الجزاءُ الأبَدِيُّ الأوفى (نعيمٌ مُقيمٌ أو حياةٌ على الجحِيم)
الجزاءُ الأبَدِيُّ الأوفى (نعيمٌ مُقيمٌ أو حياةٌ على الجحِيم)
أدناه مجمل المحاضرة التي ألقيتها في منزل الأخ الدكتور حازم العبيدي مساء السبت 23/11/2019.
يهمنا كمسلمين مؤمنين بالقرآن الكريم أن نسعى لفهم معنى الآخرة لأننا سوف نواجهها دون أدنى ريب. الآخرة هي في مقابل الأولى. فليس لنا في نظام الخلق إلا نشأتان. النشأة الأولى التي نعيشها والنشأة الثانية التي سوف ننتقل إليها ولا نشأة بعدها. أتينا إلى هذه النشأة مجبرين غير مختارين. لم يكن ابن النبي أو الملك مختارا ولم يكن ابن الرجل العادي مختارا ليختار مكانه بنفسه. لكن أهمية هذه النشأة هي أن كل الناس بقدر إمكاناتهم مسؤولون عن تثبيت مكاناتهم وحالاتهم في النشأة الأخيرة.
هناك الكثير من الأفكار التي قد تكون شيطانية تراود الناس ولا سيما العصاة المؤمنين بالله تعالى وبالحساب لتسعدهم وتمنحهم بعض الأمل في تجاوز الحساب القسط الذي يتولاه الرحمن نفسه سبحانه وتعالى. قال تعال في سورة الانفطار: إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ (15) وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ (16) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19). فليس هناك أمر بيد أحد غير الله تعالى. لا شأن لبشر هناك إطلاقا. قال تعالى في سورة الزمر: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَاء مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَمًا لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (29) إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31). لعل البعض لا ينتبه إلى المثال المضروب في الآية 29. كل فرد من الشركاء يبحث عن مصالحه فهم في تضاد مع بعض بصورة طبيعية ولا سيما فيما يرتبط بمصالحهم الشخصية التي من أجلها قاموا بتكوين المشاركة أو الشراكة أو الشركة. فهل تظنون بأن المنسوب إلى واحد أسعد أم المنسوب إلى عدة شركاء تتضارب مصالحهم؟ ثم يقضي الله سبحانه بأن كل من تظنونه شريكا فيكم بمن فيه نبيكم فهو وإياهم ميتون. ثم إنهم يتخاصمون عند ربهم الواحد الأحد يوم القيامة. ذلك ليقول جل شأنه بأن من خيركم أن تكونوا تحت إمرة الواحد الأحد وهو الذي يقضي بينكم يوم الحساب.
فقولهم بإمكانية الشفاعة أو المساعدة من الرسل أو من الأقارب أو ممن له حق على الإنسان يفيدهم يوم الحساب لهو قول سخيف وسفيه وكاذب. قال تعالى في سورة البقرة مباشرة قبل آية الكرسي المعروفة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254). ويتشبث البعض الآخر بأخذ الحلية من المظلوم. جميل أن يسعى الظالم لإرضاء من ظلمه ولكنه غير مجد إطلاقا في الآخرة. حينما تظلم فإن الملائكة سجلوا عملك الظالم وبأنك قمت بعمل فاسد يخالف عدالة السماء. فلو رضي المظلوم فهو قد يكسب أجرا ولكن الظالم يبقى ظالما إلا إذا استغفر ربه فلعل الله تعالى أن يغفر له تبعا لشأنه ودرجة عناده مع ربه. وبعض الناس يقولون بأن لديهم أعمالا طيبة ومقادير كبيرة من الحسنات والعطايا وسوف يبادلون المظلومين يوم القيامة. تلك هي البيع الذي نفى الله تعالى وجوده يوم الحساب. أو الذين يقومون بالمخاللة مع بعض الطيبين فيقول المؤمن له بأنه لن يدخل الجنة إلا وهو معه. هذا عمل أحمق فهل يصعب على الله تعالى أن يدخل كليهما النار؟ هذه هي الخلة المنفية هناك.
والواقع أن المقصود من هذه النشأة هو التمييز بين السعيد والشقي والطيب والخبيث. قال تعالى في سورة الأنفال: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36) لِيَمِيزَ اللّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىَ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (37). وقال سبحانه في سورة هود: إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ (103) وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ ِلأجَلٍ مَّعْدُودٍ (104) يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ (107) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108).
