يوسف أيها الصديق ح 35 – إِلاَّ حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ
تواصلا مع شرح سورة يوسف :
يوسف أيها الصديق ح 35 – إِلاَّ حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ
فاليهود قليلو التوسع في الفكر والسبب في نجاحهم في بعض المسائل هو أن التاجر لا يفكر إلا في المال والطبيب ينحصر فكره في الطب والمهندس في الكمبيوتر و…و….وهكذا.
ولذلك يجتهدون في تلك الجزئية من جوانب الحياة فيتقدمون كثيرا ولكنهم يخفقون في الجوانب الأخرى.
ويندر أن نجد يهوديا يفكر في مجموعة مختلفة من المسائل. فقال لهم يعقوب ناصحا أن لا يدخلوا المسائل في حياتهم من باب واحد بل يتوسعوا في تفكيرهم فينظروا من كل الجوانب. لم يقل لهم يعقوب ليدخل كل منكم من باب بل قال ادخلوا جميعا من أبواب متفرقة. كان يعني بأن ينظروا إلى المسائل من كل الأبواب.
وأما تعقيبه بأنه لا يغني عنهم من الله من شيء فهو ليقول لهم بأن سعي الإنسان لا يُغنيه عن ربه ولكنه سوف يستمتع بالمزيد من المعرفة من ربه لأنه يفتح مختلف أبواب قلبه وفكره للإلهام السماوي.
ولنعلم بأن الله تعالى لا يمكن أن يفرض العلم على أحد إن لم يستعدّ الشخص نفسَه للتعلّم 54.
وأما كلمة (الحكم) فقد وردت في القرآن كثيرا في سبيل بيان الحقائق العلمية.
فالحكم بالأمر يعني الجزم بأن النظرية صحيحة، أو اختيار جواب من بين مجموعة من الأجوبة، والحكم بأنه المقابل السليم لسؤال السائل.
فتكون رسالة الآية بأنه يعتمد في الجزم بصحة الموضوع على الله تعالى الذي يصح التوكل عليه دون وجل لأنه تعالى لا يخطئ أبدا وهو كفيل بأن يسدد خطى الذين يسيرون على دربه ويتبعون طريقه المستقيم.
بالطبع أن معرفة أن الله تعالى كفيل بمساعدة من يسعى كان واضحا لدى الأنبياء ومن يسير معهم ولم يكن في متناول العامة من الناس كما أظن.
ونصيحة يعقوب بأن يتوكل المتوكلون على الله لا على غيره إشارة واضحة إلى أبنائه الواقفين أمامه والذين توكلوا في قصتهم مع يوسف على قوتهم وعلى مكرهم، لم يهتموا بالله ولا بتعليمات السماء 55.
وقال إبراهيم كما في نفس سورة الشعراء:
رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83).
والحكم هنا هي القدرة على الفصل بين الصحيح والسقيم أو الحق والباطل حيث يؤدي فهمه و اتباعه إلى أن يرتقي المرء إلى درجات الصالحين عند الله تعالى.
وما اتباع العقلاء من المؤمنين لخالص التشريعات السماوية إلا اندفاعاً وراء قوانين الطبيعة التي تبوح بها الكتب السماوية لتساعد الناس على التفاعل السليم معها وهي مما لا يمكن تجاهله في واقع الأمر.
فهم يتوكلون على الله تعالى في اتباع قوانين القرآن باعتبار أن البشر لا يمكنه الوصول إلى حقائق الطبيعة بسهولة ولو وصل فإن وصوله ليس وصولا شموليا يمكن الاتكاء عليه بل يحتاج إلى التوكل على العزيز الحكيم عز اسمه.
وأذعن الأبناء لنصيحة شيخهم المُلهَم وتغيرت أفكارهم تماما، كما سأوضح ذلك تباعا حينما نمر على قراراتهم المستقبلية بإذن الله تعالى.
وهكذا نجح يعقوب في تغيير أبنائه المباشرين حيث نصحهم في اللحظة المناسبة والدقيقة فهيأهم للنزوح إلى مهد الحضارة البشرية آنذاك ليبنوا ما قدر الله تعالى لهم.
ولننظر إلى القرآن الكريم كيف يشرح أحوال إخوة يوسف بعد أن أطاعوا أمر أبيهم:
وَلَمَّا دَخَلُواْ مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم مَّا كَانَ يُغْنِي عَنْهُم مِّنَ اللّهِ مِن شَيْءٍ إِلاَّ حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ﴿68﴾.
