الجنة ليست سبهللة ! حلقة 1
الجنة ليست سبهللة – حلقة 1
أظن بأن أحد أكبر أخطاء أصحاب الديانات السماوية هو أنهم يظنون بأن الجنة التي وعد المتقون يمكن اختصار الطريق إليها بحب الطيبين وبخدمة البشر أو القيام ببعض الأعمال الطيبة فحسب. لا أريد أن أناقش غير المسلمين في هذه المقولة ولذلك أبدأ بسورة الإسراء حيث يقول القدوس سبحانه: مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا (18). فمن يريد الحياة الدنيا فإن الأمر سهل جدا. يكفيه أن يريدها فإن الله تعالى وبحسب الحالة والزمان والمكان طبعا سوف يعجل له الحياة الجميلة الدنيوية ولا حظ له في الآخرة إلا النار.
لكن الذي يريد الآخرة فالأمر ليس سهلا، حيث يقول تعالى بعدها: وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا (19).
أولا: يريد الآخرة فلا آخرة بلا نية وإرادة جازمة.
ثانيا: يسعى للآخرة السعي المناسب لها.
ثالثا: يكون في كل ذلك مؤمنا بمعنى أن عقيدته بالله تعالى وباللقاء مع الله تكون موجهة له.
رابعا: أولئك يجزون بقدر سعيهم لا أكثر.
وبعد ذلك يوضح الله تعالى بأن عطاء الله تعالى متاح للجميع؛ سواء أرادوا الدنيا أو أرادوا الآخرة ولكن درجات الآخرة أكبر فيقول عز من قائل بعدها: كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُورًا (20) انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً (21). يذكِّرُنا ربنا بالتفضيلات الكبيرة في الآخرة ليؤكد لنا المجال الواسع هناك لإقامة العدل ومنح كل شخص بقدر ما يستحق. فليس أهل الجنة كلهم يحيون حياة مماثلة كما يتصور الجاهلون.
وبعدها تبدأ الآيات لكريمة ببيان شروط السعي للآخرة فتبدأ بأهم مسألة للمكلفين وهو توحيد العبادة. تلك المسألة التي من أجلها بعث الرسل كما أظن، فتقول: لاَّ تَجْعَل مَعَ اللّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولاً (22). الشرك بالله تعالى في العبادة هو ما يقفل على المرء أبواب الرحمة والهداية للآخرة تماما. ثم يوضح سبحانه متعلَّق العبادة. والعبادة تظهر بالحب الخاضع والشكر الخاضع والطاعة الخاضعة. ونقصد بالخضوع استشعار المنعم الحقيقي الذي هو وراء كل النعم وليس الذي ينعم علينا بصورة ظاهرية. لنعلم أن المالك وراء كل عطاء هو الله سبحانه الذي يخلق ويرزق وينعم. نحن نرى أبوينا الذين يمداننا بالمساعدة ويمنحاننا الرزق والعلم والتربية الصحيحة. فمتى ما عرفنا بأنهما وسيلتان خولهما الله تعالى لمساعدتنا ومنحهما القوة لذلك، وأدخل حبنا في قلبهما فنخضع في الحب والشكر والطاعة لله تعالى؛ هناك نكون راشدين.
ولذلك قال تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24). إن غالبية المؤمنين من كل الأديان السماوية والأرضية يظنون بوجوب طاعة الوالدين. الطاعة هي نوع من الخضوع ولو أتيت بها دون نقاش فأنت خضعت لمن أطعته خضوع عبادة. هذه الطاعة محرمة إلا لله تعالى. فلا طاعة لأحد ولا طاعة للوالدين. ثم يوضح لنا بالمثال أننا نطيع الله تعالى ونخضع له لأننا محتاجون إليه فكيف نطيع والدينا المحتاجين إلى إحساننا. نحن نحسن إليهما ونرحمهما وندعو الله تعالى بأن يرحمهما. لكننا لا نحسن إلى الله ولا نطلب رحمة لله تعالى. فالطاعة لله وليس للوالدين. من هنا يقفل الله تعالى كل الأبواب على الخضوع لأي موجود غير الله تعالى. فمن الواضح بأن الحديث عن الجنة يبدأ بالعبادة والعبادة في واقعها ليست عقيدة وإيمانا بل هي عمل نأتي بها وبدونها فلا ننتظر جنات النعيم. العبادة تمثل الخضوع الكامل في الحب والطاعة والشكر وكلها من مظاهر العبادة. أنت تقول شكرا لمن أنعم عليك، تقول له بلسانك وقد تحرك رأسك لإظهار الممنونية منه. فأنت تقوم بعمل ظاهري ولن تكتف بالشعور القلبي.
لا نريد تفسير السورة ولكنني وضحت ما فيه الحاجة. ثم نأتي إلى الآية الأخيرة في هذه المجموعة لنعلم بأن الصلاح والفساد ليستا واضحتين تماما لنا. حديث القرآن عن صلاح القلوب وفساد القلوب وهما واضحان لله تعالى فيقول سبحانه: رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا (25). فالصلاح حالة نفسية وليس عملا نقوم به. حالة نفسية حينما نقوم بالعمل. لكن العمل الطيب أو الصالح دليل على سلامة النفس فقط. فلنسع لفهم الصالحات أو الأعمال الصالحة. ونقدم لذلك أمرين أساسيين.
الأمر الأول:
لا شك بأن الله تعالى الذي وعد المؤمنين الذين يقومون بعمل صالح يرضاه، جنات النعيم. قال تعالى في سورة الأحقاف: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (14) وَوَصَّيْنَا الإنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (16).
