القصة الحقيقة للثورة المصرية 13-عندما تتكلم الحيوانات
القصة الحقيقية للثورة المصرية 13
عندما تتكلم الحيوانات
مدخل : ( موضوع أن تتحدث نعجة, أو معزة, لا يعرف الإنسان وجهها من قفاها باللغة العربية الفصحى موضوع عادي للغاية لا يختلف كثيرًا عن شرب البيبسي بدل الكوكا كولا. أين المعجزة في شرب البيبسي؟ أو حتى الكوكا كولا؟) |
صباح اليوم التالي أدار حلمي سيارته واتجه إلى البدرشين. كانت الحركة على الطرق خفيفة كما هي الحال منذ انطلاق ثورة الخامس والعشرين من يناير وانسابت السيارة بهدوء إلى أن توقف أمام مبنى المحكمة. دخل حلمي بك – هكذا يناديه الجميع في جميع ما يتصل بعمله, بل وبغير عمله – إلى مكتبه ودخل عم فتحي بالشاي, وبدأ الهاتف الأرضي بالرنين, كما بدأ الطرق على باب المكتب, واتصل مكتب النائب العام للاستفسار عما تم التوصل إليه في حادث إشعال النار في مركز شرطة البدرشين, كما بدأت الأصوات تتصاعد من المواطنين الذين تجمعوا أمام المكتب. لم يتوقف حلمي بك عن العمل إلا عندما دارت رأسه من الإرهاق فأخرج هاتفه المحمول ليرى الوقت. كانت الساعة تقترب من السادسة مساءً. قرر حلمي بك الذهاب إلى المنزل. رحم الله امرءًا عرف قدر نفسه.
كانت الشقة باردة, معتمة, مهجورة. أحس حلمي بغصة في حلقه وتذكر المقعد في الدار في كفر نفرة الذي لا يخلو من الضيوف أبدا, والمندرة, وأمه, والوالد, وعم محمود, وسلمى ابنة عم محمود, وأحس بالسعادة. مجرد “فكرة” سلمى كانت كافية ليشعر بالسعادة, ودعك من “صورة” سلمى. ودعك كذلك من الشعور بأن سلمى تسكن على بعد أمتار في الدار المجاورة. الحياة في كفر نفرة شيء آخر.
أضاء حلمي أنوار الشقة, وأشعل الدفاية, وشغَّل التليفزيون, وذهب إلى المطبخ لإعداد كوب من الشاي. كان المطبخ شديد البرودة إلا أنه قاوم حتى الانتهاء من صنع الشاي وعاد إلى مقعده في الصالة لمشاهدة التليفزيون. كالعادة, كانت كل المحطات تذيع من ميدان التحرير وكالعادة كذلك توقف هو على محطة الجزيرة. كان البرنامج يتعلق بجثث الثوار التي ما زالت ترقد في الثلاجات في مشرحة زينهم والمأساة التي تمر بها أمهات الشهداء اللاتي يحاولن التعرف على جثث أبنائهن وسط المئات من القتلى. كان السؤال الذي يدور في ذهن سيادة الأستاذ حلمي بك عبد العاطي شاهين, وكيل نيابة البدرشين, هو التالي: ماذا سيكون شعور أمهات شهداء الثورة إذا علمن بالقصص التي يحكيها أبوك الحاج محمود عن “وزة”, و”وجدي”, و”الشايقي” و”الجعلي”, و”الغراب النوحي” و”الكلب هول”, وباقي القائمة الطويلة من الحيوانات الثورية التي ساندت ثورة الخامس والعشرين من يناير, وحاربت دفاعًا عنها, وضحت بأرواحها من أجلها, مثلها في ذلك مثل ثوار التحرير تماما؟ ماذا سيكون شعور الأمهات؟
كان الشعور بالجوع, والإرهاق, والرغبة في النوم قد بدأ يستولي على حلمي إلا أنه لم يكن من النوع الذي يمكنه أن ينام وهو جائع. وعليه, أمسك بهاتفه المحمول واتصل بمطعم “المنوفي” وطلب طبقًا من البامية وطبقًا من الأرز إضافة إلى السلطات بالطبع, وجلس في انتظار الطلب. عاد حلمي إلى مشاهدة البرنامج الكئيب إلا أنه لم يستطع أن يركز على مشاهدته. كان باله مشغولا بمحاولة الإجابة على السؤال الذي طرحه على نفسه: ماذا سيكون شعور هؤلاء الأمهات إذا علمن بالقصص الخرافية التي يتداولها الناس في ناحية شاهين؟ لم يكن عند سيادة وكيل النيابة سوى إجابة واحدة: هذه قصص تسيء إلى ثورة الخامس والعشرين من يناير. هذه ليست معجزات. هذه إهانات. كيف لا يرى الناس في ناحية شاهين أن هذه القصص هي إهانة لمئات الشباب الذين ماتوا من أجل ثورة الخامس والعشرين من يناير؟ من أين أتت فكرة أن هذه المعجزات هي دليل على رعاية الله لثورة الخامس والعشرين من يناير؟ ما معنى أن “يتفاهم” الشيخ حسن مع السحلية “وزة” وينسق معها ومع “وجدي” خطة الهجوم على “مدينة إنتاج المعلومات”؟ ثم ما معنى أن “يتفاهم” مع “الغراب النوحي” على القيام بـ”عملية الليلة الكبيرة” التي اشترك في إعدادها وإخراجها “الكلب هول”, و”الغراب النوحي”, و”إسفين”, و”عتريس” و”أبو سريع”؟ أقسم بدين الله لو قال هذا الكلام أي بني آدم غير الحاج محمود لشنقه الناس في ميدان التحرير عقابًا له على هذه المسخرة.
