نظرية ظهور العلم 2 – كيف منعنا الفقه الاسلامي القديم من فهم دنيا الله
نظرية ظهور العلم 2 – كيف منعنا الفقه الاسلامي القديم من فهم دنيا الله
يحتاج المرء لكي يفهم دنيا الله إلى الإيمان, أولا, بأن الله قد خلق لنا عالما نستطيع فهمه. وهذا أمر يتعارض أشد ما يكون التعارض مع الأسس الفكرية التي يقوم عليها “منهج التلقي” الذي يستخدمه “أتباع السلف”. يؤمن أتباع منهج التلقي إيمانا راسخًا لا تهزه الأعاصير أن ذلك المخلوق الذي يسمى الإنسان مخلوق عاجز عن فهم دنيا الله.
يحتاج المرء كذلك كي يفهم دنيا الله إلى البحث عن الأسباب “القريبة”. لماذا تتمدد المعادن بالحرارة ولماذا تنكمش بالبرودة؟ لماذا يستطيع الأطفال عند تعلمهم القراءة أن ينطقوا حروف الكلمة التي يقرأونها حرفًا حرفا إلا أنهم لا يستطيعون النطق بكامل الكلمة؟ لماذا لا يقابل الأطفال في سن السابعة أي مشاكل في تعلم “القراءة” بلغة أجنبية على حين يواجهون مشاكل ضخمة في سن الحادية عشر؟ لماذا يعجز أبناء الثقافات البدائية عن قبول الفرضيات, واستنتاج معلومات جديدة من معلومات قديمة, وصياغة تعاريف, وإدراك أن الآخر قد تكون له وجهة نظر أخرى؟ من أين جاء هذا التنوع في مخلوقات الله؟ لماذا عندما تظهر سفينة نرى أعلاها أولا, ثم منتصفها, ثم أدناها؟ لماذا لم نرها كلها كنقطة صغيرة تكبر شيئا فشيئا كلما اقتربت منا؟ يفجئنا منهج التلقي بأن هذه إرادة الله وليس لنا أن نتساءل. سبحان الله, ومن منا شك لحظة في أن هذه إرادة الله, ولكن كيف؟ ولماذا؟ يغلق منهج التلقي الباب على التساؤل من أول لحظة – هذه إرادة الله وما شاء فعل. ليس لنا أن نتساءل. يا مولانا من منا يتساءل عن إرادة الله؟ من منا يتساءل؟ نحن نحاول أن نفهم كيف تعمل دنيا الله. نحن نحاول أن نفهم كتاب الله المنشور. ويأتيك الرد دوما أن ليس لك أن تتساءل.
يحتاج المرء لكي يفهم دنيا الله إلى “الإيمان” بأن المعلومات المتاحة لدينا الآن ليست “نهائية” وأن التفسير الذي قدمه أعظم عظيم في علم الصواريخ عابرة القارات ليس هو التفسير الكامل, الشامل, النهائي, الذي لن يأتي تفسير بعده. أن التفسير الذي جاء به جان بياجيه هو حقًا تفسير عبقري, رائع, مذهل, تقرأه وكأنك تقرأ شعرا إلا أنه ليس التفسير النهائي أيضا. سوف يأتي تلامذة بياجيه بتفسير أفضل للإدراك البشري بإذن الله. أن أحدث النظريات في علم الفيزياء ليست وحيا من الله سبحانه وتعالى وأنه سوف تظهر نظريات أفضل منها وأقوى منها. أن طرق العلاج النفسي المتبعة حاليا في أرقى مستشفيات العالم ليست أفضل نظريات في العلاج النفسي. حقًا هي أفضل نظريات توصل إليها الإنسان حتى الآن إلا أنه سيتوصل حتما – بإذن الله, وبفضل الله, وبرحمة الله بخلق الله – إلى ما هو أفضل منها بكثير. وعندما نتوصل إلى أفضل نظريات في العالم في كل علوم العالم سنعلم أنها ليست أفضل نظريات في العالم حيث إن هناك ما لا نهاية له من عوالم الله التي لا تفسرها هذه النظريات.