اسمحوا لي بأن أوضح مقدمة مسألة خفيت على كثير من مفسرينا مع الأسف. تلك هي مسألة مدة الحمل. كلنا نعرف اليوم علميا بأن مدة الحمل هي تسعة أشهر وليست أقل من ذلك. والقرآن عين مدة الفصال سنتين فيكون المجموع ثلاثة وثلاثون شهرا. قال تعالى في سورة لقمان: وَوَصَّيْنَا الإنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14). الوهن تعني كما أظن الضعف في العزيمة أو ما يقابل العزيمة ولا تعني الضعف بصورة عامة. قال تعالى في سورة آل عمران: وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146). الوهن هنا معطوف على الضعف فهما ليسا مترادفين. هناك بعض التباين بينهما ولو أنهما من جنس واحد. فأظن بأن التباين بينهما هو أن الوهن نوع من الضعف وليس كل الضعف. ويمكن اعتبار الضعف أعم من الوهن فلا تضاد بينهما طبعا.
فالوهن في آية آل عمران أعلاه تعني ضعف العزيمة كما أن الوهن في الآية التالية من سورة مريم تعني ضعف ما يُنتظر من العظم وليس ضعفا حقيقيا في العظام: قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4). العظام تبقى قوية فترة طويلة بعد وفاة الإنسان ولكنها تنقص نشاطا حينما يكبر المرء والعلم عند الله تعالى.
واما الكره فهي عين الضعف ولكن مع المشقة. فبمجرد أن تحمل المرأة فإن الضعف مساوق لها لكنها لا تشعر بالمشقة والتعب إلا بعد ثلاث شهور كما أظن. هناك كائن جديد ليس من جنسها دخل بدنها وبدأ يقوم بنشاط كبير فمما لا شك فيه بأن هناك سهما غير قليل من مزايا ما يتحلل في بدنها من طعام وشراب يختص بالصناعة الجديدة ولذلك فهناك ضعف طبيعي ولكن المحبة والفرحة بمن سيأتي قد يبعدها عن الشعور بأي كره أو تعب.
يهمني في الآية الكريمة من سورة الأحقاف هذه الجملة: وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ. فالعمل الصالح مقيد برضا الله تعالى وليس عاما ليفسره كل منا حسب رأيه.
الأمر الثاني:
كل الكتب التي تتحدث عن المواضيع العلمية الدقيقة فإنها تنطوي على بيان المصطلحات والمعروف بين المهتمين بـ (Glossary). تلك الكلمة مساوق للكود وتعني المصطلحات. ذلك لأن كل مجموعة من الناس وكذلك من ذوي الشؤون العلمية التخصصية وأصحاب المهارات والسياسيين والصحفيين وما شابههم من مجموعات فإنهم يستعملون بعض الكلمات اللغوية كمصطلح يدل على جمل ومفاهيم. هي كلمة في اللغة ومصطلح في الكتاب الخاص أو بين أصحاب الشأن. والقرآن ليس بعيدا عن استعمال المصطلحات. لكن الله تعالى لم يضع لكتابه قائمة بالمصطلحات. ولعل السبب هو أن الذين يحق لهم استعمال القرآن هم كل الناس بمختلف فئاتهم العلمية والفنية والعمرية في كل زمان وكل مكان. فكل مجموعة من الناس يعرف معنى المصطلح القرآني حسب إدراكه العام للكتاب السماوي.
أرجو ألا ينزعج مني المؤمنون. لا يمكن أن نظن بأن محمد بن عبد الله عليه السلام وصحابته قد عرفوا القرآن بقدر ما نعرفه نحن اليوم بعد أن تطورت البشرية خلال خمسة عشر قرنا. وأظن بأن هذا هو السبب في أن الله تعالى لم يصن فهم الرسول ولا تفسيره لقومه. لكن فهمه عليه السلام للعبادات الواجبة وما في حكمها هو فهم كامل ولذلك فمن واجبنا أن نتعرف على فهمه للصلاة والحج وكل العبادات التقليدية المعروفة لنأتي بها كما أتى بها إمامنا الأكبر. لقد صان الله تعالى كل الأعمال العبادية الواجبة عمليا عن طريق المسلمين وليس عن طريق الذين يظنون بأنهم علماء الدين.
كنت في بداية سعيي لتفسير القرآن أشعر باللهفة الشديدة لتفسير الرسول عليه السلام. كنت ولا زلت أشعر بالحزن لخلو المكتبة العربية من فهم رسولنا لما أنزل الله تعالى على قلبه الشريف لنا جميعا. لكنني اليوم لو عثرت على ذلك الكتاب الخيالي فسوف أحتفظ به لنفسي لأستمتع به فقط ولن أنشره بين الناس لأنه يضرهم. ولذلك فليس من المفيد أن يجعل الله تعالى ملحقا قرآنيا لبيان المصطلحات. نحن علينا أن نفعل ذلك لمجموعة خاصة ولزمان ومكان معين فقط. ولقد وضحت في دروس التفسير بعض المصطلحات مثل: الإرادة، المشيئة، الخلق، العبادة، الطاعة، الحكم، النور وغيرها. والعمل الصالح مصطلح قرآني لا يمكن فهمه بدون السعي الحثيث طيات كل الآيات التي تتحدث عن ذلك. لا مانع من أن نضع بيانا لمصطلح قرآني ولكن يجب أن نستند على القرآن نفسه. فلا يمكننا معرفة المصطلحات بما يحلو لنا، بل بما يمليه علينا القرآن نفسه.
يتبع….
أحمد المُهري
#تطوير_الفقه_الاسلامي