يوم القيامة – القسم الثاني ح 1-المسائل التي يمكن أن نتعلمها في عالم البرزخ
يوم القيامة – القسم الثاني ح 1
القرآن يؤكد بقاء الناس جميعا أحياء عند الله تعالى:
وأما مسألة بقاء الشخص عند الله فهو ثابت بهذه الآية من سورة الأنبياء: وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ (93) فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ (94) فلو لم يكن له وجود مع شعور لما عاد إلى الله تعالى. وأما الحياة بمعنى عدم الفناء فهي واضحة من نفس الآية أيضا، والحياة بمعنى الاحساس والشعور فهي غير قابلة للإنكار باعتبار أن كل الناس سيرون ويشاهدون الحوادث الكونية التي سوف نذكرها بعد قليل، كما أن هناك من يُصعق بعد مماته ببلايين السنين. ولا معنى لصعقة الميت. فالناس جميعا أحياء عند الله ولكن حياتهم تختلف شدة وضعفا تبعا لما يحملونه معهم في نفوسهم.
المسائل التي يمكن أن نتعلمها في عالم البرزخ:
قال تعالى في سورة المؤمنون: لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلاّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100). البرزخ في اللغة تعني الحاجز أو الفاصل بين شيئين زمانا أو مكانا. وقد وردت الكلمة 3 مرات في الكتاب الكريم، منها واحدة بمعنى الفاصلة الزمانية وهي هذه الآية الكريمة التي تدل بأن وراء كل الموتى برزخ زماني إلى يوم يبعثون. هذا البرزخ يمثل الفاصلة الزمانية بين موت الفرد بمعنى خروجه من البدن حتى يوم تنشيطه لصناعة بدن جديد لنفسه يوم البعث وهو قبل يوم الحساب. سنكون منفصلين عن أبداننا التي ستندثر في مكونات النشأة الأولى التي نعيشها اليوم. سنكون نفوسا في البرزخ حتى نُحاط بالأبدان الجديدة بعد أن يعيد الله تعالى صياغة كل الكون ليبقى بقاء أبديا تحت عنايته الكريمة.
ولا أظن بأن هناك ارتباطا وتبادلا كلاميا مع الله تعالى، سوى أن الناس بأنفسهم سوف يكونون أقرب إلى الله تعالى منهم في الحياة الأولى. وأنا لا أرى معنى للقرب من الله تعالى غير القرب المعرفي منه سبحانه؛ بمعنى أن يصير الفرد أكثر معرفة بالقدوس مستفيدا من إمكاناته النفسية المختلفة في مختلف حالاتها. في هذه الفترة سوف نتعلم الكثير من المسائل الجديدة التي نحتاج إليها لمواجهة المصير مثل:
أولا– كيفية الارتباط بآبائنا الأولين وبأبنائنا الآخرين وبالأمم الأخرى الذين سيقفون معنا أمام الله تعالى يوم المحكمة الكبرى. من الواضح أن اللغات التي تعلمناها غير مجدية في العالم الجديد. إن اللغة غير قادرة على استيعاب المفاهيم الجديدة وتناولها. نحن اليوم نضع الكودات لمجموعة المفاهيم التي نتداولها ولكل طبقة وشعب وأمة منا كوداتهم وإشاراتهم واختصاراتهم الخاصة بهم. الأطباء والمهندسون والفلاسفة ورجال الدين ورجال السياسة والعسكريون والصناعيون والحِرَفيون ووو… فإن كل فرقة منهم وتبعا لكل زمان ولكل مكان وحتى كل حزب وكل فريق وكل أسرة فإنهم يحملون كودات ومرجعيات خاصة بهم توصلهم إلى مقاصدهم التي اتفقوا عليها مسبقا ونشأوا عليها مما لا يسع الآخرين فهمها بالدقة المطلوبة هناك. لكننا وفي العالم الأبدي فسوف نصنف على أساس آخر لا يرتبط لا بالعائلة ولا بالأمة ولا باللون ولا بالوطن ولا بالجنس ذكرا أو أنثى. سوف نحتاج إلى التعرف على كل ما قيل بشأننا في الدنيا لنعرف كل خصوصيات الجلسة القضائية التي سنحضرها بأنفسنا دون توكيل محامين بشريين أو جنيين أو خبراء يطلعون على الحيثيات أكثر من أصحاب الدعوى كما هي في عالمنا الفعلي. بيد أن لكل مجموعة منا اليوم لغة علمية أو قومية تختلف عما هي لدى الآخر. إن هناك دون شك وسيلة أخرى للتعارف والتواصل شبيهة بالإيحاء وهي لغة القلوب والأنفس والتي ستبقى معنا حتى بعد عودتنا للأبدان الجديدة. نحن بتلك الوسيلة نتفاهم مع كل الناس في آن واحد وسوف نتعلمها كاملة في البرزخ.
