نظرية ظهور العلم 8 -هكذا يعمل العالم
نظرية ظهور العلم 8-
هكذا يعمل العالم
في محاولتنا فهم ما حدث في البصرة في القرن الأول الهجري نظرنا إلى ما حدث في دبي, وما حدث في الإسكندرية, وما حدث في سنغافورة. يبقى أن ننظر إلى ما حدث في قرطاجة وما حدث في ماساتشوستس. وهو ما سأعرضه بمنتهى الإيجاز.
تقول الأسطورة إن الملكة إليسا ملكة صور اكتشفت أن زوجها الملك آخرباس لم يمت ميتة طبيعية – كما أخبرها أخوها بيجماليون – وإنما قام بيجماليون بقتله من أجل الاستيلاء على الملك. جمعت الملكة إليسا مجموعة من الرجال الأشداء وانطلقت نحو تونس حيث أسست مدينة قرطاج. نافست قرطاج مدينة صور فيما كانت تعمل فيه صور: التجارة. انطلقت سفن قرطاج تحمل البضائع من كل مكان في البحر الأبيض المتوسط إلى كل مكان في البحر الأبيض المتوسط في حماية أكبر قوة بحرية في البحر الأبيض المتوسط: البحرية الإمبراطورية القرطاجية. سيطرت قرطاج على أكثر من ثلاث مئة مدينة في البحر الأبيض المتوسط ووصلت سفنها التجارية تحت حماية سفنها الحربية إلى سواحل بريطانيا تحمل إلى سكان بريطانيا ما يريدونه وتحمل هي منهم ما تريده هي. هكذا أصبحت قرطاج عاصمة واحدة من أكبر وأقوى الإمبراطوريات التي شهدها العالم القديم. حقيقة الأمر, لم يعد الناس يشيرون إليها باسمها وإنما باسم “مدينة الضياء”. عندما يحل المساء كانت أنوار المنازل في قرطاج تضيء البحر الأبيض المتوسط.
يقول التاريخ إن السفينة “ميه فلاور” انطلقت من المياه الإنجليزية في طريقها إلى أمريكا الشمالية تحمل على ظهرها أول مجموعة من المهاجرين إلى تلك القارة. بالضبط, مائة واثنان من الرجال, والنساء, والأطفال. كان ذلك في 5 أغسطس 1620. وصلت السفينة إلى السواحل الأمريكية في 21 نوفمبر 1620, أي بعد رحلة استمرت أربعة شهور تقريبا. هبط المهاجرون في منطقة يسميها أصحاب البلاد – الهنود الحمر – ماساتشوستس. في عام 1636, أي بعد 16 عاما (ستة عشر عاما) من وصولهم إلى ماساتشوستس أسس ركاب الميه فلاور “جامعة هارفارد”. أسس ركاب السفينة ميه فلاور بعد ستة عشر عاما فقط من وصولهم إلى بلاد الهنود الحمر أعظم جامعة في كوكب الأرض.
انطلقت الجيوش الإمبراطورية اليونانية إلى مصر وطردت الجيوش الإمبراطورية الفارسية وأسست مدينة الإسكندرية ومارس اليونانيون فيها ما كانوا يمارسونه في أثينا: صناعة العلم والتجارة. انطلقت مجموعة صغيرة من الرجال والنساء من فينيقيا وأسسوا في تونس مدينة الضياء ومارسوا فيها ما كانوا يمارسونه في فينيقيا (وهو نفس الشيء الذي ما زال أهلنا وأحبابنا في فينيقيا يمارسونه إلى الآن): التجارة. أنشأت الإمبراطورية البريطانية تحت حراسة البحرية الإمبراطورية البريطانية مدينة في الملايو تسمى “سنغافورة” جمعت فيها الصينيين والهنود. في عام 1963 حملت الجيوش الإمبراطورية البريطانية عصاها على كاهلها ورحلت, تاركة سنغافورة لأهلها من الصينين والهنود ليمارسوا فيها ما يمارسه الصينيون والهنود: التجارة. انطلقت الجيوش الإمبراطورية البريطانية كذلك إلى أمريكا الشمالية وأنشأ الإنجليز مستعمرة ماساتشوستس ومارسوا فيها ما ما كانوا يمارسونه في بلاد الإنجليز: الزراعة, والتجارة, وصناعة العلم. في عام 1833 انطلق ثمانمئة رجل من بني ياس خارجين من نجد إلى الخور ليؤسسوا دبي, لم يكونوا يملكون شيئا سوى الحلم بأشياء أفضل. انفجرت آبار النفط, وجاء مال لا نهاية له بإذن الله, اشترى به بنو ياس كل ما يحتاجون شراءه من أجل بناء “المدينة الحلم”. في عام 14 هجرية قامت الجيوش الإمبراطورية العربية بطرد الجيوش الإمبراطورية الفارسية والاستيلاء على كامل الأراضي التي كانت تحميها هذه الجيوش وتأسيس مدينة البصرة ومارسوا فيها ما كانوا يمارسونه في الحجاز ونجد: تقديم “الحماية” للزراع, والصناع, والتجار. تماما مثلما أعطت الإمبراطورية البريطانية أهل سنغافورة الفرصة لممارسة ما يستطيعون ممارسته, أعطت الإمبراطورية العربية أهل البصرة الفرصة لممارسة ما يستطيعون ممارسته.
