القصة الحقيقية للثورة المصرية 12- السيم
القصة الحقيقية للثورة المصرية 12- السيم
السيم
( مدخل : وشيئًا فشيئا بدأ الجميع في إدراك كيف ربط القدر بين كفر نفرة وبين الثورة المصرية, وكيف أنهم يتحدثون, في حقيقة الأمر, ليس عن كفر نفرة التي يعرفها الناس وإنما عن كفر نفرة التي يعرفونها هم. كفر نفرة “عاصمة الثورة المصرية”.) |
إذا كان السؤال الذي دار في ذهن الجميع عند خروجهم من دار الحاج محمود شاهين هو ما الذي يتوجب على أهل كفر نفرة عمله, فإن السؤال الذي كان يدور في ذهن الأستاذ حلمي شاهين عند خروجه من دار الحاج محمود هو ما الذي يتوجب على الأستاذ حلمي عمله. والأستاذ حلمي هذا هو شاب في الثامنة والعشرين من العمر يعمل بوظيفة وكيل نيابة, وهي الوظيفة التي حصل عليها بعد تدخل عائلة شاهين وكل من تعرفهم عائلة شاهين لدى “السلطات القضائية” إلى درجة تدخل مساعد أول وزير الداخلية شخصيا في الأمر. أخبر السيد مساعد أول وزير الداخلية “السلطات القضائية” أنه لا يرى أي مبرر لرفض هذه السلطات تعيين الأستاذ حلمي شاهين في الوظيفة التي تقدم لها, فالأستاذ حلمي شاهين هو الأول على دفعته, فضلاً عن حصوله بعد تخرجه على ماجستير في القانون الجنائي, إضافة إلى أن أسرته لها تاريخ طويل في خدمة الداخلية. بين سيادته أن هذا الرفض سيؤخذ على أنه موقف ضد كبار قيادات الداخلية شخصيا. الأستاذ حلمي شاهين هو ابن الحاج عبد العاطي شاهين وابن أخ سيادة اللواء حسن شاهين مدير أمن كفر الشيخ. تم تعيين الأستاذ حلمي في نيابة البدرشين جنوب القاهرة. كانت الأسرة تأمل في أن يجيء التعيين في بركة السبع, أو طنطا, إلا أن التعيين في النيابة كان كافيًا في حد ذاته لإرضاء الأسرة. حقيقة الأمر, التعيين في النيابة كافٍ لإرضاء أي أسرة في المنوفية.
كان الأستاذ حلمي في حيرة مسيطرة لا يدري ماذا يفكر فقد سمع الليلة ما يُطير بصواب أي مخلوق عاقل, بالغ, رشيد. قصة خرافية, تليها قصة خرافية, تتبعها قصة خرافية, تتلوها قصة خرافية. قصص ترفض فيها السحالي أن تعيش “على المكشوف” ولا تخشى من مواجهة “أمن الدولة” في سعيها من أجل العيش بكرامة. قصص تقوم فيها الجمال بتشكيل ائتلافات ثورية على حين تقوم الغربان والكلاب بوضع خطط لإنقاذ الثورة المصرية من “النسف”. إما أنه قد أصيب بالجنون وتخيل أن عمه الحاج محمود قد قال هذا الكلام, وإما أن عمه الحاج محمود قد أصيب بالخبل ومعه ناحية شاهين بكامل أعضائها بدءًا بعمدة البلد الحاج مصطفى شاهين شخصيا وانتهاءً بأصغر طفل في الناحية.
السحلية “وزة”, والأخ “وجدي”, و”الشايقي”, و”الجعلي”, و”الغراب النوحي”, و”الكلب هول”, و”عتريس”, “وأبو سريع”, و”إسفين”, إلى آخر القائمة الطويلة من الحيوانات الثورية, المفكرة, الناطقة, العاقلة, التي تضع الخطط وتقوم بمتابعتها والإشراف على تنفيذها. ناهيك عن الدور الذي قامت به “الجماعة” والتكلفة المالية المهولة لدفن “مدينة إنتاج المعلومات”, والزحف المقدس لسحالي مصر كلها من الإسكندرية إلى أسوان, وطائرات حربية لنقل السحالي إلى عموم بر مصر. شعر الأستاذ حلمي شاهين بأن رأسه يكاد ينفجر. حقيقة الأمر, شعر بخوف حقيقي من أن ينفجر دماغه ويموت.
