نظرية ظهور العلم 3 – الاسهام الحضاري المصري/العربي في مجال العلم
نظرية ظهور العلم 3 –
الإسهام الحضاري المصري/العربي في مجال العلم
نشأ اهتمامي بهذه النقطة عندما بدأت الصورة تتضح أن الثقافة العربية في عمومها هي ثقافة من ثقافات المرحلة الثانية. أي ثقافة تستخدم نظام الإدراك الخاص بالمرحلة الثانية من مراحل نمو الإدراك كما حددها جان بياجيه. كان ذلك واضحًا في حقل علم اللغة (راجع كتاب “نظرية النحو العربي القديم”). كان ذلك واضحا أيضا في حالة الفقه الاسلامي القديم (راجع كتاب “أيها الفقه الاسلامي القديم, وداعًا”, تحت الطبع, والنسخة الإلكترونية متوفرة بالمركز لمن يريد), كما كان واضحًا في حالة العلاج النفسي (راجع “العلاج النفسي وتطبيقاته في الثقافة العربية” لقتيبة شلبي وفهد اليحيا), كما كان واضحا في كل التجارب التي تم إجراؤها في العالم العربي والتي بينت غياب المرحلة الرابعة غيابا شبه تام (يرصد كتاب نظرية النحو العربي القديم عددا كبيرًا من التجارب الهامة للغاية في هذا الصدد والتي بينت بشكل واضح تماما غياب المرحلة الرابعة في كل ثقافات العالم الثالث). إلا أنه كان هناك سؤال ملح يسأله كل من حدثناه – في بدايات عملنا في هذا الاتجاه – في هذا الأمر. هذا السؤال هو كالتالي: كيف تفسر الإسهام العربي الواضح وضوحًا لا يمكن إنكاره في نمو المعرفة البشرية؟ كيف تفسر الإسهامات التي لا يمكن إنكارها التي قام بها علماؤنا في الحضارة العربية الإسلامية في مجال الفلك, والطب, والرياضيات, والكيمياء, والبصريات؟ كان سؤالا محيرا أخذت الإجابة عليه سنينا. قبل الإجابة عليه, على أي حال, سوف أحكي قصة تبين ما توصلت إليه بوضوح تام.
ذهبت منذ ثلاث سنوات إلى ماليزيا للتدريس في جامعة ماليزيا للعلوم. وكانت صدمة. ما كل هذا الجمال؟ ما كل هذا الثراء؟ ما كل هذه المصانع, والمزارع, والمتاجر, والمدارس, والجامعات؟ في جامعة ماليزيا للعلوم يدرس الأستاذ أربع محاضرات في الأسبوع. أربع محاضرات فقط. وباقى الوقت هو متفرغ لأبحاثه. جامعة ماليزيا للعلوم هي الجامعة رقم 113 في ترتيب الجامعات (حسب ترتيب ملحق التايمز للتعليم العالي). كان العمل في الجامعة رقم 113 على العالم تجربة جديدة بالنسبة لواحد مثلي متمرس على العمل في جامعات لا تزيد علاقتها بالبحث العلمي كثيرا عن علاقة ريا وسكينة بسندريللا. رصدت الحكومة الماليزية 300 مليون دولار كمنحة للجامعة لإنفاقها على البحث العلمي خلال السنة التي عملت فيها هناك.
لم يكن هذا كل شيء طبعا. لفت نظري الانضباط المطلق للمرور. النظافة المطلقة. العمل الدؤوب. المساجد الجميلة المنتشرة في كل سنتيمتر مربع في هذا البلد الذي حباه الله بكل خير. الشعب الماليزي المؤدب, المهذب, الذي لا تسمع له صوتا. يتكلمون همسا. التسامح المطلق. معبد هندي بجوار أجمل مسجد على الطراز الهندي, مقابل معبد صيني, بجانب معبد بوذي. أنت حر. ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا. دخل أهل ماليزيا الإسلام منذ مئات قليلة من الاسلامين. لم يأتهم بالسيف وإنما أتاهم بالقدوة الطيبة. أتى به أهلنا من تجار حضرموت بطيبتهم, وصدقهم, وحسن معاملتهم. رأى الماليزيون الإسلام “عمليا” فدخلوه لأنهم أحبوه.
