يوسف أيها الصديق ح 14 – صاحبا السجن 1
تواصلا مع شرح سورة يوسف :
يوسف أيها الصديق ح 14 – صاحبا السجن 1
حكاية هذا السجن دنيويا كان بأمر وزير فرعون فسوف يكون سجنا سهلا؛ وأما حكايته غيبيا فكان من تقدير رب العالمين لينجي عبده الطيب فسوف يكون سجنا سهلا أيضا. فالله تعالى استجاب دعاء يوسف بسجنه إكراما ليوسف ولكنه سبحانه جعل له سجنا هينا من السجون الخاصة عطاء منه سبحانه. نعمّا أنت يا ربنا دام عطاؤك ودام خضوعنا لك وحدك لا شريك لك.
وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ﴿36﴾
غريبة حكاية هذين الشابين الذين دخلا مع يوسف السجن. فهما بالتأكيد سُجِنا بأمر ممن هم مثل العزيز أو أعلى منه رتبة في الدولة. وأحدهم بالتأكيد مرتبط بالملك لأن يوسف قال له بأنه سوف يسقي ربه خمرا ثم أصبح ساقي الملك. ذلك يعني بأن الملك هو ربه حينما دخل السجن.
ومن أكبر مشاكل المفسرين أنهم ظنوا بأنهما كانا في حيرة من تأويل مناميهما والواقع غير ذلك. فالآية تنبؤنا عنهما بأنهما طلبا تأويله وهما منامان وليسا مناما واحدا. ثم إن يوسف بعد أن فسر لهما المنامين قال: قضي الأمر الذي فيه تستفتيان.
والمفسرون ظنوا بأن يوسف لبى طلبهما بتأويل مناميهما فلو كانوا مصيبين لسمعنا يوسف يقول: قضي الأمران وليس الأمر.
ثم كيف تمكن يوسف من أن يقول بأن الله تعالى قد قضى أمرا وهو لا يعلم الغيب؟ في الحقيقة لا يمكن تفسير سورة يوسف ولا آياتها قبل أن يتصور المرء المشهد ويتواجد مع أصحاب الشأن في المكان والزمان ويخلق لنفسه الحالة التي كانوا فيها ليعلم حقيقة الأمر.
والذي يزيد من صعوبة فهم القضية أن يوسف أسرع في وصف قدرته على تفسير الغائب وبيان إيمانه وإيمان آبائه وسعى لتخويفهما من عبادة غير الله تعالى ثم فسر الرؤيا وأعقبها ما قاله بشأن الأمر وهو غير المنامين.
فلنبدأ بتصوير موقف صاحبي السجن. كان أحدهما من خدم الملك وكان يوسف من موظفي قصر الوزير فكان الثالث دون شك يعمل لدى ذي شأن مثل ربَّي عمل يوسف مع الصاحب الأول. فالسجن كان سجنا خاصا لمن هو مرتبط بالسلطة. كان السجن سجنا تأديبيا لا يحتاج المسئول في إدخال من يشاء فيه إلى حكم قضائي. نعرف ذلك لأننا رأينا يوسف لم يتمكن من أخذ أخيه عنوة من إخوانه دون تدبير قضية السرقة. هذا يعني بأن هناك قانون صارم يحكم أرباب السلطة، إذ كان يوسف آنذاك وزيرا أقوى من الذي كان في بيته بأن نزهه الملك نفسه ودعاه ولم يأت يوسف في أول دعوة بل أتاه بعد أن أثبت براءته من كل ما نُسب اليه من تهمٍ كانت لا تهم الملك. لكن يوسف أراد أن يدخل بكل نزاهة فكسب المزيد من القوة على زملائه الوزراء.
متى عرضا قصتهما على يوسف:
مما لا شك فيه أن الثلاثة دخلوا السجن معا أو في يوم واحد لقوله تعالى: ودخل معه السجن فتيان. وواضح أنهما لم يتعرفا على يوسف قبل ذلك. وضروري أن نعرف بأن خدم كل قصر من قصور أرباب السلطة قلما يتعرفون على خدم قصر آخر. وهذا طبيعي فإن ذوي الشأن يزورون بيوت بعضهم البعض ولكن خدمهم لا يزورون إلا أهليهم ويندر أن يتعرف خادم غريب على خادم في قصر آخر. هذا ما يسعى المسيطرون تحاشيه دائما حتى لا تنتقل أسرارهم بين خدم القصور بسرعة وبكثرة.