بالنسبة لمنهج التلقي, هذا الموقف موقف صادم ومرفوض. إذ فيه “بجاحة” لا يمكن تخيلها في ادعاء “هذا الشيء الذي يسمى إنسان” بقدرته على الفهم. وهذا الموقف فيه تعارض مدمر للأسس التي يقوم عليها منهج التلقي. على حين يحتاج فهم دنيا الله إلى “الإيمان” بقصور النظريات العلمية السائدة والعمل على تلافي هذا القصور عن طريق الكشف عنه والبحث عن حل له من أجل فهم أفضل لدنيا الله, يؤمن أتباع منهج التلقي بأن أضواء العلم كانت تشع على دنيا الله قديما, قديما جدًا, أيام أبيك الحاج محمد اسماعيل البخاري, وأبيك الحاج نعمان بن ثابت بن نعمان بن زوطا بن مرزبان, وأبيك الحاج مسلم بن الحجاج بن مسلم بن ورد كوشاذ القشيري النيسابوري, إلا أن أباك الحاج محمد بن اسماعيل قد مات, وأباك الحاج نعمان بن زوطا بن مرزبان قد مات أيضا, فضلا عن أن أباك الحاج مسلم بن ورد كوشاذ القشيري النيسابوري قد مات هو الآخر. الكل مات ولم يبقَ أحد. أطفأت أنوار العلم وبقينا في الظلام. ذهب العلم ولم يبق إلا الجهل. ذهب العلماء ولم يبق إلا الجهلاء.
يحتاج فهم دنيا الله بعد ذلك إلى أن يكون لديك شعور – مهما كان غامضا – بأن هناك مشكلة ما في جزء ما من دنيا الله. جزء غير مفهوم “لك”. (ما يسمى في منهج البحث العلمي باسم “الإحساس بالمشكلة”). عليك بعد ذلك أن تحاول وضع هذا الإحساس في كلمات يستطيع الآخرون من خلالها فهم المشكلة التي تتحدث عنها (ما يسمى باسم “تحديد المشكلة”). عليك بعد ذلك أن توضح ما هو تفسير سيادتك لهذه الظاهرة (ما يسمى باسم “صياغة الفرضية”). عليك بعد ذلك أن توضح لنا كيف ستختبر صحة هذه الفرضية, بحيث إذا جاءت نتائج البحث بشكل معين فإن ذلك يعني أن فرضيتك صحيحة. وأخيرًا, فإذا جاءت نتائج الاختبار بما يؤيد فرضيتك فإن هذه الفرضية تتحول إلى نظرية. وهنا يأتي دورنا نحن كزملاء لك, إذ أننا لن نقبل كلامك هذا لأن سيادتك رجل ثقة, صادق, صدوق, بالغ, رشيد, عدل, عفيف فهذا أمر لا يخطر على بالنا, ولا علاقة لنا به, ولا يهمنا بمليم أحمر. حتى لو كنت سيادتك الإمام الحسين رضي الله عنه بن الإمام علي كرم الله وجهه فسوف نمسك بالتجربة التي أجريتها سيادتك ونعيد إجراءها للتأكد من أنها ستعطي نفس النتائج, وسوف نقوم بهذا “التحقق” مرة بعد مرة, بعد مرة, بعد مرة, في معهد علمي, بعد بمعهد علمي, بعد معهد علمي, فإذا أثبتت كل هذه التجارب صحة النتائج كما أعلنت عنها سيادتك, أخذت نظرية سيادتك مكانها إلى جوار النظريات الأخرى في المجال الذي تم البحث فيه. إلى أن يأتي باحث آخر يثبت قصورها في هذا الجانب أو ذاك ويأتي بنظرية أخرى “أفضل” منها. وهو ما سيحدث دوما بفضل الله.
يحتاج فهم دنيا الله, بهذا الشكل, إلى الإيمان بأن هناك “سنن إلهية” تحكم كل ظاهرة في هذا العالم. وأن علينا إذا أردنا أن نفهم أي من هذه الظواهر أن نبحث عما إذا كان هناك من سبقنا في هذا الطريق وأن نبذل أقصى جهد ممكن من أجل التعرف عليهم, ودراسة أعمالهم. علينا بعد ذلك أن نرى إلى أي مدى يتفق ما قالوه مع واقع العالم الذي نعيش فيه, باذلين أقصى جهد في التحقق من توافق ما قالوه مع واقع الأمور في دنيا الله. فإذا وجدنا أن لا قصور هناك على الإطلاق عرفنا أننا نحن المقصرون. نحن الذين لا نفهم. يستحيل ألا يكون هناك قصور. لم يصل الإنسان إلى الكمال بعد في معرفة دنيا الله ولن يصل أبدا.
