الخليفة واختيار الحاكم
بين ماجد المولى واحمد الكاتب حول اختيار الخليفة
تعليقات بسيطة على ما كتبه الأخ الكريم ماجد المولى حول تعيين الخليفة. وتعبيرا عن اهتمامي بما كتبه سيادته وإعجابي بلطف استدلاله فإنني أرى من واجبي أن أكتب التالي لعله يرى في ما كتبته رشدا أو يرشدني إلى أخطائي. وعلى كل حال فنحن فئة نتمنى أن نكون من المؤمنين بحق ولا نبخل على بعضنا بالنصح والمحاورة لعلنا نصل إلى الحقيقة التي نتوخاها جميعا. أظن بأننا سنحقق الفوز هنا بقدر اقترابنا من الحقيقة ونحقق الفوز بعد الحياة الدنيا بقدر سعينا.
1. قال تعالى في سورة آل عمران: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110). كنتم لا تعني الحال بل تعني الزمن الماضي قطعيا لأنه تعالى يخبر بقوله كنتم وإلا قال أنتم. فالله تعالى يريد أن يوضح لنا السبب في اختيار أولئك القوم لإنزال القرآن عليهم كما يتراءى لي. هم أهل مكة عموما قبل نزول الوحي وما ذكره سبحانه في الآية من أحوالهم لا زالت موجودة حتى يومنا هذا. فقول الإخوة لتكونوا خير أمة قد لا يكون صحيحا أو قد لا نفهمه من الآية الكريمة. وليكن واضحا لمن يريد التحقيق بأن الفعل الماضي يدل على التأكيد ولذلك فإن وعود الله تعالى دون غيره يمكن أن تأتي بالفعل الماضي كالإخبار والإنباء. فالماضي لا تعني في حقيقتها الزمن الماضي بل تعني التأكيد ومنها اشتقت الإمضاء المعروفة دليلا على القبول وإنهاء حقوق الغرر والجهالة.
2. بسهمي أشكر الأخ ماجد المولى على البحث المختصر والقيم حول تعيين المؤمنين للخليفة ولكنني لا أظن بأن فهمه حول آية الشورى مطابق لمعنى الآية الكريمة. آية الشورى لا تتحدث عن تعيين الحاكم ولا الآيات التي ذكرها حول اتباع الصحابة الكرام الذين آمنوا برسولنا واتبعوه والتابعين من بعد الصحابة. الآية الكريمة تتحدث عن المؤمنين المتوكلين على الله تعالى فقط ولا دليل بيدنا على أن السابقين من المهاجرين والأنصار هم أحق وأولى بتعيين الخليفة. بالطبع أن العقل يوافق الأخ ماجد المولى ولكننا لو نرى ذلك في القرآن فإن تعيينهم للخليفة يكون حجة على غيرهم. يمكن أن نفهم من الآية الكريمة بأن المؤمنين يتشاورون سواء كانوا من السابقين الأولين أو ممن جاء بعدهم. تعيين الحاكم حق طبيعي عقلاني للمحكوم كائنا من كان حتى لو كان غير مسلم أو كان فاسقا. فالنظام الجمهوري هو النظام الأوفق عقليا ولكننا لا يمكن أن نقول بأن هذا النظام كان موجودا أيام الرسالة الخالدة أو أن ذلك ما سار عليه السابقون الأولون.
الطريقة التي ساروا عليها في اختيار الخليفة أو الحاكم تناسب مجموعة صغيرة من البشر ولا تناسب الدول والأمم المليونية الفعلية. هناك وصايا قرآنية للرسول الأمين عليه السلام لمساعدة المؤمنين بعد وفاته. لقد شرحتها بقدر علمي المتواضع وهي موجودة في مركز تطوير الفقه السني والذي تغير اسمه إلى مركز تطوير الفقه الإسلامي بعد أن التحقنا به ونحن لسنا من المعروفين بالسنة طبعا. تلك السور هي المجادلة وخمس سور بعدها حتى المنافقون. يمكننا بدراسة تلك السور أن نتعرف على وصايا الرحمن للصحابة ومن يريد أن يسير على هدى الله تعالى مثلهم في تعيين الحاكم. والعلم عند المولى.