ضحك حلمي بحزن وهو يتذكر “الائتلافات الثورية” التي قام “الشايقي” بتشكيلها لنشر الوعي الثوري بين الجمال, وكيف رفضت “وزة” الحياة أمام كاميرات أمن الدولة وفضلت الموت على أن تعيش حياتها “على المكشوف”, وكيف قامت السحالي المصرية بالثورة دفاعًا عن حقها في العيش بحرية, وعدالة اجتماعية, وكرامة حيوانية. ضحك حلمي وهو يقول لنفسه إن المسألة هنا تصلح تماما لأن تكون برنامجًا – أو عدة برامج – من برنامج باسم يوسف الرائع الذي يتهكم فيه على خلق الله – كل خلق الله – بسخرية لا مثيل لها. المشكلة, أن باسم يوسف لا يجرؤ على تقديم برنامج يسخر فيه هذه السخرية من ثورة 25 يناير. ولا حتى باسم يوسف. هذا ليس تهكما, وهذه ليست سخرية. هذه مسخرة.
كان هناك سؤال آخر يدور في ذهن حلمي عندما سمع صوت دق على الباب. كان السؤال يتعلق بموقف الشيخ حسن عندما يصل إلى علمه هذا الكم المهول من الخرافات التي ينسبها الحاج محمود إليه. نهض حلمي من مقعده وفتح الباب. تناول حلمي الطعام من عصام الذي هنأه بحرارة على سلامة العودة من البلد “ألف حمد الله على السلامة, يا باشا” كعادته كل مرة حتى لو كان عائدًا من عند البقال تحت العمارة. قال عصام وهو يضع الإكرامية في جيبه: “خليها علينا, يا باشا”. بحكم العادة أيضا.
عاد حلمي إلى مقعده ووضع الطعام أمامه على مائدة صغيرة وبدأ في الأكل ومشاهدة التلفزيون. إلا أن السؤال كان لا يزال يطرح نفسه. كيف يمكن أن “ينسب” الحاج حلمي كل هذه الخرافات إلى الشيخ حسن؟ ماذا سيكون شعور الشيخ حسن عندما يعلم أن الحاج محمود قد أخبر الناس أن الشيخ حسن يتحدث مع الجمال, والغربان, والسحالي, ويضع الخطط للدفاع عن الثورة المصرية؟ ما الذي يمكن أن يشعر به أي رجل في مصر لو وصله الخبر أن الناس تقول عنه إنه يتحدث مع سحلية شابة اسمها “وزة” وغراب عجوز اسمه “الغراب النوحي”؟ يستحيل أن يقبل الشيخ حسن مثل هذا الكلام على نفسه. إلا في حالة واحدة: إذا كان مصابًا باضطراب عقلي حاد. يعلم أهل كفر نفرة كلهم, صغارهم قبل كبارهم, أن ليس هناك من هو أعقل, ولا أفضل, ولا أرزن من الشيخ حسن. لا في كفر نفرة, ولا في المنوفية كلها, بل ولا حتى في مصر كلها. تناول حلمي طعامه, وغير ملابسه, ودخل سريره, وهو يشعر بصداع شديد في رأسه واضطراب أشد في دقات قلبه.
لم يكن الوعي بخطورة ما يفكر فيه حلمي ليغيب عن سيادة الأستاذ حلمي بك شاهين وكيل نيابة البدرشين. الذي يقوله الأستاذ حلمي, باختصار, هو أن هذه الأحداث التي يرويها الحاج محمود هي أحداث خيالية من تأليف وإخراج عمه الحاج محمود شاهين. أي أن الحاج محمود كذاب, أو نصاب, أو مضطرب عقليا. فكرة اتهام الحاج محمود بأنه رجل كذاب, أو نصاب, أو مضطرب عقليًا هي في حد ذاتها فكرة خيالية. لا يجرؤ حلمي شاهين ابن الحاج عبد العاطي شاهين على اتهام عمه الحاج محمود شاهين بأنه كذاب, أو نصاب, أو مضطرب عقليًا إلا إذا كان حلمي شخصيًا قد أصيب باضطراب عقلي حاد.