لا بد من الاعتراف, حقيقة الأمر, بأن ما سمعه الأستاذ حلمي شاهين لم يكن “عاديًا” بأي حال من الأحوال. هذه قصص أطفال. حقًا, هي قصص بالغة الروعة والجمال لا يقل مستواها – للإنصاف – عن مستوى قصص هانز كريسيتان آندرسن, ولويس كارول, وغيرها من روائع أدب الأطفال العالمي إلا أنها, في النهاية, قصص أطفال. المصيبة أن المستمعين لم يكونوا أطفالا. المستمعون هم آل شاهين, بعمدتهم, وأكابرهم, وشبابهم. وهؤلاء ليسوا بأطفال.
فكر الأستاذ حلمي أن من المحتمل أن هناك شيئًا فاته, وأن ما استمع إليه كان مجرد “سيم”. أي أن الحاج محمود كان يتكلم لغة متفقًا عليها بينه وبين أهل الناحية بحيث يقول شيئًا فيفهمون هم شيئا بينما يفهم من لا يعلم “السيم” شيئًا آخر. لم يستبعد الأستاذ حلمي موضوع “السيم” هذا خاصة وأنه غير متواجد في البلد بصفة دائمة وإنما يحضر فقط يومي الخميس والجمعة حيث يقيم باقي أيام الأسبوع في مقر عمله في البدرشين, إلا أنه عاد وتذكر الحماس والجدية التي قابل بها أهل الناحية كلام الحاج محمود. هذا حماس ثوري جاء استجابة لقصص عمه الحاج محمود, إلا أنه عاد وفكر مرة أخرى أنه ربما يكون عائدًا إلى أنهم فهموا هم شيئًا آخر غير الذي فهمه هو. هو لا يعرف “السيم”.
قرر الأستاذ حلمي شاهين تأجيل التفكير في هذا الموضوع إلى الصباح. كان واضحًا تمام الوضوح أن اتخاذ قرار في هذا الأمر يحتاج إلى معلومات لا تتوفر لديه. غدًا نبحث أمر “السيم”. الصباح رباح. قال هذا في نفسه وأسرع الخطى للحاق بأبيه وأعمامه الذين كانوا قد غذوا السير إلى مسجد الناحية.
استيقظ حلمي في اليوم التالي متأخرًا عن ميعاد استيقاظه كثيرًا, إلا أنه لم يلُم نفسه كثيرًا كذلك إذ أنه لم ينم بالأمس إلا بعد السادسة صباحًا تقريبا. دخلت أخته عزة بصينية الإفطار, كالعادة, ووضعتها على الطبلية وخرجت مسرعة على غير العادة. كان اليوم يوم جمعة وعليه تذكر حلمي أن البيت مشغول بإعداد طعام الغداء فوالده, الحاج عبد العاطي, يتناول غداءه دوما بعد صلاة الجمعة مباشرة.
تناول حلمي إفطاره على مهل, فهو يعلم أن أحدًا لن يأتي لزيارته قبل الانتهاء من صلاة الجمعة وجلس لقراءة الأهرام. لم يمر طويل وقت إلا وانطلق أذان الظهر يدعو أهل الناحية إلى الصلاة. وضع حلمي الأهرام جانبًا واتجه إلى المسجد. في حالة دار الحاج عبد العاطي لا يبعد المسجد أكثر من عشر خطوات. كان المسجد مزدحمًا, كالعادة كل يوم جمعة, بكبار عائلة شاهين, وشباب عائلة شاهين, بل وأطفال عائلة شاهين. استمع الجميع إلى إمام المسجد الشيخ عبد الستار شاهين وهو يحدثهم عن ثواب حسن المعاملة وعقاب الغيبة والنميمة. كان جهوريًا, كعادته, مستفيضًا, كعادته, واستمعوا إليه, كعادتهم هم, بكل هدوء.