إلا أنه في وسط هذا المجتمع “المبهر” كان هناك شيء غير مفهوم. هذا الاحتفاء بكل ما هو
“عربي”. تدخل مكتبة الجامعة فترى صورة بارتفاع المكتبة تقريبا لأحمد زويل, وأخرى لنجيب محفوظ, وثالثة لمحمد البرادعي. المسلمون الذين فازوا بجائزة نوبل. تسير في الشارع فتلقى أفضل معاملة لأنك عربي. تحتاج إلى مساعدة في الجوازات, أو المرور, أو شؤون الموظفين, فتجد كل مساعدة لأنك عربي. تدخل المستشفى فتجد صورة ابن سينا الطبيب المسلم الرائد. كان هناك احتفاء بكل ما هو مسلم, عربي. من الطبيعي, طبعا, أن يحب المسلمون المسلمين, إلا أن السؤال يبقى “وما علاقة العرب بذلك”؟ إلا إذا كان هناك خلط بين “الإسلام” و”العروبة”. وهذا, كما تبين لي, هو ما يحدث في ماليزيا.
أذكر يوما التقيت فيه بأحد كبار المفكرين الإسلاميين في ماليزيا. الرجل يجيد العربية ويحب العرب, طبعا, إلا أنه ذكر في معرض كلامه عن حيرته هو شخصيا عن الخلط الواقع في ماليزيا بين العروبة والإسلام. ذكر لي كيف أن الأطفال في ماليزيا يحبون ارتداء الثياب العربية, وكيف يشعرون بقمة السعادة إذا وجدوا فرصة لارتداء الثياب العربية من صندل, إلى ثوب, إلى غترة إلى عقال. كان يرى أن هذا خلط غير مقبول بين الإسلام والعروبة. فالإسلام دين البشر وليس دين العرب.
أذكر يوما آخر – وهو اليوم الذي بدأت فيه في فهم “القصة” – كنت أتحدث فيه مع إحدى الطالبات المتفوقات. تحدثنا في مواضيع كثيرة ولسبب ما جاءت منها إشارة إلى موضوع العروبة والإسلام بينت أنها هي أيضا لا توافق على هذا الربط. كان من ضمن ما قالته إن هذا الربط هو تعبير عن رغبة الشعب الماليزي بيان تفوقه على الشعوب الأخرى المجاورة, وأنهم وجدوا أن أسهل طريق إلى ذلك أن “يتبنوا” الحضارة العربية الإسلامية وأن يصوروا أنفسهم على أنهم جزء منها. بينت في كلامها كيف أن شعوب جنوب شرق آسيا تنظر إلى منطقة الشرق الأوسط على أنها “مهبط الحضارة” وإلى العرب على أنهم “آباء الحضارة” (تعبيرها حرفيا) وإلى أن ما تقوم به ماليزيا يتلخص في جملة واحدة: أنا مسلم, الحضارة العربية الإسلامية هي أصل الحضارة والعرب المسلمون آباء الحضارة, إذن نحن الماليزيين آباء الحضارة. أي أنا مسلم, إذن, أنا أصل الحضارة. كانت وجهة نظرها أنه ليس من صالح أي مجتمع أن “يتواطأ” على الكذب. ماليزيا ليست عربية. ماليزيا مسلمة. ساهم العلماء المسلمون في الشرق الأوسط في تقدم المعرفة البشرية. لم يساهم العلماء المسلمون في ماليزيا في تقدم المعرفة البشرية. لم يكن في ماليزيا علماء لهم إسهام في تقدم المعرفة البشرية قبل القرن الحالي. ماليزيا, الآن, لديها جامعات, ومراكز أبحاث, وشركات ماليزية عالمية تعمل على تقدم المعرفة البشرية. الآن وليس في القرن الماضي ولا الذي قبله. ماليزيا, أيضا, لديها علماء في الدراسات الإنسانية لديهم القدرة على النظر إلى مجتمعهم وتحذيره من “التواطؤ” على الكذب. التواطؤ على الكذب “ينسف” الأساس الأخلاقي الذي يقوم عليه المجتمع. في أي مجتمع حريص على القيم الأخلاقية العليا لا يمكن التواطؤ على الكذب.
وهذه هي “مصيبتنا” تماما مثلما هي مصيبة ماليزيا. نحن في حالة تواطؤ على الكذب وادعاء ما ليس لنا. قام المركز من فترة طويلة بعرض ما أسماه “الجائزة المرصودة”. تقدم هذه الجائزة إلى “أي إنسان” يتقدم إلى مركز تطوير الفقه الاسلامي باسم كتاب في مجال العلم قام بتأليفة إنسان ولد على أرض مصر وقام إنسان آخر في أي مكان – بما في ذلك مصر نفسها – بترجمة هذا الكتاب إلى أي لغة في العالم بما في ذلك اللغات التي يتحدثها الناس في مصر، من قبطية، إلى نوبية، إلى أمازيغية, إلى عربية, وذلك عبر الفترة الزمنية الممتدة من 525 قبل الميلاد (الفتح الفارسي لمصر) إلى يوم الله هذا.