لم يكن ليغيب عن وعي الأستاذ حلمي كذلك أن الأمر لن يقتصر على الحاج محمود وحسب وإنما سيشمل باقي أفراد عائلة شاهين بما في ذلك والده, ووالدته, وأخته, وهو نفسه, الذين سيظهرون إما بمنظر السذج الذين يصدقون قصصا خيالية, أو النصابين الذين يخططون للنصب على خلق الله. لا يحتاج أحد إلى أن يكون عبقريا لكي يدرك أن الحاج محمود لم يخترع هذه القصص من أجل تسلية أطفال كفر نفرة. لا يمكن أن تتواطأ عائلة شاهين معه في هذا الأمر إلا إذا كانوا ينوون أمرا. يعني مثل هذا الموقف من أهل كفر نفرة القضاء النهائي على مركز عائلة شاهين في البلد بحيث يصبحون مسخرة يلعب بها أهل كفر نفرة. شعر حلمي بغصة في حلقه وبضيق تنفس فنهض من سريره ليفتح النافذة. كان الهواء باردًا إلا أنه كان بحاجة إلى هواء لكي يتنفس.
نهض حلمي من فراشه في اليوم التالي وهو يشعر بالحاجة إلى النوم كما لو كان لم ينم ليلة الأمس. حقيقة الأمر أنه لم ينم ليلة الأمس, إلا أنه كان هناك عمل لا بد أن يؤديه, وقضايا لا بد أن ينظر فيها. وعليه تناول إفطاره, وارتدى ملابسه, وقاد سيارته إلى محكمة البدرشين. لم يكن هذا اليوم التالي مختلفا عن اليوم الذي سبقه. حقيقة الأمر, لا يختلف أي يوم في محكمة البدرشين عن اليوم الذي سبقه. نفس الضغط, نفس الإلحاح, ونفس الزحام بحيث ما أن تأتي الساعة الخامسة حتى يكون الإنسان قد استهلك تماما. وهو ما حدث.
توجه حلمي إلى المنزل وتناول طعامه وتمدد على سريره وراح في النوم. كان اليوم مرهقا إضافة إلى أنه لم ينم كفايته ليلة أمس. ما هي إلا ساعتين, على أية حال, حتى استيقظ من نومه, وشغل التلفزيون, وأعد لنفسه كوبا من الشاي, واستقر في كرسيه لمتابعة أحداث اليوم. كان الإرسال, كالعادة, من ميدان التحرير. سأل حلمي نفسه عن موقف ثوار التحرير إذا سمعوا عن هذه القصص التي يحكيها عمه محمود. مسخرة, طبعًا. لا يوجد أي شك في أنهم سيأخذون هذه القصص على أنها تسخر من الثورة المصرية, ومن الذين قاموا بالثورة المصرية.
هز حلمي رأسه وهو يتساءل عن السبب الذي يمكنه أن يدفع عمه الحاج محمود إلى اختراع هذه القصص. ما الفائدة التي يمكن أن تعود على الحاج محمود من وراء السحلية وزة والغراب النوحي؟ ما الذي يمكنه أن يدفع رجلاً متعلمًا – الحاج محمود من خريجي المعهد الأزهري في طنطا – متزنا, عاقلًا, رشيدا لا يعرف الناس عنه إلا كل خير إلى المغامرة بكل تاريخه والتحدث حديث أطفال؟ تعلم كل عائلة شاهين, إن لم يكن أهل كفر نفرة كلهم, أن لا أمل لأي مخلوق في جلسة بها الحاج محمود أن ينطق بكلمة واحدة. لا يسمح الحاج محمود “تقريبًا” لأي أحد غيره أن يقول كلمة واحدة في أي موضوع طالما كان هو حاضرًا في الجلسة. حقيقة الأمر, يعمل الحاج محمود على تلافي التوقف لثانية واحدة حتى لا يعطي أحدًا الفرصة “لانتهاز الفرصة” والكلام أثناء توقف الحاج محمود عن الكلام. الرجل لا يتوقف. بمعنى أنه إذا كان الأمر أمر “احتكار الأضواء” فالرجل يحتكر الأضواء بالفعل, وقد تعود أهل ناحية شاهين على هذا الأمر, ورتبوا أنفسهم عليه, بحيث إذا كان لدى واحد منهم ما يحتاج “فعلاً” إلى قوله فإنه يحرص على قوله قبل حضور أبوك الحاج محمود شاهين. كان لدى الأستاذ حلمي “شعور” بأن “وراء الأكمة ما وراءها”, وأن عمه الحاج محمود لم يفعل ما فعل إلا لأسباب وجيهة للغاية لا يريد الكشف عنها في الوقت الحاضر. لمعت في ذهن حلمي فكرة أن خير من يتحدث معه في هذا الموضوع هو الدكتور محمد النادي.
