يوسف أيها الصديق ح 39 – قَالَ مَعَاذَ اللّهِ أَن نَّأْخُذَ إِلاَّ مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ
تواصلا مع شرح سورة يوسف :
يوسف أيها الصديق ح 39 – قَالَ مَعَاذَ اللّهِ أَن نَّأْخُذَ إِلاَّ مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ
وبما أنهم قد تغيروا فعلا وصاروا يطرقون أبوابا متعددة فإنهم غيروا مسار الدفاع وتوجهوا إلى يوسف و..
قَالُواْ يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ﴿78﴾
يمكننا بكل سهولة ملاحظة الاسترحام الشديد في لحن قولهم. فقد خاطبوه باللقب السامي وهو العزيز. وواضح بأن العزيز هو لقب وزاري لأصحاب الرفعة في مصر الفراعنة وكان زوج معلمته التي راودته عن نفسه يحمل نفس اللقب.
ونادوه بـ”يا أيها” وهي نوع نداء استعمل فيه الهاء بعد الوصلة “أي” للتنبيه على أنه هو المقصود. مثل هذا النداء يُطلق للتحذير مثل تحذيرات الله تعالى في القرآن للناس وللأفراد أو للاستغاثة بأن المنادى هو القادر على أن يساعد.
فصيغة ندائهم تدل على أنهم طلبوا منه طلبا بكل خضوع واحترام وبأنهم يأملون منه الاستجابة. ولذلك ذكروا له السبب العاطفي في استغاثتهم وهو كبر سن أبيه. ثم رأوا بأن الجود بالنفس في مثل هذا المورد دليل واضح على صدقهم وصلاحهم.
ولم يكتفوا بذلك بل أعقبوه بإضافة صفة الإحسان إليه. كأنهم يقولون له بأنك لو تأخذ أحدنا مكانه وتستفيد من إمكاناته وقدراته فأنت المحسن ولسنا نحن، بل نحن الذين مسنا إحسانك.
و قد ذكروا إحسانه بلفظ الحال ليقولوا له بأن هذا الإحسان أكبر بكثير في عيونهم مما أكرمهم به من قبل. كان يمكن أن يقولوا له بأنهم رأوه محسنا فطمعوا فيه ولكنهم لم يفعلوا لبيان أهمية هذا العمل.
بالطبع أنهم كانوا منتبهين بأن أيا منهم لا يمكن أن يحل محل المتهم لأنه أصغر منهم بكثير والمطلوب في الفتيان الصغر وليس الكبر. إن عمر العمل لدى الأحداث أكبر وإنهم أكثر قدرة على التغير ليتناسبوا مع شؤون الأسياد ويتعلموا خلالهم وآدابهم.
وهذا هو الذي يوجه توصيف المعاوضة بالإحسان وبأنه إحسان لكل الإخوة بمن فيهم الذي سيحل محله في خدمة العزيز. هذا التغيير هو مما جَدَّ في أخلاقهم بعد نصائح يعقوب.
ولعل يوسف قد انتبه إلى أن شيخ بني إسرائيل قد فعل فعلة في إخوانه لأنه رأى بأن التغيير الخُلقي أكثر بكثير من ضغوط الزمان ومن قرعة الفقر والحاجة التي ألمت بهم.
انتبه يوسف بأنهم الآن يعرفون من أين تُؤكل الكتف فيفكرون ويتعقلون ثم يتكلمون ويُخاطبون. هذا يعني بأنهم شعروا بأن ليس كل ما يتحدثون به صحيحا وليس كل الموارد متشابهة ولا يكفي الاعتزاز بالعائلة والأسرة والكرامة وما شابه ذلك من ترهات متفشية في أذهان الجاهلين الذين يمثلون أكثر أهل الأرض.