فبقيا فترة ولو قصيرة دون أن يذكرا شيئا ليوسف حتى اطمأنا إليه وعرفا بأنه من المحسنين. يمكن لنا تقدير مثل هذا الزمان لأن اعتبار الشخص محسنا مؤمنا وهو يعمل في قصر المسرفين أمر غير عادي وغير طبيعي. ولذلك فأحتمل بكل شدة أنهما رأيا رؤييهما في السجن بعد أن تعرفا على يوسف، لكنهما تداولا الرؤيتين بينهما قبل عرضهما على يوسف.
وسوف نعرف المزيد لنضمن صحة هذا الاحتمال قريبا. والرؤيا أمر يراه الشخص نفسه ولا يعرف عنه الآخرون شيئا وهو يحتاج إلى معرفة للشخص الذي يعرض عليه قصته. فهما كانا صديقين قبل دخولهما السجن وقد أباحا قصتي رؤييهما لبعضهما البعض لأنني احتمل بانهما قاما من النوم مذهولين في ليلة واحدة.
هناك مسألة جلبت انتباههما وهو أن الأول رأى الشراب في النوم والثاني رأى الطعام. ثم إنهما لم يتمكنا من الربط بين المنامين اللذين تراءيا لصديقين في وقت واحد.
لابد أنهما استبشرا بحلميهما خيرا وفسراه بالخير ولكنهما تعجبا من ذلك التوافق الغريب. حلمين لسجينين في وقت واحد أحدهما شراب والآخر طعام! ولذلك قررا أن يعرضا هذا التوافق الغريب على الذي رأوه وشعروا به شخصا محسنا يصعب رؤية مثله في القصور الملكية لعله يعرف أمر الارتباط بين مناميهما.
ارتباك يوسف عند سماع المنامين :
إن كان صاحباه قد تعجبا من ذلك التوافق الغريب فإن يوسف قد تعجب أكثر منهما، تعجبا بلغ حد الارتباك، بنظري.
ذلك لأنه عرف بأنهما أخطآ فعلا في تفسير مناميهما قبل كل شيء ثم إن المنامين الغريبين حصلا بتوافق ملفت مع دخوله هو السجن إضافة إلى ما يحيط بشخصه من غرابة بالقياس مع بقية نزلاء مثل هذه السجون الخاصة.
رأى بأن توافق هذين الحلمين مع دخوله السجن وبعد أن عرف الفتيان بأنه رجل مؤمن هو الطريق الذي سيحقق منامه هو الذي رآه في بلده وبين أهله بالأرض المقدسة أو بأرض كنعان.
إنه تأكد من ارتباط الرؤيا به هو، فارتبك في كيفية عرض الارتباط عليهما أيضا. تخيل، إنسانا ينتظر أمرا منذ سنوات ثم يرى نفسه مقتربا من الهدف عن طريق شخصين تعرف عليهما محبوسين معه وهما يظنان بأنهما يحملان خبرا غيبيا لنفسيهما! وهو يعرف بأن من غير المتاح له نقل ما يفهمه من الحادث الجديد بالكامل، كما لا يجوز له أن يكذب.
وسنرى حينما نحلل مقولته أنه عليه السلام بنفسه لم ينج من الوقوع في خطأٍ غير هيّن حين التحدث إلى صاحبيه في السجن. وقد عوقب عقابا تأديبيا أو تهذيبيا على أساسه، لأن ما ذكره يمثل نوعا من الصبغة النفسية التي كان يوسف مبتلى بها وتَحُول دون أن يزكي الله تعالى صاحبها قبل أن يصير لائقا فعلا لحمل رسالة ربه.
ويبدو أن يوسف سمع منهما تفاؤلهما المشترك بما رأياه في نومهما وبأنهما سوف يديران أو يملكان أو يكونان مسؤولين عن مشروع غذائي أو تجاري كمصنع للخمور أو إدارة الغذاء والشراب في قصر مثل قصر الملك احتمالاً. ذلك لأن الطعام الذي يرتزقه الإنسان لا يمكن أن يمثل طعام السجن . 14
( هامش 14 : وسوف نتعرض لمفهوم الرزق ثم مفهوم الطعام في القرآن باختصار هنا ليتجلى للقارئ حقيقة الآية التالية فيمكننا تحليل كلام النبي يوسف بدقة ودراية.
