القصة الحقيقية للثورة المصرية 10- حكاية السحلية وزة
حكاية السحلية وزة
مدخل ( ليس من مصلحة السحالي الدخول في المنازعات القائمة في مصر اليوم بين التيارات السياسية المختلفة, فحكام اليوم هم مساجين الغد, ومساجين اليوم هم حكام الغد, وسوف تعرض السحالي نفسها لانتقام هؤلاء بعد خروج أولئك ثم انتقام أولئك بعد خروج هؤلاء. ) |
قال الحاج محمود إنه بعد انتهاء مهمتهم في مبنى الجماعة, ومقابلة الدكتور محمد, تناول هو والشيخ حسن طعام الغداء ثم انطلقا إلى السيارة للتوجه إلى الإسكندرية. دخل الحاج محمود السيارة ليجد سحلية قد استقرت على التابلوه أمامه. نقر الحاج محمود على التابلوه إعلانا للسحلية بأنه قد حان وقت الرحيل. لم تبدِ السحلية أي اهتمام حقيقي بما فعله الحاج محمود ولم تفعل أكثر من أنها نظرت إليه لثوان ثم التفتت ناحية الشيخ حسن وألقت عليه السلام بصوت واضح هاديء. رد الشيخ حسن التحية بأفضل منها, وسأل السحلية عما إذا كان لها طلب تريد منه أن يقضيه. ردت السحلية بأنها لم تأتِ لطلب لنفسها أو أولادها, وإنما أتت لأمر يهم عموم الناس في بر مصر.
قالت السحلية إنها كانت تعيش حياتها في هدوء في شقة مغلقة في شارع قصر النيل. وهي شقة مغلقة من يوم أن ولدت فيها, بل من يوم أن ولدت أمها فيها. إلا أنه في الأسابيع الأخيرة – منذ 25 يناير تحديدًا – زادت حركة الناس في منطقة وسط البلد إلى حد أصبحت الحياة معه مستحيلة. فهي لم تعد تخاف على أولادها وحسب من عبور الشارع بل أصبحت تخاف كذلك على وجدي على الرغم من أن وجدي شاب رياضي قوي (وجدي هذا هو اسم زوجها) لا يحتاج إلى من يساعده على الاهتمام بنفسه. قالت وزَّة (هذا هو الاسم, كما علموا فيما بعد, الذي أطلقته عليها والدتها بعدما لاحظت الطريقة “الدلع” التي تسير بها) إن الأمر بلغ حدًا اضطرت فيه إلى مغادرة الشقة والبحث عن شقة أخرى يمكن الحياة فيها بصورة طبيعية. وهكذا قادتها قدماها إلى الأحياء الجديدة في شرق القاهرة. بينت وزة أنها كانت محتارة بين أن تسكن في التجمع الخامس أم في المقطم, إلا أنها قررت في النهاية الاستقرار في المقطم, فالمقطم منطقة هادئة مثلها في ذلك مثل التجمع الخامس إلا أنها قريبة من منطقة وسط البلد وهو ما سيتيح لوجدي فرصة اللقاء بالأصدقاء الذين لم تسمح لهم ظروفهم بالانتقال من منطقة وسط البلد.
بينت وزة أن العثور على مكان مناسب في المقطم لم يكن سهلا حيث لا توجد شقق مهجورة كما هو الحال في وسط البلد وهو ما يعني أنها لن تجد الخصوصية التي اعتادت عليها من يوم أن ولدت خاصة وأنها من النوع الذي لا يرتاح إلا إذا دخلت شقتها وأغلقت بابها وراءها. انتقلت وزة من شقة إلى شقة, ومن عمارة إلى عمارة إلى أن عثرت أخيرًا على مكان مناسب في جراج إحدى العمارات استقرت فيه هي ووجدي والأطفال. كان المكان, في الحقيقة, مناسبا تماما, فالطعام الذي يقدمه المطعم معقول, فضلا عن توافره لمدة أربع وعشرين ساعة يوميًا, إضافة إلى انشغال العاملين في المكان بما يعملونه وعدم التفات أي منهم إليها أو إلى الأطفال. لم يأخذ الأمر طويل وقت حتى اكتشفت وزة أنها تعيش في جراج مستشفى. كان هذا هو السبب في أن الحركة لا تهدأ في المطبخ. حقيقة الأمر, في المبنى كله.
مع مرور الوقت, على أية حال, لاحظت وزة شيئًا غريبًا يحدث في الجراج. كان الجراج كبيرًا بدرجة غير معتادة نهائيًا في مصر إلى درجة أنه كان يحتوي بكل سهولة سيارات جميع العاملين في المستشفى, من أطباء, وصيادلة, وممرضات, وإداريين, وإداريات, إضافة إلي سيارات المرضى أنفسهم, والزوار. إلا أنه كانت هناك منطقة تدخلها السيارات وتختفي فيها ولا يظهر ركابها مرة أخرى على العكس من ركاب السيارات الأخرى الذين كانوا يخرجون من سياراتهم ويتجهون إلى المصاعد التي تحملهم إلى حيث يريدون, حيث كانت وزة تراهم بعد ذلك أثناء جولاتها بالمستشفى.
أثار الأمر فضول وزَّة وعليه قررت أن تستقصي الموضوع. وعليه تسللت ذات يوم إلى هذه المنطقة المحظورة التي ترتفع على مدخلها يافطة حمراء مضيئة تبين أن “الدخول للعاملين فقط” ويقف على مدخلها ممرضون أشداء للتأكد من هوية الركاب. حقيقة الأمر, لم يكن هناك أي داعٍ على الإطلاق لليافطة الحمراء إذ كان يكفي منظر الممرضين لإقناع من يريد أن يركن سيارته أن يركنها في مكان آخر. تسللت وزة بدون أن تحدث أي صوت ودخلت المنطقة المحظورة, وهنا وجدت ما لم تكن تتخيله.