ثانيا- هناك الجن والشياطين الذين كانوا معنا في الحياة الدنيا وهم يروننا من بُعد آخر من أبعادنا غير المعروفة بيننا اليوم. إنهم في خصام معنا لكون بعضهم قرناء لبعضنا فعلينا أن نتعلم كيفية التفاهم مع الجن أيضا. ولا يخفى بأننا سوف نرى الكثير من الموجودات الكونية بأبعادها الأخرى التي لا نعرفها اليوم ويجب علينا أن نتعلمها في البرزخ.
ثالثا – على الجميع أن يتفاهموا مع الملائكة وهم لا يتحدثون باللغات ولا يستعملون الأسماء في تفاهمهم. إن لغة تفاهمهم بالتأكيد غير مقيدة بالأسماء بقدر ما هي مقيدة بالحقائق التي تشبه عناوين الكمبيوتر. إنهم يتعرفون على كل موجود بحقيقته أو بعنوانه ونحن لا نعرف ذلك وللملائكة مسؤوليات كبيرة في تبويب المدعوين إلى القضاء الرباني المتصف بالقسط والقسط أبلغ من العدل.
رابعا- إن هناك أوامر ودعوات إلهية لكل الناس مع الجن وهم في حالتهم النفسية البرزخية، والجميعُ بحاجة أن يتعرفوا عليها ليتجاوبوا معها. مثال ذلك الدعوة للخروج من الأرض وهي مذكورة أكثر من مرة في القرآن الكريم. إنها دعوة للخروج ولكن ليست باللغة التي نعرفها اليوم بل هي بلغة الطبيعة التي لا نعرفها بالدقة المطلوبة آنذاك. نحن لا نعرف لغة الحيوانات اليوم إلا قليلا فكيف بلغة السماء والأرض والهواء والأمواج والإشعاعات. سوف نصير أدق من التلفزيونات الجديدة التي تتجاوب مع الإشعاعات التي تبثها إليها وسائل التحكم عن بعد.
خامسا – إن نفوسنا التي تمثل حقيقتنا اليوم سوف تتطبع على ما نُحمّلها نحن من أفعال تصطبغ بها (نفوسنا) في الدنيا. هذه الصبغة التي طلينا بها نفوسنا تمثل حقيقتنا الجديدة. فنحن آنذاك نفوس سوّاها الله تعالى وسمح لنا بأن تفعل ما تشاء فتحولت النفوس البريئة إلى نفوس مسؤولة سعيدة أو شقية، تبعا لما عودناها عليه. فالتعامل في الواقع سيكون مع النفوس المتطورة لا مع الأبدان ولا مع خلايا المخ التي نتركها جميعا حين الممات لتتفاعل مع تركيبة الأرض التي انبثقنا منها. فعلينا بأن نتعرف على قراءة حقيقة النفوس وكيفية الاتصال بها لنعرف أنفسنا وأنفس خصومنا من الجن والإنس. هذا النوع من الارتباط لا يتم بمساعدة اللغة الكلامية والملامس الجلدية والألوان والأمواج الصوتية والصور الفوتوغرافية التي نعرفها هنا. لو لم نتعرف على إيحاءات وإشعاعات النفوس فسنكون عاجزين عن الدفاع عن أنفسنا وهو ما يتناقض مع سياسة القاضي الديان بديع السماوات والأرض جل جلاله.
سادسا: ولو نتعمق في دمار الكون فسوف نعلم بأننا سوف نرتبط في فترة البرزخ بكل الذين يعيشون في الكواكب الأخرى ثم يفصلنا الله تعالى عنهم ليعود كل منا إلى كوكبه الذي سوف يُحاسب ثم يعيش فيه الأبدية. هذا الاختلاط ضروري لنتعرف على بقية الكائنات المشابهين لنا فنعلم بأن الله تعالى كان عادلا معنا كما كان عادلا معهم.
كل ذلك سوف نتعلمها في عالم البرزخ احتمالا. إذن عالم البرزخ ليس فارغا ننتظر فيه ما سيحل بنا بل هي عالم الإعداد والاستعداد لمحكمة من نوع غير مألوف لأحد ومشروح نسبيا في كتاب الله تعالى. إن تناول كل هذه المسائل قرآنيا يأخذ وقتا طويلا نتركها لجلسات التفسير بإذن الله تعالى.
يتبع
أحمد المُهري
#تطوير_الفقه_الاسلامي