يوسف أيها الصديق ح 15 – صاحبا السجن 2
تواصلا مع شرح سورة يوسف :
يوسف أيها الصديق ح 15 – صاحبا السجن 2
هناك فتَيان من فِتْية القصور دخلا السجن مع يوسف. رأى أحدهما مناما وهو أنه يعمل كعاصر للخمر في مصنع من المصانع. وعصار الخمور عادة ما يعصر لغيره حتى لو شرب من نتاجه. وأما الآخر فقد رأى نفسه يحمل خبزا فوق رأسه والطيور تنزل على مستقر الخُبيزات وتبدأ بأخذ طعامها من الخبز المحمول.
وبما أنهما رأيا مناميهما معا في وقت واحد أو ليلة واحدة ثم أفصحا عنهما لبعضهما البعض فإنهما ظنا بأن التفسير واحد وهو أنهما سوف يحصلان على مرتبة أو منزلة متكاملة باعتبار أنهما رأيا الأكل والشرب معا وهما يكملان أحدهما الآخر.
لم يشكا في تفسيرهما ولكن تعجبا من حصول ذلك في وقت وزمان واحد وهو الذي أدى إلى احتمالهما بأنهما سوف يشتركان معا في مشروع واحد، أو يحصلان على منحة واحدة. ولعلهما انتبها إلى أن هذين المنامين قد رأياهما في وقت غريب وهو اشتراك فتى مؤمن ومحسن من فتيان القصور معهم في السجن. وهو أمر غريب لعدم اهتمام أصحاب القصور بالمؤمنين أولا ثم إن المؤمنين عادة ما لا يقومون بالمخالفات التي تؤدي إلى السجن. وواضح لهما بأن السجن تأديبي وليس سجنا سياسيا ولا جنائيا.
اتفقا كما يبدو أن يعرضا مناميهما وتفسيرهما على يوسف لعله يتمكن من تأويل هذا التوافق الغريب بين المنامين من شخصين في سجن واحد فيفسر لهما المكسب الذي ينتظرانه حسب تأويلهما البدائي. وكما قلنا فإن يوسف ارتبك لأنه رأى بأنهما مخطئان في تفسير المنامين أولا ثم إنهما قد رأيا رؤيين تفسران ليوسف نفسه اقترابه من تحقق حلمه الذي رآه بين أهله في صباه.
انتبه يوسف بأن الأول رأى أنه يعصر خمرا ولم ير أنه يُعصر له الخمر فهو لا يعني بأنه يملك أو يرتزق شيئا بل يخدم غيره فقط. ثم تفطن بأن الآخر رأى بأن الطير تأكل منه وهو يعني بأنه يخسر ولا يعني بأنه يكسب أيضا. فلقد انتقص منه ولم يزدد عليه شيء.
هكذا استيقن بأنهما مخطئان في استبشارهما بحلميهما. عرف يوسف بأن أحدهما سوف يخسر عمره ولا يكسب شيئا وليس لهما رزق مشترك قطعا. لكنه كيف يوضح لهما ذلك وينقل لهما ما يعرفه من تأويل الحلمين قبل أن يتحدث عن السبب في ذلك التوافق الغريب؟
وانتبه يوسف أيضا بأن الله تعالى يعطي الذين يكفرون بالرحمن أحسن المنازل، لو كان ممكنا دنيويا. ذلك لأنهم لا خَلاق لهم في الآخرة. فرأى من واجبه أن يفند لهما تفسيرهما أولا ثم يقدم نصحه لهما باعتباره ناصحا من أهل بيت النبوة الذين يحسن بهم النصح ليساعدهما على التخلص من ضغوط الشهوات والاهتمام بالله تعالى وباللقاء معه مستعينا ومستشهدا بالعلم الذي كسبه من عناية الله تعالى وبفضل إيمانه باللقاء مع ربه.
قرر يوسف أن يبدأ بقطع الأمل لديهما في ما ينتظرانه من خير من وراء مناميهما. لعله أراد بذلك جلب انتباههما إلى أن تفسير المنامين ليس أمرا بسيطا بل يحتاج إلى التدبر لو كان المنام مرتبطا بوحي الحقيقة.
هكذا يفتحان قلبيهما للاستماع إليه وإلى كيفية تفنيده لرأييهما في تأويل المنامين. ثم عليه أن يذكر لهما سرَّ شخصيته العلمية المرتبطة بوحي السماء. هناك يتجلى لهما صدق شعورهما بأنه محسن فعلا.
