قبس من تفسير سورة مريم – الدعاء المستجاب
قبس من تفسير سورة مريم
سمعنا جميعا بأن الرئيس الصيني شي في بداية ظهور الكورونا في الصين زار المسجد يطلب الدعاء. رأيت الفيلم واستمعت إلى ترجمة كلامه. قال مخاطبا المصلين: نحن اليوم في حالة حرجة ونحتاج إلى الدعاء.
تلك جملة لا ننتظرها عادة من شيوعي لا يؤمن بالله تعالى. فكما يبدو بأن الرئيس شي في أعماق قلبه يشعر بالله تعالى ويشعر بقوته القاهرة القادرة على فعل أي شيء ممكن ولذلك طلب الدعاء من المسلمين في مسجدهم.
ولو ننظر إلى نتائج الوباء حتى اليوم في الصين الذي يبلغ عدد سكانه 1400 مليون:
عدد المصابين: 81093؛ عدد المتوفين: 3270.
وأما في إيطاليا التي تبلغ نسمتها 60 مليونا فقط:
عدد المصابين 63927؛ وعدد المتوفين: 6077.
ولذلك يقولون بأن نسبة الإصابات في كل مليون شخص في الصين هي: 56 شخصا لكل مليون؛
وأما في إيطاليا فهي 1057 شخصا في كل مليون.
الأرقام خطيرة جدا في أوروبا ورقيقة جدا في الصين. ناهيك عما نسمعه من إحصاءات أحسبها غير صحيحة في بعض بلداننا التي لا تملك نظاما صحيحا مثل القارة العجوز. ولذلك أظن بأن التماس المساعدة من الله تعالى قد يكون معقولا لأن الإمكانات الطبيعية التي لدينا لا تكفي لمحاربة المرض بالسرعة التي نتوقعها تأسيا بما فعلوه في الصين. ولعلم من يريد أن يزداد علما فإن سورة مريم هي السورة التي تتحدث عن الدعاء وكيفية استجابتها. ولذلك سوف أرسل تباعا صفحات من تفسيري للسورة الكريمة لعلها تفيد أمتنا لتتعلم كيفية الدعاء المستجاب.
سورة مريم
بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
كهيعص ﴿1﴾
هذه السورة المباركة تتحدث عن الدعاء وعن كيفية الدعاء المضمون استجابتها من الرحمن سبحانه ليتعلم الناس كيف يرتبطوا بربهم الكريم ويطلبوا منه قضاء حوائجهم المعقولة مهما كانت مهمة أو غريبة. وبالنظر الممعن إلى ما تُشير إليها هذه الأحرف الخمسة التي فتح الله بها هذه المقطوعة الفنية البديعة من الكتاب الكريم وتطبيقها على القصص التي تفيض بها هذه السورة الكريمة، فإننا سوف نتعرف على سر كبير من أسرار استجابة الدعاء كما نتعرف على مجموعة من الأسرار والخبايا لحكايات الصالحين الذين انطووا في ثنايا الآيات البهية ليكونوا لنا نبراسا مشرقا نتعلم منهم التمسك بحبل الله والتشبث بأذيال رحمته وحده لا شريك له، ولا من يُفيدنا غيرُه سبحانه وتعالى. وكما نعرف بأن الأحرف تشير إلى كلمات تمس المفاهيم المدرجة في خبايا الآيات دون الكلمات والجمل، وبما أن السورة تبدأ بقصص الصالحين من الأنبياء فقط، فإن الحروف تشير إلى ما خفي علينا من مفاهيم مقصودة مع القصص الظاهرة.
