التعامل مع الارملة المراد الزواج معها
التعامل مع الأرملة المراد الزواج معها
قال تعالى في سورة البقرة:
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴿234﴾ وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاء أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّىَ يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ ﴿235﴾
التوفي معناها استعادة الوديعة على يد مالكه بسلاسة ودون مقاومة من المودَع عنده. وهذا الفعل لا يتم بدون وجود فاعل ومفعول ولو افتراضا لأن الفعل غير لازم. فإذا أردنا افتراض الفاعل دون ذكره لزم نقل الفعل إلى المجهول كالعادة.
ومن طرائف القصص ما ذكره الزمخشري من أن أبا الأسود الدؤلي اشترك في جنازة فسُئل عن الميت هكذا: مَن المتوفِّي؟ فرد الدؤلي: الله تعالى. ولما بلغ الخبر أميرَ المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام شعر الإمام بخطورة تداخل العجمة بين العرب ولعله فزع من اضطراب الناس شيئا فشيئا في فهم كتاب الله تعالى. ولعل هذه القصة -كما يتوقعه بعض أئمة النحو- هي التي دعت الإمام أن يأمر صاحبه أبا الأسود لكتابة علم النحو. والحق مع أبي الأسود، حيث أن المتوفِّي هو الله فعلا ولكن الميت هو المتوفَّى.
وقد بين الله تعالى الذين يُتوفون في مكانين في الكتاب الكريم. قال تعالى في سورة النحل: وَاللّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ ﴿70﴾ وقال سبحانه في الحج ضمن الآية الخامسة: {…ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا…} فهناك فرق بين الذي يموت والذي يُتوفى من حيث العموم والخصوص. إن كل الناس لا محالة ميتون ولكنهم ليسوا جميعا الذين يُتوفون عند الموت. إن الذي يفقد عقله وصوابه كاملة في نهايات العمر فيقال بأنه خرف مثلا، فهو الذي يفقد نفسه في الواقع قبل موته. ولم يقل الله تعالى للذين يفقدون أنفسهم قبل الموت بأنهم متوفون. لقد سمى الله تعالى الذين ينامون بأنهم يُتوفون حال النوم كما سمى الذي تموت نفسه بأنه يُتوفى. وفي الواقع أن الذي يموت هو البدن وليس النفس التي ستبقى إلى الأبد ولكن الله تعالى تحدث عنه بقوله الكريم: حين موتها، ليفرق بين الذي يموت بلا نفس والذي يموت مع النفس.
فمفارقة البدن مؤلمة للنفس وتُعتبر نوعا من الموت الناقص لها ولذلك اعتبرها الله تعالى إيجابيا وليس سلبيا في أماكن أخرى من الكتاب الكريم حيث يقول سبحانه في سورة الملك: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2). الموت إيجابي إن عبر به عن انتقال النفس إلى مكان آخر وليس عن موت كامل في الحقيقة. هو موت نسبي باعتبار مشاهدة الأحياء الباقين في الدنيا لصاحب النفس وتسميتهم إياه بالميت. ومفارقة النفس مصاحِبة لمفارقة الإرادة التي هي من أعمال النفس وهي الأمانة التي تحدث عنها القرآن الكريم في سورة الأحزاب بظني القاصر. فالذي يخرف هو فاقد للإرادة فعلا، والإرادةُ عملٌ إنساني باعتباره خليفة لله تعالى في هذه الأرض الدنيوية فقط. والذي يفقد إنسانيته ولم يمت، فهو إما أن يبقى بدنُه الحيواني أو يموت البدنُ الحيواني وتبقى الخلايا النباتية التي لا تملك الترابط بين أجهزة البدن إلا بالقدر اليسير. هناك يبقى الشخص حيا بالحياة الحيوانية أو النباتية وكلاهما دون مستوى الحياة الإنسانية وتعتبران عودة إلى البدائية وردا إلى أرذل العمر حسب تعبير الكتاب المجيد. ويصاحب هذه العودة غير المطلوبة فقدان العلم الذي هو أيضا من خصائص النفس الإنسانية لدى هذا النوع من الخلق.