لست بصدد الرد على من يظن بأن الرزق معناه الغذاء الذي نأكله، فلا أظن أن مفسرا محققا أو عالما لغويا يجهل بأن الرزق أعم من الطعام.
قال الراغب في المفردات: الرزق يقال للعطاء الجاري تارة، دنيويا كان أم أخرويا، وللنصيب تارة، ولما يصل إلى الجوف ويتغذى به تارة. يقال: أعطى السلطان رزق الجند، ورزقت علما، قال: {وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت} [المنافقون/10]، أي: من المال والجاه والعلم، وكذلك قوله: {ومما رزقناهم ينفقون} [البقرة/3]، {كلوا من طيبات ما رزقناكم} [البقرة/172]، وقوله: {وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون} [الواقعة/82]، أي: وتجعلون نصيبكم من النعمة تحري الكذب. انتهى كلام الراغب.
وفي لسان العرب: والأَرزاقُ نوعانِ: ظاهرة للأَبدان كالأَقْوات، وباطنة للقلوب والنُّفوس كالمَعارِف والعلوم؛ انتهى ما أردت نقله من ابن منظور.
هذا ما قاله اللغويان المعروفان ونكتفي بهما ونذهب إلى القرآن نفسه لنعرف كيف استعمل القرآن كلمة الرزق. وبما أننا نريد الاختصار في هذا التفسير الجزئي المجمل لسورة يوسف فسوف لا أذكر موارد الرزق بمعنى الغذاء في القرآن لوضوحه ولكن يهمني أن يعرف القراء بأن الرزق في القرآن أعم من الأكل أو الطعام وغيره.
1. قال تعالى في سورة آل عمران:
فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ (37).
من الواضح أن الرزق هنا ليس هو الطعام. ذلك لأن المحراب ليس مكانا للطعام بل هو مخصص للعبادة أولا. والدليل الثاني بأن مريم كانت تحتاج إلى سفرة الأكل لحظة الولادة وهي في مكان غير المحراب ولا إشكال من الأكل هناك فأين المائدة اليومية كما ظنوا؟ إنها تئن من آلام الولادة والروح القدوس على لسان ولدها يقول لها: هزي إليك بجذع النخلة. فعليها بأن تسعى وتتعب لتحصل على الأكل ولو قليلا. هذا هو نظام الربوبية ولا يمكن تخطيه. ولو نفتح قلوبنا وعيوننا فسنرى بأن زكريا تعلَّم منها شيئا يفيده للدعاء ولذلك ذهب ليناجي ربه فورا حتى يجني ثمار دعائه. قال تعالى بعدها:
هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء (38).
ونرى بجلاء أن زكريا دخل الصلاة ليستفيد من تعليمات مريم. قال تعالى بعد الآية السابقة:
فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ (39).
فالرزق المقدم لمريم هو رزق علمي وليس طعاما أو غذاء كما تصوره البعض.
2. قال تعالى في سورة آل عمران:
وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169).
لنتصور الذين قتلوا في معارك بحضور أنبيائهم ولينصروا ربهم فهم مقتولون حقا في سبيل الله. إنهم ماتوا وتركوا أبدانهم بما فيها أفواههم وبطونهم في الدنيا وانتقلوا بأنفسهم عند ربهم كما ينتقل كل الموتى. فكيف يأكلون الطعام هناك؟ إنهم ليسوا في جنات النعيم التي لم تُخلق بعد وقد وعد الله تعالى بأن يخلقها بعد أن يهدم الكون ويعيد بناءه ليعطيه القدرة على البقاء الأبدي كما وعد في القرآن. والواقع بأنهم يُرزقون الأمان هناك والموتى أحوج ما يكونون إلى الشعور بالسلام والأمان. قال تعالى بعدها موضحا هذا الموقف:
فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (170).
فالرزق هنا هو الأمان وليس الأكل.
3. قال تعالى في سورة هود:
قَالُواْ يَا شُعَيْبُ أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاء إِنَّكَ َلأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىَ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88).
