يوسف أيها الصديق ح 19 – العبادة الحق ، والتطور
تواصلا مع شرح سورة يوسف :
يوسف أيها الصديق ح 19 – العبادة الحق ، والتطور
يضيف يوسف:
مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ﴿40﴾.
يريد يوسف أن يحل مشكلة التوارث التي خدع الشيطان بها عباد الله تعالى. فكل المتدينين وغير المتدينين من الذين يؤمنون بالله تعالى يهتمون بالتراث الذي وصلهم من آبائهم.
هكذا ينتفي دور العقل بين أهل الديانات ويصبحون فريسة للطامعين من المخادعين والضالين المضلين . 21
لقد شرح يوسف لصاحبيه كثيرا من المعاني المتعلقة بالعبادة، ولكن الله تعالى يختصر الموضوع بقوله:
إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم.
ومعنى ذلك أن السير التطوري الطبيعي و الحقيقي من الحاضر إلى المستقبل قد انقلب في أذهانهم وأصبح من الحاضر إلى الماضي.
كان عليهم أن يفكروا في مقولات الآباء ولا يتعاملون معها على انها حقائق ثابتة. آباؤنا ونحن وليس نحن وآباؤنا. فلو انتقلت المعلومة من أبي إلي وفكرت فيها لأستبين حقيقتها فإني سأجد الكثير من السلبيات فيها، باعتبار التطور الطبيعي لمن يلحق على من مضى.
هكذا ينتفي التقديس ونضع كل شيء في اختيار العقل والفكر متحررين من كل قيد من الماضي.
والغريب أن الناس يرون التطور العلمي الطبيعي ويستعملون النعم الجديدة التي أباحها الله تعالى لهم بعد أولئك الأنبياء الذين ماتوا ولكنهم يقولون بأن الذين مضوا أكثر منا علما!
لو قلت لمسلم معاصر بأنه قد يكون أعلم من أحد الانبياء في حقل معين من حقول العلم مثلا لرأيته يرتعش خوفا وذعرا من أنه سمح لك بالتفوه بمثل هذا الكلام.
إن الناس ينسون بأن الله تعالى الحي القيوم يطور الناس فلو كان انبياء الله تعالى الماضين أعلم منا فهذا يعني بأن الله تعالى لم يطورنا.
إنهم ينسبون الفشل إلى الله تعالى لتقديس نبيهم. ذلك لأنهم يظنون بأن آباءهم أكثر منهم علما وفضلا. ولذلك أعقب يوسف:
ما أنزل22 الله بها من سلطان.
ويعني ليس لأولئك أية سيطرة عليكم وليس لهم أي سلطان من الله تعالى بل إنكم أنتم الذين تفرضون لهم سلطانا وقوة.
هذه حقيقة قَلَّ من يفكر فيها مع الأسف على أن من السهل فهمها.
لو ننظر إلى مراكب الأقدمين في البر والبحر ونقارن بينها وبين مراكبنا التي تسبح اليوم في الأجواء بل وحتى في الفضاء الخارجي سنرى بكل بساطة أن نظام الألوهية لم يضع للقِدم سلطانا بل سلط الجديد على القديم.
وحقيقة الأمر أن البشر لا يملكون شيئا بل إنهم مملوكون بأنفسهم لله تعالى فكيف ننصاع لحكم البشر وخاصة الذين ماتوا منهم؟.
ثم يوضح ذلك بأن نظام الألوهية هو الذي يسيِّر الأمور وليس هناك أمر بيد البشر فيقول:
إن الحكم إلا لله.
والحكم معناه الخطاب الفاصل الذي يميز الذي يجب أن يكون من الذي هو كائن فعلا. فالكائن فعلا قد ينطوي على ظلم وإجحاف نحتاج معه إلى معرفة الحقيقة والذي يعرف الحقيقة هو الله تعالى وحده وليس غيره.
ذلك لأن معرفة الذي يجب أن يكون تحتاج إلى معرفة الكائنات وإمكاناتها ومعرفة المتغيرات ومداها وكلها واضحة لله تعالى لأنه هو وحده الذي يقدر كلَ شيء ويقضي بما يشاء أو بما يريد.
والمحتاج بطبيعته يخضع للمنعم ويلوذ به عند الشدائد. ومن رحمة الله تعالى أن يهدي المختارين من عبيده ليلتمسوا الحق من مصدره ولذلك قال يوسف متابعا:
أمر ألا تعبدوا إلا إياه.
هذا الأمر بالنسبة لنا نحن البشر أمر تشريعي ليعلمنا الطريق الصحيح لمعرفة الحقيقة ولكسب الهدى ثم لنجني ما هو مقدر لنا من نعم الله تعالى . 23
(هامش 21: ولنبدأ ببيان مختصر لمفهوم العبادة فإن إبليس اللعين الرجيم قد غيَّر مفهوم العبادة في أذهان المؤمنين حتى ظن الأكثرية بأن العبادة تعني الصلاة أو ما شابهها من الممارسات العبادية المعروفة.