أخرج حلمي هاتفه المحمول واتصل بالدكتور محمد وتساءل عما إذا كان من الممكن أن يراه بعد انتهاء العمل في العيادة. رحب الدكتور محمد بهذا العرض وطلب من حلمي بك – مرة أخرى “حلمي بك” حتى خارج ساعات العمل الرسمية – ألا يحضر معه أي شيء وسوف يتولى هو عملية إحضار الساندويتشات بالكامل. ذهب حلمي إلى العيادة حوالي الثامنة والنصف على الرغم من أنه يعلم أن العيادة تنتهي في التاسعة. كان هناك احتمال أن ينتهي الدكتور محمد من عمله قبل التاسعة وهو ما يحدث أحيانا. أضف إلى ذلك أنه كان يخشى لو بقي جالسًا أمام التلفزيون في المنزل أن يغلبه النوم.
تعود علاقة حلمي بالدكتور محمد إلى الأيام الأوالي من استقراره في البدرشين حين أصيب بالتهاب جلدي في أصابع قدمه لم يستجب لأي علاج من الصيدلية واضطر إلى السؤال عما إذا كان هناك في البدرشين طبيب أمراض جلدية “شاطر” يمكنه أن يتوجه إليه. أشارت أصابع الجميع إلى الدكتور محمد النادي. كانت هذه بداية العلاقة.
أبدى الدكتور محمد اهتماما كبيرًا بحلمي بك عندما علم أنه وكيل نيابة البدرشين, وأخبره أنه كان يتمنى لو كانت الفرصة قد أتيحت له للعمل بهذا الخط حيث إنه مهتم للغاية بمراقبة النفس البشرية. أخرج الدكتور محمد كتابا له حول النفس البشرية, والسلوك البشري, والقيم الأخلاقية, وكيف يمكن للمجتمع المصري أن يتقدم. كان واضحًا تماما للأستاذ حلمي أنه يتعامل مع طبيب, مفكر, فنان, وطيب. الطيبة كانت واضحة.
توثقت عرى الصداقة بين الطبيب المفكر وبين وكيل النيابة الشاب على الرغم من فارق السن الكبير بينهما. لم يكن عمر حلمي بك يتعدى الثامنة والعشرين على حين كان عمر الدكتور محمد يقترب من الثامنة والخمسين. كان الذي يقرب المسافة بينهما هو نضج وكيل النيابة والروح الشابة للدكتور محمد. مع الوقت اكتشف حلمي خاصية أخرى عجيبة في الطبيب المفكر. غرام بالتفكير المنطقي وصراحة مطلقة قد تصل به إلى درجة الخروج للبحث عن كلب أعور فقط من أجل أن يقول له إنه أعور “في عينه”. أضف إلى ذلك احترام مطلق للخصوصية, بمعنى أنه يستحيل أن يكشف الدكتور محمد عن شيء يعلمه عن الأستاذ حلمي لأي مخلوق على ظهر البسيطة غير الأستاذ حلمي. كثيرًا ما فكر حلمي أن ذلك يعود إلى مهنته كطبيب والتي تقدس سرية العلاقة بين المريض والطبيب, تماما مثلما هو الحال فيما يتعلق به هو شخصيا. يستحيل على وكيل نيابة أن يكشف عن أي معلومات تتعلق بعمله. كان الدكتور محمد, بهذا الشكل, هو خير من يستطيع حلمي أن يستشيره في أمر ما حدث في كفر نفرة. الرجل مفكر له كتب منشورة في علم النفس, كما أنه طبيب, أي أن السر في بئر. يستطيع حلمي أن يخبر الدكتور محمد بكل ما يدور في خاطره وهو مطمئن تماما إلى أن لا أحد غيرهما سيعلم ما قاله حلمي.
قال حلمي وهو يقضم ساندويتش الشاورمة الساخن إن ما يشغل باله هو موضوع سمعه يوم الجمعة الماضي في البلد. كان الدكتور محمد يعلم أن مصطلح “البلد” هذا عند حلمي بك يعني بلدًا واحدة فقط هي كفر نفرة. حكى حلمي القصة بالكامل وكيف قامت “وزة” بإشعال شرارة انطلاق ثورة السحالي المصرية وكيف ساندها “وجدي” في عملها هذا, والدور البطولي الذي قام به “الغراب النوحي” الذي ضحى بحياته دفاعًا عن الثورة المصرية, وكيف سانده “الكلب هول”, والكلب “عتريس”, والكلب “أبو سريع”, إضافة إلى كلاب كفر نفرة التي أصرت على قيادة الهجوم على بلطجية السيدة.
