المؤمنة كاترين – 38 – العهد الطبيعي بين الخالق والخلق
المؤمنة كاترين
المقطع الثامن والثلاثون
(38) العهد الطبيعي بين الخالق والخلق
أمضى علوي وكاترين أسبوع عسل عوضا عن شهر العسل في الكويت نظرا لأن زيد ولبيد كانا في الروضة وكانت إجازة الزواج لديهما قصيرة جدا.
تعطلت الاعتمادات المستندية كثيرا وأصاب البنك عطب شديد من تلك الناحية. شعرت إدارة البنك بأن علوي وكاترين شخصان مهمان للبنك. كان الإشكال الكبير في مراجعة الإعتمادات المستندية التي كانت من اختصاصات كاترين. اضطر أحد المدراء بأن يذهب لمساعدة الرئيس المؤقت للاعتمادات المستندية. انتهى أسبوع العسل وعاد الزوجان إلى عملهما في البنك. أراد علوي أن يذهب للإدارة ولكن الاعتمادات غير المنتهية كانت كثيرة واضطر هو لمساعدة كاترين في التصحيح. تمكنا معا خلال عدة ساعات من إكمال القسم الأكبر من الاعتمادات وإرسالها إلى المصدرين. ذهب علوي حوالي الظهر إلى المدير العام ليسلم عليه.
علوي:
عزيزي هولنجزورث أتيت لأسلم عليك وأخبرك بأنني تزوجت مع كاترين فأرجو نقل أحدنا من قسم الاعتمادات المستندية إذ ليس صحيحا أن يعمل زوجان في دائرة واحدة.
هولنجزورث:
عزيزي علوي لا أرى اليوم أن أقوم بأي تغيير في دائرتك. نحن نثق بك وبكاترين ولا مانع لأن تعملا معا. ولقد قمت بترفيع رتبتك وكاترين درجة أعلى وأتمنى أن يكون ذلك مشجعا لكما للبقاء على نفس النشاط الذي عودتمانا عليه.
علوي:
شكرا عزيزي ولكن أخاف أن يعترض أحد علينا.
هولنجزورث:
سوف أبلغ مجلس الإدارة بذلك وليس هناك من يعترض بعدهم. لكنني أرجو عدم المساس بدائرتك. أما رأيت كومة الاعتمادات التي لم يتمكن الذين قاموا مقامكما بإكمالها بالسرعة المطلوبة؟
وبعد العودة من زيارة المدير طلب علوي كاترين وزملاءه في القسم في نهاية العمل الرسمي وإقفال أبواب المراجعين ليجتمع معهم.
علوي:
تعلمون بالتغيير الذي حصل في العلاقات بيني وبين كاترين فقد ارتقت إلى علاقات لا تناسب العمل المشترك في البنك. ولقد طلبت من السيد هولنجزورث أن ينقل أحدنا إلى دائرة أخرى في البنك ولكنه رفض بحجة أن الدائرة في الوضع الفعلي خير من تغييرها وطلب مني البقاء مع كاترين في نفس الدائرة. ليس لي إلا الامتثال لأوامر الإدارة كما أنني وكاترين حريصان على أن تبقى دائرة الاعتمادات المستندية شفافة وفعالة. لقد تربينا مع هذه الدائرة ونحبها فعلا ولكنني بحاجة إلى من يساعدني ضد من يعترض على وجود زوجين في دائرة واحدة.
ساترين:
أنا ولعل كل الزميلات والزملاء مع قرار السيد المدير العام. ليس لأننا نحب كاترين وعلوي بل لأننا نحب عملنا أيضا. لقد رأينا ما أصاب الدائرة في غيابكما من شلل واضح وقد ساعدنا المسؤولون الجدد بكل إخلاص حتى لا تتوقف أعمال دائرتنا ولكن هذا كل ما قدرنا فعله. أنا سعيدة بأن أرى كل الاعتمادات المتأخرة أرسلت اليوم وأكره أن أرى الشلل مرة أخرى في بنكنا الذي عشنا معه منذ فترة غير قصيرة.
كاترين:
أنا محتارة. فأنا مع علوي وأكره أن أخالف السيد هولنجزورث فهو مدير نشط وعلى مستوى كبير من المعرفة البنكية. سوف أبقى نشطة كما كنت في السابق وسوف يبقى علوي رئيسي في الدائرة وزوجي خارج البنك. ولكن الناس سوف يتحدثون ضدنا وضد البنك وعلوي شديد التأثر من أقوال الناس.