والواقع أن العبادة تعني الخضوع وتتمثل غالبا في الحب المفرط والطاعة العمياء والشكر الجزيل.
فكل عمل من الأعمال الثلاثة يصل حد الخضوع فهو عبادة باعتبار أن العابد يشعر بفقدان الإرادة أمام المعبود وبأن عليه أن يخضع مطيعا شاكرا محبا.
ولذلك يصفون احيانا العشق المفرط بين المغرمين من النساء والرجال بأنه حب عبادة.
والعبرة فيه أن المحب يطيع المحبوب دون تردد ولا تفكير أو اهتمام بالعواقب.
والعبادات التي نراها في معابد الذين يتخذون الأصنام وسيلة للارتباط بالله تعالى هي عين العبادات التي نراها في المزارات المعروفة وحتى الكثير من الزيارات التي يقوم بها المسلمون أمام قبر رسول الله عليه السلام معتبرينه حيا يسمعهم ويرد عليهم ولكنهم هم الذين لا يسمعونه، كلها أمور ينطبق عليها مفهوم العبادة دون أدنى شك.
وعبارة “من دون الله” تعني عادة، غير الله تعالى أو تعني ضد الله تعالى كما قال سبحانه في سورة البقرة:
مِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167).
ولكن العبارة في آية سورة يوسف تعني غيره سبحانه. فعُبّاد الأصنام يعبدون الله تعالى أحيانا ولكنهم يحبون ويفضلون الخضوع للأصنام. والأصنام مثل القبور، تشير إلى ذوات مقصودة وتكون الذوات عادة من الملائكة.
وأما عجل السامري فكان يشير ويرمز إلى موسى الرسول وقد اتخذوه معبودا حتى يرجع إليهم موسى. والعبادة المشتركة بأي شكل هي في حقيقتها عبادة المشركين.
إن كل من يعبد غير الله تعالى يظن بأن للمعبود المخضوع له يدا في التصرف بالمتغيرات، وهو خطأ.
إن المتغيرات جميعها بيد الله تعالى حتى التي نراها بيد البشر. لو ننظر في أعماق الحركات الكبرى والاحداث التي تقع في الأرض كالحروب والفتوحات والصناعات الكبرى والمتاجر والمباني الفاخرة والأنظمة والتشريعات المتطورة فإنها جميعا تسير وفق نظام تطوري واحد ولو أن هناك أشخاصا من البشر يديرون هذه الحركات الكبيرة.
فنرى هناك رقعة جغرافية محدودة وقعت تحت سيطرة المسيحيين ومثلها تحت قيادة المسلمين ومثلها تحت النفوذ البوذي على الرغم من أن جميع أصحاب الديانات الكبرى سعوا حين قدرتهم على تحويل كل الأرض إلى عقيدتهم ليسودوا فلم يفلحوا.
نرى بأن هناك مجموعات قوية من الدول المتحدة معا، ولكن ليس لأية مجموعة أن تحكم الأرض منفردة، بل إنها محتاجة لبعضها البعض، كما نرى في المقابل أن أية مجموعة تتعدى حدا من القدرة والقوة والتسلط فإنها تسقط كما سقطت الحكومات الأموية والعباسية والعثمانية وكما سقط الفرس والروم والمغول وغيرهم.
أن خيرات الأرض موزعة توزيعا دقيقا فكل أمة في الواقع قادرة على أن تتحكم في دخلها على أساس الثروات الطبيعية الممنوحة لهم من قبل قوة غيبية ولكن الشعوب تتكاسل أحيانا فيعمها الفقر أو تتصارع فيما بينها فتخسر وتفشل.
ونرى بأن القوى الكبرى مع علمها وإمكاناتها التقنية، تخطئ كثيرا وتخسر كثيرا مما يدل على أن المدير العام جل جلاله لا يريد لها السيطرة الكاملة.
نرى بأن هناك الكثير من الأمراض والعاهات الكبرى تظهر على وجه الأرض فتخلق الذعر بين البشر ثم تزول دون أن نعرف في الواقع كيف أتت وكيف انتشرت ثم كيف زالت أو خفت خطورتها. فهل يمكن أن نتصور بأن هذه المتغيرات بيد غير الله تعالى المحيط المهيمن؟.
إن البعض يعتبر الأولياء أقوياء ووسائط للرحمن وسادة وملوكا ويخضع حتى لرفات عظامهم وقبورهم، ويظن بأن لهم خطرا كبيرا، والواقع أنهم ضعفاء لا حيلة لهم. قال تعالى في سورة يونس:
قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34) قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35) وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللّهَ عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (36).