ومما لا شك فيه بأن الكثير من المفسرين الذين لم يشتهر عنهم بأنهم فسروا الأحرف الفواتح، فإنهم قد فتشوا عما يتلاءم مع السورة من كلمات وردت داخل السورة نفسها فعجزوا عن الوصول إلى حقيقة المشار إليها في هذه الأحرف. ولعل هذا التفسير هو أول من يتناول الأحرف بجدية وعزم بإذنه سبحانه وتعالى، ولكن ليس من الممكن لأي إنسان لم يوحَ إليه مثل كاتب هذا الكتاب أن يجزم بمقصود الكتاب الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. فما أكتبه تعبير ظنيٌ أتمنى أن يكون قريبا جدا من الواقع وهو منطبق على سور أخرى ذُكر فيها بعض هذه الأحرف كما أوضحها في كل سورة بعينها بإذنه سبحانه. والعرب لا يُشيرون إلى الكلمات بفواتحها الحرفية إلا بعد إعادتها إلى أصولها، فلا يختارون حرف الميم للمضروب والمقتول بل يختارون الضاد والقاف باعتبار أن أصلي الكلمتين هما ضرب وقتل. والقرآن الكريم نازل بلغة العرب ولا يخالف أصول اللغة إلا بالتي هي أحسن أحيانا. ولِما في القرآن من قوة لغوية وبلاغية فإن علماء العربية مسلمين وغير مسلمين لم يبخلوا على المكتبة العربية بتصحيح المفاهيم النحوية والبلاغية على أساس القرآن أو بإضافة المضمون القرآني الجديد إلى اللغة الأم. مثالهما المسجِد بكسر الجيم المخالف للقاعدة بدل المسجَد بالفتح الموافق للقواعد النحوية، وكذلك الفاسق للمستهتر بالدين إضافة إلى خروج التمرة من غلافها وهو المعنى الأصلي للفسق.
وقبل أن يقرأ الباحث هذا المقطع من السورة فإني أنصحه بأن ينتقل إلى الآية التالية فيقرأ قصة زكريا بالكامل قبل أن يتعرف على تفسيري لفاتحة هذه السورة. فانتقل من هذا المكان إلى الآية الثانية إن شئت أخي وأختي.
الكلمات الخمسة المقصودة بهذه الأحرف برأيي المتواضع هي:
ك: الكتمان أو التكتم عن غير الله سبحانه؛
ه: والهمس بالقلب دون الجهر بالقول عند الطلب من رب العالمين؛
ي: واليقين بأنه سبحانه يسمع الطلب قطعا ويرد الجواب قطعا دون شك؛
ع: والاعتزال عن الناس ليتم به الانفراد بالله العزيز الحكيم؛
ص: والصبر بفيض ضد الشروط الزمانية والمكانية.
ولبيان ذلك نقول:
أولا) – الكتمان:
أما الكتمان فلأنه عامل أساسي لقضاء الحوائج وهو معروف في الأوساط البشرية وقد اشتهرت الجملة الحكيمة التي تكاد تكون حديثا نبويا: استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان. والكتمان من شروط الطلب المتعارف بين الناس فعلا، إذ ليس من شأن المهمة أن تقع على ألسن السامعين. الحاجة هي مقصودة نسبيا لكل شخص بعينه ولو أنها قد تصيب الآخرين أيضا. فالذي يطلب يد فتاة أو التي تتعلق نفسها بفتى فإنه يطلب ذلك إرضاء لنفسه لا للطرف المقابل الذي قد يكون غاضبا من هذا الطلب.
وقضاء الحاجة تتطلب مقدمة أخرى للتوفيق بين رأيي المطلوب والطالب قبل السعي لتحقق الحاجة. هذه الحقيقة تتنافى مع الجهر الذي قد يبطل مفعول السعي قبل بلوغ الغاية أو يخلق لدى الطرف المقابل شعورا بالمواجهة مع الطلب الذي لا ترتضيه نفسه بداية.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الطلب المقدم لشخص ثالث لتحقيقه قد لا يتناسب مع بقية شؤون الشخص الثالث الذي لا يُريد قضاء نفس الحاجة لشخص آخر. فما بالك بالطلب من رب العباد جميعا الذي لا يتخصص سبحانه بشخص دون شخص، بل هو ربهم جميعا دون تصور أي فرق في هذا الارتباط بين أي إنسان وربه مع إنسان آخر وربه مهما عظـُم أو صغُر شأن ذلك الموجود البشري. إنه سبحانه رب كل شيء بشخصه دون تصوره مع موجود آخر فهو رب الإنسان ألف بغض النظر عن كونه ابنا للإنسان باء أو أبا للإنسان جيم. ثم إن الكتمان دليل واضح على التعلق الشديد من المحتاج بالغني والاعتراف منه بالحقارة أمام الغني المتعالي وهو ما يتناسب مع شأن رب الكون العظيم مع عبد حقير لا أهمية في وجوده بالنسبة للغني القهار جل جلاله.