سارا:
الناس صنفان بالنسبة لنا: صنف يريد أن يتحدث ضد البنك لأن مصالحه مع البنوك الأخرى ولا يمكننا أن نقنعه فهو يريد أن يرى البنك المدني مطعونا فيه. وصنف آخر يمثل عملاء البنك وهم يريدون أن يروا طلباتهم ميسورة ومنفذة وسوف يرون ذلك. ولذلك فسوف يكونون من الذين يدافعون عنا وعن البنك المدني. فلماذا التخوف؟ لعل ذلك من الوسواس أو من الاحتياط الزائد الذي نراه دائما في أخينا علوي. نحن نحبه لأنه شديد الحرص ولا نريد أن يتغير ولكن ما يهمني هو أن يستمر في عمله كما كان وسوف يرى منا ما رآه من قبل من نشاط واضح في تسيير معاملات الناس. وأما كاترين فأنا واثقة من أنها سوف تقوم بعملها كما كان ولعلها تجتهد أكثر من ذي قبل لأنها فرحانة بأنها تزوجت ممن تحبه.
لكنني أرجو منها ومن علوي أن يسعيا لتعليم الآخرين كيفية العمل فإنهما سوف يسافران مشتركا في المستقبل ولا نريد أن يحرما أنفسهما من المشاركة الضرورية في إجازاتهما.
كاترين:
أما أنا فمن ساعة دخولي البنك ومشاهدتي كومة الاعتمادات المتأخرة نويت أن أقوم بما اقترحته سارا. ليس صحيحا أن يتعطل العمل بغياب شخص أو شخصين أو يصاب بالشلل. وأظن بأن علوي سيقوم بدوره في تعليم وتدريب أحد الزملاء أو الزميلات للنيابة عنه في غيابه.
علوي:
إذن، نتوكل على الله تعالى ونستمر حتى يشاء ربنا أمرا آخر.
توم:
ومتى موعد الجلسة القادمة ومكانها؟
كاترين:
سوف أتفق مع ماري والعم أبي سحيم والعم محمود وأبلغكم قريبا بإذن الرحمن.
وفي المساء تحدثت كاترين مع ماري حول الجلسة القادمة وأقنعتها بأن تكون الجلسة في بيت أبي سحيم لأنها ستكون مشغولة بتوديع إيمانيويل وماكسيم وترتيب بيتها الجديد.
اتصلت كاترين بالعم أبي سحيم بالهاتف.
أبو سحيم:
هلو نعم.
كاترين:
أنا كاترين يا عم سلام عليكم، كيف حالكم؟
أبو سحيم:
عليكم السلام كاترين، أنا بخير وأنا وأم سحيم لا زلنا نذكرك أنت وعلوي ونتمنى من كل قلبنا لكما مستقبلا مشرقا. وهكذا أولادنا الذين دخلتما شغاف قلوبهم فهم فعلا يحبونكما.
كاترين:
شكرا يا عم. أنا فعلا شاكرة لك وللخالة أم سحيم ولا أدري كيف أرد الجميل. لكنكما بالنسبة لنا تمارسان الأبوة والأمومة ولا تمارسان الصداقة. فليس لنا إلا الشكر دون أن نفكر في رد الجميل. اتصلت معك لأرى رأيك في الجلسة المقبلة فهل تريد أن تكون في بيتك أم تفضل الجلسة التالية؟
أبو سحيم:
أولا لا تفكري إطلاقا إلا في أن تكوني راضية علينا. نحن نؤدي واجبنا تجاه الطيبين الذين نحبهم. وأما بالنسبة للجلسة فسأكون شاكرا لو تبدأوا ببيتي.
كاترين:
وهذا هو الأفضل برأيي لأن ماري لا زالت تستعد للاستقرار في بيتها الجديد. ثم إنني أرجوك أن تقنع خالتي أم سحيم بأن تختصر الجلسة بالشاي والماء وسندويتشات خفيفة فقط. العم محمود التمار مصر على اختصار المأكل والمشرب في الجلسات العلمية.
أبو سحيم:
لك ذلك.
كاترين:
شكرا، تحياتي وأرجو إبلاغ سلامي وحبي للجميع ولا سيما خالتي.