تماما مثلما لا يستطيع أحد أن يدعي أنه يعرف مراد الله فلا أحد يستطيع أن يدعي أنه يعرف سنن الله. ولا شيء أروع من ذلك. خلق الله لنا عالمًا لا حدود له. قابلاً للفهم في كل جزء منه. ما أن تنتهي من فهم جزء منه حتى تنفجر ملايين الأجزاء الأخرى التي تحتاج إلى أن تفهمها. هل هناك أروع من هذا؟ عالم لا ينتهي من الروعة والجمال. عالم لا ينتهي من البحث. عالم لا ينتهي – أبدا – من الفهم. هل هناك أروع من هذا؟
إلا أن فهم دنيا الله يحتاج أولا, وقبل كل شيء, إلى الإيمان برحمة الله. الإيمان بأن الرحمن الرحيم, رب العالمين, مالك يوم الدين, الذي نعبد إياه وبه نستعين, والذي ندعوه إلى أن يهدينا إلى الصراط المستقيم, صراط الذين أنعم عليهم, غير المغضوب عليهم ولا الضالين, كان رحيما بنا وأعاننا, وأنعم علينا وهدانا, ووهبنا ما يكفينا: عقلا يعمل وكتابا مبينا. لم يخلقنا كي يعذبنا. لم يعطنا عقلا خربًا لا يعمل وعالمًا لا تعرف له مبدءًا. عالما متقلبًا, فوضويا, بلطجيا, عشوائيا, لا مبدأ ولا قانون له. اليوم بحال وغدًا هو أمس أو القرن الماضي. عالم أخرق يحتاج إلى عقل لا يعمل. لم يعطنا الله عالما بلطجيا, بل أعطانا أجمل عالم في العالم. أعطانا عالما خلقه الله. دعني أكرر, أعطانا الله عالمًا “مصنعية”. عالمًا من خلق ….. الله. كيف لا يكون عالمًا “مصنعية”؟ كيف يا أهل القرآن والسنة “حسب فهم سلف الأمة” لا يخلق الله عالمًا “مصنعية”؟ ثم كيف لا يخلق عقلا “مصنعية” لكي يتعرف على “معجزة خلق العالم”؟ كيف لا يهبنا عقلا “مذهلا” بحيث يستطيع أن “يدرك” عظمة من خلق هذا العالم فائق الجمال والروعة؟
كيف أعطيك أجمل سيارة في العالم, بأجمل لون في العالم, وأجمل مقاعد في العالم, وأجمل تجهيزات في العالم, وأقوى موتور في العالم, ثم “أنسى”, أو “أتعمد” ألا يكون هناك “مقود” لها؟ سيارة بلا مقود. تخيل! خالق الكون لا ينسى, وعليه فهو قد تعمد. تعالى الله علوا كبيرًا عما يقولون. الله لا ينسى, والله لم يتعمد, والله لم يخلق مخلوقا فاقد الصواب, كما أنه لم يخلق مخلوقا قادراعلى الفهم ثم خلق له عالما غير قابل للفهم. ما أتحدث أنا عنه الآن هو وجهة نظر منهج التحقق الذي يؤمن به أهل القرآن والسنة, وليس منهج التلقي الذي يؤمن به أهل القرآن والسنة “حسب فهم سلف الأمة”.
وأخيرًا, نأتي إلى السؤال عن كيف منع منهج التلقي المسلمين من فهم دنيا الله. والإجابة, باختصار مخل, هي في دفاع منهج التلقي المستميت عن منهج التلقي. وهو دفاع مفهوم حيث إن قبول منهج التحقق يعني الموت لمنهج التلقي. ودعني أعطي بعض الأمثلة.