3. استدل الأخ الكريم ماجد المولى ببعض الأحاديث المنسوبة إلى حبيبنا المصطفى عليه السلام حول الإخبار بالمستقبل وعدد الطوائف الإسلامية وغيرها مما لا يمكن إثباتها بداية. ثم إنها إخبار عن الغيب فمن أين فهم الرسول ما سيصير إليه أمور الأمة من بعده وهو بشر مثلنا؟ ولو فرضنا بأن الله تعالى أراد ذلك تكوينا فهو سبحانه أولى من الرسول بأن يبلغنا في القرآن الكريم ليكون سندا ولا نحتاج إلى مراجعة التاريخ المليء بالكذب والتزوير تماما مثل تواريخ غير المسلمين. إنني بالطبع أفند كلما قيل من الغيبيات خارج القرآن الكريم لأن الغيب خاص بالله تعالى ولا يوجد بيد البشر أي خبر غيبي سماوي عدا القرآن الكريم. ولذلك فهذه الأنواع من التحليلات قد لا تكون مناسبة للمؤمنين الجادين في اتباع القرآن الكريم.
4. هناك مشكلة كبيرة في الاستدلال على الاختيار الضروري ليميز الله تعالى بين الطيب والخبيث لو قلنا بأنه سبحانه كان على علم كامل بما سيحصل في توجهات عبيده بعد وفاة الرسول. هذا موضوع كبير ناقشته كثيرا قبل سنوات وكتبت حوله مقالات عديدة وباختصار فإن الله تعالى لو أراد أن يعلم ما سنفعله بالمستقبل وكل علم الله تعالى محقق دون جدل فذلك يعني بأننا مسيرون غير مخيرين. هذا ما يرفضه القرآن الكريم. ولذلك فالصحيح كما أظن القول بأن الله تعالى لم يرد أن يعلم ما سيفعله الناس وهذا معنى صحيح للاختيار الذي منحه لعبيده، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر من تلقاء نفسه دون أن يسبق ذلك علمه سبحانه.
5. استند الأستاذ الفاضل ماجد المولى على الآية التالية من سورة النساء لإثبات وجوب الرجوع إلى السابقين الأولين لتعيين الخليفة: وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا (115). لا أظن بأن الآية الكريمة تدعو إلى ذلك. إنها تصرح بلزوم اتباع سبيل المؤمنين الذين اتبعوا الرسول حين وجود الرسول وليس بعده. كيف يمكن أن يشاقق أحد الرسول بعد وفاته؟ أما في حياته الشريفة فإنه هو الزعيم وهو الموجِّه للمؤمنين فأمره تعالى باتباع المؤمنين آنذاك هو أمر باتباع الرسول لأن المؤمنين كانوا يتبعونه عليه السلام. لكنهم بعد خسارتهم لرسولهم فإنهم فقدوا إمامهم وموجِّههم الذي استند إلى وحي السماء في أوامره فانتهى العمل بالآية الكريمة برأيي المتواضع.
6. استند فضيلته إلى الآية 100 من سورة التوبة لإثبات وجوب اتباع الصحابة والتابعين من بعدهم لتعيين الخليفة. فلنقرأ الآية الكريمة مع آية قبلها لأنها معطوفة عليها: وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ اللّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (99) وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100). هناك بعض الأعراب مستثنون من مخالفة الرسول باعتبار أنهم آمنوا بالله وباليوم الآخر واتخذوا ما ينفقون قربات عند الله. السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار ومن اتبعهم بإحسان معطوفون عليهم بأنهم اتخذوا ما أنفقوا قربات عند الله.