وفي اليوم الموعود طلبت أم سحيم مجموعة من سندويتشات السمك والقريدس والخضروات من مطعم Pret A Manger في منطقة النقرة. كما أعدت الشاي وقليلا من الفواكه استعدادا للجلسة.
وفي الساعة المحددة حضر الجميع كما حضر أولاد أبي سحيم وأم سحيم ليروا العروسة من جديد.
محمود:
نبدأ باسم الله تعالى. ومقدمة أشكر أخي أبا سحيم وقرينته الفاضلة على استضافة الجلسة في بيتهما. حديثنا كان عن الحكم التي ذكرها الله تعالى في سورة الإسراء.
7و8.
وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً (34). اليتيم هو الذي يعيش منفردا وقد اشتهر إطلاق اللفظة على فاقدي الأبوين. وهو تخصيص غير دقيق في واقعه. فاليتيم قد يكون فاقد الأبوين وقد يكون فاقداً القدرة على الكسب وقد يكون فتاة أو امرأة تعيش لوحدها في مكان ولا قدرة لها على حفظ المال.
تعلمون بأن العرب يسمون الحجارة الكريمة التي تنقطع نظائرها باليتيمة. هناك في المتاحف الكبرى اليوم قطعا من الماس وقطعا من العقيق واللؤلؤ والفيروز وغيرها من التي تكون فريدة في العالم كما يظنون فيسمونها الدرة أو الماسة اليتيمة.
فاليتيم من البشر هو كل إنسان عاجز عن إعالة نفسه سواء كان يملك ثروة أو لا يملك وسواء كان أو كانت صغيرة أو كبيرة. فمن حق اليتيم على المجتمع أن يصون ماله أو مالها كما أن من حق الذي يقوم بعمل الصيانة والحفظ أن يأخذ حقه من مال اليتيم مقابل حمايته له أو لها. والخطاب الجمعي هو باعتبار المجتمع الإنساني الذي يتحمل مسؤوليات تجاه الأمة البشرية التي تعيش معا. فمن واجب المجتمع أن يساعد اليتيم ويحفظ ماله ومن واجب الدولة إن وجدت أن يراعي اليتامى عامة حتى تطمئن بأن المجتمع بجمعه يشعر بالراحة والطمأنينة. وبلوغ الأشد يكون بالنسبة للغالبية بلوغ الرشد الاقتصادي والرشد العقلي وبالنسبة للبعض بلوغ الرشد السني فلا يجوز التفريط بمال اليتيم لو كان قاصرا بأي نوع من أنواع القصور. ذلك هو من الحكم القرآنية التي جاءت على شكل وصايا.
والعهد في هذه الآية الكريمة عام يشمل كل عهد يقوم به المرء سواء عن طريق الطبيعة أو بالتعهدات التي يقرها فرد تجاه فرد أو أفراد آخرين. والعهد الطبيعي هو العهد الذي تفرضه قوانين الطبيعة على كل إنسان. فمن واجب الجائع أن يأكل والعطشان أن يشرب والشاب المقتدر أن يتزوج أو تتزوج حتى لا يتوقف المجتمع عن العطاء وعن التكاثر الضروري لاستمرار الحياة في الكوكب الذي يعيشون فيه. وهناك عهد طبيعي مذكور في القرآن يساعدنا على فهم الفطرة الإنسانية. الفطرة الإنسانية تعني الحالة التي خلقنا الله تعالى عليها وعلى أساسها منحنا العقل والقدرة الفكرية والقدرة على التدبير والتأمل وفهم ما لا نراه وتحليل ما لا يمكننا أن نلمسه.
نعرف بصورة طبيعية بأننا لم نكن الأول بل لنا بداية. البداية لم تبدأ بالأب الأول بل بدأت بالوجود الأول. ذلك الوجود لم يكن واجبا بل كان ممكنا فأوجده الخالق العظيم عز اسمه. نحن بصفتنا آباء أو أمهات نربي نتاجنا على الحب والإحسان لنراهم أناسا طيبين مفيدين لمجتمعهم ولأنفسهم ولمن سوف يعيلونهم بالمستقبل. والله تعالى أيضا بصفته ربا حكيما فإنه بصورة طبيعية يجعل بعض الصفات الضرورية في كياننا ومنها الشعور بالخالق وكذلك الحاجة إلى الأنبياء وهما مذكوران في القرآن الكريم. قال تعالى في سورة الأعراف: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174).