وبنظرة خاطفة نشعر بأن المفسرين الأكارم ابتعدوا كثيرا عن مفهوم النصيحة الإسرائيلية. فهل هناك أحد لم يعرف معنى الإصابة بالعين وهل قال يعقوب مسألة علمية كبيرة حينما أمرهم بأن يتجنبوا عيون الحاسدين كما يصوره المفسرون للكتاب العزيز؟ وهل منعُ أولاد اسرائيل من التعرض لعيون الحاسدين كان سببا لأن يقضي الله تعالى ليعقوب حاجة أخفاها في نفسه؟
بالطبع أنهم قالوا بأنه أراد أن يدخلوا فرادى على يوسف ليتمكن يوسف من الاختلاء بأخيه في غيابهم. هذا كلام ظاهره معقول ولكنه أكثر من بسيط وساذج في عمقه.
هذه مهمة يوسف الذي يملك القوة والموظفين والحرس الذين يُدخلون عليه من يشاء وهو يعرف كيف يتصرف حينما يصلون إلى مكتبه الكبير. ليس يعقوب بتلك السذاجة أن يبرمج لهذه المهمة ولا يحتاج أن يطلب من ربه العظيم هذه الحاجة البسيطة التي يقوى عليها ابنه وسيقوم بها قطعا.
إن إخوان يوسف تغيروا وفكروا في أن يتركوا حالة الجمود الفكري لديهم و بدأوا ينظرون إلى المسائل من كل زواياها فتغيرت رؤاهم تغييرا جوهريا.
هذا التغيير في تصوراتهم لم يؤثر في إيمانهم بأن الله تعال يملك ملكوت كل شيء ولا يمكن الاستغناء عنه أبدا ولكنهم تعرضوا للمزيد من عناية ربهم. هذه درجة معرفية كبيرة تمكن يعقوب من تعليم أولاده لينالوها وليست مهمة عملية فيزيائية يقومون بها.
إنه عليه السلام تعلم بفضل الله تعالى كيف ومتى يعرض الحقائق العلمية على أولاده المتعصبين بعصابة الأسرة ليغير أفكارهم الحمقاء 56.
يتبع …..
( هامش 54: حينما ندرس أسلوب نشر العلم الملهم في كتاب الله تعالى نشعر بأن الملائكة الموكلين بذلك يبثونه بصورة إيحائية عامة تُمكّن من يشاء أن يستفيد منه. ولولا ذلك لكان نظام الرحمة ظالما متعسفا؛ حاشا ربنا العادل رب العالمين جميعا.
هناك إلهام ووحي عام لكل الكائنات المدركة لحل مشاكلهم الزمانية والمكانية ولكن الذين يقفلون أبواب عقولهم يخسرون التمتع بذلك؛ ولا يستفيد منه إلا الذين ينتظرون ذلك أو يسعون ليجدوا في فكرهم وعقلهم أو يسمعوا بأذنهم أو يجدوا أمامهم ما يساعدهم على ذلك. يكفي انتظار العلم ولا يحتاج المرء معه إلى عقيدة وإيمان بربه.
إنه سبحانه يمنح الجميع باعتبار أنه خلقهم ووعد بأن يهديهم جميعا. والمعرفة العلمية هي الطريق الصحيحة لصلاح الأعمال ولجلب الرضوان لمن يتوق لرضوان ربه أيضا؛ إذ لا إيمان بلا معرفة وعلم. نهاية الهامش 54.)
(هامش 55 : إن حقيقة معنى التوكل على الله تعالى هو أن يتعرف الإنسان على أحكام ربه فيتبعها وهو القوة التي تسنده وتدافع عنه. ألم تر موسى يقول لقومه في أصعب الظروف، كما في سورة الشعراء:
فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلاّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ (64) وَأَنجَيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذَلِكَ َلآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ (67).
فكان موسى يجهل بعض فوائد الطاقة التي يحملها والتي تتحرك باتجاه المكان الذي يضربه موسى بعصاه، لكنه كان متوكلا على الله وقد علمه ربه في اللحظة الحاسمة أن يضرب بعصاه البحر. نهاية الهامش 55.)
(هامش 56: أكثر الناس فعلا يجهلون حقائق العلم والمعرفة ولا يتوفقون للاطلاع على الأسس العلمية الدقيقة للحياة. يجب على المدرك أن يفتح قلبه لله تعالى حتى يصير مجالا لتقبل الحقيقة التي قد تكون مخالفة لما ورثه من آبائه بل مثيرا أحيانا لمن يعيش بينهم من أهله وأسرته وأهل وطنه وما يُعرفون بأهل دينه ومذهبه.
ليست الحقيقة تابعة للناس بل على الناس أن يبحثوا عنها ويتبعوها، والحقيقة في واقعها وإصالتها موجودة عند الواحد القهار وليس عند غيره. أنظر إلى هذه الآية لترى الذي ظننت بأنه يفيدك في العلم وبأن كلامه عين العلم كيف يطلب من ربه أن يزيده علما. قال تعالى في سورة طه:
وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا (113) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114) وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115).