ولقد ظن سلفنا رحمهم الله تعالى بأن الذين اتبعوهم بإحسان هم الذين اتبعوا الصحابة بعد وفاة الرسول. فالآية الكريمة لا تدل على ذلك. قوله سبحانه: والذين اتبعوهم بإحسان، يدل على مجموعة اتبعت السابقين بإحسان فعلا ولا يدل على من يأتي بعدهم. ثم إنه تعالى قد عين لهم مقاما واضحا وهو بأنهم مرضيون عند الله تعالى وراضون عن ربهم. كلها تدل على فئة طيبة من المؤمنين لم يتشرفوا بتقبل دعوة الرسول مع السابقين من المهاجرين والأنصار. هناك بعض الأطفال كبروا بعد هجرة الرسول فهم لم يتشرفوا بالإسلام مع السابقين وهناك أناس بعيدون عن منطقة الدعوة وكذلك أناس لم يتعرفوا أو لم يستيقنوا بسلامة الدعوة النبوية إلا بعد فترة فهم المشمولون بالآية ولكنها لا تشمل الذين أتوا وأسلموا بعد وفاة الرسول كما ظن السلف.
وعلى أي حال فإن الآية لا تشير إلى مسألة تعيين الخليفة أو الحاكم. ولعل فضيلة الأخ ماجد منتبه بأن المسلمين بعد وفاة أبي بكر رضي الله عنه انتبهوا إلى أن الخليفة ليست تعبيرا صحيحا عن الحاكم. فهل يسمون الإمام الثاني عمرا ر ضي الله عنه خليفة خليفة رسول الله؟ ثم يسمون الثالث خليفة خليفة خليفة رسول الله. ولذلك سموه أمير المؤمنين وهو الصحيح. حتى أبو بكر لم يكن خليفة رسول الله في الواقع. هل كان أبو بكر مستلما لوحي السماء وهل كانت طاعته مثل طاعة رسول الله؟ كان أبو بكر خليفة للأمير محمد بن عبد الله وليس للرسول محمد بن عبد الله. الرسول محمد معين من قبل الله تعالى والأمير محمد منتخب من قبل المسلمين في المدينة بعد الهجرة الشريفة. ومن سموهم الخلفاء الراشدين فأولهم خليفة الأمير محمد عليه السلام وكل فرد بعده خليفة من قبله.
7. وضح فضيلته طريقة الشورى المتبعة لتعيين الخلفاء الأربعة رضي الله عنهم جميعا. اعترف فضيلته بأن الخليفة الثاني تم بتعيين من الخليفة الأول وليس بانتخاب الأمة فلا معنى للشورى في تعيينه بظني القاصر. لا أظن بأن من حقنا أن نحاكم الخليفة أبا بكر لتعيينه مَن بعده وعدم ترك الأمر للمسلمين أنفسهم. نحن لا نعرف المسألة بوضوح وأنا شخصيا باعتبار ثقتي الكبيرة بذلك الرجل الهام في تاريخ الإسلام أظن بأنه فوجئ باقتراب موته ولم يدر ما يفعل وخاف على المؤمنين من الاختلاف ففضل تعيين شخص يثق بقدرته على إدارة الأمور. ثم إننا نعرف بأن الحاكم آنذاك لم يكن مثل حكام البشر البعيدين عن تعليمات الرسول الأمين عليه السلام. الحاكم كان فعلا خادما للناس ولم يكن مالكا للرقاب. كان الصحابة بالمرصاد له لإيقافه عند حده ولتقويم اعوجاجه حسب تعريف الخليفة الأول.
