نظرية ظهور العلم 9 – نقطة واحدة تكفي
نظرية ظهور العلم 9 – نقطة واحدة تكفي
كان الدافع الرئيسي وراء هذا البحث هو الكشف عن “العلاقة الآثمة” بين الثقافة العربية القديمة وبين “الإدراك البدائي”, والعلاقة الآثمة هذه هي العلاقة التي أنجبت لنا “الفقه الاسلامي القديم”. تعود أهمية الكشف عن هذه العلاقة إلى أهمية التخلص من الفقه الاسلامي القديم الذي يمثل سوء فهم لكتاب الله, وفتح الطريق أمام الفقه الاسلامي الجديد الذي يمثل حسن فهم لكتاب الله. المشكلة, وهي مشكلة كبرى, هي أن أي محاولة للكشف عن هذه العلاقة الآثمة تصطدم دوما بموضوع الإسهام “المذهل” الذي قامت به الثقافة العربية “المعجزة” في تقدم المعرفة البشرية في قطاع العلوم. كيف لك, حياك الله, أن تلطخ ثوب العبقرية الناصع البياض بالحديث عن أنظمة إدراك بدائي؟ كيف لك أن تنكر بركان العلم الذي انفجر في البصرة بعد دقائق من وصول عتبة بن غزوان؟ كيف لك ألا ترى بغداد؟ وماذا عن قرطبة. حقيقة الأمر, لا بد من الاعتراف بالصعوبة المطلقة لتقبل فكرة الثقافة العربية البدائية. من يستطيع أن يتحدث عن نظام إدراك بدائي أمام كل هذا العلم؟ من يستطيع أن يتحدث عن البدائية أمام كل تلك المدن التي تضيء العالم على دجلة, وشط العرب, وبردى, والنيل؟ المسألة صعبة للغاية, إلا أن علينا أن نحاول.
بدأت المحاولة في البصرة. كشف البحث أن الإنتاج العلمي في البصرة لم يكن إنتاجا علميا “عربيا” وإنما كان إنتاجا علميا “فارسيا” تحت رعاية الإمبراطورية العربية. قام علماء عرب بمشاركة الفرس فيما كانوا يصنعونه, طبعًا, إلا أنها كانت مشاركة من نفس النوع الذي قام به أحمد زويل, ومصطفى السيد في الولايات المتحدة. حقًا, كانت البصرة تحت السيطرة السياسية للإمبراطورية العربية, وحقًا كان الإنتاج مكتوبًا, أو منطوقًا, باللغة العربية, إلا أن “الثقافة” التي كان يدور الإنتاج العلمي في إطارها كانت ثقافة فارسية. كما بين البحث, مرة أخرى, يستحيل أن يتحول أبناء القبائل العربية الأمية إلى علماء بمجرد خروجهم من نجد والحجاز ودخولهم البصرة. بين البحث أن جميع من شاركوا في الدراسات القرآنية, واللغوية, والفقهية, والأدبية في البصرة كانوا من “أهل البلد”, وليس من “المستوطنين الجدد”. أي كانوا من الفرس وليس من العرب.
إذا كان البحث قد دار حتى الآن حول الإنتاج العلمي في قطاع “العلوم الإنسانية” من فقه إلى علم لغة, فيمكن القول إن الوقت قد حان لإلقاء نظرة على العلوم “الطبيعية”. يهدف البحث هنا, مرة أخرى, لدراسة الإسهام الحضاري العربي في تقدم المعرفة البشرية في قطاع العلم.
في محاولة مني للتعرف على الإنتاج العلمي العربي في قطاع العلوم الطبيعية قمت بالبحث على الشبكة عن “العلماء المسلمين”. بمجرد أن كتبت عبارة “العلماء المسلمين” (باللغة الإنجليزية) حتى ظهر لي عديد من المواقع التي تتعلق بهذه النقطة. قمت باختيار موقع ويكيبيديا حيث إنه في العادة الأكثر تنظيما. ظهرت لي قائمة طويلة تضم أسماء العلماء المسلمين الذين ساهموا في تقدم المعرفة البشرية في قطاعات الفلك, والكيمياء, والجغرافيا, والرياضيات, والأحياء, والطب, والهندسة, والفيزياء. وعليه, اخترت أول قائمة – أي قائمة علماء الفلك – حيث كانت هي أطول قائمة. كانت الفكرة هي أن من الممكن النظر إلى هذه المجموعة من العلماء على أنها تمثل “عينة” يمكنها أن تلقي الضوء على موضوع الإسهام العربي في مجل العلم.