يريد الله تعالى أن يتعرف على النفوس الخبيثة وهي الكافرة وهي الشقية فيجمعها جميعا يوم القيامة ويرمي بهم في جهنم بجوار النار الكبرى. ويتعرف كذلك على النفوس الطيبة وهي المؤمنة وهي السعيدة فيسوقهم جميعا إلى الجنة. فالثواب والعقاب ليسا مقابل الأعمال بل هما يمثلان الجزاء الوفاق للنفوس من حيث ما فعله صاحب النفس بنفسه لا من حيث ماهية النفس فلا يد للإنسان في ماهية نفسه. هذه ما تسمى بالصبغة النفسية. قال تعالى في سورة البقرة: قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137) صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ (138).
الصبغة الأصلية هي مثل صبغة الأحجار الكريمة فهي جزء من كيانها لكننا قادرون على تغييرها. وهكذا النفس فإن لها صبغة أصلية حينما خلقها الله تعالى في رحم الأم. لكن صاحب النفس قادر على أن يغير الصبغة الإلهية الأصلية إلى صبغة مشوبة أو فاقدة للمعانها وتشعشعها.
فالصبغة أحيانا تمثل الإضافة التي يضيفها كل شخص لما يحب. فمثلا تدخل بيتا جديدا بناه شخص آخر فإنك تصبغ البيت بما يساعدك على المزيد من المتعة داخل البيت. وهذه الصبغة شخصية يضيفها صاحب البيت حسب ذوقه. لكنك لا تصبغ المرمر والرخام في البيت فهي صبغة أصلية لا يمكن مضاهاتها بالأصباغ الصناعية. وصبغة الله تعالى يعني أن يترك الإنسان نفسه على الصبغة الإلهية الأصلية الطيبة فلا يخالف تلك الصبغة ولا يمسها بسوء. المؤمن العاقل يصون الصبغة الإلهية عن طريق تقديم الحب الخاضع والطاعة الخاضعة والشكر الخاضع للرحمن وحده وهي كلها مظاهر العبادة التي يجب أن نخصصها لله تعالى. غالبية أتباع الديانات السماوية ومع بالغ الأسف يضيفون رسلهم ومن يحبونهم إلى الله تعالى ويفضلون رسلهم على بقية رسل الله سبحانه. ذلك هو الشرك المرفوض.
سمعت أحد الشعراء الذين يتبعهم الغاوون يغلو في رسولنا عليه السلام بقول سخيف منه. كان يقول في شعره بأن محمدا عليه السلام هو الوحيد الذي خاطبه ربه بيا أيها النبي والباقون خاطبهم ربهم بالاسم. نوح، إبراهيم، صالح، هود، موسى، هارون، عيسى ووو. هذا الجاهل لا يدري بأن الخطاب بالاسم أكثر مودة وحبا من الإكرام بالكنية واللقب. ثم إن نبينا كان موجودا بكامل النبوة فيخاطبه ربه بيا أيها النبي. لكن الذين سبقوا ميتون فكيف يشير إليهم بالنبي؟ وهو يجهل أيضا بأن الأنبياء يبلغون عن الله تعالى في حياتهم فإذا ماتوا لا يمكنهم أن يكونوا أنبياء ولا يمكنهم أن ينقلوا الوحي إلى أتباعهم. هم أنبياء سابقون وليسوا أنبياء يوم نزول القرآن الكريم. ما فعله ذلك الشاعر وما يفعله الباقون من تفريق بين رسل الله تعالى هو شرك بالله. أتمنى أن يغفر الله تعالى لجميعهم باعتبار جهلهم ويغفر لنا وهو أرحم الراحمين.
إذن علينا أن نتعرف على النفوس السعيدة والنفوس الشقية لنسعى أن نكون من السعداء لا من الأشقياء مادام هناك بعض الأمر بيدنا.