إن ذلك ضروري لأنهما فسرا رؤييهما كما فسرا شخصية يوسف ولكن يوسف رأى بأنهما أخطآ في الأولى وأصابا في الثانية. ثم أحتمل أنه فكر في كيفية بيان شخصيته لهما فبدأ بتوضيح ارتباطه بربه وبأن علمه ناتج عن استحقاقه العملي في الخضوع الخاشع لرب العالمين وفي الاعتقاد باللقاء مع الله تعالى.
إنه في خضوعه لربه مال وانحرف عن طريق من عاش بينهم من غير المؤمنين ولم يغتر بما في يدهم من مال وجاه وجمال وشباب. ثم فكر بأن يُبدي لهم بأنه من أسرة النبوة وبأنه حينما يعبد الله تعالى وحده فهو إنما يتبع ملة آبائه.
بالطبع أن خطأ يوسف كامن في موقفه ذلك حيث بث حقيقة خاطئة في نفوس المستمعين إليه دون أن يشعر وفقد معه خاصية مميزة من خواص التمسك بالله تعالى وحده ولذلك تمكن منه الشيطان في ما بعد فلم يكن حينذاك مخلَصا كما كان يوم نجاه الله تعالى من الفاحشة المشينة كما سيأتي. والعلم عند الله تعالى.
لعله فكر في أنه لو أبرز قدرته العلمية والعائلية وبأن الأسرة التي ينتمي إليها هي فوق بقية الأسر فسوف يرق له قلبهما فيستعدان للإيمان. وصاحباه في السجن فهما من ضمن تلك البقية طبعا.
لكن يوسف كان مخطئا في محاسباته وسوف نحللها بعد قليل بإذن الله تعالى، حيث أبعدهما عن الإيمان به احتمالا. كان على يوسف أن يفكر قليلا قبل أن يذهب وراء وساوس الشيطان فيتذكر بأن إخوانه الذين أرادوا قتله بدون أي ذنب وهو أصغر إخوانهم تقريبا هم أيضا أولاد إبراهيم وإسحاق ويعقوب وهم جميعا يعتبرون أنفسهم متبعين لملة آبائهم. إنهم قد أشركوا بالله فعلا حينما استحلوا دم يوسف ثم أشركوا أيضا بعد ترك القتل فأخرجوه من بيته وأبعدوه عن أهله وهو ليس شأنا بشريا وليس مسموحا لأحد أن يطرد أحدا من بيته وبلده. ثم إنهم فرضوا على أخيهم الرق وهو أيضا تدخُّلٌ سافر في شؤون الربوبية وشرك قطعي بالرحمن عز اسمه، على أن كل المعاصي تعتبر شركا إلى حد ما.
ثم انتقل إلى الهدف الرسالي الذي يشعر به يوسف كمرشح للنبوة وهو أن يثبت لهما وهما يؤمنان بالله تعالى بأنهما في ضلال من الخضوع لغير الله تعالى ويعطيهما عليه البرهان. كان ذلك واجبا عليه بعد أن يذكر لهما بأنه من الذين منحهم الله تعالى علما مميزا حتى لا يخضعان له هو قبل كل شيء.
والواقع، أن هذا واجب كل الذين يتحدثون عن رسالات السماء ولو نقلاً أن يبادروا قبل كل شيء بنفي أهليتهما لأن يُقدَّم لهم أيُّ نوع من الخضوع كما سنعرف بعد قليل بإذنه سبحانه. ثم يفسر لهما المنام و يأوله تأويلا صحيحا ويذكر لهما بأن الأمر الذي يستفتيان فيه وهو التوافق الغريب فهو من قضاء الله تعالى وليس مقتصرا على التقدير. والقضاء أمر جازم مؤكد الوقوع.