اشتعل الحوار بيني وبين شيخنا العزيز فضيلة الأستاذ الدكتور خالد الطحاينة – الذي أكن له كل احترام, وكل شكر وتقدير على وجوده بيننا, والحرص على التحاور معنا. أدعو الله أن يجزيه خير جزاء على فائق الجهد الذي قام به من أجل لفت انتباهنا إلى أخطائنا – حول وحي السنة. ذهب فضيلته إلى أن الله سبحانه وتعالى قد أنزل القرآن والسنة على رسول الأمة وأمره بحفظ جزء منها في القرآن وحفظ الباقي في صدر شيخنا الفاضل وصدور مشايخه الكرام. بينت لفضيلته أن هذا القول إنما هو قول بيّن العوار من ناحية العلم والدين. إذ لا يمكن أن يأمر الله رسوله الكريم بترك مهمة حفظ كلامه الكريم في صدر شيخنا الفاضل وصدور مشايخه الأكرمين إلا إذا كان قد صدر أمره بجعلهم من الشيوخ المعصومين, إذ لا يمكن أن يترك الله كلامه في حفظ رجال من طينة البشر الخطائين. كيف يترك الله كلامه الكريم في حفظ بشر خطائين؟ إذا لم يكن هذا الكلام واضحا فأرجو من فقيهتنا العظيمة أن تزيده توضيحا وسوف أكون من الشاكرين.
المسألة, أفكر, في غاية الوضوح, القول بأن الله قد “حفظ” جزءًا من كلامه في القرآن و”حفظ” جزءًا آخر من كلامه أيضا في صدر الشيخ الطحاينة وصدور شيوخه لا بد وأنه يعني أن الشيخ الطحاينة وشيوخه من المعصومين من الخطأ في التبليغ مثلهم في ذلك مثل رسول الله. وحيث إن القول بأن الشيخ الطحاينة وشيوخه من الشيوخ المعصومين هو قول لا يقبل به أحد من المسلمين بما فيهم الشيخ الطحاينة نفسه, فلا بد من أن هذا القول خطأ حيث إن الشيخ الطحاينة وشيوخه “بشر”. هذا من الناحية “الإيمانية”. في الإسلام العصمة لله وحده ولرسوله “في التبليغ”. العصمة لرسول الله في التبليغ فقط. في التبليغ وحسب. أما عدا ذلك, فرسول الله بشر مثلي تماما ومثل الشيخ الطحاينة كذلك. هذا من الناحية الإيمانية, أما من الناحية العلمية فالأمر أيضا يحتاج إلى إيضاح.
حتى لو تخلى الشيخ الطحاينة عن موقفه “العقائدي” الذاهب إلى أن الأحاديث الواردة عن الرسول الكريم هي كلام الله المنزل على قلب رسول الله واتخذ موقفنا (أي موقف أهل القرآن والسنة الذين يذهبون إلى أن الله قد حفظ كلامه – كل كلامه – بين دفتي المصحف, وإلى أن رسول الله لم يحفظ كلامه البشري غير المقدس الصادر عن اجتهاده البشري غير المقدس لا في البخاري ولا في مسلم ولا في صدر الشيخ الطحاينة ولا في صدور شيوخ الشيخ الطحاينة), إذا اتخذ الشيخ الطحاينة هذا الموقف فإنه سيواجه أيضا مشكلة استحالة القطع بأن رسول الله قد نطق فعلا بهذه الأحاديث. والمشكلة هنا هي مشكلة علمية.
دعنا نبين أولا أننا سوف ننظر هنا إلى هذه الأحاديث على أنها أحاديث نطق بها رجل كان يعيش منذ ما يزيد على أربعة عشر قرنا. نقل هذه الأحاديث قوم عن قوم في ثقافة تعتمد أساسا على حفظ “العلم” في الصدور. أي ثقافة “شفوية”. نحن, إذن, أمام ظاهرة تتعلق “بذاكرة الشعوب البدائية”. لا تختلف القبائل العربية والفارسية التي حفظت هذا العلم في الصدور عن قبائل الوولوف والهوتو والتوتسي والكيتشي واوا. حقيقة الأمر, لا تختلف عن أهلي أنا شخصيا في المنوفية منذ مائتي عام فقط. يبين العلم (راجع كتاب “الكتابية والشفاهية” من إصدارات عالم المعرفة بدولة الكويت – الكتاب متوفر على الشبكة مجانا) مدى هشاشة الذاكرة البدائية وكيف “يستحيل” النظر إلى ما تقدمه لنا على أنه يمثل علما. الذاكرة البدائية ذاكرة “بدائية”. يستحيل مقارنة ما يخبرك به أحد مشايخ الكيتشي واوا بما يخبرك به محمد حسنين هيكل. محمد حسنين هيكل يقدم لك تاريخا مدعوما