لعلنا جميعا نعرف بأن النفس ليست من جنس البدن. أنظر إلى بدنك في المرآة وحاول أن تتذكر صغرك وصباك ثم فكر هل أنت نفس ذلك الطفل الذي كان يلعب ويبول في نفسه ويجهل كيف يحمي نفسه من النار ومن السقوط من علو. لن يمضي وقت طويل حتى تطمئن بأنك نفس ذلك الطفل. ثم فكر في أن بدنك ليس نفس البدن لم تكن ملتحيا في الصغر وكان جلدك في غاية النعومة وكنت ضعيفا. لقد تغير كل شيء ولكنك أنت هو نفس ذلك الطفل. فمن أنت؟
هل أنت تلك التركيبة البدنية البديعة أم أنت شيء آخر؟ كان لي صديق مسيحي يناقشني كثيرا، قال لي يوما ما: إنكم كمسلمين تؤمنون بعدم موت النفس. أجبته: فعلا نحن نؤمن بذلك. قال أما ترون بأن الإنسان يموت. أجبته: يموت نعم يموت. قال لي فما معنى عدم موت النفس إذن؟ قلت له: لما ذا تتعب نفسك في هذه الدنيا وتمتنع من الكثير من الملذات؟ قال أرغب في أن أرضي ربي ليكافئني يوم القيامة. قلت له: يكافئ من. أنت تؤمن بأن النفس تموت مع البدن وينتهي الإنسان. قال لي: سوف يخلق الله تعالى إنسانا مثلي طابق النعل بالنعل. قلت له: هل تظن بأنك آنذاك وبعد خلق إنسان جديد مثلك سوف تتذكر بأنك نفس الشخص الذي عاش الحياة الفعلية؟ فكر قليلا ثم قال: أتمنى ذلك. قلت له أما أنا فسوف أعلم بأنني نفس الشخص الذي عاش الحياة الدنيا وأنا اليوم أتحدث إلى صديقي وهو أنت.
أضفت إليه: أنا أعتقد بأن هناك ذاكرة في منطقة ما داخل المخ المعروف وهناك خلايا لا تتعرض للتجدد للحفاظ على المخزونات. لكن هذا البدن سوف يتحول إلى نار أو طاقة أو تراب أو يصبح جزء من بدن كائن آخر بعد موتي. لكن هناك منطقة أخرى داخل النفس التي لا تموت وهي تبقى إلى الأبد. هي أنا الحقيقي. ولولا تلك الخزانة الباقية التي لا تفنى لما كان ممكنا أن يحاكمنا ربنا يوم الحساب. سوف يسألنا وسوف نرد عليه بما نراه مخزونا في كياننا النفسي وبقول أكثر دقة في صدرنا النفسي.
النفس كائن طاقوي ولكنه مركب وليس كائنا بسيطا. نعلم اليوم بأن الكثير من الكائنات الطاقوية مركبة وليست بسيطة. النفس مركبة من ثلاثة كرات طاقوية هن القلب والفؤاد والصدر. القلب هو مكان المعالجات النفسية، والفؤاد هو المسؤول عن نقل المعلومات من خزانة الصدر ومن خارج النفس إلى القلب للمعالجة، والصدر يمثل خزانة المعلومات. وقد وعد الله تعالى بأن يصون النفس. هذا ما يفعله ملك الموت الذي لا يفارقنا بل هو معنا من يوم خلقنا داخل الرحم حتى يوم القيامة. قال تعالى في سورة السجدة: الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإنسَانِ مِن طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلالَةٍ مِّن مَّاء مَّهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ (9) وَقَالُوا أَءِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرْضِ أَءِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُم بِلِقَاء رَبِّهِمْ كَافِرُونَ (10) قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11). لم يقل سبحانه: قل يميتكم بل قال يتوفاكم. يتوفاكم يعني يتسلمكم أو يتسلم أمانة الله تعالى وهي الإرادة الممنوحة للنفس المريدة المختارة لتضحى نفسا غير مريدة وغير مختارة. سنكون بعد ذلك فاقدي الاختيار إلى الأبد. فملك الموت في واقعه يحفظ نفوسنا من الفناء ولا يميتنا. إنه ملك يقوم بعمله المذكور في الآية لحظة الموت ولذلك يسمى ملك الموت في القرآن. أما الملائكة الموجودة أسماؤهم في كتب اليهود مثل عزرائيل وإسرافيل فهما ليسا ملكين قرآنيين وهما يمثلان الوهم اليهودي فقط. لقد اختلقوا ملائكة ليشرحوا بهما بعض المفاهيم الصعبة من التوراة ولم ينجحوا في الواقع. والإنجليز سموا ملك الموت بـ angle of death. وحتى لا نظلم اليهود فإن عزرائيل لا يعني ملك الموت بل يعني ملَك الله. لكن بعض اليهود يسمون عزرائيل بملك الموت. المشكلة بأن ملك الموت في القرآن موكل بكل شخص فمعناه بأنه ملك مع كل فرد وليس ملكا خاصا يراقب الناس ويحضر لحظة الوفاة. ذلك غير ممكن. هناك بشر يموتون في لحظة من اللحظات في الشرق وأخرى في الغرب وأخرى في الشمال في نفس اللحظة. فملك الموت في القرآن غير ملك الموت عند اليهود وعند المسيحيين وعند المسلمين الذين يجهلون حقيقة ملك الموت.
وقال تعالى في سورة الزمر: اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42) أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ شُفَعَاء قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ (43) قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44) وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45). فالوفاة تعني سلب الإرادة تماما كما نشعر بأن إرادتنا مسلوبة بالكامل حين النوم.