انتبه يوسف بأن إخوانه بدأوا يشعرون بأن الناس يقيِّمون كل فرد بقدر أهليته وعلمه وأدبه وليس بادعاءاته وتخيلاته. ولذلك يسعون الآن لتقييم حدود كل فرد في القضية فيعطوا القوي حقه من النعوت ليستدروا رحمته وإلا فسوف لن يبلغوا الهدف 63.
لم يفكر الإخوة في إيجاد مخرج إلهي لطلبهم ليقفلوا كل الأبواب على يوسف. لكن يوسف الذي يتحلى بذكاء وقاد عرف كيف يُسكت أمة تؤمن بالله تعالى بأن يتخلى عن الظلم ويعتبر أخذ أحدهم ظلما. ولذلك ألقمهم حجرا وأراهم بشاعة خطإهم في جوابه القوي لهم.
قَالَ مَعَاذَ اللّهِ أَن نَّأْخُذَ إِلاَّ مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ إِنَّآ إِذًا لَّظَالِمُونَ ﴿79﴾
بالطبع أن الله تعالى يختصر الكلام باعتبار القرآن وأهميته ليحافظ سبحانه على إعجاز كلامه العظيم.
لكن يوسف قد قال لهم جملة أطول بكثير مما نقرأه في القرآن كما أحتمل.
إن السر في الظلم المذكور في الآية هو الظلم على الذين هم وراء كل فرد منهم. إنهم كبار ومتزوجون وقد ذكروا و سجلوا قوائم بأفراد أسرهم، فأخذُهم يمثل ظلماً على أزواجهم وأولادهم الذين سيُحرمون منهم.
هناك احتمال كبير بأن الأخ الاصغر لم يكن متزوجا أو كان له عيال أقل من بقية إخوانه وهو الذي ظلمهم حسب الظاهر بالإقدام على السرقة فما ذنب أهل أخيه الذي سيحل محله؟
هذا الذي يستعيذ منه يوسف إلى الله تعالى وليس مجرد أخذ شخص رضي بأن يتبرع ليحل محل شخص آخر ويقدم له ما بوسعه من خدمة كعبد لديه.
لم يُشر يوسف في جوابه إلى إثم أخيه فإثمه لا يستدعي أن يُؤخذ عبدا ولكنه أشار إلى أن من حقه أن يأخذ من وجد متاعه عنده.
ثم إنه تحدث بصيغة المتكلم مع الغير فقال نأخذ ولم يقل آخذ ليقول لهم بأن العقد الذي أبرمتموه قبل قليل معنا هو عقد مع مؤسسة وليس مع فرد حتى يُمكنه التبرع بالتنازل عن حقه.
والواقع أنهم أبرموا العقد عمليا مع الموظف ولكن يوسف وصل في النهاية ليضمن لهم الجائزة لو أنهم أعادوا المفقود من تلقاء أنفسهم.
ليس ليوسف موقف قانوني أو شرعي قوي سوى ما اتفقوا عليه ويريد أن يبرئ ذمته دون أن يفقد صفة الإحسان الذي تمثل به في قلوب إخوانه الذين لا زالوا في غفلة عنه.
وبعد أن فتح آباء بني إسرائيل قلوبهم للغير وأصغوا إلى الباقين ولم يكتفوا بما لديهم وتخلصوا من بعض عقدهم بدأوا يشعرون بأن الحياة معقدة وليست بالبساطة التي عاشوا عليها يوم جهلهم.
فحينما فتحوا قلوبهم شعروا فعلا بأن جهلهم أكثر من علمهم كما شعروا بأن الإيمان بالحقيقة ليس حكرا عليهم. هذا هو عزيز مصر يؤمن بالله العظيم ويستعيذ منه ويسعى لأن يكون عادلا محقا غير ظالم لأحد. ثم إنه يحب الإحسان ولكن ليس على حساب مبادئه.
ظن الإخوة قبل قليل بأن الوزير المصري مهتم بنفسه وفخور بطيبه وإذا بهم يرونه أكثر اهتماما بالنظام وبحقوق الآخرين وأكثر التزاما بحقوق المؤسسة التي يعمل فيها.