لا يشترط في العالم المولود على أرض مصر هذا أن يكون من أبوين مصريين. حقيقة الأمر، حتى لو كان أبوه من الإسكيمو وأمه من الهنود الحمر، فسوف ننظر إليه على أنه مصري أصيل، فالعبرة لدينا بمكان الميلاد. لا يشترط أن تكون الترجمة من إحدى اللغات التي يتكلمها الناس في مصر إلى لغة من اللغات العالمية إنما تكفي أي لغة يتكلمها الناس في أي مكان في العالم – بما في ذلك مصر. يعني ذلك أننا نقبل الترجمة من النوبية إلى الأمازيغية، وبالعكس. لا يشترط أن يكون موضوع الكتاب في العلوم الطبيعية، كالكيمياء، أو الأحياء، أو الفيزياء. كما لا يشترط أن يكون في العلوم الإنسانية، كعلم اللغة، أو علم النفس، أو أي علم آخر. حتى لو كان في الطبيخ، أو في قواعد لعب البلْيْ (لعبة يلعبها الأطفال بكرات زجاجية صغيرة)، فسوف يكون مقبولا بإذن الله. المهم ألا يكون في”الخيال”. المهم ألا يكون في الشعر، أو الرواية، أو القصة، أو المواويل، أو الأساطير. كتاب واحد في “العلم” وتكسب الجائزة حتى لو كان هذا الكتاب من صفحة واحدة. يسعى المركز إلى الكشف عن “الإسهام الحضاري المصري في مجال العلوم”. تم الإعلان عن هذه الجائزة منذ عامين تقريبا، وحتى الآن لم يتقدم أحد. بمجرد منح هذه الجائزة سوف يتقدم المركز بجائزة أخرى يبدأ فيها بموريتانيا في أقصى الغرب، يلي ذلك المغرب، ثم الجزائر، ثم تونس, ثم ليبيا, ثم السودان, ثم إريتريا, ثم جيبوتي, ثم الصومال, ثم جزر القُمُر, وبعد الانتهاء من قارة أفريقيا سوف نعرض الجوائز الخاصة بالدول العربية في آسيا, حتى نأتي على كامل الإثنين وعشرين دولة عربية أعضاء الجامعة العربية. يأمل المركز، مرة أخرى، من وراء ذلك إلى الكشف عن الإسهام المذهل في الحضارة الإنسانية الذي قدمته الشعوب العربية بدءًا من عام 525 قبل الميلاد.
ينبه المركز إلى أنه قد سبق للأستاذ أحمد مدكور أن أعلن أن هذا المقياس لقياس إسهام المجتمعات المختلفة في الحضارة الإنسانية هو مقياس غير مسبوق. يعلن المركز أنه يعلم أن هذا المقياس غير مسبوق، كما يعلن عن استعداده لقبول أي مقياس يطرحه أي إنسان لقياس الإسهام الحضاري لأي مجتمع بشري. على أي أساس يمكن قياس الإسهام الحضاري في مجال العلم لأي مجتمع؟
حقيقة الأمر، لا يحتاج الأمر إلى انتظار ويمكننا من الآن العبور إلى بلاد أهلنا في المشرق العربي باحثين عن ذلك الكتاب العلمي الذي كتبوه ورأى رجل ما في مكان ما من دنيا الله الواسعة أن فيه شيئا ما يحتاج قومه لسبب ما إلى معرفته فقام بترجمته إلى لغتهم. نستطيع أن نعبر إلى فلسطين، ومنها إلى الأردن، فالسعودية، فاليمن, فمسقط وعمان, فالإمارات, فالبحرين, فقطر, فالكويت, فسوريا, فلبنان. ونستطيع بكل اطمئنان أن نعلن أن لا أثر هناك لهذا الكتاب. وبذا لا يبقى سوى العراق. وهنا نحتاج إلى وقفة.
كلنا يعرف الأسماء الكبرى المرتبطة بالحركة العلمية الواسعة في العراق والتي حدث فيها انفجار ثقافي في القرن الثاني من الهجرة بدأ بكتاب سيبويه ثم تلته عشرات الكتب في القرن الثالث، ثم مئات الكتب في القرنين الرابع والخامس. كانت مدن جنوب العراق هي مركز هذه الحركة العلمية حيث عاش فيها سيبويه، والكسائي، وأبو حنيفة، والحسن البصري، وعشرات من الأسماء الأخرى التي خلدها التاريخ. كان لبغداد في ذلك نصيب كبير أيضا من هذه الأسماء اللامعة.