بالوثاثق. تخيل, بالمناسبة, ولتوضيح الصورة, لو كان محمد حسنين هيكل قد وضع “صحيح القليوبي” بدلا من “خريف الغضب” وآتانا في “صحيح القليوبي لمحمد بن حسنين بن هيكل القاهري, الباسوسي, القليوبي, الديروطي” بأحاديث جمال عبد الناصر, ثم خرج علينا الحزب العربي الناصري يأمرنا بالإيمان بصحة “صحيح القليوبي” ويخبرنا بأن من لا يؤمن بصحتها فقد كفر بما جاء به جمال عبد الناصر. فقط تخيل. الادعاء بصحة الأحاديث التي وردتنا محفوظة في صدر الشيخ الطحاينة هو ادعاء أكثر غرابة من الادعاء بصحة الأحاديث التي وردتنا محفوظة في صدر محمد بن حسنين بن هيكل القاهري, الباسوسي, القليوبي, الديروطي. سواء كان الأمر هنا أو هناك, فالادعاء هنا أو هناك هو ادعاء باطل لا يستند إلى علم. إلا أنه في حالة “صحيح القليوبي” فإن القليوبي على الأقل قد “شهد” جمال عبد الناصر فضلا عن أنه يعرف القراءة والكتابة, بل ويقال إن لديه جهازًا يعمل بـ”الكهرباء” يمكن القيام بواسطته بـ”تدوين الأحاديث” (هذا ما حدثنا به ابنه الأكبر الأستاذ بقصر العيني, وهو رجل عدل, ثقة, مشهود له بحسن الذاكرة).
دعنا, على أية حال, بما أننا نتحدث علما, نصوغ الموضوع بطريقة مختلفة. دعنا نقول:
يذهب فضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور خالد الطحاينة إلى أن عملية نقل الأحاديث التي تحدث بها رسول الله قد تمت عبر سلسلة من الرجال بدأت من عند رسول الله وصولا إلى الشيخ الطحاينة شخصيا. يذهب فضيلة الشيخ إلى أنه لم تحدث “أخطاء” عبر عملية التذكر هذه.
هذا هو ما يخبرنا به فضيلة الشيخ الطحاينة. وعليه,
المشكلة عندي, وأنا أتحدث الآن حديثا لا علاقة له بالإيمان مطلقًا, وإنما له كل علاقة بالعلم, هي كالتالي:
ما هو الإطار النظري الذي يدور داخله هذا القول؟ في أي علم؟ لا شك بأننا نتحدث هنا عن “علم النفس الإدراكي”, أو “علم النفس الثقافي”. ربما يتحدث شيخنا الفاضل عن علم آخر, وعليه فنأمل أن يخبرنا به. أين سبقت الإشارة إلى مثل هذا القول؟ كم عالمًا صرح بهذه “النظرية”؟ هل هناك من أيد هذه النظرية؟ هل هناك من عارضها؟ ما هي التجارب التي تم إجراؤها فيما يتعلق بذاكرة الشعوب البدائية؟
المسألة واضحة. فضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور خالد الطحاينة لا يوجد عنده وعي أصلا بأن هناك “مشكلة”. أخبرنا أبوك الحاج عبد الهادي شاهين أن أباك الحاج محمد لاشين قد سمع أباك الحاج عبد العاطي العكابري حدثنا عن أبيك الحاج عبد السلام قرطام بأن محمد علي باشا قد أخبرهم أنه يحب الفطير المشلتت. وعليه فالفطير المشلتت هو “أكل ملوك”. فضيلة الشيخ الطحاينة يأخذ كلام أبيك الحاج عبد الهادي شاهين, أو أبيك الحاج مصطفى لاشين (حتى لا تزعل عائلة لاشين في البلد عندنا في المنوفية) على أنه أمر مسلم به وأن محمد على باشا قد قال هذا الكلام فعلاً وأن الفطير المشلتت المنوفي هو فعلاً “أكل ملوك”.
فضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور خالد الطحاينة لم يقدم لنا مرجعًا علميًا واحدًا يستند إليه فيما يتعلق بموقفه الخاص “بالذاكرة المعصومة للشعوب البدائية”. ما يخبرنا به فضيلته بهذا الشكل لا يختلف عما يخبرنا به أبوك الحاج مصطفى لاشين من أن محمد علي باشا قد قال إن الفطير المشلتت المنوفي هو “أكل ملوك”. إذا كان لنا أن “نصدق” فضيلة الشيخ فإننا نطلب نرجو أن يجاملنا فضيلته بدوره و”يصدق” كلام أبيك الحاج مصطفى لاشين. بصفتي منوفي ابن منوفي فأنا أؤكد لفضيلته أن الفطير المشلتت المنوفي هو فعلا “أكل ملوك”.