وحتى نعلم عدد الملائكة الموكلين بكل واحد منا نعود إلى سورة فاطر الكريمة: الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاء إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1). فكل إنسان يراقبه تسعة من الملائكة يقومون بمختلف المهمات حتى يوم البعث العظيم.
يمكننا أن نستنتج من مجموعة الآيات التي ذكرناها بأن الإنسان إنسان بنفسه لا بجسمه. فكيف تكون النفس سعيدة وكيف تكون شقية؟
نعرف من القرآن بأن النفس السعيدة هي النفس المؤمنة وهي النفس الطيبة؛ وأما النفس الشقية فهي النفس الكافرة والنفس الخبيثة. ونعلم بأن الله تعالى هو خالق النفس وقد وضح سبحانه بأنه أحسن خلق كل شيء فلا يمكن أن يخلق نفسا خبيثة. لكنه سبحانه خلق نفسا لكل إنسان، وهي معدة لأن تصير طيبة أو خبيثة. المصيبة في الإمكان وليست في حقيقة النفس أو ذات النفس. فالإنسان المعد ليكون سلبيا قد يؤثر في نفسه فتضيع الصبغة النفسية الإلهية التي جاءت مع النفس. تماما مثل ما نشتري سلعة مصبوغة صبغا لامعا جميلا ثم لا نهتم بها فتتحول الصبغة البديعة مع مرور الزمن إلى الصدأ والتراب وتراكم الأوساخ فتتغير الصبغة الأصلية إلى صبغة غير طيبة جراء تصرفاتنا الخاطئة.
يمكننا أن نرى صبغة الله تعالى في الحجارة الكريمة ولكننا يمكننا أن نغير تلك الصبغات الأصلية فتفقد الحجرة بريقها وتقل قيمتها.
وحينما تتغير الصبغة النفسية الأصلية فإن النفس تفقد بريقها شيئا فشيئا. البريق البدائي موهبة رحمانية وفقدانها ناتج عن عمل الإنسان نفسه. فإذا تركتها فسوف تتصدأ ويصعب إصلاحها. هناك تتحول النفس إلى نفس شقية بعد ما كانت نفسا سعيدة. لنتصور الطفل الذي يموت في الطفولة فهو يحمل نفسا مؤمنة طيبة وسعيدة ويدخل الجنة قطعا حتى لو كان ابن أشقى الأشقياء. وكم من أشقياء خلفوا أبناء طيبين مثل الفاسق يزيد بن معاوية الذي خلف معاوية بن يزيد المؤمن الصالح. أنا رأيت أناسا كثيرين في منتهى الطيب والإيمان وقد انحدروا من أناس فاسقين. وبعضهم انحدر من أب فاسق وأم فاسقة ولكنه اختار الطريق الصحيحة. والعكس قليل. مما يدل على أن الإصالة النفسية هي إصالة سماوية طيبة وأن الفساد من الشخص الذي يملك تلك النفس. وحتى لا يضيع أحد فإن النفس تحمل ماهية تركيبية ليست بيدها لكنها تركيبة طاقوية ليجعل منها الله تعالى نفسا مدركة. وصاحب النفس ليس خارجا عن النفس لكنه مختار ليلعب في صبغة نفسه. فهو يخالف الأصل حينما يسبب لها الصدأ والأفول. من الصعب على أي محقق أن يفرق بين ماهية النفس من حيث تركيبتها وحقيقة الإنسان الذي يملك تلك النفس. ومن الخير لنا ألا ندخل في تلك المتاهات الفلسفية.
وبعد أن عرفنا بعض الشيء عن حقيقة النفس نعود إلى آيتي سورة هود لنتعرف بدقة على السعداء. ولعلمكم فإن جذر السعادة (سعد يسعد) غير موجود في القرآن خارج أولئك الآيات الكريمة فلنتلوها مرة أخرى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ (103) وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ ِلأجَلٍ مَّعْدُودٍ (104) يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ (107) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108). هناك مسألة بلاغية معقدة بعض الشيء في الآية 105. أظن بأن للمفسرين أكثر من 12 تفسيرا للآية الكريمة. لكنني لست عالم بلاغة بل لست مهتما بالبلاغة. إنها علم جميل ولكنها لا تساعد كثيرا على فهم القرآن. تلك هي ديكور الآية والديكور قد يطغى على المعنى فيخفي علينا المعنى الدقيق.