شعر الإخوة فعلا بأن المحاولات غير مجدية وبأنهم أمام مسؤول يحب النظام ويضع إرضاء ربه نصب عينيه ولا يهتم بنفسه ولا يصغى للمديح.
أحسوا فعلا بأن العزيز إنسان غريب يساعد الناس طلبا لمرضاة الله تعالى وليس لإرضاء مشاعره وأحاسيسه لمساعدة مَن دونه. إنه إنسان طيب وقد توافقت مباديه التي يؤمن بها مع النظام العام ومع تعليمات السماء.
لقد أخطأوا من البداية فعليهم أن يقبلوا بما حكموه على أنفسهم. كان عليهم أن يحتملوا سرقة أحدهم فلا يتبرعوا بأنفسهم مقابل سرقة بسيطة.
كان يمكنهم أن يقولوا لو كنا سارقين فإننا نقبل حكم القضاء المصري فكان أرحم عليهم مما جنوه على أنفسهم بأيديهم.
وأحتمل أن الله تعالى يصف هذه الحقائق التي توصل إليها الإخوة ببيانه الكريم:
فَلَمَّا اسْتَيْأَسُواْ مِنْهُ خَلَصُواْ نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُواْ أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُم مَّوْثِقًا مِّنَ اللّهِ وَمِن قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّىَ يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ﴿80﴾
كانت نتيجة المناقشة بينهم وبين العزيز أن استيأسوا من عودة أخيهم معهم. وحتى نتعرف على الموقف بالضبط فلنحقق في معاني الكلمات الثلاثة الأولى وهي يأس وخلص ونجي.
اليأس كما قال الراغب تعني انتفاء الطمع. ولعل انتهاء الطمع أكثر انطباقا مع الاستيئاس لا مع اليأس المجرد. هذه الصيغة لم ترد في غير سورة يوسف من القرآن. تلك السورة التي ضمت 4 تكرارات لمادة اليأس من أصل 13 مرة مكررة في كل القرآن.
واليأس في أصله يعني الاقتناع بعدم جدوى المحاولات، وهو قريب من القنوط الذي يعني انقطاع الأمل كلية.
فلعل الفرق بين اليأس و الاستيئاس هو أن اليأس يمثل حالة نفسية محضة تحصل للإنسان سواء سعى أو لم يسع ولا يلزم أن يكون اليائس فعلا طامعا في الميؤوس منه مثل يأس الكفار من الآخرة. ومثله يأس إخوان يوسف من أن يروا يوسف في مصر بعد أن أمرهم أبوهم بأن يبحثوا عنه وعن أخيه في تلك الديار.
لكنك إذا سعيت ثم قطعت الأمل فكأنك كنت تسعى لبلوغ هدف ولم يكن سعيك في المسار الصحيح فأخذت النتيجة العكسية. وقد وردت صيغة الاستفعال هذه فقط في سورة يوسف ولمرتين لا غير. والثانية في آخر السورة حول استيآس الرسل بعد بذل الجهد. وأما قول بعض المفسرين وبالتبع بعض علماء اللغة بأن اليأس في الآية 31 من سورة الرعد يعني العلم فهو غير صحيح برأيي. بل المقصود أن يقطع المؤمنون الأمل في أن يهدي الله تعالى من لا يستحق. ذلك لأنه يناقض نظام المشيئة الصارم والعلم عند الله تعالى.