أدى الجميع صلاة الجمعة واتجه كل إلى داره. التقى حلمي بعاطف وحسين أولاد عمه إبراهيم واتفق معهما على اللقاء في الدار بعد صلاة العصر. خرج حلمي من المسجد وسار مع والده نحو الدار ودخلا إلى المقعد حيث كانت طبلية الغداء قد مُدَّت. تحدث والده عن ارتفاع أسعار الكيماوي وصعوبة الحصول عليه أصلاً حتى مع ارتفاع سعره كما اشتكى كذلك من انخفاض منسوب المياة في الترعة عن المستوى المعتاد في مثل هذا الوقت من العام. تحدثت الوالدة كذلك عن رغبتها في الذهاب إلى بركة السبع لتهنئة صبحية بنت الحاجة هانم على المولود الجديد. قالت الوالدة إنها لم تذهب إلى صبحية سوى مرة واحدة من ساعة أن تزوجت العام الماضي وانتقلت إلى بركة السبع. انتهت الأسرة من طعام الغداء, وحملت عزة الأطباق إلى الخارج بينما تولت أم سعد حمل الطبلية.
جلس الحاج عبد العاطي على الكنبة في انتظار الشاي. سأل حلمي الحاج عبد العاطي عن رأيه فيما قاله الحاج محمود ليلة أمس. نظر إليه الحاج عبد العاطي تلك النظرة الجميلة التي تختلط فيها الشقاوة مع الحب وقال: “رأيي في ماذا يا سيادة وكيل النيابة؟ الرأي رأيك أنت وعمك. أنا لا علاقة لي بالسياسة.” حاول حلمي أن يجد طريقة للسؤال عن “وزة” و”وجدي” و”الغراب النوحي” وهل كان الحاج محمود يعني ما يقوله حقيقة أم أن هناك سيما متفق عليه إلا أنه كان يجد صعوبة في السؤال عن ذلك. سأل مرة أخرى: “أقصد هل كان يقصد فعلا أن هذه الأشياء حصلت أم يقصد شيئًا آخر؟” ضحك الحاج عبد العاطي بصوت مرتفع وقال “هذا السؤال تسأله لعمك. عمك هو المهتم بالسياسة. أنا تسألني في أسعار الكيماوي والتوكسافين, أما السياسة فلها أهلها”. دخلت الوالدة وبدأت الحديث مرة أخرى عن صبحية بنت الحاجة هانم. لم تطلب الحاجة من أحد أن يوصلها إلى بركة السبع إلا أنها لم تكن تحتاج إلى أن تطلب. الكلام لا يحتاج إلى طلب. ضحك حلمي وهو يقول إنه يمكنه الذهاب مع الحاجة إلى بركة السبع بعد صلاة المغرب على أن يعودا بعد صلاة العشاء. أعلنت الحاجة أنها لا تحتاج إلى أكثر من ذلك. قامت الحاجة للاستعداد للذهاب إلى بركة السبع, وقام حلمي إلى غرفته ليخطف ساعة نوم.
في الطريق إلى غرفته ابتسم حلمي عندما تذكر قول والده بأنه “لا يفهم في السياسة” ردًا على سؤاله عما إذا كان الحاج محمود يقصد أن ما حدثهم عنه قد وقع فعلا أم يقصد شيئًا آخر. فكرة أن قصة “وزة ووجدي” تحتاج إلى خبير سياسي ليفصل فيما إذا كانت قصة واقعية أم لا كانت فكرة “جديدة”. يعلم حلمي جيدًا أن والده الحاج عبد العاطي شاهين لم يكن يومًا مهتمًا بالسياسة, إلا أنه لم يكن يتخيل يومًا كذلك أن السياسة تشمل “وزة” و”وجدي” وباقي القائمة الطويلة من الحيوانات العاقلة, البالغة, الراشدة, التي حدثهم عنها عمه الحاج محمود. تعلم كفر نفرة كلها – من أولها إلى آخرها – أنه لا يوجد في البلد كلها من هو أرجح رأيا, وأكبر عقلاً, وأكثر اتزانا من الحاج عبد العاطي شاهين. فكرة أن الحاج عبد العاطي شاهين يعتقد أن اتخاذ قرار في موضوع “وزة ووجدي” يحتاج إلى أن يكون المرء خبيرًا سياسيا كانت فكرة مزعجة إلى أقصى حد.