لم تجد وزة, كما كانت تتوقع, جراجا للسيارات وإنما وجدت مدينة كاملة تحت الأرض. شوارع تسير فيها السيارات, ومبان اصطفت على جوانب هذه الشوارع, وحدائق جميلة تتخلل هذه الشوارع, ومحلات, ومطاعم, ودور سينما, بل ومستشفيات. ذهبت وزة تبحث عن شقة مناسبة لعلها تجد شقة غير مسكونة إلا أنها وجدت كل الشقق مسكونة. الغريب في الأمر أنه لم تكن هناك أسرة واحدة تسكن في أي من هذه الشقق. كانت كل الشقق مكاتب يجلس عليها أطباء منهمكون في التصوير, والتسجيل, والجدولة. تصوير كل شيء في مصر, وتسجيل كل شيء في مصر, وجدولة كل شيء في مصر. ذهلت وزة عندما رأت صورتها هي ووجدي والأطفال عندما كان أحد الأطباء يجدول ملف الأسرة. كانت الصور حديثة للغاية إذ كانت الخلفية توضح أنه تم أخذ هذه التسجيلات في جراج مستشفى المقطم. كان هذا الاكتشاف صدمة لوزة. أدركت وزة أنها كانت تعيش وهما عندما كانت تتخيل عندما تدخل شقتها وتغلق الباب وراءها أنها تغلق الباب وراءها. في مصر, عندما يغلق الناس أبواب بيوتهم تفتح كاميرات التصوير داخل بيوتهم عيونها.
أسرعت وزة بالخروج من مدينة إنتاج المعلومات ورأسها يدور. ترك الشعور بأنها “مكشوفة” طعمًا مرًّا في فمها. كان كل ما تفكر فيه هو أن تعثر على وجدي وتخبره بالأمر. وهو ما حدث. إلا أنه كانت هناك مفاجأة أخرى. أخبرها وجدي أنه اكتشف هذا الأمر منذ عدة أيام وأنه قضى الثلاثة أيام الأخيرة داخل مدينة المعلومات وتأكد من أن التسجيل والتصوير لا يتم داخل المنازل وحسب, أو في مناطق التجمعات البشرية وحسب, وإنما في كل شبر من أرض مصر. أخبرها وجدي أنه فكر في الأمر طويلاً ووجد أن الحل الوحيد في هذا الموقف هو الهجرة من البلد, وهو أمر غير وارد أصلاً, فالسحالي المصرية لا يمكنها الحياة خارج الأراضي المصرية. يمكن للخيول أن تعيش خارج مصر كما يمكن لها, طبعًا, أن تموت خارج مصر. يمكن للقطط كذلك أن تعيش خارج مصر كما يمكن لها أن تموت خارج مصر. في حالة السحالي المصرية الأمر مختلف, إذ هي لا تعيش إلا في مصر, وتموت خارج مصر. نبتت السحالي المصرية في مصر من اختلاط رمال الصحراء بمياه النيل. حدث ذلك منذ خمسين مليون سنة. هذه “الخلطة” لا حياة لها إلا في مصر. نظر وجدي في عيون وزة بحزن وهو يخبرها أن مدينة إنتاج المعلومات هي أحد أفرع “أمن الدولة” وأن هؤلاء الرجال الذين يرتدون معاطف بيضاء ليسوا أطباء كما تظن وإنما هم رجال الداخلية. شعرت وزة بأن رأسها تدور. أمن الدولة؟ يا إلهي. لم تحلم وزة يومًا بأن تلتقي برجل من رجال أمن الدولة ودعك من السكن في مقر من مقرات أمن الدولة. أيضًا, فكرة أن ينشأ أطفالها على مقربة من رجال أمن الدولة الدولة فكرة مرعبة. هؤلاء رجال يمكنهم أن يدوسوا على أطفالها بدون حتى أن ينتبهوا إلى أنهم يدوسون على أطفال.
تحادثت وزة مع وجدي عن هذا الموضوع أكثر من مرة بعد ذلك إلا أن موقف وجدي كان واضحًا تماما. يستحيل الهجرة من مصر. سوف تموت الأسرة بالكامل بمجرد الخروج من معبر رفح أو الدخول إلى مساعد. يستحيل كذلك النجاح في أي صدام مع أمن الدولة. أخبر وجدي وزة أن مدينة المعلومات مصممة بحيث يتم إغلاقها تماما في حالة أي هجوم عليها وتبقى تعمل تحت الأرض إلى ما شاء الله. حاولت وزة إقناع وجدي بأن من الخطأ الاستسلام إلى الوضع القائم وأن من واجبهم على الأقل أن يحاولوا. بينت وزة أن في مصر رجال يمكن الاعتماد عليهم في هذا الأمر, إلا أن حمدي كان يذكرها في كل مرة بأن الشعب المصري في عمومه لا ينظر إلى السحالي نظرة ودية بل يضطهدهم بصورة يومية وأنهم إذا ساندوهم اليوم فسوف ينقلبون عليهم غدًا وأن ليس من مصلحة السحالي الدخول في المنازعات القائمة في مصر اليوم بين التيارات السياسية المختلفة, فحكام اليوم هم مساجين الغد, ومساجين اليوم هم حكام الغد, وسوف تعرض السحالي نفسها لانتقام هؤلاء بعد خروج أولئك ثم انتقام أولئك بعد خروج هؤلاء.
لم يكن ذلك ليؤثر على موقف وزة. كان من الصعب على وزة أن تقتنع أن تعيش حياتها “مكشوفة” بهذا الشكل المشين. وعليه مضت تتشاور مع صديقاتها حول ما يمكن عمله إلى أن جاء يوم اقترحت فيه سحلية عجوز أن تحاول وزة الاتصال بالشيخ حسن وعرض الموضوع عليه. قالت السحلية العجوز إنها تعرف الشيخ حسن من أيام أن كان صبيا في كفر نفرة, وتعرف أنه – على العكس من أغلب الأطفال في كفر نفرة – لم يحدث أن أساء إلى سحلية واحدة في حياته بل كان يحرص على أن يفسح الطريق لأي سحلية تقابله. قالت السحلية العجوز إنها على ثقة من أنه سوف يستمع إلى وزة وسوف يساعدها في محنتها. أضافت السحلية العجوز أن الشيخ حسن رجل صالح ولن يقف ساكتا أمام العمل المشين الذي تقوم به مدينة إنتاج المعلومات. توقفت وزة عن الكلام ونظرت إلى الشيخ حسن لترى ما سيقول.