حديث الآيات عن كل الناس وليس عن أصحاب الأعراف الذين يمثلون بعض صحابة الرسل. فلنترك فهم أصحاب الأعرف لوقت آخر. الشقاء في أصل معناها التعب، والسعادة في أصل معناها الراحة. ولكنهما في منطق القرآن ليستا تعبا وراحة عامة. بل تعنيان من شملهم غضب الرحمن في مقابل من شملهم رضوان الرحمان عز اسمه. فالشقي والسعيد بهذا المعنى يشمل الإنسان في دنياه وفي برزخه وفي آخرته سواء كان شخصا عاديا أو من صحابة الرسل الكرام أو رسولا. وبما أن الله تعالى واسع الرحمة فإنه يعفو عن كثير فمن أهمله ربه وخاصة يوم القيامة فهو شقي باعتبار أنه فقد كل إمكانيات استحقاق الرحمة ولذلك لا نرى شقا ثالثا هناك. لكن الآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا من النشأة الأولى. ولذلك فإن كل من يمكن أن يستحق الرحمة والمغفرة فإنه سبحانه سيغفر له إذ أن في الجنة درجة ومكانا له ولو لم تكن بأهمية الدرجات العلا. هكذا يُخرج الذين هم بين بين من صفوف الأشقياء ويدخلهم في صفوف السعداء. وهذا هو معنى من معاني الرحمة الواسعة الخاصة بالرحمن عز اسمه.
ولنتل مجموعتين من الآيات التي تساعدنا على فهم سعة السعيد وتقلص الشقي. قال تعالى في سورة الزمر: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ (55) أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) بَلَى قَدْ جَاءتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (59) وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ (60) وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (61).
وقال سبحانه في سورة إبراهيم: قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى قَالُواْ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ (10).
وبما أن السعادة والشقاء مرتبطتان برضوان الله سبحانه وسخطه فإن السعيد في حقيقته هو الذي سعى بكامل إمكاناته ليرضي ربه والشقي هو من لا يفعل ذلك. كانت شهواته تقوده دون ملاحظة التقوى من ربه. لنلاحظ الآيتين التاليتين من سورة الإسراء لنعرف بأن كسب السعادة ليس بسهولة كسب الشقاوة للنفس: مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا (19). الآية توضح الشقي الذي طلب الدنيا دون الآخرة وتوضح جزاءه المؤلم في الحياة الأبدية. والآية الثانية توضح السعيد بشرط أن يكون مؤمنا ويريد الآخرة ويسعى لكسبها فإن سعيه حينئذ سوف يُشكر يوم القيامة. بمعنى أنه سبحانه سوف يكافئه بقدر سعيه. ولا ننس بأن السعي لا يعني الكسب. فهناك من يسعى لعمل الصالحات ويخيب. إن سعيه المخلص هو المطلوب سواء بلغ هدفه أم لم يبلغ.
الأسئلة والتعليقات:
1. في نهاية الجلسة قام أحد الإخوة الكرام بالاعتراض على منهجية المحاضرة المفقودة برأيه. وقال بأنني ما ركزت على الموضوع بل انتقلت إلى مواضيع كثيرة مما أربكني كما أربك المتلقي.
الجواب:
الموضوع أكبر من أن نتحدث عنه في محاضرة واحدة. هناك مسائل كثيرة غير واضحة للحاضرين بسبب غيابي عدة سنوات عن تلك الجلسات. فمثلا اضطررت لبيان مختصر حول النفس الإنسانية التي بدون التعرف عليها لا يمكن القبول بأن الله تعالى يعاقب النفس والأعمال دليل على الدوافع النفسية عنده سبحانه.
كان ضروريا مثلا أن أتحدث عن السبب في إقامة كل هذه النشأة وفي خلق الإنسان. لماذا قام ربنا بكل هذا العمل الكبير؟ ولماذا خص الإنسان بالاختبار وخصه مع الجن بالثواب والعقاب؟ إن مشكلتي مع إخواني وأخواتي هي أنهم معتادون على الفهم السلفي الذي لم يتطور إلا قليلا عن الألوهية والنبوة والرسالة وعن الكتب السماوية وعن التشريعات وعللها ووو. والفهم السلفي سواء السني منه أو الشيعي مليء بالتناقض والتضاد وغير منسجم مع القرآن الكريم. إنهم عادة ما يضيفون بعض المسائل الأساسية من أحاديث الفرق المسلمة وغالبا ما تكون تلك الأحاديث مفتراة على رسول الله عليه السلام.
