يوسف أيها الصديق ح 3
تواصلا مع تفسير سورة يوسف :
يوسف أيها الصديق ح 3
كان يعقوب يعرف بأن عمه إسماعيل قد تولى إمامة الكعبة بعد جده إبراهيم وبأنه بدأ ببناء أسرة كبيرة سوف تتمتع باحتضان خاتم النبيين فيما بعد. وأحتمل بأن كل الأسرة كانت على علم بذلك.
فكان يعقوب ينتظر نبيا من بين أبنائه ليخلفه. وقد جاء هذا اليوم فعين الله تعالى ذلك النبي المرتقب في هذه الأسرة دون أسرة إسماعيل العم.
وجدير بالذكر بأن الارتباط بين الأسرتين الصغيرتين المنحدرتين من أب واحد وهما أسرة إسماعيل وأسرة إسحاق، لم ينقطع. ولذلك تعلم يعقوب من منام جده إبراهيم بأن الله تعالى لا يأمر وينهى في المنام.
إنه سبحانه يخبر عن الماضي والمستقبل ويشجع على الخير أحيانا في المنام. لكن الإنسان هو الذي يستفيد من المنام فيأمر وينهى نفسه أو غيره.
هذا ما فعله يعقوب في تفسير رؤيا يوسف وهذا ما فعله يوسف في تفسير رؤيا الملك.
شعر يوسف بأن الله تعالى يريد أن يعلم البشرية التخزين والادخار استعدادا لاحتمالات القحط، ففسر المنام بمصيبة ما قد تحل بمصر واستعمل عقله لبناء المخازن الكبيرة (السايلوهات) بعد أن قيض الله تعالى له ان يكون مسؤولا عن مخازن أرض الكنانة.
فليس في تفسير يعقوب أي أمر مولوي من الله تعالى كما في تفسير إبراهيم الذي ظن بأن الله تعالى يأمره بأن يقتل ابنه بل فسر يعقوب منام ابنه باحتمالات قوية عامة ليس بها أية مخاطرة.
عرف يعقوب بأن يوسف سوف يفسر الأحلام لما رآه من قدرة واضحة لابنه على بيان منامه لأبيه بمنطق حضاري واضح. وأراد أن يوضح ليوسف بأن الله تعالى سوف يصطفيه ويختاره من بين إخوته واحتمل بأن يصبح بارعا في تأويل الرؤيا.
وتفسير الرؤيا هو جزء من تأويل الأحاديث كما سنعرف فيما بعد. إن براعة لأنبياء تتضح من ظهور علامات النبوة في حياتهم.
فنبينا (محمد) كان بارعا في فن التعامل مع المجتمع وجذب الناس إليه وهو أمر ضروري لمثل رسالته الكبرى.
وإبراهيم كان بارعا في المواجهة مع الشرك وكانت رسالته في قطع آمال المشركين بكل قوة والوقوف أمامهم بالمنطق القوي المرافق لجرأته وشجاعته.
وكانت براعة موسى في التحدث إلى الملوك و كان على علم بضرورة تجميع ما يمكن من القوة العلمية لقطع حجة الملوك.
وكانت براعة المسيح وسليمان وداود في تحسين حياة الناس زراعيا وصناعيا وعلميا.
كما أن نوح كان أستاذا في المواجهة مع الإعلام وفي كشف القناع عن أسرار الخلق.
هؤلاء الصفوة الخيرة يؤمنون بالله تعالى إيمانا قويا ويعرفون بأنه سبحانه وراء كل الأحداث فبيده ملكوت كل شيء.
ولذلك أظن بأن التقديرات الالهية في اراءة يوسف هذه الرؤيا الغريبة قد تدل في منطقهم بأن هناك علاجا سماويا طويل الامد لإعداد يوسف للنبوة على أسرته الكبيرة نسبيا وعلى إخوان يوسف الكبار.
والأخ الأكبر يرى – باعتبار كبر سنّه – نفسه أقرب إلى أب الأسرة من غيره ويحترمه الإخوان الصغار عادة.
والأخ الأكبر هو الذي يرث التاج وهو الذي يقوم برعاية إخوانه الصغار إن احتاجوا. والنظر إلى الأخ الأكبر كأب هو شائع بين بعض الناس حتى اليوم.
ولذلك لم يكن اصطفاء يوسف للنبوة والرسالة أمرا سهل القبول بالنسبة لإخوانه الذين يكبرونه سنا.
والحقيقة أن البشرية كانت قبل تكاملها محتاجة إلى مثل هذا النوع من التفكير حتى لا تنجرف مع التيارات المعادية للإنسان.
حالُ البشر قبل التكامل العقلي هو حال الأطفال الأذكياء. فهم مع فهمهم للكثير من المسائل عن طريق الذكاء فانهم يبقون أطفالا محتاجين للرعاية والعناية الخاصة من الأبوين والأقربين.
لا شك إذن بأن يعقوب فكّر بأن قضية انتخاب يوسف واصطفائه على إخوانه الكبار ليس أمرا هينا. فهو يعرف بأن الله تعالى لا يعطي شيئا مفيدا لأحد دون سعي وإلا لن يكن مستعدا نفسيا لتقلد القوة والسلطة.