ثم إن محض وجود الإنسان الضعيف على أي حال وشدة حاجاته سببٌ لاستدرار الرحمة والرأفة من الرب الغني الكريم سبحانه، فالعطايا تنهال على كل شخص دعا ربه أو لم يدع، آمن أم لم يؤمن بالحقيقة المطلقة جل جلاله، استغفر أم لم يستغفر، وأخيرا استرضى ربه أم لم يسترضه سبحانه. هذا الموجود لو أراد المزيد من الرحمة التي تنزل لحظة بلحظة كالمطر لتقع في متناول يد الجميع، فإنما عليه بأن يتشبث بشكل خاص مُرضٍ لله تعالى؛ وما أجمل من أن يتشبث بحالة الذي يرى كل الأبواب موصدة أمامه إلا باب الله سبحانه أو يرفض التوسل بأي موجود غير الله تعالى فسيكون الكتمان دليلا على رفضه فضلَ كل محسن عدا ربه الكريم. ولمزيد من التأكيد بأنه لا يريد شيئا من أحد فإنه لا يُخبر أحدا بحاجته إطلاقا مهما كان الشخص قريبا منه أو قريبا من قلبه ورأيه عدا الغني الكريم سبحانه.
والذي يكتم أمره، فإنما هو الذي لا يقوم بأية حركة إعلامية ضد الله تعالى. ذلك لأن الذي يذكر حاجته وفقره لغير الله تعالى فإنما يقوم بدعاية مضادة للسيد المالك الذي هو ملتزم بسد حاجات عبيده مهما كبُرت رحمةً منه سبحانه وفضلاً. ونقلُ الحاجة إلى الغير ولو على سبيل السؤال بأن يدعو الله له مثلا، دليل على أن المالك غير مهتم بمملوكه أو غيرُ عالمٍ بحاجته والعياذ بالله. فالكتمان شاهد قوي على اهتمام العبد بإظهار كرم ربه الكريم فعلا وبأنه لا حاجة له حتى يلتمس من أحد أية مساعدة. إن الفقير الذي يُري الناس الغنى فإنه يقول لهم بأن الله تعالى كاف عبده وبأنه في استغنائه عن غير الله يُخبر الناس بأن ربه قد أفاض عليه ما يستحقه من الرحمة فمن يشعر بغير ذلك فإنه غافل عن الكريم الفياض جل جلاله وليس الله غافلا عنه أو مهملا له، حاش لله من ذلك.
ثانيا) – الهمس:
وهو من مظاهر الكتمان وشرط أساسي له. ألا ترى الذي يتحدث عن أمر ذي بال فإنه يُخفض صوته قليلا كأنه يريد أن يقول للمستمع: هذه مسألة مهمة فلا تفصح عنها لكل أحد. حتى كبار السياسيين يمارسون خفض الصوت في مقابلاتهم التلفزيونية أحيانا ولا شعوريا ليهمسوا بالأهمية في قلوب الناس دون أن يقولوا ذلك بأفواههم. وهو لغة الناس أمام ربهم عند الحساب حيث يقف الناس جميعا من كل اللغات ومختلف الأمم الذين عاشوا في الأرض من قبل، طيلة أكثر من عشرة آلاف سنة حيث تباينت مكوناتهم الاجتماعية فتباينت معها فهمهم للوحدات اللغوية كما تباينت استعمالاتهم لنفس اللغة كثيرا. فلا يُتصور أن يتحدثوا بلغة واحدة لعدم وجود تفاهم كامل لأية لغة بينهم واستحالة إمكانية بسط القسط السوي عليهم. وأما لغة القلوب فهي ليست من وضع البشر حتى تتغير بل هي لغة الفطرة التي فطر الله الناس عليها جميعا دون تمييز، ولذلك فلا تسمع يوم القيامة لغة ولا كلاما يخرج من الشفاه بل همس قلبي يبعثه القلب إلى القلوب كما تستلمه القلوب من قلب الناطق شاكيا أو مدافعا أو راجيا رحمةً ومغفرةً من القاضي الديان جل جلاله.