كان عمر يخاف من الصحابة ولم تكن الصحابة لتهاب عمرا برأيي. فلم يكن هناك خطر محدق بالأمة حينما عينه أبو بكر لسبب لا يمكن لنا التعرف عليه. لكنه لم يكن شورى بالتأكيد. مبايعة الناس له لا تدل على أن تعيينه كان بالشورى. حتى الشورى السداسية التي عينها عمر حينما اغتيل وقبل أن يفارق الحياة فهي ليست شورى بل هي نوع من التعيين مغاير لتعيين أبي بكر ولكنها أقرب إلى الشورى طبعا. يمكن القول بأن انتخاب أبي بكر ومن بعده انتخاب علي كانا عن طريق الشورى بين الصحابة وليس شورى عاما لكل المحكومين. وعلى كل حال فإن ذلك الشورى ليس ممكنا ولا مفيدا اليوم في الواقع. لقد تغير الوضع العام بصورة كبيرة. كما لا يوجد بيننا اليوم أشخاص مشهود لهم بالصدق والخلوص مثل أفراد الخلفاء الأربعة والكثير من كبار الصحابة المشاهير. لا سيما بأن بعضهم كان مورد احترام واهتمام رسول الله عليه السلام. ولا ننس بأن الله تعالى رضي عنهم ورضوا عنه وهذا ليس ثابتا لأي إنسان بعدهم.
8. اهتم فضيلة الأخ الكريم بالحديث المشهور خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم. لا أظن بأن من حق الرسول أن يقول ذلك لأنه أمر غيبي ولا أظن بأن من الممكن أن نسمع ذلك من الله تعالى لأنه متنافر مع الاختيار. فيا حبذا لو أن سيادته بما أوتي من قدرة جيدة على التحليل يحلل الحديث بكل حرية ليرى ما فيه من معايب وأخطاء ثم يوضحه للمسلمين. أنا لست مؤمنا بأي حديث فلست جديرا بتحليله. أنا مؤمن بالقرآن الكريم وبالسنة العملية التي ورثناها من رسول الله وأعتبر كل الكتب الأخرى التي تتحدث عن الغيب باطلة ومنكرة.
9. وآخر مسألة أحب أن أعلق عليها هي ما رووه عن الرسول عليه السلام بأنه أوصى باتباع سنته وسنن الخلفاء من بعده. هذا الكلام مرفوض عندي ولا يمكن تطبيقه إطلاقا. إنه دعوة إلى الهمجية وهي مشابهة لما يسير عليه بنو جلدتي اليوم من التقليد المنحرف لشخص واحد اشتهر بينهم بمرجع التقليد مع الأسف. ذلك شرك برأيي لأن الذي يجب طاعته واتباعه هو أمر الله تعالى وليس أمور البشر. نحن نطيع رسول الله لأن طاعته طاعة لله تعالى باعتباره رسولا؛ ولكن ما شأن بقية الناس كائنا من كانوا؟ لا توجد في القرآن الكريم أية آية تصرح بوجوب تقديم الطاعة لبشر إلا في حدود حفظ النظام. والنظام يجب أن يكون معلقا بإرادة الناس. قرن الرسول عليه السلام ينطوي على بشر لا يمكن أن يكونوا مصونين من الخطأ فكيف يجوز للرسول أن يأمر بطاعتهم؟ هذا إبطال للعقل وتعظيم لأمر البشر ليصل حد الربوبية الواجبة طاعتها. ولنعم ما قال يوسف عليه السلام لصاحبي السجن كما اختصره لنا القدوس جل جلاله في سورة يوسف: يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (40). فالحكم لله لا للبشر. والطاعة لحكم الله لا لحكم الناس. والعبادة تعني الطاعة والشك والحب غير المحدود ولا أحد يستحق هذا النوع من الخضوع غير الله تعالى وحده لا شريك له.
أعتذر من فضيلة الأخ العزيز ولا أخفي استمتاعي بطريقة تناوله للمسائل فهي طريقة سلسة جميلة ولكن المصادر الذي استند إليها سيادته مغايرة لمصادري وليس هناك رد عليه بل رد على تلك المصادر في الواقع. وكذلك أعتذر من كل من اطلع على هذه الرقيمة المطولة وأشكره وأشكر الجميع.
أحمد المُهري
11/4/2019
#تطوير_الفقه_الاسلامي
تابع مركز #تطوير_الفقه_الاسلامي
https://www.facebook.com/Islamijurisprudence/
· ماجد المولى الاستاذ الفاضل
Ahmad Alkatib
مع الشكر والامتنان لردكم..