منعنا الفقه الاسلامي القديم, إذن, من حسن فهم دين الله. يأمرنا الله بإطلاق سراح الأسرى إما منا وإما فداء, يخبرنا الأئمة العظام, شموس الإسلام, أحبار الأمة, وأسود السنة أن الله إنما يخبرنا بقتل الأسرى أو استعبادهم. يخبرنا الله بأن للمرأة المطلقة طلاقا بائنا حق النفقة طيلة فترة عدتها, يخبرنا الأئمة العظام, رضي الله جل جلاله عنهم وأرضاهم جميعا أن ليس لها الحق في مليم أحمر وأن من حق طليقها أن يرميها في الشارع. يخبرنا الله أن هناك سنا للزواج يبلغها الصبيان وتبلغها البنات حين نأنس منهم ومنهن رشدا, يبلغنا شموس الإسلام وأسود السنة أن من حق الذكر المسلم أن يتحصل على أنثى مسلمة في أي سن من أجل التلذذ بها بدون التقيد بالسن. القائمة طويلة, ومريرة, ومشينة.
منعنا الفقه الاسلامي القديم كذلك من التساؤل. كيف عرف الأئمة العظام أن الله سبحانه وتعالى أمر رسوله الكريم بحفظ بعض من كلامه بين دفتي المصحف وحفظ البعض الآخر في صدر الشيخ الطحاينة وصدور شيوخه؟ نحن نعلم, طبعًا, أن هذا هو ما يقوله الأئمة العظام, شموس الإسلام, أحبار الأمة, وأسود السنة, رضي الله تبارك وتعالى عنهم جميعا وأرضاهم, إلا أن السؤال هنا هو “كيف نتحقق من صحة هذه المقولة”؟ عندما يحدثنا الشيخ الطحاينة عن أن الله قد عهد إليه بمهمة حفظ كلامه ألا يخبرنا الشيخ الطحاينة بقول عظيم؟ ألا يخبرنا الشيخ الطحاينة بأنه “قائم بأمر التبليغ”؟ ألا يخبرنا بأنه معصوم من الخطأ في التبليغ؟ وإذا تراجع الشيخ الطحاينة عن دور القائم على التبليغ وأخبرنا فقط بأنه مجرد “ناقل كلام” فكيف نتحقق من صحة النقل؟ كيف نتحقق من أنه لم يحدث خطأ في عملية النقل؟
مرة أخرى, دعنا نحول النقاش إلى نقاش علمي. يخبرنا الشيخ الطحاينة بأنه لم يحدث خطأ من “البشر” التي قامت بنقل الكلام “البشري” الذي نطق به محمد بن عبد الله “البشر” عبر القرون. والسؤال هنا هو كالتالي: هل يمكن التحقق من هذه المقولة؟ هل هناك من وسيلة للتحقق من أن حديث “الحجر المسكين” الذي يخبرنا به الشيخ الطحاينة “يتطابق” مع حديث الحجر المسكين كما نطق به رسول الله؟ واضح تماما, بالنسبة لي أنا” شخصيا”, أن من المستحيل التحقق من صدق ما يذهب إليه فضيلة الشيخ الطحاينة بخصوص حديث الحجر المسكين إلا إذا أتينا بحديث الحجر المسكين كما قاله رسول الله بالفعل, ووضعناه بجوار حديث الحجر المسكين كما رواه لنا فضيلة الشيخ الطحاينة, وتحققنا من التطابق. في هذه الحالة, وفي هذه الحالة فقط يمكن “التحقق”. إذا وجدنا تطابقا بين ما قاله رسول الله بالفعل وبين ما رواه فضيلة الشيخ الطحاينة, فعليه يكون الأمر قد حسم والحديث حديث صحيح. أما إذا وجدنا اختلافا بينا فلا يمكن أن يكون الحديث صحيحا. المشكلة, وهي مشكلة واضحة تماما لا تحتاج إلى أي توضيح, هي أن من المستحيل (حتى الآن, على الأقل) أن نأتي بحديث الحجر المسكين كما قاله رسول الله بالفعل, وعليه فيستحيل التحقق. وفي هذه الحالة لا بد من تنبيه الشيخ الطحاينة إلى استحالة التحقق من صحة ما يخبرنا به وبالتالي لا يمكن أخذ كلام فضيلته بصورة جدية. فضيلته لا يتحدث علما.