لم تتحرك شفتا الشيخ حسن وإنما تحركت يده لتمسك بجبهته. هذا هو الوضع إذن. هذا هو السبب في أن أمن الدولة كانت دائمًا تسبقهم بخطوة. كان الشيخ حسن يعلم أن كل شيء في مصر كان تحت الرقابة. أن كل شيء كان مكشوفا. إلا أنه لم يكن يعلم أن بيوتهم كانت أيضًا مكشوفة, والأهم من ذلك أنها ما زالت مكشوفة. لم تنجح الثورة المصرية, إذن, لأن أمن الدولة لم يكن يعلم وإنما على الرغم من أنه كان يعلم. إلا أن نجاح الثورة المصرية كان من المستحيل أن يستمر طالما بقيت مدينة إنتاج المعلومات تعمل. نظر الشيخ حسن إلى وزة وقال لها ” يا أخت وزة. أحتاج إلى أربع وعشرين ساعة من أجل إعطائك الرد على ما أخبرتِني عنه. هل يمكن أن نلتقي غدًا هنا في نفس الميعاد؟” هزت وزة رأسها علامة الموافقة وخرجت من السيارة. أدار الحاج محمود السيارة وانطلقوا في الطريق إلى الإسكندرية. استمر الحاج محمود طوال الطريق في الانتقال بمؤشر الراديو من محطة إلى محطة كما استمر في شريط التعليق على الأنباء بشكل متواصل أيضا. لم يعلق الشيخ حسن تعليقًا واحدا على شريط التعليق الصادر عن الحاج محمود. كان يفكر فيما أخبرته به وزة.
في الإسكندرية, دخل الشيخ حسن إلى مكتب سيادة المهندس خيري وطلب مقابلته. استقبل المهندس خيري, كالعادة, الشيخ حسن بكل ترحاب واستلم الظرف الذي أرسله الدكتور محمد. لاحظ سيادة المهندس خيري على الفور أن هناك شيء يشغل بال الشيخ ويريد الكلام عنه. طلب سيادته من الشيخ حسن أن يجلس وجلس هو على كرسيه وسأله: “ما عندك يا شيخ حسن؟” كالعادة كذلك نقل الشيخ حسن إلى سيادة المهندس خيري ما قالته وزة باختصار. بدأت أصابع المهندس خيري في الطرق على سطح المكتب بهدوء وهو الشيء الذي لا يفعله إلا إذا كان الأمر جللا. كان الشيء الذي يدور في عقل سيادته هو أنه إذا ما كان ما يخبره به الشيخ حسن صحيحا – وهو صحيح بلا شك – فإن معنى ذلك أن هذا الكلام يتم تسجيله الآن. وعليه فيجب إنهاء هذه المحادثة الآن. نظر المهندس خيري إلى الشيخ حسن وشكره على ما قام به وطلب منه الانتظار ساعة حتى يخبره بالرد.
لم يكن ليغيب عن بال سيادة المهندس خيري خطورة ما أخبره به الشيخ حسن. لم يكن ليغيب عن باله كذلك ضرورة التحرك بسرعة قبل أن تدرك مدينة إنتاج المعلومات أن أمرها قد انكشف وتغلق أبوابها. كان من المستحيل ضمان نجاح الثورة ومدينة إنتاج المعلومات مستمرة في عملها تحت الأرض. طلب سيادته, بهدوء, الانتقال مع مساعديه والشيخ حسن إلى فندق آزور على الكورنيش. طلب سيادته من الفندق إعداد مائدة في الهواء الطلق كأقرب ما يكون إلى البحر. كان الهدف هو الاقتراب من صوت الأمواج كأقرب ما يكون بحيث لا تستطيع مدينة إنتاج المعلومات التعرف على موضوع الحديث. كانت الليلة ليلة باردة وارتدى الجميع معاطف ثقيلة, ودارت أكواب الشاي بشكل مستمر, وبدأ التساؤل عما يمكن عمله.
لم يأخذ الحوار أكثر من نصف ساعة حتى كان الرأي قد استقر على خطة العمل. كانت الخطة تقضي باقتحام السحالي لمدينة إنتاج المعلومات والاتجاه مباشرة إلى “الغرفة الأم” وتغطية كل الأجهزة هناك لمنع رجال أمن الدولة من إغلاق الأبواب مع تغطية جميع جدران المدينة بأعداد تمنع خروج السيارات إلا من المدخل الرئيسي. يقوم رجال “الجماعة” بحشد جميع آلات خلط الأسمنت اللازمة في مكان قريب من مدينة إنتاج المعلومات بحيث يبدأ صب الأسمنت في نفس اللحظة التي تسيطر فيها السحالي على الغرفة الأم. كان الهدف هو دفن مدينة إنتاج المعلومات ومنع أي مخلوق في مصر من الاطلاع على المعلومات التي قامت مدينة إنتاج المعلومات بإنتاجها حتى لو كان المرشد شخصيا. هذه معلومات لا يحق لأحد أن يكون على علم بها.