ثم إن المنهج الأكاديمي لا يمكن توظيفه في محاضرات غير منظمة وحضور غير منتظم ومتلقين من مختلف المستويات العلمية. وكذلك فإن الجامعات العلمية لا تكتفي بالمحاضرات بل تشفعها بالكتب والتمارين والشهادات التي تفيد الطلاب للحصول على عمل في المستقبل. فهم يسعون لفهم ما يلقى إليهم ولكن المحاضرات غير المنتظمة لا تُقدم معها كتب مساعدة ولا تُرجى منها أية فوائد مالية أو اقتناء ألقاب علمية يتم معها تقدير الذين شهدوا المحاضرات التي أنفقت عليها أموال غير قليلة.
2. اعترض نفس الأخ الكريم على اكتفائي بالألقاب القرآنية للرسل الكرام ولرسولنا بالذات عليهم سلام الله تعالى.
الجواب:
أنا شخصيا مغرم بالرسل الكرام وبرسولنا بالذات. إنهم صفوة الخلق ولم نسمع عنهم من ربنا إلا سعيهم المخلص ليدخلوا أقوامهم في جنات الرضوان التي تنتج جنات النعيم. كانوا يحبون كل الناس مؤمنهم وفاسقهم ويسعون ليهدوهم دون مقابل. لكن الغلو فيهم يبعد المؤمن عن حقائق الكون وعن حقيقة الحساب يوم القيامة. فمثلا يقول ربنا بأنهم ميتون والميت يعني الذي لا يسمعنا ولا نسمعه. والمؤمنون يسعون لإثبات أنهم أحياء يسمعون الكلام ويردون الجواب. إنهم أحياء عند ربهم وليسوا أحياء عندنا. نبوتهم اليوم ليست نبوة كاملة بمعنى أنهم لا يقومون بإنباء أي غيب سماوي اليوم لأنهم جميعا غائبون عنا.
المحاضر المفكر مضطر بأن لا يبدي للناس حبه لهم حتى يكون ساعيا لإيقاف المد الذي لا يتوقف عن استحداث خطوات جديدة عن الرسل بحيث يبعدهم عنا كبشر. هم فعلا بشر وليسوا فوق البشر. ولذلك أشار إليهم ربنا بأنهم إخوان وأصحاب لأقوامهم. (أخوهم نوح، أخوهم هود، وما صاحبكم بمجنون، إنما أنا بشر مثلكم).
أنا أشعر فعلا بأن الإخوة الطيبين مع أنهم علماء ومفكرون لا يرتاحون لأن يسمعوا من أمثالي بأن الرسول أخ لنا. إنهم ينسون بأن جمال محمد عليه السلام بأن يكون أخا لنا حتى نستأنس به في الدنيا بذكره وفي الآخرة بأن نجالسه إخوانا على سرر متقابلين. كما أنهم دائما يتحدثون بأن الروح القدس وهو أهم بكثير من الرسل البشريين، بأنه خادم للرسول. معاذ الله. كأنهم لم يسمعوا كلام الله تعالى مشيرا إليه بالروح. أو قوله سبحانه عنه: روحنا. لكنه تعالى تحدث عن المسيح بأنه روح منه ولم يقل روحنا. وذلك أيضا خاص بالمسيح. وكل هذه المسائل غير واضحة للناس مع الأسف ولا يمكنني أنا وأمثالي أن نوضحها في محاضراتنا العامة.
اعترض علي هو وغيره من بعد بالمراسلة بأنني أهنت رسول الله عليه السلام حينما نفيت بأنه سيد الأنبياء والمرسلين. وإني أتساءل هل من حقنا أن نقول بأن رسولنا سيد الرسل أم من حق الله تعالى أن يقول ذلك وهو سبحانه لم يقل؟ الإخوة الكرام يجهلون مع الأسف معنى السيادة. السيادة ليست صفة ذاتية لأحد بل هي صفة عملية عرضية. بمعنى أن الذي يقوم بإدارة شؤوننا فهو يسودنا والذي لا يقوم بذلك فهو لا يسودنا. الله تعالى سيدنا لأنه يسودنا ويساعدنا ويديرنا ويدير الكون المحيط بنا. الرئيس والملك والزعيم سيدنا لأنه يدير شؤوننا. لكن نوحا عليه السلام ليس سيدنا لأنه ميت لا يمكنه أن يسود أحدا.
هذا من الأخطاء الشائعة بين الناس بمن فيهم علماؤهم ومفكروهم إلا القليل الذين يدركون ذلك ولا يخافون من إظهاره.
3.
أشار أحد الإخوة عن أصحاب الأعراف.
الجواب:
صحيح ما تتفضل به ولكننا لا يمكننا أن نتحدث عنهم في هذه المحاضرة ليعرف الناس الفرق بين العذاب العظيم والعذاب الأليم والفرق بين الأجر العظيم والأجر الكبير وأسباب ذلك.