ولعل من الضروري أن أؤكد للقارئ مرة أخرى بأن القصة روائية في حين أنها حقيقية فالكلمات المستعملة فيها غالبا ما تكون مستعارة لمعاني لا يسعنا فهمها دون أن نتخيل. فالطعام ليس هو الأكل، والرزق ليس هو المال كما نستعمل الكلمتين. وسوف نقوم بشرح كل ذلك بإذن الله تعالى ولنستمع إلى القرآن الكريم وهو يقص علينا كيفية ابتداء يوسف ببيان ما يريد بيانه:
قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ﴿37﴾
المشكلة في هذه الآية هي الاداة (إِلاَّ)والتي تحتاج الى توضيح قبل مواصلة التفسير . 15
انا شخصيا أظن بأن الرسالة القرآنية تهدينا إلى أن نقول بأن يوسف قال لصاحبي سجنه ما اختصره القرآن في الآية وهي احتمالا: ليس هناك بشارة مشتركة تنتظركما في الواقع. لا يأتيكما مكسب يمكن اعتباره رزقا مشتركا ثمينا. لو يهدينا مناماكما إلى ما يقوي إمكاناتكما فأنا جدير بأن أفسر لكما ذلك الرزق المتوقع. جدير بأن أبشركما به قبل أن يصلكما وهو ما تنتظرانه من المنامين لكن تفسيركما خاطئ للأسف.
تابع يوسف القول: وبما أن المنامات الحقيقية متصلة بإرادة الخالق العظيم جل شأنه فإن إدراك عمقها يحتاج إلى إيمان خالص بالله تعالى مصحوبا بقبول اللقاء به حد التضحية في سبيل تلك العقيدة الفذة. وأنا ذلك الشخص.
لعل يوسف كان مبدعا في دعوته لهما بالعودة إلى الله تعالى بأن يبدأ ببيان حاله وما استفاده هو من تضحياته في سبيل إرضاء ربه، أو أنه استفاد من تجارب سلفه. وعلى أي تقدير فإنه كان مصيبا إعلاميا لأنه استغل خطأ المخاطبين مصحوبا بقلقهما ليدعوهما إلى الله تعالى.
وعليه أكمل قوله عن نفسه بأنه وهو في قصر من قصور نبلاء مصر، فهو لم يتأثر بالزخرف والثروة ولم يهتم بالتسهيلات المتاحة له بل بقي يفكر في ملة الموحدين من آبائه وأهله. ولذلك استعمل كلمة: (تركت ملة قوم). والترك يتحقق بسبق التجاوب مع الشيء.
فهو شاب جدير بأن يتمتع بما كان متاحا له في قصر الوزير الفرعوني حد عرض السيدة الأولى نفسها له. ولولا أن يكون هناك مجال للتفاعل فلم يكن للترك أثرا إيجابيا ومنحة ربانية من الذي يعلم خائنة الأعين سبحانه. وهو ما عبر عنه الكتاب الكريم: (فهمَّت به وهمَّ بها). همَّ بها بطبيعته وشبابه وتركها بعد أن استمع إلى نداء عقيدته وإيمانه العميق بربه.
(هامش 15 : ليس هناك لدى النحويين الذين اطلعت على كتبهم وهم من كبار أئمة اللغة والنحو، بيان دقيق للاستثناء ولست إماما في النحو. ولذلك أذكر رسالة الآية الكريمة كما أفهما فهما ظنيا، وأترك التوفيقات النحوية للغير.
إنني من الذين لا يلتزمون كثيرا بالنحو العربي الذي بدئوا تدوينه بعد فترة طويلة من نزول القرآن فلا يمكن أن نلزم القرآن بذلك العلم المتأخر.
لعلنا نكون صادقين لو قلنا بأن أرباب النحو قد انخرطوا في سلك المحدثين والمفسرين ليطبقوا علماً بالغ الأهمية على آراء أولئك النفر من المحدثين والمفسرين الذين وقعوا تحت ضغوط السلطات السياسية من جهة ومن جهة أخرى فهم كانوا محتاجين لمن يساعدهم ماديا ليتصلب عودهم وتترطب محابر أقلامهم وتتكاثر صفحات أوراقهم فيقووا على كتابة علم النحو وبقية العلوم العربية.
والمتبرعون سواء دولا وحكومات أو أثرياء وشعوبا فهم كانوا يفرضون مطالبهم على المحققين من أرباب العلوم حتى لا يخسروا تماسكهم مع عامة شعوبهم التي لن ترضى بالتغيير بل تميل إلى إبقاء الأساطير الموروثة خوفا من التبدد و الابتعاد عن السواد. والسواد هو ما يزينه لهم الشيطان وليس هناك في الوقع سواد يدين بدين أو يتمسك و يوالي عقيدة متكاملة حقا. نهاية الهامش 15. )
يتبع …
أحمد المُهري
تابع مركز #تطوير_الفقه_الاسلامي
https://www.facebook.com/Islamijurisprudence/
ان كان لديكم الرغبة في الانضمام لمجموعة النقاش في المركز برجاء ارسال بريد الى :