حيث كان الأمر قد استقر على أن “الثقافة” التي عمل العالم من خلالها هي التي تحدد “جنسية” العلم وليس “البصمة الوراثية” للعالم, ولا اللغة التي كتب بها العلم, عليه عمدت إلى وضع مكان ميلاد العالم بعد اسمه – بغض النظر عن بصمته الوراثية – على أساس أن مكان الميلاد, عادة, هو ما يحدد الثقافة. إلا أني انتبهت إلى أن الترتيب المستخدم في القائمة لا يفيدني حيث أورد الموقع أسماء العلماء المسلمين حسب الترتيب الأبجدي. عليه, قمت بتغيير الترتيب بحيث يكون ترتيبًا زمنيا, يأتي فيه علماء القرن الأول الهجري أولا, يليهم علماء القرن الثاني الهجري, وهكذا. يبين الترتيب الزمني الفترة التي عمل فيها هؤلاء العلماء. سوف أورد قائمة أسماء العلماء المسلمين في حقل علم الفلك كما أوردها موقع ويكيبيديا بالترتيب الزمني الذي قمت به, على أن يتم نقاش بعض النقاط المتعلقة به بعد ذلك :
قائمة أسماء العلماء المسلمين الفلك :
إبراهيم الفزاري 777 |
الخوارزمي 780 خوارزم – خوراسان |
أحمد نهاوندي 803 نهاوند – إيران |
محمد الفزاري 806 |
جعفر بن موسى 850 خوراسان |
أحمد بن موسى 850 خوراسان |
الحسن بن موسى 850 خوراسان |
أبو العباس الفرغاني 850 فرغانة |
الفرغاني 861 فرغانة |
أبو عبد الله المهاني 870 مهان – كرمان – إيران |
المروزي 870 مروة – إيران |
البلخي 886 بلخ – خوراسان |
أبو العباس النيريزي 922 نيريز – إيران |
محمد بن سنان الصابئي 929 حران |
أبو الفضل الهراوي 950 الري – إيران |
الفارابي 951 فاراب |
أبو جعفر الخازن 971 خوراسان |
عبد الرحمن الصوفي 986 الري |
أبو حامد الساغاني 990 ساغان – بالقرب من مرو |
أبو الفا البوزجاني 998 بوزغان – خوراسان |
أبو سهل الكوهي 1000 كوة – طبرستان |
أبو محمود الخجندي 1000 طاجيكستان |
المجريطي 1008 مدريد |
أبو الحسن بن يونس 1009 القاهرة |
كشيار الجيلاني 1029 جيلان – إيران |
أبو نصر بن علي بن عراق 1036 جيلان – إيران |
ابن سينا 1037 بخارى |
أبو الحسن بن أبي الرجال 1037 غير معروف |
ابن الهيثم 1040 البصرة |
البيروني 1048 |
أبو إسحاق الزرقلي 1087 طليطلة |
أبو الفتح الخازني 1130 مرو – خوراسان |
عمر الخيام 1131 نيسابور |
ابن باجة 1138 سرقوسة |
ابن طفيل 1185 غرناطة |
ابن رشد 1198 قرطبة |
شرف الدين الطوسي 1213 طوس – خوراسان |
أوحد الدين أنوري 1189 تركمنستان |
بديع الزمان الجزري 1206 كردستان |
مؤيد الدين العردي 1266 حلب |
نصير الدين الطوسي 1274 خوراسان |
قطب الدين الشيرازي 1311 قيصرون |
شمس الدين السمرقندي 1310 سمرقند |
علاء الدين بن الشاطر 1375 دمشق |
جمشيد كاشاني 1429 كاشان – إيران |
ميرزا محمد بن شاه رخ 1449 السلطانية – إيران |
تقي الدين بن معروف الشامي 1585 تركيا |