ليس سهلا أن نتعرف على الوجود الممكن الأول. بل ليس واضحا بأن هناك وجود ممكن أم وجودات ممكنة أوجدها الله تعالى بداية دفعة واحدة. وليس مهما أن نعرف ذلك لأننا نتاج مجموعة كبيرة من الطفرات الجينية. إحدى هذه الطفرات كانت إيذانا بظهور الإنسان في كوكب الأرض التي نعيشها. هناك خلية لدى الأب الأول وهو ليس آدم طبعا بل أقصد آخرَ حيوان انحدرنا منه. قال تعالى في سورة البلد: لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2) وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسَانَ فِي كَبَدٍ (4). إنه والد آدم. إنه حمل الخلية القادرة على إنجاب إنسان داخل رحم أم آدم. والآيات تحدثنا بأن أول إنسان وُجد في مكة وأنه كان في خلية أو في كبد. ليس لنا علم بأم آدم. لكن لا شك أن له أم. ولا ننس بأنه وحواء كانا في بطن واحد وكانا توأمين. قال تعالى في سورة المؤمنون: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسَانَ مِن سُلالَةٍ مِّن طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14).
فالإنسان ليس خلقا أوليا بل هو مخلوق ضمن سلالة بدأت من طين. العظام هنا ليست العظام المعروفة بل هي قطعة صلبة نسبيا وشبيهة بالعظم وهناك كروموزومات من البروتئين ملتصقة بعظمتين داخل كل خلية وأظن بأن المقصود من اللحم في الآية هو البروتئين. فالخلية الأولى أصبحت خليتين حينما انفصلت الجينات من حامليتها التي اعتبرناهما عظمتين واختلطا ببعضها البعض لتصير مضغة ثم تكونت خليتان منها للتوأمين. فالعظام في النتاج أصبحت أربعة ثم أنشأ الله تعالى منها الإنسان بشقيه الذكر والأنثى.
قال تعالى في سورة آل عمران: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ (59). وجه تماثل عيسى هو أنه عليه السلام بدأ خلية أنثوية لأن السيدة العذراء لم تكن حاملة الكروموزوم الذكري XY، بل كانت كلها XX. هذا ما فعله الروح القدس حيث حول خلية واحدة أنثوية إلى خلية ثنائية ذكورية تحمل كلا الكروموزومين. وآدم كان أنثى أيضا لأنه مع حواء كانا توأمين متشابهين Identical.
الذي حصل كما أظن هو أن الخلية الثنائية الجديدة وقبل أن تتنشط للقيام بالتعديل الجيني فإن الروح القدس بعد قيامه بالتغييرات الكروموزومية منح المقطع الخاص بآدم نفسا إنسانية عن طريق الروح السماوي. الروح هو طاقة أو نور إلهي مباشر لخلق النفس الإنسانية. بدأ بآدم لأن مشكلة النفس هي أن القائم بصناعته نورٌ سماوي لا يتراجع إلى الوراء. لكنه مستعد للتقدم تبعا لسياسة رب العالمين سبحانه وتعالى في خلقه ليُحسن كل شيء. والأنثى أكثر تقدما وتطورا من الذكر. الأنثى تحمل الرحم وتحمل القدرة على صناعة الحليب والذكر يفقدهما. فإذا أودع الروح الخلاقة في الأنثى فهو لن يتراجع إلى الوراء ليخلق نفسا أقل تطورا من الأنثى. هذا هو السبب أن الروح ينتقل دائما من الذكر إلى الأنثى. والعلم عند المولى عز وجل.
قال تعالى في سورة الحجر: فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ (29). التسوية تعني صناعة النفس، والروح السماوي هو القوة القائمة بتلك الصناعة. ثم انتقل الروح من خلية آدم إلى خلية حواء لصناعة النفس الإنسانية. بالطبع حصل ذلك الانتقال حينما كانت الخليتان في خلية واحدة قبل أن تنفصلا إلى خليتين. قال تعالى في سورة النساء: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1). فهو سبحانه خلقنا جميعا من تلك النفس وهكذا أضحت حواء وآدم يحبان بعضهما البعض بصورة طبيعية لأنهما من روح سماوي واحد. ثم توالت العملية حتى يومنا هذا وسوف تعمل بنفس الترتيب حتى نهاية الخلق الإنساني في كوكب الأرض والعلم عند المولى عز شأنه.