انتهى حلمي من حكاية الخلفية التاريخية للثورة المصرية كما قدمها الحاج محمود شاهين, وانفجر الدكتور محمد في ضحكة مجلجلة هزت العيادة. كان واضحًا تمام الوضوح أنه استمتع تمام الاستماع بهذا السرد الرائع للقصة الحقيقية للثورة المصرية كما صورها أبوك الحاج محمود شاهين. “والله قصص جميلة. في منتهى الجمال. وما الذي يشغل بالك في هذه القصص؟”, قال الدكتور محمد. نظر حلمي إلى الدكتور محمد باستغراب قائلاً “ما الذي يشغل بالي؟ الذي يشغل بالي أن هذه قصص لم تحدث. هذه قصص أطفال يستمع إليها رجال كبار. عندما يستمع الأطفال إلى قصص الشاطر حسن, وأمنا الغولة, وسندباد فهذا أمر عادي, أما أن يستمع إليها الكبار فهذا أمر غير عادي.” جلجلت ضحكة الدكتور محمد مرة أخرى, وجلس على كرسي مكتبه بعد أن كان واقفًا خوفا من أن يسقط من الضحك. قال الدكتور محمد وهو يغالب الضحك, أو بين الضحكة والأخرى: “رحماك, رحماك, يا سيادة وكيل النيابة. ومن قال إن قصص الشاطر حسن, وأمنا الغولة, والسندباد هي قصص أطفال؟ هل تتخيل سيادتك أن مؤلف هذه القصص عندما ألفها كان يؤلف قصصًا للأطفال؟” وانفجر الدكتور محمد مرة أخرى في الضحك. “قصص أطفال؟ هذه قصص كبار, كتبها الكبار ليقرأها الكبار. هل تتصور سيادتك أنه كانت هناك قصص للأطفال وقصص أخرى للكبار في القرن الرابع الهجري؟” ومرة أخرى, انفجر ضاحكا.
أخذ الأمر بعض الوقت لكي “يهدأ” الدكتور محمد قليلاً. قال الدكتور محمد إن ما نظن الآن أنه “قصص أطفال” إنما بدأ حياته على أنه “قصص كبار”. كل ما حدث هو أنه مع تقدم المعرفة البشرية بدأ البشر في إدراك أن هذه القصص تقدم تصورًا عن الواقع لا علاقة له بالواقع الذي نعيشه. هنا توقف “الكبار” عن قراءة هذه القصص وتركوها “للأطفال”. لم يحدث هذا في جميع المجتمعات البشرية, طبعًا, وإنما في عدد قليل للغاية لا يزيد عن عشرة في المائة من سكان المعمورة. حلوة “المعمورة” هذه؟ حدث هذا في أوروبا حيث استطاع الأوربيون عن طريق سلسلة من الاكتشافات الكشف عن الطريقة التي يعمل بها العالم “بالفعل” لا كما كنا “نتخيل”. مثال على ذلك, أن الأمطار تسقط عندما تصطدم كتلة من بخار الماء بكتلة هوائية باردة فيتحول بخار الماء إلى سائل ومن ثم يسقط. هكذا سقطت الفكرة القديمة التي كانت تنظر إلى سقوط المطر على أنه عمل يقوم به رجل عملاق يمسك بخرطوم ضخم يرُش به الأرض, أو على أنه عمل قامت به سحابة “طيبة” أرادت أن تطفيء ظمأ النباتات “العطشانة”. اكتشف الأوربيون كذلك أن الأنهار قد ظهرت نتيجة “نحر” مياه الأمطار لمجرى هذه الأنهار. هكذا سقطت الفكرة القديمة التي كانت تنظر إلى الأنهار على أنها ظهرت نتيجة قيام رجال عمالقة في سحيق الزمان بحفرها. اكتشف الأوربيون كذلك أن كسوف الشمس يحدث عندما يقع مدار القمر في نفس خط مدار الشمس فيحجب رؤيتها في وقت بعينه, في مكان بعينه على سطح الأرض. هكذا أيضًا سقطت الفكرة القديمة أن السبب في كسوف الشمس يعود إلى أنها قررت حرمان البشر