فالمشار إليهم في الآية الكريمة هم الذين يموتون دون أن يدخلوا الخرف وإلا فلا داعي للعدة. فإذا مات أحد من الذين يُتوفون وترك زوجة فهي مشمولة بالحكم. ولا يشمل الحكم الرجال لقوله تعالى: والذين يُتوفون منكم لمن يطرأ عليه الوفاة ثم حكمه على الأزواج (الزوجات) بقوله الحكيم: يتربصن. والسبب في ذلك أن مسؤولية المرأة في الحياة الزوجية مسؤولية مهمة وبالغة الحساسية. فمن جانب تمثل الجهة القابلة والخازنة للجانب الطاقوي الإيجابي من مكونات البشر، ومن جانب آخر فهي مسؤولة عن كل المسائل التربوية للأشخاص الجدد. سواء في ذلك الحاجات الغذائية أو التطهيرية أو الكسائية أو الأخلاقية أو رعاية الحالات المرضية والحساسة التي يمكن أن تهيج المشاعر. ولذلك فإن انتقال هذه المسؤوليات إلى الآخرين ليس سهلا بل يحتاج إلى الكثير من العناية والإمعان. وذلك بعكس الرجل الذي تنحصر مسؤولياته في الدفاع ضد الأعداء وفي جلب المال.
وللحساسية البالغة التي تخيم على هذه الحالة الطارئة فإن الله تعالى يبادر بعلاج المسائل التالية بحكمة بالغة ضمن الآيتين موضوعي التفسير:
1) حزن المرأة الشديد على فقدان زوجها ومعيلها ومعيل أولادها وحاميها أحيانا، عالجه سبحانه بالتوقيت. ذلك لأن كل حزن ينقشع بصورة طبيعية ويتعلم المرء كيف يعيش مع وجود تلك المصيبة حتى تضحى المصيبة كأن لم يكن، لكن العادات والتقاليد تحول دون سريان المعالجات الطبيعية. لو تُرك الناس وما يفعلون فإن كل شخص وتبعا لما يدور في خلده من أسباب وعوامل أو من مصالح ومساومات، سوف يقاوم كل الدوافع الداعية إلى عدم نسيان الماضي وبدء مرحلة جديدة من الحياة بما هو متسن وموجود. فالآية الكريمة وضع لتربص المرأة بنفسها أجلا محدودا بالعدد، و أباح بعدها الزواج، والزواج من أجلى مظاهر الفرح وغير مساوق للحزن والبكاء.
2) الزمان المحدود حكيم جدا فهو أكثر من أية عدة أخرى وأكبر من أكبرها وهي الزمان الذي يجب على الزوج أن يصبر ويتربص بعد الإيلاء والقسم على أمر جاهلي أحمق، ثم يجوز له الطلاق أو العودة الطبيعية ودفع كفارة القسم. ومقدار التفضيل هو عشرة أيام وهي عدة كاملة لمسائل أخرى. فالوحدات حكيمة ومتقنة ولا تقبل الاعتراض عليها. ثم إن هذه العدة حوالي نصف مدة الحمل. ذلك يعني أن المرأة لو كانت حاملة فإنها سوف تبدأ بالشعور بالثقل بعد انقضاء العدة. هذا الشعور بالثقل والألم يواسي المرأة ويعوضها بعض الشيء عن الشعور بالحاجة إلى الزوج أو إلى الصديق المخلص والوفي.