كانت الخطة بسيطة, وسهلة, وغير معقدة. إلا أن نجاحها, في النهاية, كان يتطلب تعاون سحالي مصر كلها تقريبا مع الجماعة وليس سحالي الوجه البحري فقط. تم تقسيم العمل بحيث يتولى المهندس خيري الجزء الفني الخاص بدفن مدينة إنتاج المعلومات على أن يتولى الشيخ حسن الجزء الخاص بالتنسيق مع السحالي. تم الاتفاق كذلك على عدم استخدام العنف إطلاقًا مع رجال أمن الدولة مع الحرص على تسهيل حركة الخروج من المدينة طوال الوقت. كان سيادة المهندس خيري واثقًا من أن رجال أمن الدولة لن يبدوا أي مقاومة أمام الهجوم الخاطف للسحالي وسوف يكون كل همهم هو الهروب بجلدهم. أوضح سيادته أن رجال أمن الدولة لا يشكلون خلية سرية تعمل خارج نظام الدولة وإنما هم, في نهاية الأمر, موظفون مصريون مثلهم في ذلك مثل ملايين الموظفين العاملين في جهاز الدولة. ليس من “خُلُق” الموظفين في مصر أن يموتوا دفاعًا عن العمل الذي يقومون به. وحتى لو وجد هناك من يرغب في الموت فلن يزيد عددهم عن عشرة أو عشرين من عشرات الآلاف من العاملين في مدينة إنتاج المعلومات, ومن الخطأ السماح لهم بتحويل المدينة إلى مقبرة جماعية. أكد سيادة المهندس خيري عدم السماح بحمل أي سلاح عند تنفيذ عملية الدفن. بين سيادته أن الاسكندرية هي التي سوف تتولى تنفيذ هذه العملية حيث لا يوجد وقت للتشاور مع القاهرة. بين سيادته “بوضوح” أن الحديث عن عملية الدفن سوف ينتهي تماما بمجرد القيام عن المائدة, فمدينة إنتاج المعلومات ما زالت تعمل. أي أن حديث عن العملية قد يلفت نظر أحد العاملين في المدينة مما يعرض مستقبل البلاد كلها للخطر. أشار أحد مستشاري المهندس خيري قبل انتهاء الاجتماع بدقائق إلى استحالة أن يخفى الأمر على رجال أمن الدولة خاصة عندما يرون ملايين السحالي متجهة إلى المقطم وعليه طلب إعلان الأول من أبريل “يوم مبايعة السحالي”. أي اليوم الذي تعلن فيه سحالي مصر تأييدها لجماعة المقطم. يعطي ذلك غطاء لعملية الدفن ويتيح اقتحام مدينة إنتاج المعلومات بسهولة حيث إنها تقع مباشرة خلف مبنى الجماعة. تلقى هذا الاقتراح قبولا فوريا من كل الحاضرين. وأخيرًا, تم الاتفاق على بدء العملية بمجرد الانتهاء من رفع آذان الظهر وعدم الانتظار حتى إقامة الصلاة. كانت الحكمة في ذلك أن هذه هي خير وسيلة لتنبيه السحالي إلى ميعاد بدء العملية. وانتهى الاجتماع.
دخل الشيخ حسن السيارة وجلس بجوار الحاج محمود وسأله عما إذا كان من الممكن أن يذهبا أولا إلى شارع آلبرت في سموحة. تذكر الشيخ حسن أنه من يوم أن قامت الثورة وهو لم يظهر أي اهتمام بطلبات زينب, وأن الوقت قد حان ليثبت لها أنه لم ينسَ, على الرغم من كل مشاغله, أنها تحب الجاتوه, وبالذات من محل مستر بيكر. ابتسم الشيخ حسن عندما تذكر كيف نظرت زينب إلى التعرف على مستر بيكر – عن طريق صديقاتها في بولكلى طبعًا – على أنه اكتشاف. وقفت السيارة أمام المحل ونزل الشيخ حسن واشترى تورتاية له وأخرى للحاج محمود. كان المبلغ الذي دفعه مبلغًا ضخما إلا أن الحمد لله فالأمور “ماشية” وهو لم يشترِ شيئًا لزينب منذ أسابيع, فضلاً عن أن من الاستحالة أن يشتري جاتوه لنفسه فقط وينسى أن خاله الحاج محمود معه في السيارة. وانطلقت السيارة إلى كفر نفرة.
كالعادة, لم يكف الحاج محمود عن التنقل بين محطات الأخبار, كما لم يكف عن التعليق على الأخبار. كالعادة كذلك لم يعلق الشيخ حسن بأكثر من “الحمد لله” أو “الله غالب”. وما هي إلا ثلاث ساعات حتى كانت السيارة تقف أمام دار الشيخ حسن. شكر الشيخ حسن الحاج محمود على “التوصيلة” وتم الاتفاق – كما هي العادة كل يوم – على اللقاء بعد صلاة الفجر إن شاء الله وكان لنا عمر. فتحت الحاجة كريمة الباب ونظرة الحب وشكر الله تنطلق من عينيها. وقفت وراءها زينب وهي تنتظر دخول الشيخ حسن. في كفر نفرة ينتظر الجميع من كل عروس أن تظهر كل اهتمامها بعريسها, إلا أن الجميع ينتظر كذلك ألا تظهر هذا الاهتمام أمام أحد غير العريس.
أخذت الحاجة كريمة علبة الجاتوه من يد الشيخ حسن واستدارت لتناولها لزينب وهي تبتسم ابتسامة “العارف”. يعلم الشيخ حسن جيدًا أن أمه لا تعترف بجاتوه غير جاتوه “ياقوت” في بركة السبع. هذا الجاتوه ليس لأم حسن. هذا الجاتوه لابنة الحاجة صفية. اشتعل وجه زينب خجلاً وهي تمد يدها لاستلام علبه الجاتوه. الله يخليك يا شيخ حسن. من يتذكر وسط كل هذه المشاكل أن زينب تحب جاتوه اسكندرية؟ ومن عند مستر بيكر؟ الله يخليك يا شيخ حسن.
أخذ الشيخ حسن حمامه, وحضرت زينب صينية العشاء, وحضر حسين, وحضرت أم حسن وجلس الجميع لتناول العشاء. تساءل حسين عن الوضع في القاهرة فأخبره الشيخ حسن أن الحمد لله. تساءل حسين كذلك عن الوضع في الاسكندرية فأخبره الشيخ حسن أن لا غالب إلا الله. ثم بدأت أم حسن في الحديث عن أخبار البلد وكيف أن الحاج عبد العال العكابري قد ذهب إلى المعمل في طنطا لعمل بعض تحاليل, وكيف أخبرته أن الشيخ حسن على علم إلا أنه يسافر كل يوم في الفجر ولا يعود إلا بعد أن يكون الحاج عبد العال قد دخل في النوم. أخبرتهم أيضًا كيف أنها اشترت اليوم كيلو من اللحم من الحاج سليم وكيف طلب منها ستين جنيها وكأننا في القاهرة وليس في كفر نفرة. وقام حسين, وقامت الحاجة كريمة, وخرج الشيخ حسن ليغسل يديه ثم عاد إلى غرفته وأغلق الباب إلا أن زينب نهضت بسرعة وأخبرت الشيخ حسن أن لا أحد تذكر جاتوه الاسكندرية. ضحك الشيخ حسن ونادى على أمه وأخيه وناول أمه علبة الجاتوة. مدت أمه يدها وأخذت قطعة وكذلك حسين. وأغلق الشيخ حسن باب الغرفة. وضع الشيخ حسن رأسه على المخدة ولم يرفعها ثانية إلا مع آذان الفجر. توضأ الشيخ حسن وانطلق إلى المسجد, وصلى الفجر, ودخل سيارة الحاج محمود وانطلق إلى القاهرة.
