الميراث في القرآن
الميراث في القرآن
استفسر مني أخي الدكتور محمد التويج ومن بعده أخي الدكتور أحمد مبارك بشير عن رأيي في أحكام الميراث الواردة في القرآن الكريم ووعدت بالكتابة. وقد ساعدني أخي البشير بأن أرسل إلي بالبريد الإلكتروني كتاب فقه المرأة للأستاذ الفاضل الدكتور محمد شحرور حفظه الله تعالى لأقرأ قسم المواريث في الكتاب. قرأت مواريث أخينا الشحرور وأعجبت به فهو إنسان رائع في كل ما يكتب مع أني لست موافقا معه في كل ما يكتب. فهناك بعض الاختلاف معه. وهناك مشكلة كبيرة في كتب الأخ الشحرور وهي أنك يجب أن تقرأ كل الكتاب لتعرف ما يريد قوله ولم ينشر فضيلته الكتب بقدر بحثي بصيغة وورد ليسهل علينا البحث فيه إلكترونيا. هذا هو السبب في أنني قليلا ما أقرأ كتب فضيلته مع أني أحترمه كثيرا وأعتبره سابقا علي في رفض الفهم السلفي ووجوب التفكير الشخصي لكل شخص من واقع القرآن الصحيح وليس من الموروث الروائي المشكوك في أصله. كما أنه سابق علي في الميلاد أيضا.
وخلال عملية البحث لاحظت بأن إخواننا الكرماء في موقع أهل القرآن الذين نشاركهم الاعتقاد بالاكتفاء بالقرآن الكريم وترك ما أشهره حكومات المسلمين بالسنة النبوية؛ فالإخوة كتبوا حول المواريث أيضا. ما قرأته في موقعهم كان من تأليفات الأستاذ الفاضل المستشار العميد المهندس علي عبد الجواد، جزاه الله تعالى خيرا. بالطبع أن المستشار كتب ما كتب حوالي 9 سنوات بعد تاريخ تدوين الأخ شحرور ولم يشر إلى فقه شحرور. هذا يعني بأنهما عملا دراستين حول موضوع المواريث وبالصدفة كان هناك بعض التوافق بينهما. ويعني أيضا بأن التوجه العام للمتحررين من السلفية الممقوتة يأخذ الاتجاه الصحيح نحو فهم أكثر تطورا لكتاب الله تعالى من فهم السلف وأكثر توافقا مع التطور البشري. ولقد وضعت هذا البحث لمناقشة بعض ما أختلف مع أخينا المهندس شحرور أكثر مما كتبه المستشار عبد الجواد.
وانتبهت أيضا بأن بعض الإخوة الذين ناقشوا المستشار قد نقلوا بعض آراء الدكتور شحرور دون ذكر المصدر. لقد كرروا نفس تعابير الأخ الشحرور وإني بالمناسبة أقدم لهم نصحي المتواضع بذكر المصدر دائما حتى يضمنوا عدم التعرض للمساءلة في الآخرة. قال تعالى في سورة آل عمران: لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188).
فهم المواضيع القرآنية
أشعر بأن من أكبر مشاكلنا العلمية مع القرآن الكريم هو أن الكثيرين يظنون بأنهم قادرون على فهم “المواضيع القرآنية” بالدقة المطلوبة بل هناك من دعا ويدعو لذلك. لكنني أخاف من ذلك وأتحاشاه لأنني أعتقد بأن فهم المواضيع القرآنية غير متاح إلا لمن يفهم القرآن كله. لعل القراء الكرام منتبهون بأن المواضيع القرآنية ليست مبوبة تبويبا موضوعيا بل نحتاج إلى أن نبحث في مجموعة من الآيات الكريمة لنجمعها من بين السور والآيات. كما أن الألفاظ القرآنية ليست متشابهة تماما لنبحث عن موضوع نريده بالبحث عن جذر الموضوع. ذلك لأن تبويب القرآن ليس على أساس المواضيع ولا على أساس الأحكام والتشريعات بل على أساس أهداف القرآن الكريم عامة وأهداف كل سورة على حدة. والقرآن كما يبدو منزل لبيان حقيقة الألوهية بما يتناسب مع فهم البشر ليطمئن الناس بوجود الله تعالى وعلمه وحكمته وعدله وممارسته الفعلية لإدارة كل جزيئات الوجود. فالقرآن يبحث عن الله وعن اللقاء مع الله والمواضيع الفرعية مبوبة على أساس التطور البشري في فهم ذين الموضوعين.