والكلمة الثانية خلص تعني صفى الشوائب. قال الراغب:
الخالص كالصافي إلا أن الخالص هو ما زال عنه شوبه بعد أن كان فيه، والصافي قد يقال لما لا شوب فيه، ويقال: خلصته فخلص، ولذلك قال الشاعر:
وضاقت خطة فخلصت منها خلاص الخمر من نسج الفِدام
أظن بأن الراغب أصاب في فهم المعنى الدقيق للكلمة وأتى بشعر المتنبي كشاهد على تحقيقه في الكلمة العربية. يهمني معرفة أن العرب شاع عندهم استعمال كلمة خلص للإنسان بمعنى السعي في تصفية قلب أو بدن والتوصل إلى أمر قد يُزيل منه أو منهم ما لم يرغبوا فيه. فلو قصد المتنبي أنه سعى للإصلاح بين خصمين مثلاً ثم انتهى إلى أمر جاز له أن يقول: خلصت من خطتي. ولو أراد التخلص من مرض فسعى وسأل الأطباء ثم انتهى إلى علاج جاز له أن يستعمل نفس الكلمة ليوضح لنا نتيجة فحوصاته بعد التخلص من الزوائد غير المطلوبة. والفدام جمع الفدم بمعنى الدم.
وأما الكلمة الأخيرة نجى فيقول الراغب ايضا:
أصل النجاء: الانفصال من الشيء، ومنه: نجا فلان من فلان وأنجيته ونجيته.
إلى أن يقول:
والنجوة والنجاة: المكان المرتفع المنفصل بارتفاعه عما حوله، وقيل: سمي لكونه ناجيا من السيل، ونجيته: تركته بنجوة، وعلى هذا: {فاليوم ننجيك ببدنك} [يونس/92] ونجوت قشر الشجرة، وجلد الشاة، ولاشتراكهما في ذلك قال الشاعر:
فقلت انجوا عنها نجا الجلد إنه سيرضيكما منها سنام وغاربه
انتهى كلام الراغب.
فإذا فهمنا معاني الكلمات المستعملة في القرآن لبيان الحالة التي وقع فيها الإخوة سنفهم قبولهم بالأمر الواقع وتركهم أخاهم عبداً يخدم العزيز وعودتهم إلى أبيهم خائبين. فهم لما اقتنعوا بعدم جدوى المناقشة مع العزيز استنتجوا ضرورة الانفصال عن أخيهم.
خلصوا يعني توصلوا إلى نتيجة بعد نفاد المحاولات.
فالمحاولات تمثل السعي لإزالة الشوائب والشوائب هي التي تحول دون العودة إلى ما كانوا عليه قبل قليل محتضنين لأخيهم. والنجاة تعني الانفصال عن الأخ الذي استيأسوا من إمكانية مساعدته وتخليصه من الورطة التي وقع فيها.
نسي الإخوة القحط والجوع والفقر وعادوا إلى أنفسهم بأنهم ظلموا أباهم من قبل ولم يقبل الأب ادعاءهم حينما كانوا مذنبين.
ثم هم الآن أمام مصيبة أخرى خارجة عن إرادتهم بل سعوا بكل ما أوتوا من عزيمة وذكاء ليكونوا صادقين ولكنهم لم يفلحوا والنتيجة بالنسبة للأب العجوز واحدة. إنه سيفقد ابنا آخر.
فكر الإخوة بأن الأب لم يصدقهم آنذاك إنه سوف يكذبهم اليوم أيضا. وإذا نقلوا القصة بالكامل فسوف يقول لهم الأب: ألم أقل لكم لا تدخلوا من باب واحد، فلماذا لم تفكروا في إمكانية حصول هذا الأمر من بينكم وتتقبلوا التهمة بصورة عامة وتفتشوا رحالكم وتعيدوا الصواع لأصحابه بدلا من الاستهتار والترفع والاستنكار وأنتم لا تعلمون شيئا عما يفعله كل فرد منكم. إنهم طالبوكم بإعادة متاعهم مقابل هدية لكم فلماذا التعنت؟
كان الإخوة متأثرين جدا بالحالة الجديدة التي سعى إليها يعقوب ولذلك لم يفكروا بالانتصار لأخيهم وأبيهم والتشبث بما يقوم به الحمقى من المكر والخداع.