قبل النظر فيما يمكن استنتاجه من القائمة أعلاه, لابد من التوكيد على إدراكي التام أنها تمثل قطاعا ضيقا للغاية من الإنتاج العلمي الصادر باللغة العربية ابتداءً من العام الرابع عشر من الهجرة وانتهاءً بالعام الرابع والثلاثين بعد ألف وأربعمئة عام من الهجرة. يحتاج تقييم الإنتاج العلمي العربي في قطاع العلوم إلى دراسة متأنية لكافة المخطوطات الموجودة في جميع المكتبات في جميع أنحاء العالم في جميع التخصصات العلمية من يوم أن بدأ الإنتاج العلمي باللغة العربية إلى يوم الله هذا. تحتاج مثل هذه الدراسة, كذلك, إلى أن يتوفر عليها علماء من أهل التخصص بحيث يقوم أهل الكيمياء بدراسة المخطوطات المتعلقة بالكيمياء, وأهل الفيزياء بدراسة المخطوطات المتعلقة بالفيزياء. لن يكتفي هؤلاء العلماء, بالطبع, بكتابة قائمة تضم أسماء العلماء المؤسسين, وتاريخ وفاتهم, وأماكن ولادتهم, وحسب, وإنما ستدرس أيضا ما قاموا به لتبين مدى إسهامهم في “صنع العلم” وتقدم المعرفة البشرية في مجالهم. تلزم الإشارة أيضًا إلى ضرورة تكوين “فرق بحث” تكون مهمتها البحث عن تلك المخطوطات التي لم يتم رصدها في الكتب التي عرضت لتاريخ العلم والسعي نحو العثور عليها سواء في المكتبات الكبرى, أو خزائن الملوك والأمراء, أو المكتبات الخاصة.
لا يوجد لدي أدنى شك, على الرغم من ذلك, في صلاحية القائمة التي أوردها موقع الويكيبيديا لبدء “التحليل” على أساس أن هذه القائمة تمثل “عينة” لن تختلف كثيرًا عما سينتهي إليه البحث الكامل والشامل لكافة المخطوطات في جميع العصور في كل أنحاء العالم. كما يقول الدكتور سمير الشورى باستمرار: في العلم لا تتطلب المعرفة بخصائص مياه البحر تحليل كل نقطة من مياه البحر. نقطة واحدة تكفي. يجب أن نتذكر, إضافة إلى ذلك, أنه في حالة ما إذا أسفر هذا البحث الكامل عن نتائج مختلفة فلا توجد أية مشكلة في تعديل النتائج التي توصل إليها تحليل قائمة ويكيبيديا. باختصار شديد, يلزم عدم النظر إلى نتائج تحليل قائمة ويكيبيديا على أنها تمثل التحليل النهائي والأخير للإسهام الحضاري العربي في تقدم المعرفة البشرية في قطاع العلم. آمل أن يتلو التحليل الذي يقدمه هذا المقال دراسات أخرى أكثر تعمقا وأكثر اتساعًا. هذا هو ما يقوم به العلماء باستمرار – بيان جوانب قصور النظرية العلمية المستقرة في مجال تخصصهم. لهؤلاء العلماء كل التحية والتقدير, وفقهم الله في عملهم. وعليه,
أولا, تبين القائمة “بمنتهى الوضوح” كيف بدأ الإنتاج العلمي باللغة العربية على استحياء في أواخر القرن الثاني من الهجرة حيث لا يوجد لدينا سوى عالمين اثنين فقط من علماء الفلك هما إبراهيم الفزاري والخوارزمي. مع مقدم القرن الثالث, على أية حال, يحدث انفجار في عدد علماء الفلك حيث يتوافر لدينا 11 عشر عالما, أي بمعدل عالم كل عشر سنوات تقريبا. يستمر الأمر على هذا المنوال في القرنين الرابع والخامس. مع مقدم القرن السادس, على أية حال, يهبط المعدل إلى النصف تقريبا. كما يهبط إلى الربع في القرن السابع, وهو ما يتكرر في القرن الثامن. وفي القرن التاسع يعود الأمر إلى ما كان عليه في البداية حيث لا يظهر سوى عالمين اثنين فقط هما جمشيد كاشاني وميرزا محمد شاه بن رخ. وأخيرًا, وبحلول القرن العاشر لا يوجد لدينا سوى عالم واحد هو تقي الدين بن معروف الشامي. وهكذا ينتهي الإنتاج العلمي باللغة العربية في حقل علم الفلك.