علوي:
أين العهد الطبيعي يا عم؟
محمود:
سوف أشرحه الآن بإذن ربي. قال تعالى في سورة الأعراف: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174). بالطبع أن الموضوع بحاجة إلى بحث مفصل يصعب اختصاره، ولذلك سوف أتحدث عن أمهات المسائل فيه فقط.
تعلمون بأننا نُصنع من خلايا أحادية قادمة من أصلاب آبائنا وتجتمع واحدة منها مع بويضة أحادية أيضا من بويضات أمهاتنا. هاتان الخليتان الأحاديتان تجتمعان معا وتشكلان خلية ثنائية جديدة داخل قشرة البويضة الأساسية ثم تقوم الخلية الثنائية الجديدة بتصوير نفسها لتخلق خلية ثنائية جديدة أخرى وهكذا تتكاثر الخلايا لتقوم كل مجموعة بصناعة جانب أو جهاز من جوانب وأجهزة أبداننا. فالآية الكريمة لا تتحدث عن النفس بل عن البدن في الواقع. ولكن لا ننس بأن البدن الإنساني على أنه دون مستوى النفس لكنه كائن معقد جدا. العلوم الحديثة تمكنت من الوصول إلى بعض أعماق الخلايا وعلى أساسها طورت الفهم العلمي للبدن وابتكر علاجات جديدة لمختلف الأمراض ولا سيما الأمراض الوراثية.
وحينما نقول الأمراض الوراثية فنحن نعني بأن الخلية المريضة تنقل صفاتها ومزاياها إلى الخلايا الجديدة فيبقى المرض الجيني ملازما للإنسان. لا ينكر القرآن ذلك ولكنه يضيف بأن هناك أفكارا وعقائد تنتقل مع الخلايا القادمة من الأب إلى بويضة الأم وتؤثر في الإنسان الجديد. ولا ننس بأن بويضات الأم تُصنع في فترة محدودة في سن البلوغ وتُحفظ في المبيض طيلة عمر الأنثى فلا تتأثر بأفكار صاحبتها ولا بأعمالها ولذلك قال سبحانه عند تحليل الموضوع: إنما أشرك آباؤنا من قبل؛ ولم يضف عليها الأمهات. فالصفات التي نراها في أولادنا ليست كلها من آثار التربية بل بعضها منقولات من أصلاب آبائهم. وأما انتقال بعض صفات الأم إلى المولود الجديد هو بسبب جيني أيضا ولكن آثارها غالبا ما تكون في التكوين البدني وليس في التكوين النفسي. بالطبع أن الكائن النفسي مصنوع متساويا مع البدن فهي فقط بهذا الحد تتأثر ببعض صفات الأم. لكن العقائد كما يبدو كلها يمكن أن تنتقل من الأب والفصل من الثنائية إلى الأحادية يحول دون ذلك. والعلم عند سيدنا عز اسمه.
الآية الكريمة الأولى في بدايتها تشير إلى الخلية الأحادية التي نسميها الحيمن أو الحيوان المنوي. كل رجل بعد سن البلوغ يصنع مجموعة من الخلايا الأحادية يوميا. الخلايا الأحادية تمتاز عن الخلايا الأساسية بأنها تنطوي على مجموعة كروموزومية واحدة فهي إما خلية ذكورية أو خلية أنثوية. لكن الخلايا في الأساس تحمل المجوعتين. هذا يعني بأن الحيمن عبارة عن نصف خلية وليست خلية كاملة. فالخلية الثنائية العادية تنتصف أحيانا لتخلف خليتين أحاديتين بدلا عن خلية واحدة ثنائية. حينما تنتصف الخلية بهذا الشكل فإنها تفقد بعض الخواص الموجودة داخل الخلية فكل واحدة منهما ليست خلية تحمل كل الصفات.