على المرء أن يقبل الواقع فهو أسهل عليه وأشفق من السعي في هدف لا يملك مقوماته مثل الذين يقومون بأبشع الوسائل التي يرفضها الوجدان وترفضها الأديان السماوية.
موقف يفر المرء فيه من أخيه. جاء الآن دور الأخ الأكبر الذي منعهم من قتل يوسف ولكنه قبِل بأن يضعوه تحت تصرف العابرين ليأخذوه معهم بضاعة يستفيدون منه. إنه لم يأثم في يوسف ولكنه أثم في أبيه. نجى يوسف بسعيه حسب الظاهر ولكنه لم يفكر في الأب العجوز الذي يحملون إليه خبر مقتل ابنه كذباً. كان شريكا لإخوانه ولكن ليس شريكا بالكامل.
هذا الأخ الآن في موقف مشابه لمواقف يوم القيامة يريد أن يستفيد من أية قشة طالبا تطهير نفسه من بعض الإثم.
إنه قادر الآن على عدم مواجهة والده والاستماع إليه وهو يرفض قولهم ويقول:
بل سولت لكم أنفسكم أمرا. إنهم جميعا استيأسوا من إمكانية تقديم أي مساعدة لأخيهم الصغير ولكنه يفكر في نفسه لينجو من عتاب الأب القاسي.
وحتى نتصور الموقف جيدا دعنا نضيف إلى ذلك بأنه أب وله زوجة وأولاد وهم متلهفون لرؤيته بينهم وخاصة حينما يرون بقية إخوانه عائدين إلى بيوتهم. لقد نسي الأخ كل شيء إلا نفسَه. قال لإخوانه بأن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله تعالى كما أخذ علي موثقا أيضا. ولكني لم أشارككم في الظلم على يوسف وأنتم الذين تآمرتم ضده من قبل.
فأنا مختلف عنكم ومن حقي أن أبتعد عن وجه أبي لحظة عرض الحادث المؤلم عليه.
فتأكيده بأن إسرائيل أبوهم دون مشاركته معهم هو إسرائيل في حال الغضب وليس إسرائيل الطبيعي العادي الذي هو أبوهم وأبوه.
يذكرهم أخوهم بأن أبانا لم يأخذ منا موثقا من الله تعالى حينما أرسل يوسف معنا ولكنه فعل ذلك حينما أخذنا أخا يوسف الأصغر لأنكم فرطتم في يوسف وأنا لم أكن شريكا معكم فلماذا أرى الموقف المؤلم معكم؟ اذهبوا لوحدكم وواجهوا مصيركم دوني.
سوف يرى الأب بأننا لا نحترم حتى مواثيقنا مع ربنا فأبعدوني عن هذه التهمة.
إنني أحترم المواثيق ولا أحب الظلم ولم أفكر يوما في التخلص من يوسف كما فعلتم. إنكم صادقون في أخي يوسف من أمه ولكنكم بدوني أثمتم في يوسف فمن حقي وحدي أن أبقى بعيدا عن المواجهة مع الأب.
ولو أنني أخطأت اليوم كما أخطأتم ولكن المصيبة هي مصيبة يوسف التي سوف تتجدد عند أبينا.
لقد أخطأت آنذاك أنني أخفيت عن أبي حقيقة الأمر لأجلكم وسوف تنكشف الكثير من المسائل لأبينا بل علينا أن نكشف له المسائل حتى لا نزداد إثما.
إنكم لا ترضون بذلك فاذهبوا لوحدكم وأنا أنتظر إذن أبي. إنني أحتاج إلى إذنه ليعلم بأنني لم أكن مذنبا معكم.
نحن أخطأنا بأننا أعطيناه المواثيق ألا نترك أخانا إلا إذا أحيط بنا، وقد تركناه دون أن يُحاط بنا. كنا قادرين على أن ننجو من تهمة السرقة ولكن أبت نفوسنا المتكبرة ذلك.