فالله تعالى عهد إلى آدم لكن التباطؤ كان من آدم الذي خسر الوحي العلمي ولم يفز بالعهد؛ وهو سبحانه أنزل القرآن لجميع الناس لعلهم ينتبهوا إلى الحقائق التي غفلوا عنها، كما أنه يُعلِّم النبي ويأمره أن يطلب المزيد من العلم.
فالوحي ينزل بقدر حاجة المجتمعات والأمم في كل زمان ومكان. ولذلك لم يكن ممكنا أن يعلم الله تعالى استخراج النفط للنبي باعتبار الزمان وعدم الاستعداد للتعامل معه ولكنه علَّمَهم ما يحتاجون إليه. إنه سبحانه يعلمنا ما نحتاج إليه شيئا فشيئا لو فتحنا قلوبنا لوحيه العام سبحانه. ويمكن للجميع أن يجربوا ذلك في حياتهم والتجربة صعبة على القلوب ولكنها سهلة للذي يبحث عن الحق.
قل في نفسك : دعني أذهب إلى ربي وحده. قل ذلك وفرغ نفسك من كل ما تهتم به من معتقدات، ثم اقرأ أول سورة في القرآن وهي سورة الفاتحة وحاول أن تفهمها بعمق ودقة، وفكر فيها. ستجد نفسك بعد ساعات أحيانا أو بعد أيام قلائل قد تغيرت فعلا وبدأت تفهم من هذه السورة ما لم يخطر ببالك ولم يكتبه الكتاب و فقهاء التفسير الذين ملأوا كتبهم بيانا لهذه الفاتحة. لا تخف بعد ذلك واسع لأن تفهم معنى ألم في بداية البقرة. سوف تفهمها دون شك بإذن الله.
ودعني أزيدك علما بأن كلما كتبه المفسرون في بيان هذه الأحرف لا ينطبق مع مفاهيم السورة. لو فهمت ذلك ستعرف معاني أخرى للبقرة وستشعر بأنها سورة عظيمة، يا لها من مفاهيم كبرى لم يتفطن لها المبدعون.
سعى إخوان يوسف لأن يتركوا تشبثهم الأحمق بالتراث وبأنهم أحفاد إبراهيم وأبناء إسحاق ويعقوب. أخبرهم أبوهم بأن علاقة الفرد مع ربه علاقة فقر فردي قد لا يشاركه فيها أقرب الناس إليه.
فافتحوا قلوبكم لأن تسمعوا كل قول فتتبعون أحسنه. هكذا يمكنكم الارتباط الأقوى مع ربكم ليصحح أفكاركم ويساعدكم على الخروج من الأوهام التي تعيشون فيها. هذه كانت رسالة يعقوب.
وقد عمل أبناؤه بما أمرهم به أبوهم، وشعروا بسرعة بأن آفاقا واسعة فُتحت أمام قلوبهم ونفوسهم فرأوا بأن هناك وراء الغيب أبوابا مغلقة.
عليك أنت ايضا عزيزي القارئ أن تدخلها لترى المزيد من المعرفة بل تلمسها فترتاح في الدنيا وترضي ربك في الآخرة. لكن الطريق طبعا ليست مفروشة بالورود. استعد لتقبل الضغوط في سبيل المعرفة. لقد ترك إخوان يوسف حالة الشعور الأحمق بأنهم خير الناس فاستحقوا المزيد من فضل الله تعالى كما سنرى قريبا.
والله سبحانه يؤكد هذا الموضوع ليقول بأن يعقوب قد تعلم من ربه ما كان يعلمه حتى ما فعله بالنسبة لأولاده ليخرجهم من الجهل والظلمات إلى العلم والنور، كان من فضل ربه وبتعليم منه. ذلك لأن يعقوب شعر بالحاجة إلى ذلك وكان خاضعا يلتمس الخير من ربه وحده فعلمه الله تعالى. وهكذا – إخواني وأخواتي- يعلمنا ربنا فلا تخشوا، واطرقوا هذا الباب الذي فتحه لكم ربكم ليُعلِّمكم كما علم غيركم. لا تكونوا من الغالبية الجاهلة ولا تعتمدوا على أحد ولا تهتموا كثيرا بما ترونه مكتوبا في كتبكم فهناك في الغيب علم حقيقي ينتظركم لو طرقتم أبواب ربكم الكريم الذي خلقكم وتعهد بأن يهديكم لطفا منه وكرما وفضلا. ستعرفونه ولا يمكنني أن أصف ما سترونه لو طرقتم بابه منفردين غير مستعينين بالناس. نهاية الهامش 56.)
أحمد المُهري
تابع مركز #تطوير_الفقه_الاسلامي
https://www.facebook.com/Islamijurisprudence/
ان كان لديكم الرغبة في الانضمام لمجموعة النقاش في المركز برجاء ارسال بريد الى :