لم ينم حلمي طويلا قبل أن يرفع الحاج عبد السلام أذان العصر. نهض حلمي وتوجه إلى المسجد مباشرة للوضوء والصلاة هناك. عاد حلمي إلى الدار يصحبه عاطف وحسين حيث توجه الجميع إلى المقعد. ما أن استقر الجميع كل في مكانه حتى بدأ حسين في الحديث بحماس عما أخبرهم به الحاج محمود بالأمس. تحدث حسين طويلا عن أهمية الخلفية التاريخية للثورة المصرية التي قدمها العم محمود. أكد حسين أن ما حكاه عم محمود هو أكبر دليل على ما ذكره الجميع من أنهم شاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي الجمعة جنبًا إلى جنب مع الثوار في ميدان التحرير. بين حسين أن كل الأحداث التاريخية التي كشف عنها عم محمود تدل دلالة قطعية على أن هذا الشعب قادر على صنع المعجزات طالما اجتمعت القلوب على قلب رجل واحد وأن هذا هو السر في نجاح عملية دفن “مدينة إنتاج المعلومات” وعملية “الليلة الكبيرة”. يستحيل أن تنجح مثل هذه العمليات إلا إذا خلصت النوايا, وصفت القلوب واجتمعت على قلب رجل واحد. لم ينطق حلمي بكلمة واحدة طوال الوقت الذي كان يتحدث فيه حسين. كما أن حسين لم يتوقف عن الحديث دقيقة واحدة حتى يعطي الفرصة لحلمي أو عاطف أن يقولا شيئا. كان الحماس الثوري قد استولى عليه تماما بعد حديث العم محمود الليلة الماضية. حقيقة الأمر, لم يتوقف حسين عن الكلام إلا بعد أن ارتفع صوت الحاج عبد السلام شاهين ينادي لأداء صلاة المغرب. توجه الجمع إلى المسجد لأداء الصلاة, ثم عاد حلمي ليأخذ والدته إلى بركة السبع.
في الطريق إلى بركة السبع لم تتوقف الوالدة عن الحديث عن صبحية ابنة الحاجة هانم وعن زوجها محمد ابن الحاج عبد الوهاب قرطام وكيف أن صبحية لم تتأخر يوما في الحمل وكيف رزقهم الله بصبي جميل. ثم كيف أن الحاجة هانم أم صبحية في غاية السعادة بالمولود الجديد. لم يكن حلمي بحاجة إلى من يساعده على فهم أن الوالدة تحاول أن تقول شيئا يتعلق بسلمى. وسلمى هي ابنة الحاج محمود, وبالتالي ابنة عم حلمي. وحيث إن الحاج محمود, والحاج عبد العاطي, والحاج محمد, والحاج إبراهيم يقيمون في نفس الدار فعليه فإن علاقة حلمي بسلمى تعود إلى يوم أن ولدت سلمى. وهي علاقة لا تختلف عن علاقة أي من صبيان شاهين بأي من بنات شاهين. أي أن كل ولد منهم ينظر إلى كل بنت منهم على أنها أخته, وهذا ما كان عليه الحال في العلاقة بين حلمي وسلمى التي كان ينظر إليها على أنها أخته الصغيرة خاصة وأن الفارق في السن بينهما كان كبيرًا جدا, فعندما دخل حلمي أولى إعدادي كانت سلمى في أولى ابتدائي, وعندما كان في أولى جامعة كانت هي في أولى إعدادي, وعندما تخرج من الجامعة كانت هي في ثانية ثانوي. كانت هذه هي السنة التي طلب فيها منه عمه الحاج محمود أن يساعدها في اللغة الفرنسية. كان الحاج محمود يعلم أن حلمي كان الأول على دفعته وهو ما يعني أنه كان الأول على الدفعة كذلك في اللغة الفرنسية. أو, على الأقل, هذا هو المفروض. كانت تلك هي أول مرة يقترب فيها حلمي من سلمي, وتقترب فيها سلمى من حلمي, ويقع الاثنان في غرام اللغة الفرنسية. كانت هذه هي البداية, وهي علاقة زادتها الأيام قوة وأصبح هناك وعي وشبه اتفاق على أن سلمى لحلمي, وحلمي لسلمى.