وهل هناك أهم من النبوة في منطق السماء بالنسبة للبشر الذين عاشوا قبل بلوغ مرحلة النضج العقلي الكامل ؟
وبما أن يعقوب رأى قدرة يوسف على إبراز مقولة الرؤيا بعد أن تأكد من اصطفائه نبيا فإنه فسر الرؤيا لابنه هكذا:
وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴿6﴾
ربما قال يعقوب ليوسف: إن في امتناعك عن ذكر الرؤيا لإخوانك وسعيك لعدم إثارتهم طريقا واضحا لتسنم العلياء بالنسبة لك.
اعلم بأن الله تعالى عليم حكيم فلا يمكن أن يجتبيك للنبوة قبل أن تنال حظك من العلم والحكمة.
إنك أكثر من نبي لأنك سوف تنتقل إلى أمة كبيرة فلا بد أن تكون رسولا أيضا. إن في نقل الرسالة إلى الأمم الأخرى حاجة واضحة إلى تأويل الأحاديث. يجب أن تعرف فحوى ما تسمعه من غيرك فيجب أن تتعلم تفسير حديثهم بدقة متناهية حتى لا تخسر قلوبهم. ولعل تأويل الأحلام هو طريقك لفهم الناس وإدراك مقولاتهم.
يمكننا أن نلجأ إلى الظن بأن يعقوب أراد أن يبلغ ابنه يوسف بأن طريق العلياء غير مفروش بالزهور والورود.
وحتى يهيئه لقبول كل المنغصات والمتاعب الأولية بدأ بذكر الاجتباء من الله تعالى.
إن الله عادل لا يمكن أن يجتبي أحداً لأجل أسرته ولا لأجل حاجة أهله إليه. إن عليه أن يستعد للاصطفاء الخاص. ويكون الاصطفاء أحيانا لحمل الرسالة تلميذا عاملا فقط كاصطفائه سبحانه لبني إسرائيل وأحيانا لحملها معلما كاصطفائه للأنبياء والرسل .(3)
( هامش 3 : أرجو أن ينتبه القارئ الكريم إلى أن الاجتباء والاصطفاء تضمان معنى الاختيار باعتبار أنهما من باب الافتعال ولكنهما مختلفان من حيثية أخرى.
فالأول مأخوذ من جبى يجبي بمعنى جمع الماء في الحوض والثاني مصاغ من صفا يصفو بمعنى خلص. ولذلك يُستعمل الأول عادة في اختيار الشيء أو الشخص لحمل مهمة كالعلم أو الرسالة كاجتباء الرسل ليحملوا علم الكتاب فهو اصطفاء خاص.
ويُستعمل الثاني عادة لبيان اختيار الشيء أو الشخص لتنفيذ مهمة عملية كاصطفاء بني إسرائيل للعمل بالتوراة وكاصطفاء مريم لتحمل طفلا من جيناتها الشخصية بلا أب من الخارج.
والمعلمون يجنون ثمارا جنيّة من الرزق العلمي الكبير فعليهم ألا ينتظروا المزيد من الراحة بل المزيد من العمل الشاق.
ما نفهمة مما سرده لنا القرآن الكريم من تجارب الانبياء هو أن الله تعالى يجتبي الفرد أولا ليتعلم فإذا نجح في اختباره فإنه يجتبيه ثانية لحمل الرسالة.
ولا ندري فلعل الله تعالى يجتبي أكثر من فرد للتعلم ثم يختار من بينهم الأوفى والأكمل ولكنه لم يذكر لنا شيئا عن غير الذين نجحوا في الاختبار.
هناك رسل جرت الإرادة الالهية بإرسالهم بالفعل ولكن لا يمكننا أن نستفيد من قصصهم فلم يذكر الله لنا عنهم شيئا.
وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164 النساء).
فكيف بالمرشحين للرسالة؟ إذن صدق يعقوب، فالله اجتبى يوسف للتعلم ثم يجتبيه للرسالة.
مما لا شك فيه بأن يوسف الصغير فكر كثيرا في كلام أبيه النبي الموهوب. إنه انتبه قطعا بأن طريق المجد بالنسبة له يمر من جادتي العلم والحكمة. لقد ختم يعقوب كلامه بأن ربه الذي يجتبيه هو ربه العليم الحكيم. (وكذلك يجتبيك ربك، إن ربك عليم حكيم). نهاية الهامش 3.)
عرف يوسف من كلام أبيه بأنه مصون بإذن الله تعالى من الموت ولكن الطريق قد تكون شاقة جدا وبأن الذين يوصلونه إلى الهدف الأسمى هم إخوانه.
سيكون لإخوانه يد في نبوته ورسالته وسيكون مصيره خارج بيته وبعيدا عن والديه وحنانهما وعطفهما.
عرف بأنه سوف يُحرم من أخيه الصغير أيضا، إذ لا معنى لمشاركته معه في سفره الخطير إلى رسالة السماء. عرف يوسف بأنه مسؤول عن إتمام نعمة الله تعالى على كل بني يعقوب.
قال له أبوه بأن الله سوف يتم نعمته عليه وعلى آل يعقوب لكنه هو المجتبى وليس آل يعقوب الذين سيكونون المستفيدين من رسالة أخيهم. مثالهم مثال بني إسرائيل مع موسى فهم المختارون لحمل التوراة في أعمالهم وحياتهم وموسى مسؤول في نقل التوراة إليهم وتعليمهم وتهذيب نفوسهم بما يتأتى له.
يتبع …
أحمد المُهري
تابع مركز #تطوير_الفقه_الاسلامي
ان كان لديكم الرغبة في الانضمام لمجموعة النقاش في المركز برجاء ارسال بريد الى :