4.
اعترض أحد الإخوة الكرام على قولي بالنبوة الناقصة.
الجواب:
كان الصحابة مؤمنهم وفاسقهم يسألون رسول الله عليه السلام ويرد عليهم بالوحي أو يؤجلهم حتى ينزل عليه الوحي. فالرسول كان يمارس الرسالة عن طريق الوحي مع الله تعالى. والنبوة طبعا منصب علمي باعتبار اطلاعه على علوم غيبية لا يسع الناس معرفتها في زمانه ومكانه. فكان النبي العالم ببعض الأمور الغيبية ينصح الناس على أساس تلك العلوم ولكن الأنبياء اليوم غير موجودين ولا يمكننا التواصل معهم ولا يمكنهم أن يلقوا علينا محاضرات أو يسعفونا بنصائحهم وإرشاداتهم. فهم في الواقع أنبياء سابقون ولكننا نستفيد مما نقله لنا القرآن الكريم من أقوالهم وأفعالهم. فهم أنبياء بالنسبة لنا ولكن بنسبة أقل مما كانوا عليه في حياتهم الدنيوية.
ويهمني هنا أن أوضح لمن يطلع على هذا بالتالي:
ألف:
الكثير من المفاهيم والمعاجز التي أبداها الرسل كانت خاصة بزمان ومكان معين. واليوم تطورت البشرية وأضحت تلك المعاجز بديهيات لا تفيد ارتباط النبي بالسماء.
باء:
ليس الله تعالى ضنينا على الغيب في حدود ما يفيد البشر ولكن المشكلة في أن الغيب العلمي لا يمكن أن يكون في متناول اليد بل نحتاج إلى الجد والجهد لنكسبه. قال تعالى في سورة طه: فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114). فهناك بالنسبة لنا ارتباط وثيق بين القرآن الكريم وبين العلم الغيبي. والرسول نفسه ليس على علم كامل به بل يحتاج إلى أن يدعو ربه ليزيده علما. كما أن الأمر ليس خاصا به عليه السلام بل هو للناس عامة ولذلك ذكره الله تعالى في القرآن. فأرجو من الجميع ألا يظنوا بأن العلم بالمسائل الغيبية في الوجود كانت خاصة بالرسل بل يسعوا ليكسبوا المزيد. ولا يظنن أحد بأن أيا من الرسل كان يعلم حقائق المواد الأرضية بقدر ما يعرفه الناس اليوم. إن البشرية اليوم على علم كبير بها. فلا دليل لنا بأن الرسل يعلمون كل المسائل ولا دليل بأنهم يعلمون أكثر من الناس ولا دليل بأنهم كانوا يسبقون التطور العلمي.
جيم:
هناك إشكال كبير في الفكر الديني العام بسبب تعامل الذين ظنوا في أنفسهم العلم الكامل بالفكر الديني مع الأسف على مر التاريخ. لننظر إلى خلق الله تعالى وهم يسعون لنقل علومهم إلى أبنائهم كما يسعون لتطويرهم بحيث يتعلمون أكثر منهم. ونرى النتيجة بأن البشر بصورة عامة لم يتوقف عن البحث والتحقيق وكسب المعلومات. فهل الله تعالى أبخل علينا من آبائنا وأمهاتنا الذين سعوا ليرونا أكثر منهم علما. لا يمكن أن ينتظر الله تعالى بأن نكون أكثر منه علما ولكن يمكنه بأن يطورنا بحيث نصير أكثر ممن سبقنا علما حتى نجاري الزمن. ما احتاج الرسول عليه السلام ولا المخلصون من صحابته إلى علم الإلكترونيات لأن عدد السكان كان قليلا ولذلك لم يتفطنوا ليسعوا لكشف أعماق الذرة مثلا. لكن التكاثر البشري فرض على المفكرين أن يطوروا علمهم ومعارفهم وصناعاتهم، والحاجة أم الاختراع. لقد علمهم الله تعالى ما لم تعلم البشرية من قبل.
فلو ظننا بأن أفرادا من البشر مثل الرسل الكرام هم أكثر علما من الذين جاؤوا بعدهم بآلاف السنين فسنعني بأن الله تعالى لم يطورنا. حاشاه سبحانه من ذلك. لقد طورنا وعلمنا بما في أعماق الأرض لنستخرج منها الطاقة والبتروكيماويات وهو سبحانه يعلمنا كل يوم كيفية استخراج الطاقة النظيفة لتبقى المخزونات الأرضية لنستخرج منها المواد الضرورية ولا نحرقها كوقود. فالبشرية اليوم بالضرورة أكثر علما من الأنبياء المكرمين بفضل الله تعالى. إنه عز شأنه لم ولن يتوقف عن تطوير عبيده والحمد له سبحانه.