التفت حلمي نحو والدته وقال لها وما المطلوب يا حاجة أن أفعله؟ لقد تكلمت مع الوالد, وتكلم هو مع عم محمود, ووافق العم محمود على قراءة الفاتحة بل وحدد ميعادها إلا أن الثورة قامت والأمور اضطربت وطلب الحاج محمود تأجيل الميعاد حتى تهدأ الأوضاع. ماذا يمكنني أن أفعل أكثر من ذلك؟ ردت الحاجة بأنها قالت نفس الكلام لأم سلمى, إلا أن أم سلمى أبلغتها أن الأمر يتطلب إعادة الطلب فإننا لو تركنا الأمر للحاج محمود فإن الأمر سيطول فالحاج محمود حباله طويلة. قالت الوالدة إن أم سلمى أبلغتها أن سلمى كانت تتوقع ألا يستسلم “الأستاذ حلمي” لكلام الحاج محمود بهذه السهولة. شعر حلمي بوخزة في قلبه عندما سمع اسم سلمى. مجرد اسم سلمى. فعلا أم سلمى معها حق, والمسألة بدأت تطول, ولا يوجد أي مبرر لتأخير قراءة الفاتحة. حقيقة الأمر, بل ولا مبرر لتأخير الزواج نفسه, فحلمي قد اشترى شقة في البدرشين ولن يأخذ تجهيزها وفرشها أكثر من ثلاثة أو أربعة أسابيع. هز حلمي رأسه وأخبر أمه أنه سيعاود الكلام مع الوالد في هذا الموضوع. ابتسمت الحاجة سعاد.
وقف حلمي أمام العمارة التي تسكن بها صبحية ومحمد وأخبر أمه أنه سيذهب لشراء بضعة أشياء ثم يعود ليأخذها عند أذان العشاء. لم يكن حلمي يحتاج إلى أكثر من بعض أوراق وأقلام وعليه اتجه إلى مكتبة التابعي في شارع الجزارين, حيث كانت هي أقرب مكتبة إلى بيت صبحية. ما أن اشترى حلمي ما كان يريد ودفع الحساب حتى كان أذان العشاء قد انطلق, وعليه عاد إلى منزل صبحية ليصطحب أمه إلى البلد. لم يأخذ الأمر أكثر من “رنة” على المحمول حتى هبطت الوالدة, وانطلقت السيارة إلى كفر نفرة. لم تتوقف الوالدة طوال الطريق عن إبداء إعجابها بالمولود الجديد. لم يكن حلمي بحاجة إلى من يخبره بمقصدها.
ركن حلمي السيارة في الساحة أمام الجامع واتجه إلى الدار إلا أنه بدلا من أن يتجه إلى غرفته اتجه إلى المندرة حيث كانت تصدر منها أصوات تدل على أن هناك حوار ساخن. فتح حلمي باب المندرة ودخل ليرى شباب الناحية مجتمعين. كان حسين, كالعادة, يتكلم كالقطار المجري, بدون توقف, إلا أن عاطف, على غير العادة, لم يتوقف هو الآخر عن الكلام. أخذ حلمي مقعدًا بعيدًا عن زحام الشباب إلى حد ما إلا أنه قريب بما يكفي لكي لا يبدو بعيدًا عنهم.
كان الحوار يدور حول الدور الذي يتوجب على الشباب القيام به تجاه الحقائق التي كشف عنها الحاج محمود الليلة الماضية. كان هناك الطرف الذي يتزعمه حسين والذي يذهب إلى ضرورة الالتفاف في هذه المرحلة الحرجة التي تمر بها البلاد حول مفجر الثورة المصرية الشيخ حسن العكابري والرجال الذين أحاطوا به ووضعوا رؤوسهم على أكفهم في سبيل حماية ثورة الخامس والعشرين من يناير. كان هناك اتجاه آخر يذهب إلى ضرورة الابتعاد عن لفت الإنظار في هذه المرحلة الحرجة التي تمر بها البلاد إلى الدور الذي قام به الشيخ حسن العكابري في تفجير الثورة المصرية. بين عاطف أن هذه سوف تكون دعوة إلى القتل, فرجال أمن الدولة مازالوا يعملون, والبلطجية مازالوا على ولائهم القديم لهم, والأمر لن يتطلب أكثر من مكالمة هاتفية. أوضح عاطف ضرورة الانتباه إلى أن نجاح الشيخ حسن العكابري في تفجير الثورة المصرية والحفاظ على استمراريتها يعود أساسًا إلى نجاحه التام في إخفاء العمل الذي يقوم به عن أعين “أمن الدولة”- حتى أثناء أيام “مدينة إنتاج المعلومات” حين كانت تراقب كل الكائنات الحية التي تتحرك على أرض مصر بما في ذلك السحالي. أشار مصطفى ابن الحاج عبد السلام شاهين – معيد بكلية الصيدلة جامعة المنوفية – إلى أن أهم نقطة في الموضوع كله هو أنه يخالف التعليمات الصريحة للحاج محمود شاهين الذي أكد على الأهمية المطلقة للحفاظ على سرية المعلومات التي قام بإطلاع الشباب عليها. طالب مصطفى الحاضرين بتأجيل الحديث في هذا الموضوع إلى حين حضور الحاج محمود والتحدث في موضوع آخر. حاول حسين أن يدافع عن وجهة نظرة ومن ثم الاستمرار في الكلام إلا أن بقية الشباب كانوا قد قرروا عدم الحديث في هذا الموضوع من أصله إلى حين حضور الحاج محمود. مصطفى على حق.