الفهم المختلف للأخ الشحرور
ولعل عدم الانتباه للمقاصد الأساسية للقرآن حدا بأخينا الكريم فضيلة الأستاذ الشحرور لينظر إلى الآية التالية من سورة النساء نظرة غريبة والآية هي: يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيما حَكِيمًا (11).
إن فضيلته يفسر قوله تعالى في بداية الآيات التفصيلية للإرث: للذكر مثل حظ الأنثيين؛ بأن عدالة حكم الميراث هو أن الذكور في كل الأرض يتساوون في المواريث مع الإناث في كل الأرض أو في بلد واحد أو في أسرة واحدة. هكذا يفسر فضيلته عدالة الله تعالى في تقسيم المواريث. ولم يوضح فضيلته كيفية الوصول إلى تلك النتيجة الغريبة من واقع القرآن الكريم، حيث لم يصرح القرآن بأن العدالة في الميراث قد روعيت على أساس عموم الذكور في الأرض أو في رقعة جغرافية واحدة. وما قيمة هذه العدالة في ميزان الحقوق العامة؟ وكيف يمكننا إثبات هذه العدالة استقرائيا؟ فلا أرى أي دليل على صحة الكلام ولا أرى أية منفعة من ورائه كما لا أرى عدالة في ذلك الاستنتاج البعيد عن المنطق. لكنني أدعو الله لأخينا الشحرور بالمزيد من التوفيق في المزيد من التحري على أساس الواقعيات القرآنية وليس بالخلط بين الاستحسانات الشخصية وبين مفاهيم السماء.
وسوف أذكر قضية حقيقية ليتجلى عدم عدالة النظرية عمليا. كان لي صديق في بغداد نناديه بأبي مهدي وننادي زوجته بأم مهدي وقد توفى أبو مهدي بعد أم مهدي بسنة (رحمهما الله تعالى) وخلفا 21 ابنا و5 بنات. فيكون سهم الذكور من التركة بموجب فقه الأخ الشحرور: ثلث التركة مقسوما على 21 = 1.6 من التركة سهم كل ذكر. وأما سهم الإناث فبما أنهم أكثر من اثنتين فسيكون سهم كل واحدة عبارة عن نتيجة تقسيم ثلثي التركة على 5 فتكون النتيجة 13.3 تقريبا سهم كل واحدة من أصل الميراث. هذا يعني بأن كل ابنة تأخذ ثمانية أضعاف كل ابن. فأين العدالة؟ وللعلم فإن أبا مهدي وأم مهدي كما كان معروفا، تزوجا مرة واحدة مع بعضهما وماتا ولم يكن لأي منهما زوج آخر.
استنتاجي أعلاه باعتبار أن سهم ما فوق الاثنتين من الأولاد موضح في القرآن بأنه الثلثان فلا يمكن أن نقوم بأي تأويل في ذلك. فإذا رفضنا القانون المعروف بأن الذكر يأخذ دائما ضعف سهم الأنثى فإن كل بنت من بنات أبي مهدي سوف تأخذ أكثر من ثمانية أضعاف كل ابن من أبنائه!! هل العقل يقبل ذلك وهل هو أكثر عدالة من الاعتقاد بأن سهم الذكر هو ضعف سهم الأنثى؟ وهل تشريع الميراث الذي أمر الله تعالى بالعمل به قبل خمسة عشر قرنا كان يعوزه فهم المجموعات الرياضية التي لم يعرفها أهل مكة ولا العرب ولا المسلمون إلا بعد قرون طويلة من وفاة الرسول؟
وهناك بعض المفسرين من قبل فضيلة الأخ الشحرور ذكروا بأن الأصل هو التعرف على سهم الأنثى ومنهم المرحوم الطباطبائي في تفسيره المعروف بالميزان. لكنهم لم يقولوا بأن سهم الأنثى متقلب ومتحول ولم يقولوا بأن الذكر يأخذ ضعف الأنثى في حالة واحدة فقط، كما تفضل الأخ الشحرور. فالخلاف بينه وبينهم هو أن فضيلته افترض ذكرا واحدا مع كل الحالات المذكورة في آية الميراث دون أي بيان يُعرفنا على كيفية فهمه لذلك المعنى الشاذ. فلم يقل ربنا بعد الجملة الأولى: فإن كانوا ذكرا وإناثا فوق اثنتين؛ بل قال فإن كن نساء فوق اثنتين. وليسمح لي فضيلته بأن أسأله عن الجملة الشرطية التي ذكر فيها ربنا النساء. ما هي ضرورة إضافة كلمة النساء؟ ألم يكن كافيا بأن يقول ربنا فإن كن فوق اثنتين؟ ما الذي تغيره لفظة النساء في الآية الكريمة؟
وما نفهمه من ظاهر الآيات الكريمة هو أن:
أساس تقسيم ميراث الأولاد: يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ.