لا يحتاج الأمر, بطبيعة الحال, إلى التوكيد على أني قد أكون مخطئا, وإلى احتمال أن تكون هناك طريقة أخرى للتحقق من صحة ما يقوله فضيلة الشيخ من أن عملية نقل حديث الحجر المسكين قد تمت عبر القرون بدون حدوث خطأ. محتمل, وقد أكون مخطئا. في هذه الحالة كل ما أطلبه هو أن يبين لنا فضيلة الشيخ ما هو “الاختبار” الذي يمكننا القيام به من أجل التحقق من مقولة فضيلته. دعني أكرر: مقولة فضيلته. الشيخ الطحاينة “هو” الذي يخبرنا بأن حديث الحجر المسكين الذي يرويه لنا يتطابق مع حديث الحجر المسكين كما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ ما يزيد عن ألف وأربعمائة عام. و”هو” المسؤول عن إثبات صحة هذه المقولة. لا يحتاج الأمر, كذلك, إلى التوكيد على أننا في “منهج التحقق” لا نقبل إلا ما استطعنا التحقق منه, أما ما لا نستطيع التحقق منه فإننا لا نأخذ به. كيف نأخذ بما عجزنا عن التحقق منه. كيف أدخل غرفة نومي مع امرأة “لم أتحقق منها”؟ قد تكون زوجتي وقد تكون صوفيا لورين, أو قد تكون ريا, أو قد تكون سكينة. سواء كانت ريا, أو سكينة, أو صوفيا فلابد أن أعرف أولا هل هي زوجتي أم لا. من منا يقبل أن يدخل غرفة نومه مع امرأة لا يعرف ما إذا كانت زوجته أم لا. لا بد من أن تعرف. لا بد من التحقق.
لا يحتاج الأمر, أفكر, إلى بيان أن هذه الأسئلة, ومئات غيرها, هي أسئلة لم تطرح أبدا في منهج التلقي. وإذا كانت قد طرحت فإليَّ بالمراجع. إليَّ بأسماء الأئمة العظام, شموس الإسلام, أحبار الأمة, وأسود السنة, التي أثارت هذه الأسئلة وناقشتها. نحمد الله على أن بيننا من درس العلم الشرعي ويعلم بالضبط أسماء هؤلاء الأئمة وأسماء مراجعهم. يحتاج الأمر, على أية حال, إلى بيان كيف رفض منهج التلقي منذ لحظة ميلاده أن يتحقق من “صحة الفروض التي يقوم عليها”, وهو ما سيأتي فيما بعد بإذن الله. كل ما أهدف إليه في هذا العرض السريع هو بيان أن منهج التلقي يقوم على التلقي. بلا تساؤل. بلا حوار. بلا نقاش. قال أبوك الحاج عبد السلام العكابري ما قاله وقضي الأمر. لا يحتاج الأمر كذلك إلى بيان أن الأمر يحتاج إلى نقاش طويل من أجل بيان كيف أن منهج التلقي قد فرض نفسه على طريقة التفكير في الثقافة العربية وتحول كل شيء إلى “حفظ”. تشهد على ذلك كل امتحانات كل معاهد التعليم في كل الدول العربية, باستثناء – طبعًا – معاهد التعليم الأجنبية التي “تحاول” اتباع طريقة “الاستكشاف وحل المشاكل” بدلا من الطريقة العربية الأصيلة في “الحفظ والتلقين”. كما يشهد على ذلك عدم تقبل أبناء المجتمع العربي “بشكل عام” أي حديث منضبط ينطلق من مقدمات واضحة تساندها أمثلة واضحة وتعريفات واضحة تناقش “حقائق” مستقرة ثم تنتقل منها إلى استنتاجات يعلم القاريء بالضبط من أين أتى بها الكاتب. في ثقافتنا المسألة حفظ. لا نقاش, ولا فهم, ولا حوار, وإنما قال أبوك الحاج عبد السلام لاشين.
كمال شاهين
2013
#تطوير_الفقه_الاسلامي
https://www.facebook.com/Islamijurisprudence/