تحول الحديث, بهذا الشكل, إلى ما يمكن أن يقوم به الشباب لخدمة الثورة المصرية بعيدًا عن إلقاء الضوء على العمل الذي قام به الشيخ حسن العكابري والرجال المحيطين به في تفجيرها. قال عبد الرحمن – الإبن الأصغر للحاج عبد الجواد شاهين والطالب بكلية علوم الحاسب الآلي بجامعة المنوفية – بأنه قد بدأ بالفعل في إنشاء ملف باسم “القصة الحقيقية للثورة المصرية” يلقي الأضواء على كامل القصة بدءًا من اللحظة التي فكر فيها الشيخ حسن العكابري منذ ما يزيد على العشرين عام في الثورة على الظلم إلى اللحظة التي قرر فيها الحاج محمود إطلاع الشعب المصري على القصة الحقيقية للثورة المصرية. بين عبد الرحمن أن العمل لن يتوقف حتى يتم تسجيل كل الحقائق التي شكلت الخلفية التاريخية للثورة ومن ثم عرضها على الحاج محمود من أجل اعتمادها. أكد عبد الرحمن أنهم في عملهم هذا حريصون أشد الحرص على السرية والدقة التاريخية. قال علي عبد الجواد – أخو عبد الرحمن – إنه يفكر في رسم لوحة جدارية على بيت أبوك الحاج كامل شاهين في مدخل البلد تصور أحداث الثورة. بين علي أن هذه اللوحات لن تقل جمالا عن اللوحات الجدارية على كورنيش الإسكندرية فضلاً عن قيمتها التاريخية. تحدث علي عن روعة لوحات تصور حمام المنوفية وهو يحيط بسيارة الحاج محمود, ومنظر الكلب هول وهو يتحدث مع الغراب النوحي أيام وضع خطة الليلة الكبيرة, ومنظر هجوم كلاب كفر نفرة على بلطجية السيدة. قال علي إن المشكلة الوحيدة التي يمكن أن تعيق الموضوع هي توفير الدعم المالي اللازم لشراء المواد الخام. بيَّن علي أن لا أحد من العاملين في هذا المشروع يطلب أجرًا على عمله هذا وإنما يقوم به تطوعًا لخدمة الثورة المصرية. أبدى خيري – ابن أبوك الحاج أحمد شاهين – إعجابه بالفكرة وقال إن هناك شيئًا اسمه التمويل الذاتي, وأن من الممكن كتابة أسماء أكابر كفر نفرة الذين سيتبرعون من أجل تنفيذ هذا العمل الوطني تماما مثلما يفعلون في الإسكندرية. قام الشباب بتنبيه خيري إلى أن الذي يقوم بذلك في الإسكندرية هي شركات الإسكندرية من أجل الدعاية لمنتجاتها, وأنه لا توجد شركات في كفر نفرة تنتج شيئًا يحتاج إلى دعاية.