علينا، على أية حال، أن نتوقف عند ثلاثة أمور في منتهى الأهمية. الأول، أن القائمين على أمر هذه الحركة العلمية لم يكونوا عربا. الثاني، أنه لم يحدث أن حدث إنتاج علمي في حقل العلوم الطبيعية. الثالث، أنه لم يحدث أن ترجم من هذه الكتب كتاب واحد إلى أي لغة أخرى. يحتاج الأمر إلى بعض التفصيل.
فيما يتعلق بالنقطة الأولى، يستطيع الباحث العودة إلى الأسماء الكبرى التي ظهرت في الفترة من القرن الثاني الهجري إلى القرن الخامس الهجري ليكتشف أن جميع الأسماء التي شاركت في الحركة العلمية في العراق لم تكن لعرب. لا يمنع هذا، بطبيعة الحال، من وجود اسم هنا أو هناك لعالم من أصول عربية. الكندي، مثلا، من أصول عربية. إلا أن القاعدة العامة هي أن “العرب” لم يشاركوا في هذه الحركة العلمية وتركوا الأمر للفرس أو السوريان للقيام بهذا الواجب. من الجدير بالذكر، في هذا السياق، أن حركة الترجمة الكبرى التي تمت في عهد المأمون قامت على أيدي مترجمين سوريان كانت اللغة العربية التي قاموا بالترجمة إليها لغة أجنبية. لا أعرف مترجما واحدًا من أصل عربي شارك في حركة الترجمة هذه، ويسعدني طبعًا أن أتعرف ولو على اسم مترجم واحد من أصل عربي شارك في هذه الحركة. ينطبق هذا الأمر على الإنتاج اللغوي في الثقافة العربي، كما ينطبق على الإنتاج الفقهي. حقيقة الأمر، يمكن للمرء عند تذكره لأي من الأسماء الكبرى في هذين الحقلين أن يكون مطمئنا إلى أنها أسماء أشخاص ليسوا من أصول عربية.
فيما يتعلق بالنقطة الثانية، فمن الضروري الانتباه إلى أن الحركة العلمية في العراق اقتصرت على علوم الدين واللغة العربية, ولم يظهر فيها أي إنتاج علمي في أي من حقول المعرفة الأخرى, كالكيمياء, والفيزياء, والأحياء, والفلك, والطب, والصيدلة, والرياضيات, وغيرها. تم إنتاج هذه العلوم في “مراكز إنتاج العلم التقليدية”, في جنديسابور الفارسية، وحوران السوريانية. أي في أماكن لا علاقة لها بالعرب، ولا بالثقافة العربية. ينطبق ذلك على جميع الأسماء الكبرى في حقول الكيمياء، والفيزياء, والطب, والصيدلة, وغيرها. اذكر اسما, تحقق من مكان مولده, تأكد أنه خارج بلاد أهلنا من العرب.
وأخيرًا، نأتي إلى النقطة “المحورية” في نقاشنا وهي أنه لم يحدث أن صدر كتاب كتبه رجل ولد في أرض العرب وتمت ترجمته إلى لغة أخرى غير العربية – “طبعًا”. ينطبق هذا الكلام على ما حدث في مصر كما ينطبق على ما حدث في العراق. لم يحدث أن صدر كتاب في حقل الدراسات اللغوية العربية تمت ترجمته إلى لغة أخرى. لم يحدث أن صدر كتاب في أي حقل من حقول العلم الأخرى أصلا بحيث يمكن ترجمته. حقيقة الأمر، من الضروري التوكيد هنا على أن الترجمة التي تمت في عصر المأمون كانت ترجمة من اليونانية إلى العربية ولم تكن من العربية إلى اليونانية. بمعنى أننا لم نكن منتجي علم وإنما مستهلكي علم. تماما مثل وضعنا الحالي بالضبط.
الصورة، بهذا الشكل، صورة مختلفة تماما عن الصورة السائدة في المجتمع العربي السعيد والتي تصور الحركة العلمية التي قامت في العراق في القرون الأولى من الهجرة على أنها حركة غيرت تاريخ العلم في العالم وأسهمت إسهاما لا حدود له في تقدم المعرفة الإنسانية. لم يحدث. والسؤال، طبعًا، لماذا؟ لماذا لم يحدث أن شاركت الثقافة العربية “إطلاقًا، على الإطلاق المطلق” في إنتاج العلم؟ للإجابة على هذا السؤال سوف أحتاج إلى بعض التفصيل.
يتبع
كمال شاهين
#نظرية_ظهور_العلم
#عاصمة_الامبراطورية
#تطوير_الفقه_الاسلامي
https://www.facebook.com/Islamijurisprudence