لم يثبت العلم هذه الحقيقة بعد ولعله يعجز عن إثباته في المستقبل؛ إنما نعرف ذلك من القرآن الكريم فقط. الذرية تعني المخلوقات الصغيرة جدا (ذرة) التي تمثل بدايتنا قبل أن ننتقل إلى بويضات أمهاتنا. نحن نعرف من القرآن الكريم بأن الخلية ليست فقط ما نراه من جينات بل هي تحمل الكثير من الصفات التي تخلق شخصياتنا. لاحظوا تين الآيتين الكريمتين من سورة ق: أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ (4). ما الذي تنقصه منا الأرض؟ نحن سوف نُبعث بنفوسنا وسوف يخلق الله تعالى لنا أبدانا جديدة لا علاقة لها بهذه الأرض. حينما نموت فإن كامل البدن يتلاشى تحت الأرض أو بفعل الأرض حتى لو احترقنا. فما فائدة الآية الكريمة إذن. الحقيقة أن جيناتنا هي التي تمثل أبداننا ونحن نحتاج إليها حينما يريد ربنا أن يبدلنا بدنا آخر يوم البعث. لولا ذلك فسنكون نفسا ذا بدن مغاير لأبداننا الدنيوية وسوف لا نكون نفس الشخص بدنيا ونفسيا. والله تعالى يرد على الذين قالوا لو متنا وتحولنا إلى تراب فسوف يخلق ربنا بدنا آخر لا يمثلنا تمثيلا كاملا. يرد عليهم ربنا بأن أبداننا تتجدد دائما فالإنسان في طفولته مغاير له في كهولته. لكنه نفسه من حيث الكودات الجينية التي تمثله فقط. هذه الكودات ليست مادية وإنما هي أرقام رياضية تحتفظ بها الخلية حينما تتكاثر لتخلق على أساسها خلية أو خلايا جديدة. حتى التصوير المذكور في القرآن (يصوركم في الأرحام) فهو عملية تكثير للخلايا التي تقوم بعملها بالتصوير فعلا. هو تصوير عددي ديجيتالي في واقعه. فالكتاب الحفيظ هو أرقام تركيبات الخلية التي تحتفظ بها الملائكة احتمالا ليودعوها من جديد في كياننا. هي التي تقوم بتبديل خلية نباتية إلى خلية حيوانية تمثلنا لتكون مستوية مع نفوسنا.
فالخلية تحمل بعض صفاتنا أيضا بصورة رقمية فلننظر ما الذي يحصل حين صناعة الخلايا الأحادية. مما لا شك فيه أن بعض الصفات تنتقل إلى الخلية الأحادية لتكِّون حقيقتنا الجديدة كأبناء لآبائنا. الآية الكريمة الأولى تتحدث بلسان حال الخلية الأحادية. الخلية الأحادية نظيفة من الشرك بمعنى أنها لا تنقل الصفات الرديئة التي اكتسبها الأب جراء بعض أعماله السيئة ولذلك تعود إلى حالتها الطبيعية كما خلقها الله تعالى على أحسن تقويم من البداية. هي الحالة الأولى التي خلق عليها الإنسان الأول. هلا سمعتم بأن القرآن الكريم يهتم كثيرا ببدن آدم وزوجه قبل أن يظهر اهتمامه بالنفس التي يخلقها الله تعالى للإنسان بعد تلاقي مقومات البدن. الخلق في واقعه يعني خلق البدن ولكن الله تعالى يخلق النفس عن طريق أخرى يسميها التسوية. ونفس وما سواها. الذي خلقك فسواك فعدلك. الخلق هو ارتباط الحيمن بالبويضة والتسوية هي صناعة النفس والتعديل هو التعديل الجيني الأول في الخلية الأولى لكل طفل جديد.
فيقول ربنا بأن عملية فصل الخلية من ثنائية إلى أحادية تفقدها كل ما تعلق بها من شركيات تخص صاحبها جراء أفكاره وأعماله. ولذلك يقول سبحانه بعدها بأنه أخبرنا بهذا حتى لا نقول بأننا كنا غافلين عن هذه العملية ولا نقول بأننا متأثرون بشرك آبائنا فليس عدلا أن يحاكمنا ربنا على أساس ما ورثناه من آبائنا المشركين. وأكبر دليل على صحة الآية هو صحابة النبي الذين انحدروا فعلا من أرحام المشركين وتركوا شرك آبائهم بسهولة. ذلك يعني بأن الشرك لم يكن ملتصقا بخلاياهم بل كان عرضا كسبوه هم بأنفسهم جراء التربية في بيوت المشركين.