ذهب الشيخ حسن إلى مكتب الدكتور محمد وسلمه الظرف ثم اتجه إلى المطعم حيث كان الحاج محمود بانتظاره. تناول الإثنان طعام الإفطار ثم ذهبا بعد ذلك إلى المصلى حيث ناما إلى ما قبل صلاة الظهر بقليل عندما قاما, وتوضئا, وصليا ركعتي سنة. حضر الدكتور محمد وأمَّ المصلين ثم دخل مكتبه مع الشيخ حسن حيث سلمه مظروفا كالعادة. خرج الشيخ حسن من مكتب الدكتور محمد واتجه إلى المطعم حيث كان الحاج محمود بانتظاره. تناول الاثنان طعام الغداء ثم ذهبا إلى السيارة وانتظرا مجيء وزة. لم ينتظر الشيخ حسن طويلا إلى أن ظهرت وزة. نظرت وزة إلى الحاج محمود وألقت عليه السلام, ثم حولت وجهها إلى الشيخ حسن وألقت عليه السلام أيضًا, ثم وقفت ساكنة وهي تنتظر ما سيخبرها به.
ابتسم الشيخ حسن ابتسامته الهادئة, وحيا وزة خير تحية, ونقل إليها تحيات جماعة الاسكندرية وتقديرهم للعمل الرائد الذي تقوم به. عرض الشيخ حسن ما تم الاتفاق عليه في الاسكندرية, شارحًا خطة دفن مدينة إنتاج المعلومات بالتفصيل. بين الشيخ حسن أن نجاح الخطة يعتمد أولا وآخرًا على تعاون سحالي مصر من الإسكندرية إلى أسوان ومن رفح إلى السلوم. أكد الشيخ حسن على ضرورة القيام بالعملية حسب الميعاد الذي تم تحديده. أي بمجرد رفع آذان الظهر غدًا. لم تفتح وزة فمها بكلمة طوال الوقت الذي كان يتحدث فيه الشيخ حسن. كانت عيناها تلمعان وهي تحاول متابعة الخطوط العامة لخطة الدفن وتصور العمل الذي ستقوم به السحالي بالضبط. هزت وزة رأسها وأخبرت الشيخ حسن بأنها فهمت المطلوب وأنها ستنصرف الآن لبدء العمل. قفزت وزة من السيارة واتجهت إلى مجموعة من السحالي كانت تقف في مكان قريب في انتظارها. تحدثت معهم لبضع ثوان ثم انطلق الجميع بسرعة وساروا في اتجاه مدينة إنتاج المعلومات.
بحثت وزة عن وجدي إلى أن وجدته أخيرًا يتحدث مع بعض الأصدقاء. اتجهت وزة إليه وطلبت منه أن تتحدث إليه على انفراد. قام وجدي متثاقلا نحوها واتجه الإثنان نحو مكان منعزل في الجراج. قالت وزة إنه ليس لديها وقت تضيعه في محاولة إقناع وجدي بالتعاون معها فيما تم الاتفاق عليه وإنما ستعرض فقط ما تم الاتفاق عليه وتترك لوجدي حرية الاختيار. إما مساندة الثورة المصرية وتحمل النتائج, أو عدم مساندة الثورة المصرية وأيضًا تحمل النتائج.
عرضت وزة الخطوط العامة للخطة وأخبرت وجدي أنها سوف تتركه الآن لتبدأ العمل وأنه حر في اتخاذ القرار الذي يلائمه. أما بالنسبة لها فهي قد اتخذت قرارها حيث إنها لا يمكن أن تعيش حياتها “على المكشوف”. كيف لوزة أن تقبل وجدي وهي تعلم أن كاميرات مدينة إنتاج المعلومات تصورهما؟ ليس عيبًا أن تقبل امرأة زوجها, ولكن ليس على المكشوف. توقفت وزة عن الكلام ونظرت إلى وجدي لتسمع قراره. لم يتحدث وجدي وإنما اقترب من وزة وقبلها قبلة طويلة وتراجع إلى الخلف قليلاً وضحك “هذه آخر قبلة تصورها كاميرات مدينة إنتاج المعلومات”. وانطلق الإثنان خارج الجراج لإعلان “ثورة السحالي المصرية”.
كانت وزة قد أنفقت طيلة يوم أمس في التشاور مع أصدقائها حول ما يجب عمله واتفق الجميع على خطة قريبة كل القرب من خطة المهندس خيري عبد الرحمن باستثناء عملية الدفن. كان واضحًا أن أهم عنصر في الموضوع هو ضرورة حشد أكبر كمية من السحالي من كل مكان في مصر, وهو الأمر الذي يستدعي الاتصال بكل سحالي مصر من الإسكندرية إلى أسوان ومن رفح إلى السلوم. أثارت بعض السحالي قضية دعوة سحالي السودان إلى المشاركة في الثورة حيث إن سحالي السودان لا تختلف عن السحالي المصرية إلا في أنها تحمل الجنسية السودانية. إلا أن الرأي استقر على الاقتصار على السحالي المصرية وعدم إعطاء الفلول الفرصة لاتهام الثوار بتلقي دعم من الخارج.
كان أسبق السحالي إلى العمل سحالي مطار القاهرة ومطار ألماظة الحربي حيث طاروا من هناك إلى كل المطارات المدنية والعسكرية في برج العرب, والعريش, وشرم الشيخ, ومرسى مطروح, والغردقة, والأقصر, وأسوان. امتلأت القطارات, وأسطح سيارات الأجرة المتجهة إلى كل مكان في مصر, بل وكل السيارات التي تسير في كل الطرق في مصر بالسحالي المتجهة إلى كل مكان في مصر. لم تمضِ إلا ساعات حتى كانت كل سحالي مصر قد علمت بقيام ثورة أول أبريل. ثورة السحالي المصرية. وبدأ الزحف إلى القاهرة.
