إنما المشركون نجس

بسم الله الرحمن الرحيم

إنما المشركون نجس

قال تعالى في سورة التوبة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاء إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28). أجمع المفسرون أو كادوا بأن النجاسة هنا تعني القذارة وبأن المشركين قذرون فلا تسمحوا لهم بالاقتراب من المسجد الحرام بعد عامهم هذا. وهناك باب كبير يشغل نسبة مئوية من الفقه الإسلامي حول الطهارة والنجاسة الفيزيائية. لقد أفتى الكثير من الفقهاء بالنجاسة العينية لبعض الناس باعتبارهم غير مسلمين أو غير مؤمنين بالرسالات السماوية الثلاث. كما أفتوا بنجاسة أطفالهم نجاسة عينية بالتبع. والنجاسة العينية تعني بأن الشيء نجس بعينه لا بالعرض أو بالتنجس مثل الدم والبول فلا يمكن تطهير ذلك الشيء. لكنهم يقبلون بأن هذا النجس العيني يطهر بالإسلام. غريب هذا النجس العيني!!

وليست لديهم أية آية قرآنية تساعدهم على فتاواهم عدا الآية أعلاه من سورة التوبة كما أن جذر نجس مفقود من القرآن في غير تلك الآية. والذي يبعث بالغرابة في رأيي هو أن الله تعالى قد سمح لأولئك النجسين أن يقربوا من المسجد الحرام حتى نهاية عامهم مع أن المسلمين كانوا مسيطرين على مكة!! فلو كانوا قذرين مثل الدم والزوائد البدنية فيجب إزالتهم فورا وتطهير المكان من ذلك الدنس وهذا ما لم يأمر به كتاب السماء جل جلاله. وحتى نعرف معنى الآية نحتاج إلى مقدمة بسيطة وهي أن اللغة أية لغة كانت فهي من صنع الإنسان وليست لها قواعد ثابتة ولذلك فإن هناك بعض الكلمات تعطي معاني متضادة بشهادة علماء اللغة العربية على الأقل. ثم إن الكلمات اللغوية تتغير مع مرور الزمن أو مع تغيير المكان فلا يمكن أن نعتبر المعاني الحديثة للكلمات مفسرة لكتاب أنزل قبل 15 قرنا. ثم إن الكلمات اللغوية تتغير في مختلف المرافق العلمية في المكان والزمان الواحد فكلمة واحدة يستعملها المهندسون لمعنى محدد ولكن الأطباء أو الرسامين يستعملونها لمعنى آخر. ولذلك علينا أن نتعرف على معنى النجاسة لدى الذين أنزل عليهم القرآن فلعلها من الكلمات التي طرأ عليها التغيير.

سأنقل أدناه سبعة أشعار عربية نقلها سبعة من كبار علماء اللغة العربية في كتبهم لنرى بأن النجاسة لا تعني القذارة في تلك الشواهد السبعة ولم أر غيرها لديهم من الشعر العربي القديم. والعلماء السبعة هم الراغب الأصبهاني في المفردات وابن منظور في لسان العرب والجوهري في الصحاح والصاغاني في العباب الزاخر والفيروز آبادي في القاموس المحيط وابن فارس في مقاييس اللغة والزبيدي في تاج العروس في شرح القاموس.

1. قال ساعدة بن جؤية الهذلي:

والشيب داءٌ نَجِيسٌ لا دواءَ له            للمرءِ كان صحيحاً صائبَ القُحَمِ

فالنجيس هنا يعني الداء الذي لا دواء له

2. وقال شاعر آخر:

وكان لدي كاهنان وحارث       وعَلَّقَ أنْجاساً عليَّ المُنَجِّس

3. وقال شاعر آخر:

وجارِيَةٍ مَلْبونَةٍ، ومُنَجِّسٍ          وطارِقَةٍ في طَرْقِها لم تُسَدَّد

المنجس يعني التي أو الذي يعلق التعاويذ على الصبي والأنجاس تعني التعاويذ.

4. وقال شاعر آخر:

وداءٌ بِهِ أعيا الأطِبَّة ناجِسُ

فالناجس هنا وصف للداء وليس للأطباء طبعا.

5. وقال الممزَّق النّكري:

ولو أنَّ عِنْدي حازِيَيْنِ وراعِباً        وعَلَّقَ أنْجاساً عَلَيَّ المُنَجِّسُ 
الحازي وأعلى منه الطارق والأعلى الكاهن هو الذي يتكهن الحقائق من النظر إلى الأعضاء حتى يصل إلى الذي يستلهم من الجن. والراعب يعني الذي يكتب المعوذات والأدعية أو يطرد الجن. و المنجس هنا هو الذي يعلق عظام الموتى والخرق القذرة (وهي الأنجاس احتمالا) على الذي أصابه الجن.