3) هناك مسألة اقتصادية تفرض نفسها على الأرملة وهي أنها في حين حدادها واستقبالها للمواسين تفكر في مستقبل أمرها المالي والاقتصادي. لقد خسرت المسئول عن كسب الخبز والمسئول عن الدفاع والحماية. فلو كان هناك أشخاص يحبذون الزواج منها، فإن الله تعالى أباح لهم البوح أمامها ببعض ما ينوون. وضع الله تعالى حدا لهذا البوح الذي يمكن أن يكون له دور كبير في منح الأرملة المفجعة نوعا من الأمل وبصيصا من النور بأن أبواب الرحمة لم تقفل بالكامل. إن هناك في الأفق ما يمكن أن يحل محل الخسارة الكبرى وما يمكن أن يعيد إليها وإلى أولادها بسمة الرجاء والثقة في الحياة الحرة الكريمة مستقبلا. إن مع العسر يسرا. هذا الحد يشمل الإشارة إلى مقدمات الخطبة مثل التعريض أو الكناية وإخفاء المعنى في النفس. فالتعريض ويعني عرض الرجل على المرأة وبأنه مستعد لمواساتها ودفع الأذى عنها، دون الإفصاح بالزواج، والإكنان يعني أن يُقال لها مثلا إن المستقبل ليس مظلما كما تظنين فهناك ألف ممن يتمناكِ. كلتا الطريقتين تحفظان احترام أيام الحداد ولكنهما تمنحان المشرفة على اليأس بحبوحة من الأمل ومرآة مصقولة تُظهر الزينة والجمال وتبعد اليأس والقنوط.
4) لم يمنع المرأة من الكف عن الزواج إذا استحبت ذلك ولكنه سبحانه منع غيرها من أن تثبط همتها أو تقف حائلا أمام ما تريده لنفسها من حياة مشتركة مع كفو آخر بالحسنى وبالمعروف. ولم يكتف سبحانه برفض أي جنحة على أهلهما لو تزوجت بعد العدة بل هددهم بأن الله تعالى خبير بما يعملون ليضمن تشريعيا عدم المساس بالمرأة التي فقدت زوجها لتبحث عن زوج مناسب لها بالكيفية التي ترتضيها لنفسها. تملك المرأة في تلك الحالة كامل الحرية لأخذ القرار بشأن نفسها وليس للمجتمع إلا أن تساعدها على بلوغ هدفها لو أنها راعت العدة المحددة قرآنيا.
5) حرم الله تعالى عزم عقدة النكاح وهو تبادل خاتمي الخطبة بين الخطيبين في منطقنا المعاصر. هذا العزم هو مظهر فعلي للفرح والحبور وهو مضاد للحداد. لكنه سبحانه أباح ما يعيد الثقة بنفسها فحسب، دون أن يسمح لما يحفز مشاعر الأسرتين ضدها وضد الزوج الجديد.
6) في مقابل ذلك وبعكس حالة الطلاق فإن الله تعالى لم يشرع عدة للرجل الذي فقد زوجته. ذلك لعدم وجود من تتضرر ولأن الرجل عاجز فعلا عن إدارة البيت. ألم نر أن المرأة وحدها تسمى ربة البيت ولم ينادِ أحدٌ الرجلَ برب البيت مثلا. كما أنه سبحانه لم يذكر أيضا بأن من حق الزوج المتوفاة زوجته أن يتزوج في أسرع وقت. وكلاهما لحكمة بالغة باعتقادي. فأما المسألة الأولى فلا يمكن للمشرع أن يقرر تأخير الزواج للزوج ما لم يجد حلا لمشاكل البيت والأطفال ومشكلة الرجل نفسه. إن الكثير من الرجال عاجزون عن الصبر على فقدان شريكة الحياة و محتاجون فعلا إليها بعكس النساء القويات الصامدات. ولو اشتغل الرجل برعاية الأطفال وتنظيم البيت فمن يأتي بالمال؟ وأما المسألة الثانية فإن هناك بعض الرجال الأقوياء والذين لا يشعرون بحرج أمام أطفالهم أو ليس لهم أطفال، وهم يحبون الامتناع عن الزواج والبقاء على أحلامهم الجميلة بالشريكة الأولى أو الكفء الجيد. من حق هؤلاء ألا يتزوجوا لو شاءوا بعد موت زوجاتهم وليس لأحد الحق في تحريضهم على العكس.