وأخيرًا, بدأ أكابر ناحية شاهين في الحضور. كان أول من حضر هو أبوك الحاج عبد العاطي شاهين بوجهه الضاحك على الدوام وحديثه الذي لا ينقطع حتى أثناء سلامه على الناس وتقبيله لهم. تلاه أبوك الحاج إبراهيم شاهين, ثم أبوك الحاج عبد الستار شاهين, ثم أبوك الحاج محمود إلى أن اكتمل “النصاب القانوني” لأكابر ناحية شاهين. جاء الشاي بالطبع, وطلب الحاج محمود من علي أن يزيد حطب الراكية فالليلة باردة. لم تكن الليلة, للحق, باردة وإنما هو حكم العادة أو ربما رغبة الحاج محمود في إبداء الاهتمام بالحاضرين والعناية براحتهم. وقليلاً, قليلاً, بدأ الكلام.
بدا الأمر, في البداية, كما لو أن الحاج محمود سيستكمل ما بدأه من إطلاع الشباب على الخلفية التاريخية لثورة الخامس والعشرين من يناير, إلا أن الأسئلة التي وجهها الشباب إليه كانت كلها تشير في اتجاه واحد. ما الذي يتوجب على الشباب القيام به تجاه الحقائق التي أطلعهم عليها الحاج محمود؟ عرض الشباب عشرات المشاريع والأفكار التي بحثوا فيها قبل وصول أكابر الناحية منتظرين رأيهم فيها. أكد الحاج محمود اتفاقه مع ما ذهبت إليه غالبية الشباب من ضرورة الحفاظ على سرية المعلومات التي أطلعهم عليها. بين الحاج محمود أن ليس من اللائق على الإطلاق أن يصل الخبر إلى ناحية العكابري أن ناحية شاهين قد انفردت بمعرفة القصة الحقيقية للثورة المصرية التي أطلقها الشيخ حسن العكابري قبل أن يعرف ذلك مخلوق في ناحية العكابري. أوضح الحاج محمود ضرورة أن تحافظ ناحية شاهين على السرية التامة للمعلومات التي حصلوا عليها إلى أن يخبر الشيخ حسن ناحية العكابري بالقصة الحقيقية للثورة المصرية. لا بد من الحفاظ على علاقات المودة والمجاملة التي تربط ناحية شاهين بناحية العكابري.
بدأ بعد ذلك النظر في المشروعات التي تقدم بها الشباب لخدمة الثورة المصرية. كان هناك إجماع على ضرورة مساندة مشروع “تدوين” تاريخ الثورة المصرية الذي تقدم به عبد الرحمن. كان هناك إجماع تام كذلك على ضرورة الالتزام بالسرية المطلقة. كان هناك تردد في قبول فكرة اللوحات الجدارية خوفًا من لفت الأنظار وإثارة التساؤلات, وأيضًا منعًا لإحراج الحاج محمود حيث إن الشيخ حسن سوف يتعرف على أن هذه اللوحات تصور تاريخ الثورة التي قام بها. أيضًا, هناك كذلك الاعتبارات المالية الضرورية للقيام بمثل هذا المشروع, وإن كانت غير ذات أهمية.
كان هناك مشروع تقدم به الشباب, على أية حال, لفت أنظار الحاج عبد الجواد شاهين. يتعلق هذا المشروع بإنشاء معهد تذكاري لتخليد ذكرى شهداء ثورة الخامس والعشرين من يناير, وتاريخ الثورة, وقصة دفن مدينة إنتاج المعلومات والدور الذي لعبته وزة ووجدي في هذه العملية, والليلة الكبيرة, والدور الذي قام به الشايقي في موقعة الجمل, وبشكل عام, مجمل تاريخ الثورة المصرية. دار الحديث عما إذا كان يجب تسمية مثل هذا المعهد باسم “معهد 25 يناير لتاريخ الثورة المصرية”, أم “معهد كفر نفرة للدراسات الثورية”, أم “معهد الثورة المصرية”. قال الحاج عبد الجواد شاهين إنه إذا كانت المشكلة في هذا المشروع هي التكلفة المالية فإنه يتبرع بقطعة الأرض اللازمة للبناء. بين الحاج عبد الجواد أنه يقصد قطعة الأرض الموجودة أمام مستشفى البلد خاصة وأنها ملاصقة تماما لحدود زمام البناء. أي أن الأمر لن يتطلب أكثر من مد الزمام لتدخل فيه وانتهى الأمر. بين الحاج صلاح شاهين استعداده هو الآخر للتبرع بقطعة الأرض التي يملكها في مدخل البلد لإنشاء “متحف الثورة المصرية” الذي اقترحه الشباب. لم يكن الحاج صلاح في حاجة إلى بيان مدى ملائمة قطعة الأرض التي يتحدث عنها لمشروع المتحف, إذ هي تقع مباشرة على الترعة في مدخل البلد وتتسع إلى إقامة أكثر من متحف. كل ما يتطلبه الأمر, مثلها في ذلك مثل قطعة أرض الحاج عبد الجواد, هو إدخالها في زمام أراضي البناء.