6. وبنفس المعنى قال الشاعر:

ولم يَهَبْنَ حُمْسَةً لأِحْمَسا          ولا أخا عَقْدٍ ولا مُنَجِّسا

7. وبنفس المعنى قال آخر:

ولو كُنْتُ في غُمْدانَ أو في عَطالَةٍ    وعَلَّقَ أنْجاسـاً عَـلَـيَّ يَهُـوْدُ

هذه هي كلما ذكروه لبيان معنى النجس والذي فسره المفسرون بالقذر. لا نجد وجدانا معنى القذر في تلك الأشعار الشواهد كما أن بعض اللغويين لم يذكر المعنى التفسيري الذي أصر عليه الفقهاء والمفسرون. ليس لدينا مانع من أن يستعمل العرب جذر نجس للقذارة اليوم ونحن نستعمله أيضا ولكن كيف نقول بأن القرآن أنزل الآية على أمة تعرف النجس بمعنى آخر ولكنه يقصد النجس بالمعنى الذي انتشر بعد قرن من نزول القرآن؟ وذكر بعض اللغويين التشابه بين النجس والرجس في اللغة والمعنى ولكنهم اعتبروا الرجس بمعنى القذر أيضا. وهو خطأ ولا ينسجم مع الآيات الكريمة. ولقد وضحت سابقا بأن كلمة الرجس في القرآن تعني توقف الحركة التطورية والنجس برأيي تعطي نفس المعنى بتغيير بسيط. وهو أن النجس بأية حركة قرأناها تعني توقف الحركة التطورية مع ملاحظة آثارها السلبية.

وحينما نمعن في الآية الكريمة نجد بأن الموضوع الذي يتناوله الكتاب الكريم هو احتكار المشركين للتجارة وخطورتها بعد تغيير معالم المدينة لتصبح مركزا للمسلمين حتى آخر يوم من حياة البشر في كوكبنا. كانت مكة ولاتزال مركزا سياحيا يؤمها الناس من كل مكان ثم تحولت إلى سياحة إسلامية. والله تعالى يسمي أهلها سائحين باعتبار أنه سمى زوجات الرسول المكيات سائحات. مكة كما نعرف من بقية آيات القرآن هي ورشة عمل رب العالمين لصناعة الإنسان الأول ولتطوير الأنعام الثلاثة الصغيرة التي تعتبر حلالا في الأديان السماوية الثلاث. ولذلك لا نجد في القرآن أية دعوة مخصصة للمسلمين بل كل الدعوات عامة للناس جميعا ليزوروا مكة؛ وما نراه من منع لغير المسلمين من دخول مكة يخالف صريح القرآن كما أن إمام المسلمين عليه السلام كان يستقبل غير المسلمين في المسجد الحرام.

قال تعالى في سورة الحج مخاطبا عبده إبراهيم عليه السلام: وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الأنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29). يؤذن في الناس جميعا وليس في المؤمنين والهدف أن يرى الناس منافع لهم بالدرجة الأولى ثم يأكلوا من الأنعام شاكرين ربهم عليها ثم يقوموا بمعالجة أمراضهم النفسية وإيفاء نذورهم ثم الطواف. فالأهداف التي تسبق الطواف كثيرة ولا تخص المسلمين. وقال سبحانه في سورة التوبة:

وَأَذَانٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (3). فالرسول يؤذن في الناس يوم الحج الأكبر بأن الله تعالى بريء من الذين يتآمرون على الناس في مكة من المشركين فيؤثرون في سلام مكة ودعَتِها. ذلك لأن الحج ليس خاصا بالمسلمين بل كل الناس مدعوون للحج ولذلك وصف الله تعالى الحج بالحج الأكبر. الحج دائما حج أكبر والأكبر وصف أبدي للحج الذي أراده الله تعالى كما أظن والعلم عند المولى.

و لنقرأ الآية التالية من سورة الحج لنطمئن بأن المسجد الحرام أيضا للناس جميعا وليس خاصا بالمسلمين: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِسَوَاء الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25). حينما ننتقل بخيالنا إلى ذلك اليوم وذلك المكان الذي جعله الله تعالى مكان أمن لكل الناس مستلهمين من بقية الأماكن السياحية في الأرض نجد بأن الذي يزور مكانا سياحيا كبيرا فإنه يعود إلى أهله ببعض الهدايا التي تدل على زيارته لذلك المكان. نجد بأن كل الأماكن السياحية في كل أرجاء المعمورة تهتم بتلك الهدايا الرمزية وتتخصص ببيعها في محيط المكان السياحي مما يجذب السواح والعابرين ويدعوهم إلى الوقوف في ذلك المكان والتفرج ثم شراء الرموز السياحية. ونرى المسجد الحرام اليوم محاطا بالأسواق التجارية التي تعرض السجادات والعطور والمسابح والصور والتماثيل التي تخص مكة والحرم والمسجد الحرام والكعبة المشرفة كغيرها من الأماكن السياحية المهمة في الأرض.