فعلا الخلاف بين الصحابة لم يكن حول الدين وثوابته. لانهم تلقوا العلم بشؤون دينهم من النبي مباشرة عبر الوحي الإلهي .. فكان الدين عندهم واحدا لاخلاف حوله، والسنة النبوية كانت واضحة لهم لمعاصرتهم لصاحب السنة الذي علّمهم وأعدهم ليكونوا خير أمة اخرجت للناس وهذا ما حصل فعلا بنص الكتاب وشهادته لهم.
اما اختلافهم حول الأمور السياسية فلم يحدث الا بعد انتقال الحكم من مبدأ الشورى الى الملك العضوض بعد خلافة معاوية الذي رشح ولده لخلافته وحاول استحصال البيعة له من كبار المسلمين في ذلك الوقت.
ففي زمن الخلافة الراشدة كان الاختيار للخليفة يتم من قبل فئة كبار الصحابة وهم السابقون الاولون من المهاجرين والانصار. وهذا ما اتفق عليه كل الخلفاء الراشدين رض بل وكل المسلمين حيث أكد ذلك الامام علي ع نفسه في رسالته لمعاوية:
((إنه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان على ما بايعوهم عليه، فلم يكن للشاهد أن يختار، ولا للغائب أن يرد، وإنما الشورى للمهاجرين والأنصار، فان اجتمعوا على رجل وسموه إماما كان ذلك لله رضا، فان خرج عن أمرهم خارج بطعن أو بدعة ردوه إلى ما خرج منه، فان أبى قاتلوه على اتباعه غير سبيل المؤمنين، وولاه الله ما تولى.))
وهذا المبدأ الذي ذكره الامام ع وكان المسلمون في وقته يؤمنون به ويعملون بموجبه مستنبط أصلاً من كتاب الله الذي تمسكوا به
– وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَىٰ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115)…. النساء
فالمؤمنين هنا هم أنفسهم الذين خاطبهم الله عزّ وجلّ في كتابه ب ((يا أيها الذين آمنوا)) وإتباع سبيلهم هو الإتباع المذكور في الآية ١٠٠ من سورة التوبة ((السابقون الأولون من المهاجرين والانصار والذين اتبعوهم بإحسان..)).. أي هذه الفئة من السابقين وكل من اتبعهم بإحسان.. هم الذين يختارون الخليفة وفِي اختيارهم هذا رضاً لله وتحقيقا للشورى المنصوص عليها في كتابه. وهم المؤمنون حقاً..
– يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنفَالِ ۖ قُلِ الْأَنفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ ۖ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ ۖ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (1) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (3)
أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا ۚ لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)…. الأنفال
وهم الذين أمرهم الله بالتقوى وإصلاح ذات بينهم وتجنب الخلافات مع بعضهم ثم ذكر أوصافهم فهم يجلّون كتاب الله وان تلاوة آياته تزيدهم إيماناً وهم المتوكلون على ربِّهم والمقيمين الصلاة والمنفقين مما رزقهم الله .. ثم أعلن المولى سبحانه ان هؤلاء المذكورة أوصافهم هم ((المؤمنون حقاً))….
وهؤلاء هم المؤمنون الذين “أمرهم شورى بينهم” اَي انهم يتشاورون في اختيار ولي الأمر من بعد رسول الله ص.
ومعلومٌ أن علياً ع من افقه الناس في كتاب الله ومن أشدهم ايمانا وتمسكا به واستنباطا منه، كما هو حاله مع السنة النبوية المطهرة.
لذلك فان جميع المسلمين يعتقدون بان الحق مع علياً أينما دار..
هذا بالنسبة لحق المشاركة في اختيار الحاكم في زمن الخلافة الراشدة..
أما طريقة الشورى فالخلافة الراشدة سارت على مبدأ واحد وهو اختيار كبار الصحابة من السابقين الأولين للخليفة .. ثم مبايعة عوام الناس له وكان كل من الخلفاء الاربعة قد انتخب من قبل هؤلاء السابقين بطريقة تختلف عن من سبقه وذلك تأكيدا لمرونة هذا المبدأ وتنوع أساليب الشورى وأدواتها ..