استمر الحوار بين الشباب والكبار في ناحية شاهين. عاد البعض إلى فكرة اللوحات الجدارية واقترحوا تعديلها بعض الشيء. مثال على ذلك, وضع صورة “وزة” على قمصان الشباب تخليدًا للعمل الذي قامت به في دفن مدينة إنتاج المعلومات. بيَّن الشباب أن هذا هو عين ما تفعله شركة لاكوست التي تضع صورة تمساح مكتوب تحتها لاكوست, وأن المطلوب وضع صورة “وزة” – والتي لن تختلف كثيرًا عن صورة تمساح لاكوست – مع وضع كلمة “وزة” تحتها. يمكن كذلك إضافة وجدي, كما يمكن وضع صورة الغربان الطائرة, وحمام المنوفية, والشايقي والجعلي, وباقي أبطال ثورة الخامس والعشرين من يناير. اقترح البعض كذلك إعلان كفر نفرة “بيئة آمنة” للحمام مثل ما هو حادث في حالة حمام الحرم. اقترح البعض الآخر إعلان كفر نفرة كلها بيئة آمنة للكلاب, والسحالي, والغربان, اعترافًا بالدور الرائد الذي قامت به مساندة لثورة الخامس والعشرين من يناير. أشار البعض إلى أنه يمكن بيع هذه المنتجات في ميادين مصر لإعلان الانتماء إلى الثورة وبالتالي نشر الوعي الثوري. بين المتحدثون أن الدخل الذي سيعود من هذه المنتجات سيتم استخدامه في تمويل اللوحات الجدارية, ومتحف الثورة, ومعهد كفر نفرة للعلوم الثورية, ومكتبة الخامس والعشرين من يناير, وغيرها من المشروعات الثورية. بدا واضحًا أثناء النقاش أن هذه التوسعات في المنشآت الخاصة بالثورة ستستدعي دعم شبكة الكهرباء في كفر نفرة, فضلاً عن شبكة الصرف الصحي, إضافة إلى تعديل زمام المباني, ورصف طريق مباشر إلى بركة السبع. وشيئًا فشيئا بدأ الجميع في إدراك كيف ربط القدر بين كفر نفرة وبين الثورة المصرية, وكيف أنهم يتحدثون, في حقيقة الأمر, ليس عن كفر نفرة التي يعرفها الناس وإنما عن كفر نفرة التي يعرفونها هم. كفر نفرة “عاصمة الثورة المصرية”.
ومرة أخرى, فاجأهم أذان الفجر فقاموا نشطين تلبية للنداء حامدين الله على عطفه عليهم ورعايته لثورتهم. لم يكن لدى أي منهم أي شك في أنه لولا المعجزات التي أحاطت بهذه الثورة منذ أول لحظة لما استمرت لحظة. كيف تستمر وعيون مدينة إنتاج المعلومات ترصد كل خطوة يقوم بها كل كائن حي في مصر؟
لم يكن لدى الأستاذ حلمي شاهين, ابن الحاج عبد العاطي شاهين والحاجة سعاد شاهين, أي شك هو الآخر في أن موضوع “السيم” هذا هو موضوع خيالي. المسألة لا سيم فيها ولا يحزنون. يؤمن أهل كفر نفرة إيمانا لا تهزه الزلازل ولا تؤثر فيه الأعاصير بالمعجزات التي قامت بها وزة ووجدي, والشايقي والجعلي, والكلب هول وعتريس, والغراب النوحي وإسفين, وحمام المنوفية وكلاب كفر نفرة, وكل سحالي مصر من اسكندرية إلى أسوان, ومن رفح إلى السلوم. ولا ننسً, طبعًا, عتريس وأبو سريع.
كمال شاهين
#تطوير_الفقه_الاسلامي
#تطوير_الفقه_الاسلامي
https://www.facebook.com/Islamijurisprudence/