فالرزق الذي يتحدث عنه رسول الله هو الرزق العلمي وليس المال ولا الأكل ولا أية مادة أخرى. إنه بعلمه وهداه يدعو غيره وليس بالطعام ولا بأي رزق مادي آخر.
4. قال تعالى في سورة النساء:
وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاء قِرِينًا (38) وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُواْ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقَهُمُ اللّهُ وَكَانَ اللّهُ بِهِم عَلِيمًا (39). والرزق هنا هو المال وليس الطعام المعروف الذي نأكله.
5. قال تعالى في سورة المائدة:
قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء تَكُونُ لَنَا عِيداً ِلأوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114).
لقد أضاف المسيح طلب الرزق على طلب المائدة. والمائدة هي الطعام هنا لأنهم طلبوا ذلك في الآية السابقة:
إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء قَالَ اتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (112) قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ (113).
ولكنهم طلبوا ذلك رجاء اطمئنان قلوبهم وأن يزدادوا علما بصدق نبيهم. إنهما من مراحل الهدى فطلب المسيح من ربه أن يهديهم بعد أن يهنئوا بالمائدة السماوية. فالرزق هنا بمعنى الهدى.
6. قال تعالى في سورة الحج:
وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58) لَيُدْخِلَنَّهُم مُّدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59).
هؤلاء أيضا مقتولون أو ميتون لا يملكون أبدانا يأكلون وقد وضح الله تعالى رزقهم في الآية الثانية بأن ربهم سوف يدخلهم مدخلا يرضونه. ذلك بأنهم سوف يشعرون بنوع من عدم الراحة النفسية بأنهم لم يحاربوا ولكنه تعالى سوف يحشرهم مع المقاتلين في سبيله. سيشعرون بأنهم لا يستحقون ولكنه سبحانه يعدهم بأنه من كرمه يُدخلهم مدخلا يرضونه. إنه الرحيم فعلا وسوف يُدخلهم يوم القيامة الجنةَ دخولا مرضيا لقلوبهم حتى لا يشعروا بأنهم لا يستحقون تلك الدرجات العلا. ولا مجال هنا طبعا لنشرح الموضوع أكثر من ذلك. والله العالم.
7. قال تعالى في سورة الروم:
ضَرَبَ لَكُم مَّثَلاً مِنْ أَنفُسِكُمْ هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن شُرَكَاء فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاء تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28).
والرزق هنا هم الخدم أو ما يعرف بالعبيد الذين ملكتهم أيمانهم.
وأما الطعام في القرآن فهو أيضا لا يُطلق دائما على الأكل بل هو في الواقع ما يقوي الإنسان أو أي شيء آخر. وبهذا الاعتبار يسمى طعاما. كما سنعرف من هذا البحث القرآني المختصر أيضا:
1. قال تعالى في سورة البقرة:
فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو اللّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249).
لقد فصل طالوت بين من يشرب الماء قليلا ليسد عطشه وبين من يطعم الماء. فيقصد بالطعام هنا أن يتقوى الإنسان بالماء ويروي عضلاته بالكامل. وليس الماء غذاء لمعدة الإنسان في الواقع، لكنه يعتبر مروحا و منشطا للعضلات.
2. قال تعالى في سورة يس:
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاء اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاّ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ (47).
ويقصدون به أنهم يكرهون تقوية من لم يشإ الله أن يقويه ماديا عاما وليس غذائيا فقط.
3. قال سبحانه في سورة الأنعام:
قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ قُلْ إِنِّيَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكَينَ (14). قُلْ إِنِّيَ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15).
فهل الله تعالى موجود قابل للطعام الغذائي حتى يُطعم؟ وما ارتباط الطعام الغذائي باتخاذه سبحانه وليا؟ والواقع أن الله تعالى قوي يقوي غيره ولا يتقوى بغيره. ولذلك فهو خير ولي لمن يعقل ذلك. فيقول النبي بأنه يأبى أن يتخذ غير القوي القاهر الذي فطر السماوات والأرض بقوته دون أن يحتاج إلى من يمنحه القوة، سبحانه وتعالى. ذلك لأن الولي هو القريب الذي يفيدك، فهل هناك خير من الله تعالى الذي يفيدنا ولا ينتظر أن نفيده، ويقوينا ولا يتوقع منا منحه أية قدرة؟ ولذلك فهو سبحانه وحده الجدير بأن يشرع من عنده ما يجب على من وجه إليهم تشريعه العمل به. فكل قدراتنا منه سبحانه ومن حقه أن يأمر وينهى لينظم استفادتنا مما منحنا إياه من قدرات وإمكانات مملوكة له وستبقى مملوكة له وحده ولكننا مخولون بالتمتع بها ضمن نظام وتشريع سماوي. و إن الله تعالى وليس غيره، هو الولي القريب من الرسول ومن كل عبيده والقادر على أن يمدهم بما يحتاجون إليه دون أن يستمد من عبيده شيئا.