إن القدماء غلوا في بعض الأشخاص فانتقل الغلو بمساعدة الشياطين إلى أبنائهم وبقي ينحدر بينهم من جيل الى جيل، وكلما ابتعدوا عن حقيقة الأشخاص وهم في غمرة الغلو فإن السلبيات الطبيعية زالت من صور تلك المسميات ولكن الإيجابيات الوهمية بقيت وتلألأت وتطورت شيئا فشيئا في عالم الظن والخيال.
ثم تحولت المسميات إلى مقدسات لا يسع المرء أن يفكر مجرد تفكير في إمكانية الشك في قدسيتها، بل عليه أن يتقبلها فهي رموز الأمة وعناوين الملة وبغيرها يموت الناس وينقطع ارتباطهم مع ربهم!. والحقيقة أن كل الأشخاص من البشر، مهما كانوا متسامين ومترقين في درجات العبودية و الخلوص فهم كانوا يأكلون الطعام ويشربون وينامون ويُحدثون فيغسلون ويجنبون ويغتسلون.
إنهم جميعا ضعفاء أمام القدرات الطبيعية وأمام الأمراض بنص القرآن. إنهم جميعا ماتوا ولم يتمكنوا من دفع الموت عن أنفسهم. كل مظاهر الضعف هذه زالت من الأذهان وحلت محلها العظمة والقدرة والتفوق والسمو.
إن الموتى جميعا أحياء عند ربهم وليسوا أحياء عندنا وهم لو كانوا مؤمنين فهم يُرزقون الأمان من الخوف ولو كانوا كافرين فاسقين فسوف يُصيبهم الخوف والذعر من مستقبل الحساب أمام ربهم لا غير.
ليس للموتى أن يعرفوا عنا شيئا كما ليس لنا أن نعرف عنهم شيئا وهذا معنى البرزخ الفاصل بين الحياتين الدنيوية والأخروية. وكل هذه المفاهيم موضحة في كتاب الله تعالى. نهاية الهامش21)
(هامش 22: الإنزال في لغة القرآن يعني التدرج التطوري من حيز القوة والامكان إلى حيز الفعلية. قال تعالى في سورة الزمر:
خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنزَلَ لَكُم مِّنْ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6).
فالله تعالى طور الأنعام من حالة إلى حالة ولم ينزلها من علو إلى أسفل كما أنه سبحانه ينزل الغيث بمعنى أن المطر يتحول من حالة الجمود إلى حالة السيولة بعمليات طاقوية تتم داخل الغيوم حتى تجذبه الأرض وليس هناك بحر من المياه في السماء فينهمر منها حينما يفتح الله تعالى صمامات البحار السماوية مثلا. فحينما يستعمل الإنزال فهو يتضمن معنى التطور بصورة طبيعية. نهاية الهامش 22)
(هامش 23: لمزيد من التوضيح: فإن الكائنات برمتها خاضعة لوجه القدوس جل جلاله ونحن نحتاج كثيرا إلى هذه الكائنات فلو أننا خضعنا بإرادتنا لمن تخضع له الكائنات جميعها فإننا نقع في الطريق الواضح الموصل إلى الهدف الذي نتوخاه. ولكننا لو سعينا لنفس الهدف من طريق أخرى فقد نضل وقد لا نصل أو تطول بنا الطريق.
أما قولنا بأنه أمر تشريعي فباعتبار العبادة التي تمثل الخضوع الاختياري ولذلك أمرنا أن نأتي بها بمحض إرادتنا. أما الكائنات غير المدركة أو المدركة غير المختارة فهي جميعها خاضعة لوجهه سبحانه جبرا وفاقدة للإرادة أمام حكم الجبار العظيم جل جلاله.
وليكن واضحا أيضا أن الملائكة المكرمين لا يعبدون الله تعالى بل يسجدون له؛ وأما قوله تعالى بأنهم:
لا يستكبرون عن عبادته
فهو ليس باعتبار الفعلية بل باعتبار القوة. ذلك لأن الله تعالى قادر على أن يعطيهم الخيار إن شاء فيصيرون ملائكة يمشون على الأرض مثلا. والآية واضحة في حصر العبادة والخضوع بالذات الإلهية. ذلك لأن الخضوع لا يجوز لمن هو مثلك.
وكل الكائنات المخلوقة ممكنة في ذواتها وفي أعمالها إلا الله تعالى الواجب في ذاته والذي لا يمكن لشيء أن يتخطى أمره سبحانه وتعالى. والكائنات برمتها مدينة له بأنه خلقها ويمدها بمقومات الوجود والحياة إن كانت من ذوات الحياة بشقيها الطاقوي والنباتي. نهاية الهامش 23.)
يتبع …
أحمد المُهري
تابع مركز #تطوير_الفقه_الاسلامي
https://www.facebook.com/Islamijurisprudence/
ان كان لديكم الرغبة في الانضمام لمجموعة النقاش في المركز برجاء ارسال بريد الى :