لنتخيل تجارة مكة قبل الإسلام حيث كانت بيد المشركين الذين يجوبون الأرض ليأتوا بهدايا تخص مكة أي أنهم يصنعونها في دمشق والحبشة لمزارهم في مكة ثم ينقلونها إلى أسواق مكة المحيطة بالمسجد الحرام ويبيعونها على تجار المفرق الذين يزودون الزائرين بتلك الهدايا التذكارية. إنهم كانوا يعلنون عن أصنامهم طبعا ويهيؤون التماثيل والصور التي تخص تلك الأصنام التي ترمز إلى ثقافتهم وحضارتهم. وحينما جاء الإسلام وتحولت مكة إلى بلد سياحي إسلامي فعلى تجار مكة أن يغيروا معالم التجارة لتتناسب مع الدين الجديد. هذا صحيح وليس صحيحا أن يمنعوا بيع التحف الموجودة فورا لسببين أساسيين وهما: عدم وجود البديل أولا ثم وجوب التخلص من البضاعة الموجودة منعا للضرر والخسارة ثانيا. ولا ننس بأن المشركين كانوا يبيعون ما بحوزتهم فور وصولهم عائدين من أسفارهم التجارية فالذي يخسر هم تجار المفرق وهم ضعفاء ولعل أكثر هم كانوا مسلمين. فعالج الله سبحانه وتعالى بأن سمح لهم بالتخلص مما بيدهم خلال عامهم ذلك والسعي لاستحداث البديل خلال الفترة المسموحة لهم. هكذا لم يخسر التجار كما أن الزوار يعودون إلى بلادهم مزودين بالهدايا التذكارية ولو بما لا يليق بشأن مكة الخير.

فالمشركون نجس لا يعني أنهم قذرون بل يعني أنهم يريدون إبقاء مكة على حالتها القديمة ويمنعون من التطور الحضاري الذي دعا إليه رسول الله عليه السلام بأمر ربه. هذا رجس ولكنه يستتبع بقاء العلامات الشركية التي لا يرغب بها الله تعالى لمكة فهم يريدون إيقاف التطور الذي يستتبع آثارا سلبية كبيرة ولذلك فهم أنجاس.

وعلى ذلك الأساس منعهم الله تعالى من الاقتراب من محيط المسجد الخارجي لبيع سلعهم الشركية وأبلغهم قبل سنة ليعلموا بأن سلعهم لن تباع بعد ذلك العام. لا يمكن أن يمنعهم الله تعالى من دخول المسجد فهو حق لكل الناس ولا من دخول مكة ولذلك لم يستعمل سبحانه جذر الدخول أو السكن أو الإقامة بل جذر القرب. والقرب جذر عام نحتاج معه إلى تخصيص وهو كذلك في كل القرآن تقريبا. وهنا فإن الله تعالى وضح ذلك التخصيص بقوله الكريم: بعد عامهم هذا؛ إضافة إلى علاج العيلة بعد ذلك.

والعيلة معناها الالتزام الدائم بالميرة والسكن والملبس وكل الحاجيات الضرورية لمن يعولهم الإنسان. هذه الكلمة لو استعملناها في التجارة فهي تعني التجهيزات التجارية من بضاعة ووسائل عرض ونقل وغير ذلك. كلها كانت بيد المشركين المصرين على الدعاية التجارية لأصنامهم ولذلك خاف التجار الصغار وهم غالبا من المسلمين أن يتوقف المشركون عن تجهيزهم بالبضاعة والمواد الضرورية لمعارضهم ومحالهم التجارية. فوعدهم سبحانه وتعالى بأن يساعدهم إن شاء. وإن شاء هو تقييد المساعدة بقانون المشيئة وهو قانون صارم لإدارة شؤون الكون أكثر صرامة من قانون الإرادة. فمعنى ذلك بأن عليهم السعي للتغيير وسينالهم التوفيق من الله تعالى وعدا منه سبحانه. سوف يغنيهم الله من فضله وقد أنجز الله تعالى وعده وأصبحت مكة منارة للمسلمين وستعود بإذن الله تعالى مزارا لكل الناس كما أراد ربنا عز اسمه الكريم.

أحمد المُهري

16/2/2016

#تطوير_الفقه_الاسلامي

https://www.facebook.com/Islamijurisprudence/

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.