من ضوئها عقابا لهم على إهمالهم لها, وعدم اهتمامهم بها, أو لأن هناك عملاق مجنون يحاول خنقها, أو أنها تعاني من أزمة قلبية. استطاع الأوربيون, بهذا الشكل, أن يكتشفوا أن الجسور لا تسقط عند مرور أطفال أشقياء فوقها, وإنما لخلل في طريقة صنعها, وأن الزلازل لا تحدث عقابًا للناس على سوء سلوكها, وإنما نتيجة حركة الألواح الأرضية التي تقوم عليها القشرة القارية. اكتشف الأوربيون, بهذا الشكل, أن العالم الذي نعيش فيه لا توجد فيه مخلوقات سوانا تشعر مثلما نشعر, وتفكر مثلما نفكر, ترى ما نراه, تسعد لما نسعد له, وتتألم لما نتألم له. تمامًا مثلما يحدث عندما يصطدم طفل في الثالثة أو الرابعة من العمر بحائط في منزله أثناء جريه في هذا المنزل. يقوم الطفل بالتوجه إلى الأم للشكوى من هذا الحائط “الوحِش” الذي اصطدم به عن عمد, طالبا منها أن تضربه عقابا له على سوء سلوكه. وهو ما تفعله الأم عادة. مع تقدمه في السن, على أية حال, يبدأ الطفل في إدراك أنه لا توجد حيطان “طيبة” وحيطان “شريرة”, وأن الحيطان لا تقصد أن تؤذي الأطفال, كما أنها لا تقصد أن تسعد الاطفال. الحيطان حيطان. تماما مثلما يكف الأطفال عن النظر إلى الحيطان على أنها تشعر مثلما يشعرون, وتقصد مثلما يقصدون, وتفكر مثلما يفكرون, كف الأوربيون عن النظر إلى الأشياء التي تملأ العالم الذي نعيش فيه على أنها “حية” مثلنا, تشعر مثلما نشعر, وتقصد مثلما نقصد, وتفكر مثلما نفكر. حدث هذا في أوربا فقط, ولم يحدث في مكان آخر.
لاحظ يا حلمي بك أننا في حالتنا نحن هنا في مصر لم نشارك على الإطلاق في عملية الاكتشاف هذه. حقيقة الأمر لم يصدر في مصر من يوم أن خلق الله الأرض ومن عليها إلى يوم الله هذا كتاب واحد في “العلم” كتبه رجل ولد على أرض مصر, بأي لغة من اللغات التي يتكلمها الناس في مصر, قام بني آدم في أي مكان من الكرة الأرضية بترجمته إلى لغة قومه حيث رأى فيه شيئًا يفيدهم. ولا كتاب. ولا حتى في الطبيخ, أو الكانفاه, أو قواعد لعب الكرة الشراب. لا شيء. لا شيء على الإطلاق. كل ما تمت ترجمته هو قصص, وروايات, وشعر, ومواويل. أي خيال في خيال. ولا كتاب واحد في “العلم”.
كان ما حدث في مصر, بهذا الشكل, هو أننا “سمعنا” عن هذه الأشياء التي اكتشفها هؤلاء الناس فقمنا بترجمتها إلى لغتنا وحفظها “جنبًا إلى جنب” مع منتجاتنا الثقافية “الأصلية”. لم تحل هذه المنتجات الجديدة “محل” منتجاتنا العلمية “القديمة” – وهو ما حدث في أوربا – وإنما رقدت بجوارها. هكذا أصبح لدينا تفسيرين لأي ظاهرة, تفسير حديث نتعلمه في المدرسة ونكتبه في امتحاناتها, وتفسير قديم نتعلمه في البيت والشارع ونستخدمه في حياتنا اليومية. تحدث الزلازل نتيجة حركة الألواح القارية – هذا ما نكتبه في امتحانات المدرسة. تحدث الزلازل نتيجة غضب الله على القوم الفاجرين – هذا ما نقوله عند حدوث الزلازل. مرة أخرى, يرقد التفسير الجديد جنبا إلى جنب بجوار التفسير القديم, ولكل مجاله الذي يستخدم فيه.