ومن يقرأ كتاب الله تعالى بدقة يشعر بأنه سبحانه يحبذ علاقات المحبة والود ويفضلها على علاقات الغرام والشهوات. ولنا في محمد رسول الله عليه الصلاة والسلام أفضل نموذج للمحبة الخالصة والود الصادق بين الزوجين. هذا الإنسان، عين الإنسان قد تزوج بامرأة أكبر منه سنا بخمسة عشر عاما احتمالا وبادلها الحب والود الصادقين. وحينما توفت السيدة الكريمة خديجة بنت خويلد آثر رسول الله أن ينكف عن الزواج وبقي عازبا لمدة ثلاث سنوات كما يقولون، ويبدو أن أمر الرحمن حال دون بقائه في تلك الحالة. ويُقال أن إحدى العجائز المؤمنات رقت عليه ونصحته بأن يتزوج ولا يبقى فريدا في البيت وهي التي خطبت له عائشة كما خطبت له امرأة أرملة أخرى ذات خمسة أو سبعة أولاد، ولعل الرسول قد تزوج بالأرملة قبل عائشة رضي الله عنهما كما يروون. ولا يتنافى ما فعلته المؤمنة مع كون الزواج الجديد بأمر من الله تعالى ولكنها قامت بذلك بتقدير من رب العالمين.
وأما تفسير الكلمات والمقاطع:
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ: و أما حكم الذين يموتون قبل سن الخرف من رجالكم.
وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا: ويخلفون من ورائهم أزواجا لهم عشن معهم حياة زوجية كاملة. نقول ذلك باعتبار أن الذي يموت عن زوجة لم يدخل بها، فتكون الزوجة غير منتقلة إلى بيته ولا يصدق عليه بأنه ترك الزوجة. والذي يضاد ذلك هو الإمساك بالمعروف ومعناه التمسك بالحياة الزوجية. وقد ذكر الله تعالى ذلك في من طلق زوجته ثم أراد أن يعود إليها بموافقة منها فسمى العودة إمساكا ولا يمكن أن يصدق ذلك على غير الحياة الزوجية الكاملة. والتأكيد على المتوفى هو لأن غير المتوفى لم يكن قبل وفاته قادرا على النهوض بكامل واجبات الزوجية. وكلمة يذرون فعل مضارع للجمع المذكر، وجدير بالذكر بأن العرب لا يستعملون ماضي وذر ولا مصدره، ولكنا قلنا وذر وهو الفعل الماضي، للعلم فقط.
يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا: التربص هو الانتظار للقيام بعمل لم يقم به المرء حين التربص. فمعنى الجملة أن التي ماتت زوجها تعتد لوفاة زوجها مدة أربعة أشهر وعشرة أيام. وتفسير العشرة بالأيام لأن الله تعالى أمر بأن يقوم أهل الميت بتمتيع الزوجة سنة كاملة في بيتها الذي عاشت فيه مع زوجها والسنة أقل من أربعة عشر شهرا فمعنى العشرة ليست أشهرا بالتأكيد. وهي ليست أسابيع إذ أن عشرة أسابيع هو أكثر من شهر فلو كان المقصود أسابيع لقال ستة أشهر وأسبوعا وثلاثة أيام مثلا. فلم يبق غير الأيام ليميز العدد والعلم عنده سبحانه.
فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ: بلوغ الأجل يعني انتهاء العدة باعتبار عدم وجود أجل أو موعد قبله فالبلوغ معناه الانتهاء وليس الابتداء. والأجل باعتبار الوجوب التشريعي المذكور ضمن معنى التربص الوارد بلفظ يفيد الأمر.
فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ: الفاء ليفيد عدم وجود مسوغ للشعور بأي إثم أو حرج اجتماعي بعد أن انتهى الأجل الذي حدده الله تعالى. والجُناح معناه الإثم لما قاله الراغب في المفردات: {جنحت السفينة، أي: مالت إلى أحد جانبيها، وسمي الإثم المائل بالإنسان عن الحق جناحا ثم سمي كل إثم جناحا}.