ثانيا, تبين القائمة, وبمنتهى الوضوح كذلك, كيف كانت بداية ظهور علم الفلك باللغة العربية بداية فارسية في القرن الثاني الهجري, وكيف استمرت فارسية خالصة في القرنين الثالث والرابع. ظهرت المشاركة العربية بشكل قوي بدءًا من القرن الخامس حيث شاركت الثقافة العربية بأربعة علماء دفعة واحدة جاءوا من البصرة, والقاهرة, وطليطلة ومدريد. تبين القائمة كذلك كيف استمرت المشاركة العربية في القرن السادس بشكل قوي كذلك حيث تقاسمت الأندلس قائمة علماء الفلك مع فارس بظهور ثلاثة علماء في كل من سرقوسة, وغرناطة, وقرطبة. لم تشارك الثقافة العربية في القرن السابع سوى بعالم واحد من حلب, وانتهى الإسهام في القرن الثامن بعالم واحد من دمشق. انتهى الإسهام الفارسي كذلك بعالمين اثنين فقط في القرن التاسع هما جمشيد كاشاني وميرزا محمد بن شاه رخ. كان آخر من كتب في علم الفلك باللغة العربية هو التركي تقي الدين بن معروف المعروف بالشامي.
ثالثا, توضح القائمة كذلك أن الإنتاج العلمي في حقل علم الفلك بدأ فارسيا, واستمر فارسيا, وانتهى فارسيا. لم تتوقف فارس عن إنتاج علماء فلك يكتبون باللغة العربية بدءًا بالخوارزمي في أواخر القرن الثاني من الهجرة وانتهاءً بمحمد بن شاه رخ في القرن التاسع. لم يبدأ الإنتاج الثقافي العربي إلا في القرن الخامس الهجري, أي بعد مرور مائتين وخمسين عامًا على بدأ الإنتاج العلمي الفارسي باللغة العربية. استمرت الثقافة العربية في مشاركة الثقافة الفارسية في إنتاج العلم في الفترة من القرن السادس إلى القرن الثامن, إلا أنها توقفت تماما في القرن التاسع على حين استمرت الثقافة الفارسية في الإنتاج وإن كان بشكل ضعيف. مع مجيء القرن العاشر كانت الثقافة الفارسية قد خرجت تماما من إنتاج العلم باللغة العربية في قطاع الفلك. كان آخر من كتب في علم الفلك باللغة العربية هو العالم التركي تقي الدين بن معروف المعروف بالشامي.
رابعًا, توضح خريطة العالم العربي أن أماكن إنتاج العلم في العالم العربي لا توجد في القلب من العالم العربي وإنما توجد في الأطراف. يظهر ذلك بوضوح تام في أنه على حين ساهمت القاهرة بعالم واحد لها, وكذلك البصرة, وحلب, ودمشق, فإن الأندلس ساهمت بخمسة علماء جاءوا من مدريد, وطليطلة, وسرقوسة, وغرناطة, وقرطبة. أي أن الأندلس وحدها قد ساهمت بعدد من العلماء أكثر من العدد الذي ساهم به كل الوطن العربي.
خامسا, توضح خريطة العالم الإسلامي أن أماكن إنتاج العلم تركزت في منطقتين اثنتين, الأولى في فارس والثانية في الأندلس. ساهمت الأندلس بخمسة علماء يمثلون 10% من مجموع علماء الفلك في العالم الإسلامي. ساهمت فارس بستة وثلاثين عالمًا يمثلون 72% من مجموع علماء الفلك في العالم الإسلامي. ساهم باقي العالم العربي بأربعة علماء فقط يمثلون 8% من مجموع علماء الفلك الذين كتبوا في العلم باللغة العربية.
بدأ الإنتاج العلمي باللغة العربية في قطاع علم الفلك بداية فارسية, واستمر فارسيا, وانتهى فارسيا. مثل الإنتاج العلمي الفارسي الغالبية العظمى للإنتاج العلمي في هذا القطاع. تمثل النقاط الخمسة أعلاه ما يعرف في العلم باسم “الحقائق”. هذه هي “الحقائق” ويبقى التحليل. وهو ما سيأتي في مقال تالٍ إذا شاء الله أن يعطينا عمرا.
كمال شاهين
#تطوير_الفقه_الاسلامي
#نظرية_ظهور_العلم
https://www.facebook.com/Islamijurisprudence/