فأنا لن أترك هذه الأرض التي بها أخي حتى يأذن لي أبي لأنني مخطئ. ثم إننا جميعا أخطأنا حينما قلنا للعزيز بأن له أخا سرق من قبل وهذا يعني بأنه ليس أجنبيا عن السرقة ولعل هذا الذي منع أخانا عن أن يدافع عن نفسه. فنحن لم ندافع عنه كما وعدنا أبانا بل دافعنا عن كرامتنا دونه.
ولو أن أبي لم ير لي حقا فلم يعف عن حقه في ذمتي ولم يأذن لي فسأنتظر حكم الله تعالى الذي لا يمكن أن يترك أمرا دون أن يحكم فيه وهو خير لي من كل حاكم. إنه أرحم الراحمين وخير الحاكمين فآمل من ربي أن يجد لي حلا لأتمكن من العودة إلى أهلي عندكم وبجواركم.
ودعاؤه هو أن يحكم الله تعالى لصالحه وليس ضده بما يُرضي الأب الذي أخذ عليه المواثيق. ولذلك قال متمنيا ربه: أن يحكم الله لي.
يبدو لي بأن الإخوة العشرة جميعا لم ينتبهوا إلى أن غياب أكبرهم غير مبرر. لم ينتبهوا إلى أنهم لا شعوريا سوف يعطون أباهم مادة أخرى ليشك فيهم ويتهمهم بالمكر.
وما نقرؤه في الآيتين التاليتين يدل على أن الأكبر أراد أن يساعد إخوانه ويعلمهم الخطاب المناسب لأبيهم لكنه نسي فعلا بأن غيابه من بينهم ملفت للانتباه.
لقد تعلموا الكثير ولكنهم لا زالوا يجهلون حصافة أبيهم وقدرته العقلية الكبيرة.
إن الأخ الصغير وإخوانه يسعون كثيرا لاتباع وعظ الأب العتيد ولكن الجهل متفش فيهم.
كان لجوء الأخ الأكبر إلى الله تعالى جميلا جدا ودليلا على رشده لاعتقاده بأن الذي يفيده بقوة هو الله تعالى وليس هو أبوهم يعقوب.
هذا دليل آخر على أنه في صدد البحث عن مخارج متفرقة لقضيته وبأنه غير مصر على المستمسكات القَبَلية الغبية.
قال لإخوانه وهو يعلمهم:
ارْجِعُواْ إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُواْ يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ ﴿81﴾ وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيْرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ﴿82﴾
ارجعوا إلى أبيكم يعني لا تحكموا بشيء وعودوا إلى أبيكم بكل صدق واعرضوا عليه المسألة هكذا. وبقوله (أبيكم) أخرج نفسه من المأزق وأكد بأنه غير مذنب.
وبما أن الأمر بالرجوع لا يعني العودة بأبدانهم بل كما قلت بنفوسهم إليه ليساعدهم دون أن يحكموا بشيء ولذلك استعمل الفاء بقوله: فقولوا. ولم يقل: وقولوا.
هذا أيضا دليل آخر على أنهم يلِجون أبوابا متعددة لحل مشكلتهم ولا يكتفون بفهمهم الشخصي مما يهدينا إلى أنهم فعلا قد تغيروا وأصبحوا يسعون للمزيد من العلم وأصبحوا يتقبلون غيرهم وأصبحوا يثقون بأن كل إنسان يحمل علما وعقلية يمكن أن يفيد بهما غيره.
فكيفية الرجوع إلى الأب هو أن يخاطبوه أولا بأنه أبوهم ليتم الاستمالة الفكرية واستعداد المتعلم ليسمع من المعلم.
ثم إنه أدرك بأن إعادة المسألة إلى الأم هو اتهام غير صحيح للأم أولا وقد أضرهم دون أن ينفعهم ثانيا. عليهم الإذعان بأن ابن يعقوب يمكن أن يسرق أيضا فيشملهم جميعا.