والذي يتبادر إلى الذهن هو أن المقصود من هذا المقطع هو إثبات عدم وجود حرج حينما يرفع الله تعالى عنهم الإثم. وهو واقع وصحيح إذ أن المسلم عليه بأن ينتقل شيئا فشيئا لتطبيع نفسه على وصايا رب العالمين وترك التقاليد التي لا توافق مع ما يحبذه الله تعالى لعبيده.
فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ: الفعل في النفس هنا إشارة إلى تقبل الزوج أو البحث عنه. إنها تهب نفسها لمن تشاء أو تعرض نفسها على من تشاء وكلاهما فعل ولا مانع يمنعها مما تراه صالحا لها ولمستقبلها وملائما للعرف العام. ومراعاةُ العرف ضرورية لتجنب الملامة واكتساب ود المجتمع ومساعدته وتأييده.
وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ : يبدو بأن الله تعالى مصرٌّ على منح المرأة كامل الحق لتدبير مستقبلها بيدها ويأمرُ الآخرين بمساعدتها لا بالوقوف عثرة أمامها. ولذلك يهدد من يمنعها بأي شكل من الأشكال بأن الله تعالى خبير بما يعملون. والواقع أن الله تعالى خبير بما تعمل هي أيضا ولكن لفظ الخطاب الجمعي لا يمكن أن يفسر بغير المجتمع الذي يحيط بها ويتربص بما تفعله في نفسها.
وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاء أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ: الخطبة هي دعوة المرأة لحبس نفسها على شريك في الحياة، وتتم الخطبة بالتوافق والتراضي بينهما. والخَطب يعني الشأن والأمر ذا البال، ولذلك استعملوا نفس الجنس لخِطبة النساء باعتبارها مسألة مهمة تُبنى بها الأسرة وتقام عليها بنيان المجتمع السليم والقوي. وتتم الخِطبة على مراحل: تبدأ بالسؤال عن الفتاة وعن أهلها ثم التعريض ويعني أن يتم عرض الرجل على المرأة وأهلها بأنه إنسان لائق عاقل متمكن ماليا وبدنيا وعلميا أحيانا وما يتبع ذلك من موارد القوة والشأن. ويقوم أهل الشاب أو نفسه بعرض نفسه على الفتاة أو على أهلها. والمرحلة الثالثة من الخطبة هي أن يتهيأ مجلس التحادث والحوار بين الفتى والفتاة. في هذا المجلس يتحدث الفتى عن إعجابه بالمرأة وأسرتها وعن أسرته وشهامتهم وحبهم لمن ينتسب إليهم وما شابه ذلك مما يشجع الفتاة على القبول بتبادل المحابس. في هذه المرحلة لا يصرح أحد بشيء من الزواج بل هي مرحلة مشجعة لها وإظهارٌ لرغبة الرجل في التعرف على الأسرة الجديدة وعلى استعداده للقيام بدراسة جدية للانتساب إليها. كل المسائل الزوجية تتم داخل النفوس دون أن يظهر شيء على الساحة أو يقوم أحد بالتصريح أو المصارحة مع الطرف الآخر.
وقد أذن الله تعالى لمن يريد أن يوحي إلى الأرملة بأنه ينتظر خروجها من العدة ليخطبها أن يفعل ما يشاء في هذا الشأن وضمن إطاري التعريض لنفسه والإيحاء مُخفيا رغباته في كنانة نفسه. والإكنان يعني الإخفاء على ما يقول الفيروز آبادي في القاموس:
{الكِنُّ، بالكسرِ: وِقاءُ كلِّ شيءٍ وسِتْرُهُ، كالكِنَّةِ الكِنانِ، بكسرِهما، والبَيْتُ ج: أكْنانٌ وأكِنَّةٌ. وكَنَّهُ كَنَّاً وكُنُوناً وأكَنَّهُ وكَنَّنَه واكْتَنَّهُ: سَتَرَهُ}.
عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا: ولا شك بأن اجتياز المرحلتين السابقتين من الخِطبة يخلق الوله والشوق في نفسيهما أو في نفس الرجل المنتظر على الأقل. إنه ينتظر بفارغ الصبر فرصة سانحة ليبوح لها بغرامه، لكن ذلك لا يتناسب مع الشأن الفعلي. إن للمتوفى حرمة في نفوس الناس ولا يريد الله تعالى أن يرفع هذه الحرمة من القلوب بل يُبقيها بتشريعاته الحكيمة. فمنعَ الرجال من القيام بأي عمل يتعدى التعريض والكناية التي تعطي المرأة نوعا من الأمان لمستقبلها. إنه سبحانه لا يرغب بأن يقفل عليها باب الخيار أيضا، فيمنع ما يحبسها حبسا عرفيا كاملا لأنها ليست في حالة يمكن معها التفكير بحرية وراحة بال. هناك مرحلة يجب اجتيازها لتتسنى لها مجاراة الشريك المادّ يده في حرية التفكير وفي الاختيار الصحيح. فيوضح الله تعالى بأنه سبحانه مع علمه بمشاعر الرجل في البوح بما يخفيه من حب لشريكته في المستقبل وهو يعني بأن هذه المشاعر صحيحة وليست مخالفة لتشريعاته الحكيمة ولكنه سبحانه لا يأذن بإفشائها أمام المرأة قبل انتهاء عدة الوفاة. فيأذن سبحانه في المراودة ويأمر بالاكتفاء بالكناية وإخفاء الوله. سوف تقرأ المرأة مشاعر الخطيب الجديد وسوف تُكبّر احترامه لمشاعر الحزن لديها.
وأما ما قاله بعض الإخوة المفسرين بأن المواعدة سرا تعني اللقاء الجنسي الكامل فهو فعلا بعيد عن الواقع ولا يعتد بقولهم هذا أبدا. كل الحديث يدور مدار الخِطبة لا النكاح ولا إظهار الغرام فضلا عن اللقاء الخاص. إنه سبحانه يمنع حتى من إكمال الخِطبة. هذا النوع من التفسير الشاذ ناتج عن الاستهتار بالمرأة واعتبارها إنسانة من الدرجة الثانية وقد خُلقت لمداعبة الرجال وإطفاء شهواتهم. إنهم يجهلون بأن المرأة سيان مع الرجل ولا فرق بينهما عند الله تعالى. أتمنى أن يأتي اليوم الذي يزول فيه كل مظاهر استغلال الرجل للمرأة فيعود الرجال إلى رشدهم ويعلموا بأن لا فضل لهم على أحد إلا بالتقوى. لطالما تفوقت المرأة على الرجل حتى في الدنيا وليست الآخرة إلا إفشاءً لحقائق القلوب التي كسبت ما كسبته في الدنيا. ولا ريب أن المواعدة سرا لا تتعدى المجلس الذي يجب عقده قبل إنهاء مراسم الخطبة ليتحدث فيها الزوجان مع بعضهما حول رؤيتهما للمستقبل. هذه الجلسة تكون عادة جلسة خاصة بينهما وبعلم ولعل حضور أهل المرأة على الأقل ولكن بعيدين عن سُماع نقاشهما الخاص بهما وبتطلعاتهما للحياة المقبلة. وهذا الأمر موافق للعرف وشائع حتى في المجتمعات القديمة وليس غريبا على الناس.
وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّىَ يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ: اللقاء الجنسي مشترك بين الحيوان والإنسان وليس من النكاح في شيء. والنكاح عبارة عن عقد يبرمه الزوجان مع بعضهما البعض ليحبا بعضهما ويدافعا عن بعضهما كل بإمكاناته وفي حدود فعالياته، وتوافقٌ مشترك على تبادل الإمكانات لتأسيس أسرة صغيرة تنجب عنها أناسي جدد. وليس للنكاح أي معنى من معاني الحركات الجنسية المشتركة بين كل الحيوانات. ولكن الإنسان المتحضر لا يُشرع لنفسه القيام بأي عمل حيواني من هذا النوع إلا بعد أن يتم التناكح بينه وبين جنسه المختلف فسيولوجيا معه والمكمل له. يجوز للمتناكحين أن يخصصا بعض وقتهما للقاءات والمداعبات الجنسية ولا يجوز ذلك لغيرهما من البشر ولكن ليس ذلك معنى النكاح. حتى الذي يهدف الجنس في نكاحه فهو إنسان ناقص لا يعرف معاني الحب ولا يعلم شيئا عن المشتركات الكثيرة الأخرى بين الرجال والنساء. وفي الواقع ذلك ما يختلي به الزوجان ويعتبرانه عورة لهما وليس هو كل المسألة.