تتحدث سيادتك عن حديث الشيخ حسن مع السحلية وزة كما لو كان حديثًا لا يصدر إلا عن إنسان مضطرب عقليًا. ما رأيك إذن في حديث البقرة الفصيحة التي تتحدث باللغة العربية الفصحى وتشكو لصاحبها سوء معاملته لها؟ ورد هذا الحديث في البخاري. ما رأيك في حديث الذئب مع الراعي والذي يحتج فيه الذئب على منع الراعي له من أكل الغنم. مرة أخرى, ورد الحديث في البخاري. لم تكن البقرة تتحدث مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا مع سيدنا موسى, ولا مع سيدنا عيسى, ولا مع غيرهما من الرسل الكرام. لو حدث ذلك لنظرنا إلى ما حدث على أنه معجزة اختص الله سبحانه وتعالى رسله الكرام بها. كانت البقرة تتحدث مع فلاح من فلاحي المدينة لم يهتم أحد بأن يسأل حتى عن اسمه. ينطبق نفس الشيء على حديث الذئب مع الراعي. مجرد راعي غنم لم يهتم أحد بمعرفة اسمه هو الآخر. لم ينظر أحد إلى الحديث الأول – ولا الثاني – على أنه معجزة. نظر الجميع إلى الحديث الأول – والثاني مثله – على أنه أمر عاديّ كما لو قلت أنت إنك تفضل شرب القهوة على شرب الشاي أو شرب الكوكا كولا على البيبسي. المسألة عادية جدًا. ثم ما رأي سيادتك في حديث الجساسة؟ جاء الحديث في مسلم, وهو حديث يتعلق بمجموعة من التجار رست بهم سفينتهم على جزيرة لم يكونوا يقصدونها فجاءتهم “دويبة” أي دابة صغيرة – نعجة مثلاً أو معزة – وجهها مثل قفاها إذ يغطيها الشعر بالكامل بحيث لا تعرف لها وجها من قفا. حيت الجساسة ضيوف الجزيرة الكرام, ورحبت بهم خير ترحيب, وسألت عن أحوالهم, ثم دعتهم إلى رؤية المسيخ الدجال الذي كان في انتظارهم. لم يرَ أحد أي غرابة في أن تتحدث النعجة, أو المعزة, أو أيا ما كانت, مع التجار وتتفاهم معهم وتحسن استقبالهم. وما زال الحديث يعيش بكل خير في صحيح مسلم. ثم أخيرًا, وآسف لأني أطلت بعض الشيء. ضحك الدكتور محمد عند ذكر عبارة “بعض الشيء” هذه. لم يطل الدكتور محمد “بعض الشيء” وإنما أطال كثيرا. ما رأيك في حديث السحلية؟ تخبرنا سيادتك عن تعجبك من قيام السحلية “وزة” بتنظيم “ثورة السحالي المصرية” كما حدثكم أبوك الحاج محمود, فما رأيك فيما حدثنا به البخاري عن مشاركة السحالي في عملية حرق سيدنا إبراهيم؟ هل يعلم حلمي بك أن السحالي مازالت تدفع ثمن هذه الجريمة حتى الآن إذ أن المسلمين مطالبون بقتل أي سحلية يرونها عقابا لها على قيام سلفها غير الصالح بهذه الجريمة النكراء؟ مازالت السحالي عبر العالم تدفع ثمن العمل الإجرامي الذي قامت به سحلية أو سحليتان من سحالي الشرق الأوسط منذ أربعة آلاف أو خمسة آلاف عام. لم يشفع لها في ذلك مرور آلاف السنين على هذا العمل, كما لم يشفع لها أن سحالي أوستراليا وأمريكا كانت مقطوعة الصلة تماما بسحالي الشرق الأوسط ولم يستشرها أحد إطلاقا في هذا الموضوع. أضف إلى ذلك, كما يعلم كل من يعلم شيئا عن سحالي أمريكا الجنوبية أن سحالي الإجوانا التي تعيش في جزيرة لوس جالاباجوس هي سحالٍ ودوعة تتوسم خيرًا في كل الحيوانات إلى درجة أنها لا تعرف كيف تدافع عن نفسها. يستحيل أن توافق مثل هذه السحالي على المشاركة في عملية حرق أي شيء, فما بالك بعملية حرق سيدنا إبراهيم رضي الله عنه. وما زال الحديث يعيش بخير في صحيح البخاري.
المسألة, بهذا الشكل, استمر الدكتور محمد في الحديث رغم وعده بعدم الإطالة, هي أننا لدينا فكرتين عن الطريقة التي يعمل بها العالم لكل منها مجالها الخاص بها. فكرة علمية, وفكرة عملية. يعلم كل شباب ناحية شاهين من الناحية “العلمية” البحتة أن السحالي, والغربان, والكلاب, والجمال, لا تتكلم. حقيقة الأمر, يعلم كل شباب ناحية شاهين أن الحيوانات لا تتكلم. شباب ناحية شاهين منهم طلبة في كلية العلوم, وكلية الطب, وكلية الزراعة, وقطعًا كلية الطب البيطري. يعلم كل هؤلاء علم اليقين أن الحيوانات لا تتكلم. يعلم كل شباب ناحية شاهين, من ناحية أخرى – الناحية “العملية” – أن الحيوانات “يمكنها” أن تتكلم. هذا ما فعلته “البقرة الفصيحة”, و”الذئب الفصيح”, و”الجساسة الفصيحة”. ولا يحتاج الأمر إلى “معجزة” أصلا. تحدثت البقرة الفصيحة مع فلاح من فلاحي المدينة المنورة لا يعلم أحد عنه شيئا ولم يهتم أحد أصلا بأن يعرف اسمه. مجرد واحد فلاح. كما تحدث الذئب الفصيح مع راعي غنم مجهول الهوية هو الآخر, وقد يكون طفلاً في الرابعة عشرة من العمر أو الخامسة عشر. أي مجرد طفل عديم الأهمية. ولا معجزة هناك ولا يحزنون. في حالة حرق سيدنا إبراهيم هناك معجزة بلا شك, وهي خروج السحالي عن سلوكها المألوف من عدم التدخل في الخلافات التي تنشأ بين البشر وقيامها بحرق نبي من أنبياء الله. لا بد من الاعتراف بغرابة هذا السلوك. أما في حالة الجساسة فمرة أخرى نحن أمام عمل عادي للغاية. قامت معزة, أو نعجة, يغطي شعرها كل جزء منها بحيث لا يعرف الإنسان وجهها من قفاها بالحديث مع مجموعة من التجار العاديين من بينهم واحد مسيحي إن لم يكن اثنين. بمعنى أن الأمر لم يكن يتعلق بأنبياء أو رسل وإنما بأشخاص عادية إلى أقصى درجة ممكنة. موضوع أن تتحدث نعجة, أو معزة, لا يعرف الإنسان وجهها من قفاها باللغة العربية الفصحى موضوع عادي للغاية لا يختلف كثيرًا عن شرب البيبسي بدل الكوكا كولا. أين المعجزة في شرب البيبسي؟ أو حتى الكوكا كولا؟
شباب كفر نفرة, بهذا الشكل, لديه فكرتين عن الطريقة التي يعمل بها العالم. فكرة علمية, وأخرى عملية. يستخدم شباب كفر نفرة الفكرة العلمية في حياتهم العلمية, ويستخدمون الفكرة العملية في حياتهم العملية. من الناحية العلمية, الحيوانات لا تتكلم. يعلم كل من يعلم شيئا عن الحيوانات أن الحيوانات لا تتكلم. من الناحية العملية, الحيوانات تتكلم. يعلم كل من يعلم شيئًا عن الحياة أن الحيوانات تتكلم. هذا ما فعله سيدي سبع الرجال, وسيدي الخِضر, وسيدي أحمد الرفاعي. وهذا ما فعله أيضًا الشيخ حسن العكابري. وليس في الأمر معجزة. حقيقة الأمر, ليس في الأمر أي معجزة على الإطلاق. المسألة عادية.
نظر حلمي إلى وجه الدكتور محمد في محاولة ليعرف ما المقصود بما يتحدث عنه. هل يقصد الدكتور محمد, مثلاً, أن من الطبيعي للغاية أن يجلس الحاج محمود شاهين ليحدث كامل عائلة شاهين عن سحلية اسمها وزة, وكلب اسمه عتريس, وغراب اسمه إسفين؟ هل هذا طبيعي؟ هل يعقل أن يجتمع أكابر عائلة شاهين, وشباب عائلة شاهين, وأطباء عائلة شاهين, ومهندسي عائلة شاهين, للاستماع إلى قصص أطفال؟ ما علاقة صحيح البخاري بالسحلية وزة؟ وما علاقة صحيح مسلم بالغراب النوحي؟ أين قال البخاري إن الجمال تصاب بالاكتئاب وتندم على ما قامت به في موقعة الجمل؟ ما علاقة هذه المحاضرة الطويلة العريضة التي ألقاها الدكتور محمد بما نحن في شأنه؟ ما علاقة سحالي لوس جالابا جوس بالسحلية وزة؟
أمسك حلمي برأسه وبدأ في الضحك. لم يكن يدري ما إذا كان يضحك من عجزه عن فهم ما يقصده الدكتور محمد, أم يضحك من اللفة الطويلة التي أخذها الدكتور محمد – والتي لم يفهم منها شيئا – من أجل أن يخبره أن الأمر عادي. قطعًا, الأمر غير عادي وهناك أسباب قوية للغاية دفعت الحاج محمود لتأليف هذه القصص ودفعت عائلة شاهين إلى السير وراءه فيما يذهب إليه. حقًا, لا يعرف حلمي “في الوقت الحاضر”, هذه الأسباب إلا أنه سيعرفها في الغد. هذه, في نهاية الأمر, هي شغلته وهذا هو عمله, ومن غد سيتم فتح باب التحقيق, وإن غدًا لناظره قريب.
كانت الساعة قد اقتربت من الحادية عشرة, وحان ميعاد الرحيل. شكر حلمي الدكتور محمد على حسن ضيافته وبالذات ساندويتشات الشاورمة, كما شكره وهو يغالب الضحك على حديثه المستفيض ومحاولته إقناعه بأن الأمر عادي للغاية. قال له وهو يبتسم: “المسألة ليست كما تصورها يا دكتور. الأمر غير عادي. وسوف أثبتها لك”. ضحك الدكتور محمد ضحكته المجلجلة وقام وأطفأ أنوار العيادة, وفتح باب العيادة. خرج حلمي يتبعه الدكتور محمد. أغلق الدكتور محمد الباب خلفه ونزل الاثنان السلم.
كمال شاهين
#تطوير_الفقه_الاسلامي