هذا باختصار معنى الآيات الكريمة. وهذا هو العهد الطبيعي الذي يشير إليه القرآن الكريم في عدة آيات منها:
1. سورة الإسراء: وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً (34). فحماية اليتيم مسألة طبيعية ترتبط بالعهد الإنساني الأول ولا نحتاج معه إلى تشريع.
2. سورة يس: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن ّلا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (60) وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ (61). ذلك هو العهد الطبيعي حين فصلنا من خلايا آبائنا الثنائية.
3. سورة البقرة: الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27) كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28). العهد تم حينما كنا أمواتا بمعنى لم نكن شيئا مذكورا. كنا في أصلاب آبائنا خلايا بسيطة. وما أمر الله تعالى به أن يوصل ليس هو صلة الأرحام كما قال المفسرون فهو عمل طيب ولكن الآية لا تدل عليه بل هو العهد الطبيعي ألا نشرك بالله بمعنى لا نعصي الله تعالى. والصلاة ليست هي الصلاة التقليدية بل هي الصلاة التي يجب أن نبقى عليها دائما؛ لكن الصلاة التقليدية عملية عبادية نأتي بها لنتذكر الله تعالى عدة مرات يوميا. قال تعالى في سورة المعارج: الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ (23). وأما الصلاة اليومية فهي مذكورة بعدها: وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34). وهما موضحتان في سورة المؤمنون أيضا.
علوي:
شكرا يا عم ولكنني أظن بأننا جميعا نحتاج إلى تكرار مستقبلي لنتذكر فالاختصار لم يكن كافيا لتنطبع المسألة في أذهاننا.
ماري:
لا أظن بأن التكرار يكفينا فهناك الكثير من المواضيع التي نحتاج معها إلى مزيد من العلم.
كاترين:
ذرونا نفكر في هذا القدر حينما نخرج من الجلسة ثم نفكر في التكرار أو المزيد من البيان.
لطيفة ابنة أبي سحيم:
أما أنا فقد عرفت منها الكثير والحمد لله وبالطبع أحتاج إلى المزيد أيضا.
محمود:
لطيفة، هل أنت تدرسين هندسة الجينات في الجامعة؟
لطيفة:
نعم، يا عم أنا أدرس في لندن مادة ال Genetics.
أم سحيم:
الحمد لله تعالى أن منحني ابنة تعلم ما قيل فلعلها تساعدني فيما بعد لأنني ما عرفت شيئا مما قيل.
لطيفة:
يا ماما يمكنك أن تعرفين الله تعالى بالنظر والتعمق في النجوم العظيمة أو بالتعمق في الجينات عموما ولا سيما جينات الإنسان البالغة التعقيد. لا يمكن أن نتصور هذا الكائن الصغير الغريب بدون أن نتصور معه الله تعالى فالذين ينكرون القدوس جل جلاله من العلماء فهم فعلا مجرمون آثمون لن يغفر الله تعالى لهم كما أظن.
ماكسيم:
أنا أعتبر هذه الليلة مهمة في حياتي الدينية.
لاحظ ماكسيم بأنه قد سجل كل المحاضرة وكل ما قيل دون انتباه في جهاز التلفون. فأضاف:
ماكسيم:
أعتذر يا إخوان وأخوات بأنني دون انتباه قد سجلت المحاضرة والمناقشات كلها في موبايلي فهل تأذنون لي أن أحتفظ بها أم تأمروني بأن أمحيها؟
توم:
إذني أنا منوط بأن تبعث لي نسخة منها لأدرس الموضوع في المستقبل.
ماري:
لماذا لا ترسلها للجميع؟ وأقترح بأن نسجل الجلسات كلها في المستقبل فهل أنتم موافقون؟
الجميع:
موافقون وشاكرون لاقتراح ماري.
كاترين:
لدي جهاز تسجيل جيد وصغير سوف أحضره للجلسة القادمة بإذن الله تعالى.
وفي الختام ودع الجميع الضيفين الفرنسيين إيمانيويل وماكسيم اللذان كانا يستعدان للعودة قريبا إلى فرنسا بعد أن سلما كل الأمور والأموال بيد ماري الوكيلة المفوضة لإدارة المشروع في الكويت.
أحمد المُهري
3/2/2020
#تطوير_الفقه_الاسلامي