كان من المستحيل أن يتحول اليونانيون إلى مصريين لأنهم أقاموا لـ”أنفسهم” مدينة لهم في مصر. كان من المستحيل أيضا أن يتحول المصريون إلى يونانيين لأن اليونانيين أقاموا لـ”أنفسهم” مدينة في مصر. كان من المستحيل كذلك أن يتحول الفينيقيون إلى ليبيين لأنهم أقاموا لـ”أنفسهم” مدينة في ليبيا (تونس حاليا). كان من المستحيل أيضا أن يتحول الليبيون إلى فينيقيين لأن الفينيقيين أقاموا لأنفسهم مدينة في ليبيا. كان من المستحيل كذلك أن يتحول البريطانيون إلى ملايو, أو صينيين, أو هنود لمجرد أنهم أنشأوا مدينة للملايو, والصينيين, والهنود, كان من المستحيل أيضا أن يتحول الملايو, أو الصينيون, أو الهنود إلى بريطانيين لأن البريطانيين أنشأوا مدينة لهم وللملايو, والصينيين, والهنود. كان من المستحيل كذلك أن يتحول أعظم مهندسي تخطيط مدن في العالم, وأعظم مصممي أزياء في العالم, وأعظم طهاة في العالم إلى بني ياسيين (إذا جاز التعبير) لمجرد أنهم بنوا المدينة الحلم لبني ياس. كان من المستحيل أيضا أن يتحول بنو ياس إلى أعظم مهندسي تخطيط مدن في العالم, وأعظم مهندسي تصميم داخلي في العالم, وأعظم طهاة في العالم لمجرد أن أعظم مهندسي تخطيط مدن في العالم وأعظم مهندسي تصميم داخلي في العالم قد أقاموا لبني ياس “المدينة الحلم”. كان من المستحيل كذلك أن يتحول الإنجليز إلى هنود حمر لمجرد أنهم أقاموا “لأنفسهم” مستعمرة في فيرجينيا وأخرى في ماساتشوستس. كان من المستحيل كذلك أن يتحول الهنود الحمر إلى إنجليز لمجرد أن الإنجليز قد أقاموا لأنفسهم مستعمرة في ماساتشوستس. حقيقة الأمر, لم يلتحق الهنود الحمر بجامعة هارفارد في ماساتشوستس حيث إن الإنجليز قاموا بإبادتهم “بالكامل” قبل أن ينشئوا في ماساتشوستس جامعة هارفارد. وأخيرًا, كان من المستحيل على العرب أن يتحولوا إلى فرس لمجرد أنهم أنشأوا لهم وللفرس مدينة على شط العرب. كان من المستحيل كذلك أن يتحول الفرس إلى عرب لمجرد أن العرب أقاموا لأنفسهم وللفرس, والهنود, والزنوج مدينة على شط العرب. مارس الفرس ما كان الفرس يمارسونه: الزراعة, والتجارة, وصناعة العلم. ومارس العرب ما كانوا يمارسونه في بلاد العرب: تقديم “الحماية” للزراع, والتجار. هذا ما قدمه العرب في بلاد فارس لأن هذا ما كان يقدمه العرب في بلاد العرب.
قدمت الإمبراطورية العربية الأمن لملايين الزراع, والصناع, والتجار فأتاحت لهم ممارسة ما يستطيعون ممارسته في أمان واطمئنان. قامت الإمبراطورية العربية بحماية طرق التجارة عبر إمبراطورية تمتد من المحيط الأطلسي, إلى المحيط الهندي, إلى أواسط آسيا, فازدهرت التجارة والصناعة. قامت الإمبراطورية العربية كذلك بفرض لغة موحدة نطق بها الأسبان, والأمازيغ, والأقباط, والسوريان, والفرس, والكرد, والترك. أتاحت الإمبراطورية العربية, بهذا الشكل, الفرصة لعلماء شبه جزيرة أيبيريا أن يتحاورا مع علماء أواسط آسيا. وهكذا أصبحت اللغة العربية لغة العلم. تماما مثلما كانت اللغة اللاتينية لغة العلم في أوروبا العصور الوسطى, وكما أصبحت اللغة الإنجليزية (بلكنة أمريكية) لغة العلم في القرن العشرين. هكذا يعمل العالم.
إذا كان العرب لم يقدموا علما في البصرة فإن ذلك يعود إلى أنهم لم يقدموا علما أصلا في بلاد العرب. كيف يسيطر المصريون على التجارة العالمية وهم لا يسيطرون, أصلا, على التجارة المصرية؟ كيف يقوم الحبش بريادة العالم في فنون الطهي وهم يخرجون من مجاعة ليقعوا في مخمصة؟ كيف يقوم التشاديون بتدريب الإنجليز على الطرق الحديثة في إدارة المصارف وهم لا يملكون دولارًا واحدًا في مصارف تشاد.
أعتقد أن السؤال الذي تطرحه هذه المقالة هو السؤال التالي:
على أي أساس يمكننا أن نتوقع من مجموعة بشرية أن تقوم خارج بلادها بأداء عمل لم يسبق لها أن مارسته داخل بلادها؟
ما تقوله هذه المقالة هو أن العالم “لا يعمل” بهذا الشكل. تجب الإشارة, على الرغم من ذلك, إلى أني سأكون شاكرًا للغاية لو قام أحد ببيان فساد هذه الفرضية و”أثبت” أن العالم إنما يعمل, فعلاَ, بهذا الشكل. حقيقة الأمر, سوف أكون من أسعد الناس لو اتضح فساد هذه الفرضية التي أساندها. يعود ذلك إلى أن ذلك سيكون, بدون أدنى شك, فتحا مذهلا في حقل علم النفس الثقافي.
كمال شاهين
#نظرية_ظهور_العلم
#تطوير_الفقه_الاسلامي
https://www.facebook.com/Islamijurisprudence/