فلو لم يخلف الميت ذكورا وخلف إناثا فقط: فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ. ولذلك أضاف لفظة النساء للجملة لنعلم بأن المقصود هو انحصار الأولاد في النساء دون الذكور.
نفس حالة وجود إناث دون ذكور: وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ.
وأساس تقسيم ميراث الأبوين: وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ. فلا فرق بين سهم الأب الذكر وسهم الأم الأنثى.
وأساس تقسيم ميراث الزوج والزوجة: وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم. فالزوجة ترث نصف الزوج في كل الحالات. بل الأزواج لو كن أكثر من واحدة فهن معا ترثن الربع أو الثمن إن كان للزوج أولاد.
وأساس تقسيم ميراث الكلالة (الأخ والأخت فقط) بالنسبة للمتزوجين والمتزوجات: وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَو امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ فَإِن كَانُوَاْ أَكْثَرَ مِن ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاء فِي الثُّلُثِ. ميراثهم التساوي بين الإخوان والأخوات وهو الثلث مما بقي من التركة لو لم يزيدوا عن اثنين؛ والثلثان لو زادوا عن اثنين.
وأساس تقسيم ميراث الكلالة (الأخ والأخت فقط) بالنسبة للذين يعيشون في بيت ويفاجئ الموت معيلهم أو شخصا ذا مال بينهم وهم إخوة وأخوات: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَآ إِن لَّمْ يَكُن لَّهَا وَلَدٌ فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِن كَانُواْ إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَاء فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ. لذلك يمكننا أن نستنتج بأن فضيلته لم يصب كثيرا في بحثه الشيق البديع كما أخطأ المفسرون من قبله.
وأساس تقسيم كل الميراث هو تعويض المرء لمن له حق عليه أو لمن له فيه فائدة: آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيما حَكِيمًا. قالها تعالى في الآية 11 من سورة النساء؛ حيث تنطوي على ميراث الأبوين ونلاحظ بأنهما متساويان. بمعنى عدم وجود حظ للذكر أكثر من الأنثى بالنسبة لهما. فالسر في ذلك كما يبدو لي هو أن لكل من الأب والأم دور مختلف لا يمكن للولد أن يعين أهميته له إذ كان صغيرا بين يديهما كما كان مضغة في رحم أمه والأب ينفق عليهما. فدور الأبوين متشابه على أن واجبات الأب المالية أكثر من واجبات الأم. ولكن الله تعالى بالنسبة لهما لم يلاحظ المسؤوليات المالية للأب باعتبار أن الولد المورث عادة ما يعني بأن الأبوين لا ينتجان فلا فرق بين مسؤولية والد المتوفى أو والدته ولذلك أعطى الله تعالى لهما حظا مماثلا. والعلم عند سيدنا المتعالي عز اسمه.
استدراكات بسيطة
وهناك أخطاء مبدئية أخرى لدى فضيلة الأستاذ الشحرور ولكنني لا أروم الرد عليه بل التذكير فقط. فمن المبادئ غير السليمة تصنيفه التقسيم إلى وصية خاصة من الوارث مقابل قانون ميراث عام من الله تعالى. بالطبع أنني أوافقه على أن الوصية الخاصة غير مقيدة ومقدِّمة على قانون الميراث ويمكن أن تكون شاملة وإذا حضر المورث الموت وجب عليه الوصية. ولا أظن بأن هذا الوجوب كوجوب الصلاة والصيام طبعا. لكن فضيلته استند إلى أمر غير سليم لتثبيت رأيه الصائب. إنه قال بأن الوصية مذكورة في عشر آيات والميراث في ثلاث آيات فاعتبر الذكر المتعدد دليلا على الاهتمام الأكبر. والمشهود أن حكم الميراث في القرآن يُعتبر وصية أيضا. وهو وصية من الله تعالى كما نقرأ من فاتحة الآية (يوصيكم الله) فهو من هذه الناحية أهم من وصية الإنسان.