لقد أصبحوا أكثر واقعية فهم الآن يتأثرون بالمحيط ويتعلمون من أخطائهم ويسعون لعدم تكرار الخطأ.
ولو كانوا كما كانوا من قبل لقالوا: إن ابن فلانة (أم يوسف) سرق. ونحن لم نره يسرق حتى نمنعه ولكن الوزير أثبت لنا بأنه سرق حينما أخرج السقاية من رحله الشخصي ولم يستنكر أخونا ولم يسع للدفاع عن نفسه فعلمنا بأنه سرق وشهدنا عليه لأننا ما دافعنا عن عمله إذ لا مجال لذلك.
ثم إننا وعدنا بأن نحافظ عليه ولكننا كيف نحفظه في الغيب. إنه دخل على يوسف قبلنا وخرج منه ولم نكن معه لنحفظه ونمنعه من مد اليد للتحف الموجودة في غرفة العزيز.
و قال المرحوم الزمخشري بأنهم قالوا (ما علمنا أنه سيسرق حين أعطيناك الموثق) وهو كلام جميل. وقد ظن الكثيرون بأن الحفظ للغيب يعني العلم بالغيب، سامحهم الله تعالى و إياي.
ثم أمرهم أخوهم الكبير بأن يقترحوا على أبيهم أن يسأل التجار الذين كانوا في صدر القافلة التي التحقوا بها كما يسأل مالكي السيارات الناقلة 64. إنهم رأوا كل الحادث ويمكنهم أن يمنحوا يعقوب مزيدا من الاطمئنان بأن أولاده غير مقصرين في هذه القصة بالذات.
يبتع …..
(هامش 63: هذا الذي يفقده الإسرائيليون اليوم مع الأسف كما يفقده العرب أيضا ولذلك فكل منهم يغني على ليلاه التي ماتت وأصبحت نسيجا خياليا لا أكثر. مع احترامي للذين ننتمي إليهم جميعا ولكنهم ميتون لا حراك فيهم ولا قوة والقوة كلها لله تعالى الذي يملكنا جميعا ويديرنا جميعا ونحتاج إليه وحده. نهاية الهامش 63.)
(هامش 64: القرية في العربية تعني المكان الذي يحييه أصحاب الثروات باعتبار قدرتهم على التجمع والاستضافة. ولذلك تُطلق كثيراً على أصحاب القرية وعيونها.
وفي القرآن نرى كثيرا من هذا النوع من الاستعمال وهذا ما نفسر به تعذيب القرية أو إيمان القرية وما شابههما.
ونحن لا ندري أين كان يسكن يعقوب وأولاده ولكننا نعلم بأن القرية تعني كبار أهل القرية الذين يتمكنون من تحريك القوافل التجارية ويستعدون لحمايتها من اللصوص والطامعين.
وأما القول بأنهم قالوا له اسأل أهل مصر فهو تعليق بما يشبه المحال. كيف يتمكن يعقوب ماليا من إرسال شخص يتحقق من الموضوع، ومن يرسل غير أولاده؟
والواقع برأيي أنهم طلبوا من أبيهم أن يسأل أهل القرية التي حركت القافلة من بلدهم وليس أهل القرية المصرية. ولذلك فضلوه على العير لأن يعقوب يعرفهم ويعيش بينهم أو بجوارهم. ثم إنهم أضافوا العير وهم الذين يسيرون الجمال حتى لا يظن يعقوب بأن هناك مجاملة ما بين أولاده وبين تجار قريتهم.
خدم العير عادة ما يكونون دون مستوى المسافرين أو هكذا يتصرفون فلا يمكن تصور مجاملة بينهم وبين أبناء يعقوب. والعلم عند الله تعالى. نهاية الهامش 64.)
أحمد المُهري
تابع مركز #تطوير_الفقه_الاسلامي
https://www.facebook.com/Islamijurisprudence/
ان كان لديكم الرغبة في الانضمام لمجموعة النقاش في المركز برجاء ارسال بريد الى :