4. قال تعالى في سورة الذاريات:
وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58).
ويمكننا أن نتعرف على معنى الرزق والطعام من هذه الآيات بكل جلاء. فالله تعالى ليس كائنا فيزيائيا يأكل ولا يصح الحديث عن عدم أكله. ذلك كأن تقول بأن القلم لا يفكر والإنسان لا يأكل الحجر والماء لا يكتب. ولكن يمكن أن يقول أحد بأنه يزود ربه بالمعلومات أو بأنه يساعد ربه ويعطيه المزيد من القوة والقدرة بإضافة قدراته إلى قدرة ربه. فالله تعالى يقول بأنه خلق الجن والإنس ليخضعوا له باعتباره الحق المطلق ولا يحتاج إلى المزيد من العلم لتصحيح أوامره فلا يريد منهم أي رزق وهو يعني أي علم ومعرفة بل هو الذي يمنحهم العلم وذلك في المقاطع التالية من الآيات:
ما أريد منهم من رزق، إن الله هو الرزاق.
ثم يتحدث عن موضوع القوة في المقاطع الأخرى من الآيتين الأخيرتين:
وما أريد أن يطعمون، إن الله… ذو القوة المتين.
فهو سبحانه لا يريد أي تقوية أو تنشيط لأنه هو مالك القوة كلها وهو بنفسه متين لا يعوزه أي إسناد. ويعني بأنه لا يحتاج إلى قوة خارجية لا لذاته القدسية ولا لأفعاله وتصرفاته في خلقه. إنه هو القوي المتين الذي يمد كل الكائنات بالقوة والطاقة. فليس للكائنات إلا الخضوع الفعلي. بالطبع أن ما نراه من عدم خضوع من بعض الإنس والجن فهو باعتبار أنه سبحانه منحهم الإرادة في وجوداتهم ليختبرهم ولكن ماهياتهم خاضعة له سبحانه بالكامل. ولذلك يعتبر الخارجين عن تشريعه ظالمين سوف يحاسبهم فيما بعد كما وضح في الآيات التالية لها وهي:
فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِّثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ (59) فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِن يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60).
والذنوب يعني طويل الذنب ويُطلق عادة على الفرس الطويل أو الغليظ الذنب. وهنا إشارة إلى كلا المعنيين بأن للظالمين تبعات خطيرة تنتظرهم كما تنتظر الذين سبقوهم من الظالمين أمثالهم.
نستخلص مما مضى بأن الطعام والرزق ليسا مقصورين على المأكولات والأطعمة المعروفة بل ليسا مقصورين على الماديات. فالرزق عطاء قد يكون مالا أو ملبسا أو مقتنيات مختلفة أو غذاء أو علما والطعام قد يكون أكلا أو طاقة أو قدرات معنوية أخرى. والفرق بينهما من حيث المصداق بدون قيد هو أن الرزق هو عين الإضافة المادية أو المعنوية ولكن الطعام هو نفسها بإضافة إمكانية استزادة المستفيد منه بالطاقة والقوة. ولذلك لا يمكن إطلاق الطعام على المجوهرات أو المأكولات التي لا تحمل قيمة غذائية ولكن الرزق يشملها جميعا. بالطبع أن العطاء أوسع من الرزق لأنه يشمل الحب والغفران وما في حكمهما أيضا. نهاية الهامش 14.)
يتبع …
أحمد المُهري
تابع مركز #تطوير_الفقه_الاسلامي
https://www.facebook.com/Islamijurisprudence/
ان كان لديكم الرغبة في الانضمام لمجموعة النقاش في المركز برجاء ارسال بريد الى :