كان المنظر مهيبًا. آلاف, ثم آلاف, ثم ملايين وراء ملايين من السحالي تشغل كل الطرق المتجهة إلى القاهرة. لم تكن هناك وسيلة مواصلات واحدة متجهة إلى القاهرة إلا وقد اعتلت أسطحها السحالي. ماتت عشرات الآلاف من السحالي دهسًا, أو إرهاقًا, أو اختناقًا, إلا أن ذلك لم يوقف الزحف لحظة. كان هناك إحساس لدى السحالي بأن هذه هي آخر مرة تقبل فيها السحالي أن تعيش عيشة العبيد. لا يمكن لأمن الدولة أن يستمر في التصوير, والتسجيل, وكأنهم حيوانات تسجل آلات التصوير كل حركة يقومون بها في أحد معامل دراسة علم نفس الحيوان. قد تكون سحالي مصر حيوانات إلا أنها حيوانات لها كرامة, كما أن مصر ليست معملاً لدراسة علم نفس الحيوان. مصر هي البيت الذي تعيش فيه كل حيوانات مصر.
كان المهندس خيري في ذلك الوقت قد انتهى من حساباته, وحدد كميات الأسمنت التي سيحتاجها في دفن المدينة, وعدد آلات الخلط, وعدد العمال الذين سيحتاجهم العمل. قام كذلك بتقسيم العمل بحيث يكون لكل مجموعة من العمال مهندسًا يقودها, فضلاً عن الشباب الذي سيقوم بتنظيم عملية الإخلاء وإبقاء طريق الخروج مفتوحًا طوال الوقت, إضافة إلى سيارات السحب في حالة تعطل أي سيارة, فضلاً عن مجموعات إسعاف طبي مزودة بكامل احتياجاتها. لم يترك سيادة المهندس خيري أي احتمال إلا وأخذه في الاعتبار. لم ينم سيادته ساعة واحدة منذ أن أبلغه الشيخ حسن بموضوع مدينة إنتاج المعلومات. اتصل سيادته بكل شركات المقاولات التي يعرفها في مصر – أي بكل شركات المقاولات في مصر – من أجل تأمين احتياجاته من المواد الخام, والآلات , والعمال. كما توجه المهندسون في شركاته للقاء العمال في القاهرة والتعرف عليهم قبل بدء العمل.
لم يأتِ يوم أول أبريل إلا وكان كل شيء في موضعه على محور المشير طنطاوي. كان القرار قد تم اتخاذه بأن يكون محور المشير طنطاوي هو مكان التجمع حيث يقع في منطقة قريبة جدًا من المقطم, ويمتد على عدة كيلومترات في منطقة غير معمورة وسط الصحراء. تم الاتفاق كذلك على أن تصطف كل المعدات أمام محطة بنزين “وطنية” هناك وكأنهم في انتظار التعبئة بالسولار. كان الاتفاق أن يتحرك الجميع إلى المقطم في الساعة العاشرة بحيث يبدأ العمل في “المشروع” مع آذان الظهر. لم يكن أحد يعلم, طبعًا, ما هو المشروع الذي اجتمعوا من أجله باستثناء مجموعة آزور.
كانت وزة ووجدي في هذه الأثناء مشغولين بعملية التحضير لاقتحام مدينة إنتاج المعلومات. أثار قرار المهندس خيري بدفن المدينة قلقًا شديدًا لدى وزة ووجدي إذ كان ذلك يعني إمكانية دفن السحالي أنفسها هي ومدينة إنتاج المعلومات. تباحث وجدي مع أصدقائه إضافة إلى بعض القيادات الشبابية من السحالي المعروفين بالاهتمام بالشأن العام ولم يأخذ الأمر أكثر من ساعة حتى استقر الرأي على قيام سحالي القاهرة بقيادة مشروع الدفن وعدم انتظار وصول باقي القيادات من المحافظات الأخرى حيث إن ذلك قد يأخذ وقتا طويلا. كان هناك إدراك بضرورة وضع خطة الدفن وتوزيع العمل على سحالي القاهرة بحيث تقوم كل مجموعة بقيادة العمل الخاص بها.
وهكذا تم الاتفاق على أن تقوم سحالي القاهرة بتشكيل فرقة خاصة تتجه مباشرة إلى الغرفة الأم في الطابق الخامس تحت الأرض وشل حركتها. تم الاتفاق أيضًا على قيام سحالي القاهرة بسد مداخل الطبقات العليا من أول لحظة وتوجيه السحالي إلى الطبقات السفلية بحيث تتم السيطرة على الطابق الخامس أولاً يلي ذلك الرابع, ثم الثالث, ثم الثاني, وأخيرًا الطابق الأول على أن يتم الانسحاب بنفس الترتيب. أي على أن يبدأ الانسحاب من الطابق الخامس أولاً يلي ذلك الرابع, ثم الثالث, وهكذا. طلب وجدي من وزة أن تؤكد على الشيخ حسن عدم العمل في بدأ الدفن إلا بعد تلقي الضوء الأخضر من وجدي شخصيا طابقًا, طابقا. وأخيرًا, تم الاتفاق على شرح الخطة بمجرد وصول السحالي إلى القاهرة بحيث تكون لديهم فكرة واضحة عما هو مطلوب منهم.
صباح يوم الأول من أبريل ارتصت على امتداد محور المشير طنطاوي عشرات سيارات الخلط ومئات المهندسين والعمال على حين أحاطت بهضبة المقطم عشرات الملايين من السحالي, وفي تمام العاشرة بدأ الجميع في صعود الهضبة. كان منظرًا لم تشهد القاهرة مثيلاً له منذ يوم أن بناها المعز لدين الله الفاطمي إلى يوم الله ذاك. ملايين وراء ملايين من السحالي تسير بكل عزم وقوة بدون أن يصدر عنها صوت واحد وكأنها قررت ألا مكان الآن للكلام. ومئات من خلاطات الأسمنت, والشاحنات, والسيارات التي ترفع يافطات التأييد لمبايعة السحالي. كان المشهد غريبًا إلى أقصى حد كما كان مؤثرًا إلى أقصى حد. كانت الرسالة واضحة تماما: كل حيوانات مصر تؤيد الجماعة. وبدأت ملايين السحالي, عشرات ملايين السحالي للحق, في الإحاطة بمقر الجماعة. وارتفع آذان الظهر في سماء القاهرة وانقضت السحالي على مدينة إنتاج المعلومات.