دال:
حينما نقول بأن البشرية اليوم أكثر تطورا من عصور الأنبياء المكرمين فنحن لا نعني بأن البشرية اليوم أفضل عند الله تعالى مقاما من رسله الكرام. لنضرب مثالا من القرآن الكريم. قال تعالى في سورة آل عمران: قُلْ صَدَقَ اللّهُ فَاتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95). فهل اتباع ملة إبراهيم والذي أمر بها رسولنا وصحابته يعني بأن إبراهيم أكثر علما من رسولنا؟ أو أنه عليه السلام أفضل من غيره بصورة عامة؟
كلا. إنه لا يعني ذلك بل يعني أمرا آخر. قال تعالى في سورة النساء: وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً (125). فاتباع إبراهيم يعني اتباعه في تسليم الوجه إلى الله تعالى والسعي ليكون محسنا يعمل الصالحات ولا يلتفت لإنسان في مقابل الله تعالى. إنه مال عن كل الناس وتوجه إلى ربه فقط. ذلك هو ملة إبراهيم. قد يكون إبراهيم أفضل من غيره عند ربه وقد لا يكون. نحن نجهل ذلك قطعا ولكنه في توجهه إلى الله تعالى كان ولا زال مقتدى يقتدي به غيره رسلا أو صحابة رسل أو مؤمنين بعيدين عن عصر الرسالات السماوية.
المقام الرفيع عند الله تعالى هو مقام العبودية فبقدر ما تترك التوجه إلى غير الله تعالى في سبيل التوجه إليه وحده فإنك بنفس القدر تكسب المنزلة عند ربك من منازل عبوديته ومعرفته والتصديق به وتقبل أوامره سبحانه وتعالى. لنعلم بأن العلم ليس من نتاجنا نحن وحدنا بل هو من نتاج التطور الذي يتولاه الله تعالى بنفسه ونحن بقدر سعينا نجني ثمار العلم الذي ينشره الله تعالى في كل زمان ومكان. فالعالم دائما هو الله تعالى والمعلم هو أيضا ونحن سنبقى متعلمين راجين فضل ربنا في المزيد. لا فرق في ذلك بين بشر وبشر أو بين مؤمن وفاسق أو بين مسلم وكافر. كسب العلم مشابه لكسب الخبرات في كل مرافق الحياة. إنه ضرورة الحياة الدنيا. فلو أن المؤمنين سعوا فقد يفضلهم الله تعالى على غيرهم ليعلمهم لأن التطور البشري بحاجة إلى ذلك العلم. ولكن لو لم يسع المؤمنون فإنه سبحانه بالضرورة يعلم الفاسقين والملحدين والكافرين ليسدوا حاجة عبيده.
فعلينا بألا نركن إلى كتب التراث ونعلم بأن الله تعالى لم ينقطع عنا ولن يتوقف عن مدنا بكل متطلبات العيش في الحياة الدنيا ليختبرنا. لنركن إلى ربنا وحده ليعلمنا ويهدينا وهو الحي الذي لا يموت والفضل كله من الله تعالى وهو الكريم وهو الذي يحبنا ويحب أن يرانا علماء عارفين دروب الحياة ويحب أن يرانا ساعين لكسب جنات النعيم وللابتعاد عن مسالك الجحيم. نحن لم نر الرسل ولكننا أحببناهم بما عرفنا الله تعالى من أحوالهم. إنه عز اسمه، هو الذي وضح لنا أحوال رسله بكل دقة وبما نحتاج إليه من معرفة بمكانة كل منهم، فنحن إذ نحب رسله، نحبهم بأنهم رسله وبأنه تعالى أخلصهم ليخدموا خلقه.
إذن نطيع الرسل لنطيع الله تعالى ونحب الرسل لنكون ممن يحبون الله تعالى ونشكر الرسل لنكون ممن يحمد الله تعالى. إنهم أطاعوا الله وأحبوا الله وحمدوا الله تعالى بكل إخلاص وبكل خضوع فلنقتد بهم. هناك أسئلة أخرى لكنني أرى بأن المقالة قد طالت فأكتفي بهذا القدر. أنا على استعداد لأقدم البيان والرد على كل استفسار بشأن الموضوع سواء من الذين حضروا الجلسة أو من بقية الإخوة والأخوات، بإذن الرحمن عز اسمه.
تحياتي
أحمد المُهري
26/11/2019
#تطوير_الفقه_الاسلامي