والنكاح بعكس المسائل الأخرى فهي تتميز بالعقدة ولكن عقدة المسئولية واحتباس النظر وعدم الرفث مع الغير. وكلما تُوثق تلك العقدة فإن النكاح يتجلى ويتبلور أكثر فأكثر. وعزم العقدة معناه حبس النفس لئلا تتزوج مع شخص آخر غيره وغيرها.
وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ:
يعلم الله تعالى كل ما يجول في خواطر الناس ولا يمنع من ذلك. إن من حق الإنسان أن يفكر في كل شيء ليدرسه ويتعرف على عواقبه قبل أن يأتي به إن خيرا أو شرا. لكنه سبحانه لا يسمح للمؤمن بأن يأخذ قرارا ويعزم نية لعمل السيئات. هناك يبدأ الإثم. وبما أن موضوع العلاقة بين الرجل والمرأة حساس جدا فإنه سبحانه يحدد البوح بما في القلوب، كما شاهدنا ذلك في سعينا لفهم الآيتين الكريمتين.
ثم إن كل من يريد أن يفكر أو يناجي نفسه أو غيره في أمر غريب فإنه ينظر في كل جوانبه ليضمن عدم وجود ثان أو ثالث يسمعه. فالله تعالى يحذرنا بأنه دائما شاهد وناظر يسمع ويرى ويعلم كل ما نفكر فيه وكل ما نقصده ونهم به. ولذلك فإنه سبحانه من رحمته يحذرنا من أنه سميع بصير ولكنه في نفس الوقت غفور حليم. الغفران في هذا المورد شأن سماوي لأنه سبحانه يريد أن يختبرنا كما يريد أن يربينا تربية صحيحة لنصل إلى الحقائق بتفكيرنا الشخصي. فالله تعالى يرى بأن الغفران ومعناها الستر ضروري لئلا تتأثر الحرية الممنوحة لنا من أجل الاختبار ومن أجل أن يمنحنا الفرصة لترك السيئات من طيب خاطر ودون الشعور بالجبر. فعلينا حينما نسعى لأخذ قرار بالعمل أن نشعر أنفسنا بأن الله تعالى موجود يسمعنا ويرانا وبأنه سبحانه من منطقه الاختباري يغفر ويستر ليختبرنا وبأنه سبحانه حليم لا نعرف حدود حلمه. فهو سبحانه أحيانا يصبر حتى لو قمنا بقتل أحد من عبيده الطيبين.
هذا هو الخطر الكبير أمامنا. فعلينا مراعاة كل ذلك. كما علينا الانتباه بأن الله تعالى يُكرم عبيده وقد وضع لتكريمهم قواعد وضحها لنا في كتابه السماوي لئلا نمس كرامة الناس بأنهم بشر خلقهم الله تعالى ويحب أن يُدخلهم جميعا في رضوانه وجناته. فإذا كان ربنا غفورا حليما فهل يجوز لنا أن نمارس العقاب ونُسرع في الحكم ضد الآخرين؟ فالمقطع الكريم من الآية الكريمة يهدد ويخوف كما أنه يشجع الطيبين ليبقوا طيبين في كل حال وليحترموا من خلقهم الله تعالى مثلهم يحمل كل المشاعر الإنسانية. والله العالم بحقائق الأمور.
أحمد المُهري
14/10/2019
#تطوير_الفقه_الاسلامي