هناك يتحقق المعنى لنظرة رب العالمين جل جلاله الذي يُحرم الكفار منها ومن كلامه الصادق لأنهم عاجزون عن فهمها وتحسسها فضلا عن استحقاقهم المعدوم لها. كما قال سبحانه في آل عمران: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴿77﴾. وأما لحظة القضاء فإن عدالة السماء تقتضي إيجاد وسيلة للتفاهم بين المؤمن والفاسق أمام محكمة العدل الحقيقية بل محكمة القسط في الواقع الذي هو أدق بكثير من العدل. هذه الوسيلة هي الهمس بالقلوب دون الاستفادة من بقية الحواس الذي يفقد بعضَها الكافرون المشركون المخذولون يوم الحساب. سيعمي الله البعض أبصارَهم الفيزيائية أو يطمس على آذانهم حينما يخلقهم من جديد قبل الوقوف أمامه سبحانه فهم لا عين لهم ولا أذن ولا لسان ناطق بالنتيجة، ولكنهم أعضاء في المجتمع البشري الذي عاش مع الأنبياء والطيبين والصالحين فترة الحياة الدنيوية.
والإنسان يستعمل فكره وعقله ليحدث الناس بلغة يفهمها أكثرهم إذا أراد أن يُفصح عن مكنونات نفسه وليس أحد قادرا على أن يُفصح بكل المكنونات عن طريق اللسان. إن نسبة التفاهم باللسان لا يتعدى 7 – 10 بالمائة في أحسن الحالات وإذا أضفنا إليها الصورة فإنها تزيد المستمع الناظر فهما ولكن ليس بالكمال والتمام. وهذا هو السر في سوء التفاهم بين الصادقين أنفسهم. وبما أن الله تعالى قادر على تفعيل القلوب للتفاهم فلماذا لا يقوم به في يوم عدله وقسطه بين الناس والجن والملائكة معا على سواء؟ وسوف نزيد ذلك شرحا في سورة طه بإذن الله تعالى.
فالهمس هو اللغة التي يفضلها الله تعالى بينه وبين خلقه لأن المخلوق يقول بذلك حينما يُحدث ربه: {ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء (إبراهيم: 38)}. وهي دعاء أبينا إبراهيم أيضا. فرحم الله تعالى معلمنا وأبينا إبراهيم والحمد لله الذي نقل إلينا نماذج من همسات أبينا القلبية مع ربه لعلنا نتذكر أو نخشى. ليست العربية لغة إبراهيم ولكن الله تعالى كما أظن ترجم لنا همساته القلبية بلغة فهمها سلفنا ومن بينهم رسولنا الحبيب عليه السلام ورضي الله عن صحابته المحيطين به.
إنك حينما تكتم أمرك عن الناس فإنك لا تراعي الآخرين ولا تلاحظ وجودك بينهم ولا تعبأ بتعليقاتهم وملاحظاتهم عليك، بل تفرغ كل قلبك لله الذي وسع كل شيء رحمة وعلما. فهل هناك لغة أجمل من الهمس الذي يعرفه الله تعالى ولن يعرفه أحد غيره؟ ثم إنك بالهمس لا تحتاج إلى استحضار كل الصور في خيالك ليكون طلبك من ربك صادقا كاملا، إذ أن القلب الذي تستفيد منه لنقل التماسِك إلى رب العزة فإنه (القلب النفسي) أقرب إلى الله منك لأن الله تعالى يحول بين المرء وقلبه وهو القوي فسيكون قلبك بالطبع محاطا به سبحانه أكثر من أن تحيط به أنت بنفسك. فكل مكنونات القلب الحزين الذي يتذلل أمام الله تعالى واضحة لله ولا تحتاج إلى ذكر كل شيء ويمكنك الاكتفاء بالطلب حينما تناجي الله بقلبك. لو ترى بأن بعض الأنبياء والصالحين يتكلمون مع الله ويطيلون الكلام معه فإنهم يشعرون باللذة في مناجاة ربهم ولك أن تفعل ذلك وليس لهذه المناجاة أي تأثير في استجابة الدعاء. إنه يمتع الإنسان أكثر من أن يساعده على نقل التماسه لرب السماوات والأرض. فما أسرع من الهمسات لنقل الحاجات إلى قاضي الحاجات جل جلاله.
يتبع
أحمد المُهري
23/3/2020
#تطوير_الفقه_الاسلامي
مرحبا
مرحبا وهلا