فالأول انتخب بطريقة ‘برلمان السقيفة’ من قبل السابقين من المهاجرين والانصار
والثاني بالترشيح ثم استشارة مجلس شورى السابقين الاولين وموافقته على الترشيح بالإجماع
والثالث بالشورى من مجلس خبراء مختارين من قبل الخليفة الثاني رض قبيل وفاته وموافقة مجلس شورى السابقين الأولين ثم مبايعة عموم المسلمين
اما الرابع فكان بالانتخاب المباشر وإجماع السابقين الاولين ومبايعة الناس أجمعين .. كما حدث لاحقا في اختيار الحسن بن علي ع لخلافة المرحلة الانتقالية التي قادها الحسن بنفسه واتخذ قراره فيها وحقق إجتماع المسلمين وإصلاح ذات بينهم.
ونهج الخلفاء الاربعة رض لم يكن فيه اختلاف ولا خلاف الا بما يناسب اختلاف الزمان والمكان من حيث توسع دولة الخلافة الراشدة وتطور مواردها وأساليب التعامل مع أدواتها بما يناسب كل مرحلة.
مسألة عدم اختلاف الصحابة في ثوابت الدين في القرن الاول ثم عدم اختلاف التابعين وبقية المسلمين في القرنين الثاني والثالث (في عقيدة الدين).. هي حقيقة واقعة أكدها نص حديث المصطفى ص حول أفضلية القرن الاول ثم الثاني ثم الثالث على التوالي.
اما اختلاف المسلمين حول الدين نفسه وانشقاق عقائد ونظريات دينية وافكار بدعية وفرق متعددة فكان قد حصل فعليا بعد انقضاء القرن الثالث الهجري .. وما يزال هذا الخلاف العقائدي (حصريا) مستمرا ليومنا هذا حيث ظهرت محاولات لتحريف الدين وثوابته وتزوير التاريخ وأحداثه التي وقعت في القرون الثلاثة الاولى.. ومن ثم تحققت نبوءة المصطفى ص بان هذا الدين سينقسم الى ٧٣ فرقة كلها في النار الا واحدة .. وهي التي تتبع ما كان عليه رسول الله وصحابته الأبرار وأهل بيته الأطهار.. في زمن النبوة والخلفاء الراشدين المهديين
وعليه أوصى رسول الله ص باتباع سنته وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعده.. وان يعضّ المسلمون عليها بالنواجذ
وفِي هذا الحديث معان ونبوءات لها مغزى توضح حقيقة الاسلام المحمدي الأصيل قبل انشقاق الفرق وظهورها ..
أما الحكم الاستبدادي المطلق او الحكم الوراثي وهو ما سماه رسول الله ص بالمُلك العضوض ثم يأتي بعده المُلك الجبري .. علما ان رسول الله ص ذكر هذه الأنماط في حديثه ولَم ينكرها..
والحقيقة في هذه المسألة ان الحكم الملكي الوراثي ليس بدعة أموية او عباسية بل
هو نظام نشأت عليه إمبراطوريات عظمى في ذلك الوقت كالاميراطورية الرومانية القيصرية والفارسية الكسرويةً وهو حكم أفراد وعوائل وأُسر من سلالة معينة قد يحدث عليها انقلاب عسكري فتتغير العوائل المالكة التي تحكم تلك الإمبراطوريات .. وهذا النظام الوراثي لم يكن مستنكرا من غالبية المحكومين به عدا بعض القوى المعارضة التي حاولت السيطرة على حكم بعض هذه الإمبراطوريات .. ويبدو ان هذه من سنن الله في خلقه ومن أساليب رب العباد في دفع الناس بعضهم ببعض
– وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ ۚ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252)…. البقرة
ويبدو ان النظم الاستبدادية والوراثية تصلح لإدارة الإمبراطوريات الكبيرة التي تختلف شعوبها في الأعراق واللغات والعقائد والتقاليد .. كما تصلح لإدارة الشعوب العنيدة المخالفة لحكامها الديمقراطيين الذين يعتبرون اكثر وداعة وتسامحا مع معارضيهم من الحكام الاستبداديين وان هؤلاء المستبدين هم أكثر صلابة وحزما في تطويع هذه الشعوب .. وتحقيق الاستقرار المجتمعي لها ..