كان هجومًا خاطفًا. لم يأخذ الأمر أكثر من دقيقة من ساعة انطلاق الأذان إلى ساعة السيطرة على الغرفة الأم. قاد وجدي الهجوم على رأس مجموعة من سحالي وسط البلد التي يعرفها معرفة شخصية ويثق في قدرتها على أداء المهمة المنوط بهم أداؤها. اقتحمت هذه المجموعة مبنى مدينة إنتاج المعلومات واتجهت مباشرة إلى الغرفة الأم. كان وجدي أول من سقط على أجهزة التحكم وسقط فوقه مئات السحالي الذين غطوا الأجهزة تماما بحيث يستحيل الوصول إلى مفاتيحها. أصيب رجال أمن الدولة بالشلل التام لثوان ثم انطلقوا خارجين من الغرفة ليفاجأوا بفيضان من السحالي يتدفق لاحتلال المبني. حرصت سحالي القاهرة – كما هو متفق عليه – على إبقاء ممر آمن وسط الطريق يمكن لرجال أمن الدولة أن ينسحبوا منه – وهو ما حدث. تماما كما توقع المهندس خيري لم يبدِ رجال أمن الدولة أي محاولة, أو حتى رغبة, في المقاومة وانشغل كل منهم بإنقاذ رقبته والجري في الممر الآمن خارجًا من المدينة بدون حتى أن ينظر خلفه.
ما أن تم التأكد من إخلاء رجال أمن الدولة من الطابق الخامس حتى صدرت الأوامر بالصعود إلى الطابق الرابع لدعم السحالي التي كانت قد بدأت في احتلاله. مرة أخرى, عملت سحالي القاهرة على أن تتم عملية الانسحاب على جانبي الطريق فقط مع ترك الممر الآمن مفتوحا. كان الهدف هو فتح الطريق أمام العمال والمهندسين الذين سيقومون بعملية الدفن. وما أن تم التأكد من مغادرة آخر سحلية للطابق الخامس حتى أعطى وجدي الضوء الأخضر للشيخ حسن للبدء في عملية الدفن.
لم تأخذ عملية إخلاء المدينة أكثر من نصف ساعة. ما أن شاهد رجال أمن الدولة في الطوابق العليا عملية اندفاع العاملين في الطابق الخامس للخروج من المدينة حتى تركوا ما بأيديهم وانطلقوا هاربين. لم يتوقف رجل واحد منهم للسؤال عما حدث. وقفت وزة بجوار الشيخ حسن للتنسيق بين السحالي وبين رجال الجماعة, على حين انطلق وجدي لإخلاء المدينة من الجرحى والمصابين من السحالي التي أصيبت أثناء عملية الاقتحام يساعده في ذلك مجموعة سحالي الإسعاف. لم يغادر وجدي المدينة حتى تأكد تماما من مغادرة آخر سحلية لها.
خرج وجدي من المدينة وانسابت دموع الفرح على وجنتي وزة. لم تكن مشاعر الفرح فقط هي التي تسيطر على وزة وإنما مشاعر الفخر, والحب, والأمل أيضا. الفخر بما حققته سحالي مصر, والحب لوجدي الذي أثبت لها أنه يحبها أكثر مما يحب الحياة نفسها. والأمل في أن تعيش كل سحالي مصر الحياة التي قامت الثورة المصرية من أجلها. حياة الكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية. الأمل في أن يدرك المصريون الآن وبعد ثورة الأول من أبريل أن الكرامة, والحرية, والعدالة الاجتماعية ليست قيما إنسانية عليا وحسب, وإنما هي قيم حيوانية أساسًا. لا يوجد حيوان في أرض مصر لا يحلم باليوم الذي يعيش فيه حياته بكرامة, وحرية, وعدالة اجتماعية.
وقف وجدي بجوار وزة والشيخ حسن وصياح السحالي يملأ أسماعه. كان الموقف رائعا, ومهيبا. ملايين وراء ملايين من السحالي تهتف باسم الثورة المصرية, والكرامة, والحرية, والعدالة الاجتماعية. العدالة للجميع. لكل الحيوانات التي تعيش على أرض مصر. الأمل أن يكون اليوم قد أتى أخيرًا الذي تستطيع فيه السحالي المصرية أن تسير على تراب وطنها وهي تشعر بالأمن, والكرامة. حان لخمسين مليون عام من الظلم أن تنتهي.
نظرت وزة إلى وجدي, ونظر وجدي إلى وزة. حان وقت الرحيل. المهمة انتهت وحان وقت العودة. كان على وجدي ووزة أن يعودا إلى وسط البلد حيث تركت وزة الأطفال مع صديقتها زوبة على أن يبدآ من الغد البحث عن مكان يعيشان فيه. ذهب جراج مدينة إنتاج المعلومات مع ذهاب مدينة إنتاج المعلومات وعلى وزة أن تبدأ من جديد. نظرت وزة إلى الشيخ حسن وحيته تحية الوداع. رد الشيخ حسن التحية وأخبر وزة بأن الشعب المصري كله مدين لها لما قامت به وأنه على ثقة من أن “ثورة الأول من أبريل” ستمثل نقطة تحول في العلاقة بين كل مخلوقات الله في مصر, وبداية إدراك الجميع أن الكرامة, والحرية, والعدالة الاجتماعية ليست قيما إنسانية عليا وحسب, كما كنا نتصور, وإنما هي أولاً, وأساسًا, قيم حيوانية. أضاف الشيخ حسن أنه إذا كانت ثورة الخامس والعشرين من يناير قد عبرت عن آمال كل خلق الله في مصر وحسب, فإن ثورة الأول من أبريل قد عبرت عن آمال كل مخلوقات الله وليس كل خلق الله وحسب. أكد الشيخ حسن لوزة أنه هو شخصيا سيعمل إلى آخر يوم في حياته على أن يشعر كل حيوان في مصر, وليس السحالي فقط, بأنه يعيش في دولة الكرامة, والحرية, والعدالة الاجتماعية. دولة لا يمتاز فيها أي حيوان على أي حيوان آخر. دولة يحترم فيها كل حيوان كل حيوان آخر. دولة يدرك كل حيوان فيها أن “الاختلاف” بين مخلوقات الله هو سنة الله في خلقه. دولة لا فرق فيها بين السحالي والبشر, أو الحمام واليمام. دولة كل مخلوقات الله.
