالات الاستكبار واستضعاف الآخرين. كما أن الله تعالى يعتبر تجاوب الكائنات مع أوامره تسبيحا وهن لا يتكلمن. قال تعالى في سورة الإسراء:
تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44).
فكل الكائنات تسبح بحمد الله وليس كلها تستعمل الألفاظ، بل لعل كلها لا تتكلم ولا تستعمل مخارج الحروف إلا الإنسان.
وأما ما نعرفه من القرآن الكريم فبالإضافة إلى ما قلته فإننا نقرأ في سورة الأعراف الآية 143 بأن موسى خر صعقا بعد أن دمر الله تعالى الجبل العظيم. لنتصور صوت الجبل المهيب وهو يتهشم ونفكر في صوت سقوط موسى صعقا.
ليس هناك أي تأثير لهذا الصوت ولا معنى للاهتمام به. كان أجدر أن يقول الله تعالى إذن وسقط موسى صعقا. لكنه لم يقل ذلك بل قال: وخر موسى صعقا. لقد فقد موسى وعيه وتماسكه تماما فمال إلى الأرض مصعوقا وهو ما يريد القرآن ذكره. إنه لم يسقط من علو بل مال بجنبه احتمالا إلى الأرض ولعل الميلان تم بصورة تدريجية نسبيا فلا صوت حتى مع تجاهل صوت تهشم الجبل. وقال تعالى في سورة النحل 26:
قَدْ مَكَرَ ٱلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى ٱللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِّنَ ٱلْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ ٱلسَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ ٱلْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ.
هذه الآية للتمثيل ولا تقص علينا قصة حقيقية كما يبدو. المهم أن يعرف المشركون بأن الله تعالى قد يمكر بهم فيدمر كيانهم بتدمير قواعده، ولا ضرورة للحديث عن الصوت وغير الصوت. المقصود ميلان السقف على رؤوس أصحابه دون أن يشعروا فالصمت خير من الصوت لعدم الإشعار.
وأما قوله الكريم في سورة الإسراء:
قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً (108) وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109).
فمن الواضح أن العلماء الحقيقيين يخرون سجدا للأذقان وهو انحناء الرأس حتى الذقن إلى الصدر كمقدمة للبكاء. فالخر ساجدا هنا هو مشابه لخر أهل يوسف ساجدين وهو هز الرأس باتجاه الصدر برأيي والعلم عند الله تعالى. هذا الخر لا صوت فيه ولا معنى لإقرانه بالصوت إلا إذا أردنا إرضاء علماء اللغة تكريما لهم! ومثلها الآية 58 من سورة مريم.
ونقرأ من الآية 24 من سورة ص أكبر تأييد لعدم اقتران الخر بالصوت وذلك لأن الخر هناك مسبوق بالركوع لا بالسجود:
قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَىٰ نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ ٱلْخُلَطَآءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ إِلاَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَٱسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ.
وقال تعالى في سورة مريم: 90:
تَكَادُ ٱلسَّمَٰوَٰتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ ٱلأَرْضُ وَتَخِرُّ ٱلْجِبَالُ هَدّاً.
فلو فسرنا الهد بالسقوط فتكون الكلمة مكررة بدون إضافة معنى حيث أن الخر عندهم تعني السقوط. ولو فسرنا الهد بصوت السقوط فتعني بأن الخر لا يدل على الصوت وأراد الله تعالى أن يضيف الصوت إلى السقوط فأضاف الهد.
بقي أن نتحدث قليلا عن الآية 14 من سورة سبأ:
فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ ٱلْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَىٰ مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ ٱلْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ ٱلْغَيْبَ مَا لَبِثُواْ فِي ٱلْعَذَابِ ٱلْمُهِينِ.
يفسرون المنسأة بالعصا أو بعصا الرعاة الكبيرة الغليظة. فسيكون المعنى حسب رأيهم بأن سليمان كان متكئا على عصاه فمات دون أن يسقط. ثم جاءت الأرضة واجتمعت على أكل أسفل العصا حتى سقطت العصا وسقط معها سليمان.
دعنا نتصور المدة اللازمة للأرضة حتى تجتمع وتأكل أسفل العصا والتي قد تربو على أسابيع وأشهر. وفي هذه المدة يتلاشى بدن الميت ويتبخر أكثر الرطوبة الموجودة فيه فيتناقص وزنه كثيرا ولا يمكن أن يحدث سقوطه أي صوت. فكيف يمكن تفسير الخر بالسقوط مع الصوت في هذه الآية الكريمة؟ وليكن واضحا بأن تفسيرهم لهذه الآية غير دقيق وينطوي على كثير من الإشكالات العلمية.
نستخلص مما مضى بأن القرآن لم يذكر الخر للسقوط مع الصوت كما يبدو. نهاية الهامش 77.)
أحمد المُهري
تابع مركز #تطوير_الفقه_الاسلامي
https://www.facebook.com/Islamijurisprudence
ان كان لديكم الرغبة في الانضمام لمجموعة النقاش في المركز برجاء ارسال بريد الى :