فبعد توسع دولة الاسلام واقترابها من ان تكون امبراطورية ممتدة الأطراف لم يعد اُسلوب الحكم المثالي المتسامح الذي كان عليه الراشدين مناسبا لإدارة امبراطورية إسلامية واسعة وشعوب مختلفة ومعارضات شعبية معاندة ملأت قلب الراشد الرابع الامام علي ع قيحا في زمانه .. على سبيل المثال .. وأدت الى حدوث معارك ونزاعات قتالية حتى مع مشايعيه وأفراد جيشه الخارجين عليه والمنشقين عنه.. والذين خططوا لاغتياله فيما بعد .. كل هذه الأحداث وعلي ع كان أفضل البشر في زمانه ولا خلاف في ذلك بين كل المسلمين .. ومع ذلك لم يتمكن ع بمثاليته وديمقراطيته وتسامحه ع ان يحكم دولة مستقرة واسعة الأطراف.
فكانت ظروف توسع الدولة ودخول شعوب مختلفة في الاسلام معظمهم غير عرب ومن اديان وأعراق مختلفة ومتباينة ..تحتم بواقعها وضرورة استمرارها كدولة إسلامية ان يتغير نظام الحكم ليناسب التطور الحاصل .. وفعلا نجح الأمويون والعباسيون والعثمانيون بأنظمتهم الوراثية ورغم وجود خلفاء وحكام مستبدين بين حين وآخر .. الا ان هذه الدول وغيرها نجحت في خلق مجتمع إسلامي مستقر ومتطور في جميع المجالات .. وحققت انتشارا واسعا للاسلامً .. لذلك حوربت من قبل اعداء الاسلام ومنهم الصهاينة والصليبيين .. الذين لم يهنأ لهم بال الا باسقاط آخر امبراطورية إسلامية في بداية القرن العشرين وهي الدولة العثمانية.
ويبدو ان سنة الله في خلقه وإرادته سبحانه تتدخل في إنشاء الدول والإمبراطوريات وتطور انظمتها ..
فقد سلط سبحانه على بني اسرائيل (وهم قومٌ معروفون بمشاكستهم وعدم رضاهم بأنبيائهم ففريقا كذبوا وفريقا يقتلون) سلط عليهم أنبياء ملوك ونظام حكم وراثي كالملك الرسول داوود ع ثم ابنه سليمان ع وغيرهم من ملوك بني اسرائيل ومع ذلك استمروا بعنادهم وطغيانهم وفسادهم فسلط الله عليهم ملكا جبارا لم يكن يعبد الله او يوحده كما كان بني اسرائيل .. وهو نبوخذ نصر البابلي فدمر دولتهم وسبى شعبهم وأخذهم اسرى لبابل واستعبدهم لزمن لا يعلمه الا الله ثم عفا الله عنهم فحررهم من العبودية وشتتهم في دول الشتات ولم يسمح لهم بإقامة دولة اخرى حتى مطلع القرن الماضي حيث تأسست دولة اليهود في منتصف ذلك القرن وجمع شتاتهم واجتمعوا في الارض المقدسة لغاية يعلمها الله وخطة وضعها الله سبحانه بنفسه ليحقق وعده الثاني لهم في الكتاب ..
– فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا (104) .الإسراء..
ومن تناقضات نظرية الإمامة الاثنا عشرية انها تُنّظِر لحكم وراثي لسلالة معينة وعائلة محددة ثم تستنكر على بني أمية وبني العباس هذا الأسلوب في الحكم ..
آسف للإطالة لان التفصيل ضروري للبيان والتوضيح ..
والله أعلم..