نظر الشيخ حسن إلى وزة وابتسم ابتسامته المعهودة الهادئة. كان يعلم أن على وزة أن تتحرك صوب وسط البلد من أجل أطفالها. كان يعلم أيضًا أنه تكلم بما يكفي لإيصال الرسالة وبيان عرفانه بالجميل. حقيقة الأمر, لم يتحدث الشيخ حسن طيلة حياته كلها قدر ما تحدث اليوم. كان الشيخ حسن يعلم كذلك أن أزمة المرور في القاهرة قد أخذت حدًا إلى درجة أن الانتقال الآن من المقطم إلى وسط البلد أصبح يأخذ ساعات على الرغم من أن المسافة لا تزيد عن عدة كيلومترات. شكرت وزة الشيخ حسن على مساعدته لها, واهتمامه بأمرها, وأكدت له أن سحالي مصر كلها سوف تعلم بما أخبره بها عن أن الكرامة, والحرية, والعدالة الاجتماعية هي قيم حيوانية. قفزت وزة ووجدي خارج السيارة واختفيا وسط ملايين السحالي التي كانت قد بدأت في العودة إلى بيوتها.
انتهى الحاج محمود من رواية قصة وزة ووجدي ليجد سكونا مطلقًا وعيونا محدقة. عيون لا تتساءل, ولا تتعجب, وإنما تنظر. طافت عيون الحاج محمود في المندرة إلا أن عينا لم تتحرك. كان القوم وكأنما ألقيت عليهم تعويذة أحالتهم إلى أحجار. وفجأة أدرك الحضور أن الحاج محمود لم يتوقف عن رواية حكاية وزة ووجدي ليلتقط أنفاسه وإنما لأن الحكاية انتهت, وانفجر الهتاف في المندرة. الله أكبر ولله الحمد. الله أكبر, الله أكبر. كان القوم مأخوذين من روعة, وبلاغة, وجمال, ما أخبرهم به الحاج محمود. لم يسبق لكفر نفرة أن سمع فيها أحد مثل هذا الكلام. هذا كلام ليس مثله كلام. كلام عن الحرية, والعدالة الاجتماعية,والكرامة الحيوانية. هذا كلام يتخطى مطالب ثورة الخامس والعشرين من يناير نفسها. هذا كلام يؤمن به كل إنسان في كفر نفرة. المنوفية هي أرض المعجزات. هنا ولد مفجر الثورة المصرية الشيخ حسن العكابري, وهنا ولدت السحلية العجوز, وهنا ولدت فكرة الثورة نفسها. ثورة المنوفية على نفسها. ثورة الشيخ حسن على حسني مبارك. كان موعد الرحيل إلى القاهرة من أجل استئناف الكفاح قد اقترب ولم يعد هناك كثير وقت من أجل التعرف على الظروف التاريخية التي أحاطت بميلاد الثورة المصرية إلا أن الشباب كانوا مصممين على عدم مغادرة المندرة قبل الاطلاع على أكبر قدر ممكن من القصة الحقيقية للثورة المصرية.
نظر الحاج محمود مرة أخرى في وجوه الحاضرين أمامه, متنقلاً بهدوء من وجه إلى وجه. كان الهدوء, والاطمئنان, والثقة بالنفس, واضحين تمام الوضوح على وجوه أكابر الناحية. وكذلك الاهتمام والابتسام. كان الفخر, والاعتزاز, والثقة المطلقة في المستقبل, والرغبة في معرفة الوقائع التي دارت الثورة على خلفيتها هي المشاعر التي سيطرت على وجوه الشباب. نظر الحاج محمود إلى الساعة في يده وأدرك أنه لا يتوفر لديه الكثير من الوقت قبل السفر إلى القاهرة. نظر الحاج محمود نظرة اعتذار إلى الأكابر الجالسين أمامه وابتسم قائلا إنه يعلم أنه أثقل اليوم عليهم, بل وربما أصابهم بالملل, إلا أن الشباب لهم الحق بالفعل في معرفة الظروف التي تمر بها البلد. توقف الحاج محمود للحظة عن الكلام ثم تابع حديثه قائلاً إن أكابر الناحية قد تحملوا عبء معرفة القصة الحقيقية للثورة المصرية منذ اللحظات الأولى وحافظوا على السرية المطلقة للمعلومات المتوفرة لديهم وأنه قد حان الآن وقت امتحان الشباب. أكد الحاج محمود على ضرورة ألا يخرج الكلام الذي دار في المندرة عن المندرة. بين الحاج محمود أنه لم يخبرهم بما أخبرهم به الليلة إلا لأنهم أهله وأحبابه الذين يثق فيهم ويعلم تمام العلم أن لا أحد منهم سيكشف أسرار الثورة المصرية ويعرضها ويعرض الحاج محمود والشيخ حسن بل وكل ناحية شاهين للخطر, فأعداء الثورة لن يترددوا في تدمير كفر نفرة بما فيها ومن فيها إذا عرفوا أن الثورة قد انطلقت من هنا وأن العقول المدبرة للثورة تعيش هنا. أوضح الحاج محمود أن لا أحد في ناحية العكابري نفسها يعلم بما أخبرهم به الحاج محمود. بين الحاج محمود مدى الإساءة التي سيشعر بها آل العكابري إذا اكتشفوا أن الشيخ حسن لا يثق بأهله مثلما يثق الحاج محمود بأهله. أكد الحاج محمود على ضرورة ألا يتحدث أحد عما دار في المندرة إلا إذا كان ممن كانوا في المندرة.
كان الحاج محمود يعلم تمام العلم أنه لو وصل الشيخ حسن أمر ما كان يحدث الناس به لانتهت سفرات القاهرة والإسكندرية. نظر الحاج محمود إلى ساعته مرة ثانية, ثم نظر إلى الحضور وابتسم قائلاً لهم إنه حيث لم يتبق كثير من الوقت فسوف يكتفي الليلة بالحديث عن ثائر آخر من ثوار كفر نفرة لا يعرف أهل كفر نفرة أنفسهم كيف ضحى بنفسه من أجل ثورة الخامس والعشرين من يناير. الغراب النوحي.
كمال شاهين
#تطوير_الفقه_الاسلامي
https://www.facebook.com/Islamijurisprudence