وقد لاحظت بأن فضيلته وكذلك الكثير من الساعين لفهم القرآن يستندون إلى الأعداد وإلى مرات ذكر الموضوع وإلى عدد الآيات في شأن ما. أظن بأننا يجب أن نترك هذه الاستدلالات التي لا أساس لها في القرآن الكريم لإثبات تشريعات القرآن. فلم يقل لنا ربنا بأن عدد الآيات أو عدد مرات ذكر الشيء أو التكرار وما على غرارها تشير إلى أهمية الشيء.
ولنسأل فضيلة الأخ الشحرور عن السبب في التباين الكبير بين نسب الذكور والإناث في مختلف الحالات وما الحكمة من ذلك، لعله يقبل بأنه لم يكن مصيبا في فقه الميراث. وقبل أن نوضح الميراث أرى لزاما أن أذكر بعض الإشكالات الأساسية الطفيفة غير المبدئية لدى فضيلة الأخ الشحرور. ونترك بقية الإشكالات أو قسما منها لنهاية البحث بإذن الرحمن.
أساسيات غير دقيقة
-
ذكر فضيلته في الصفحة 224 من كتابه فقه المرأة، الفرق بين الحظ والنصيب فقال ما يعني بأن الحظ هو منفعة مجهولة تصيب الشخص بالمصادفة كمن يقع بيته في الشارع العام دون سبق تمهيد منه فيصيبه نفع فهو الحظ. وأما النصيب فهو مقدار معلوم من الفائدة أو غيرها وهي تصيب الشخص بتحديد معين من المالك. وعلى أساس ذلك اعتبر الوصية التي يوصيها الموصي نصيبا والميراث حسب تعيين الخالق حظا.
ما من شك لدي بأن هناك فروقا جوهرية بين الكلمات المترادفة ولكنها قد تكون بالبساطة التي لا تستحق التفريق بين كلمة وأخرى ولذلك لم يفرق أرباب اللغة بقدر بحثي المتواضع بين النصيب والحظ. ولم يبد فضيلته دليلا استقرائيا من الشعر العربي السابق أو المعاصر للرسالة المجيدة لإثبات ما يدعيه. ولذلك عدت إلى القرآن لأرى استعمالات الكتاب الكريم للكلمتين فوجدت بأن الأخ الشحرور لم يكن مصيبا فعلا. قال تعالى في سورة آل عمران: وَلاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ اللّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (176). جَعْلُ الحظ أو عدم جعله يدل على أن الحظ ليس مجهولا بل هو أمر معلوم يصيبه الجعل من قبل أن يتحقق. وقد سمى الله تعالى نفس الشيء تقريبا نصيبا في سورة الشورى حيث قال عز من قائل: مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ (20).
وقال سبحانه في سورة غافر: وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاء لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِّنَ النَّارِ (47). فهل هناك سهم معلوم أو مقدار معين من النار التي يطلبون أن يغنوهم عنها؟ ولذلك فأظن بأن المفسرين واللغويين لم يخطؤوا في هذه الجزئية وإنما أخطأ أخونا الكريم الدكتور شحرور أعزه الله تعالى. وأكرر أن فضيلته ادعى الفرق بين الكلمتين دون تقديم أي دليل.
-
ذكر في الصفحة 234 قراءة ابن عباس لقوله تعالى وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه هكذا: ووصى ربك ألا تعبدوا إلا إياه. حجته في ذلك أن الله لو قضى ألا يُعبد إلا إياه فلا يُمكن ألا يُعبد الله تعالى.
لقد أخطأ ابن عباس لو صح الخبر. هذا القضاء ليس قضاء مبرما بل هو مجرد أمر تشريعي. ألا نقرأ في سورة الإسراء وعد الله تعالى لبني إسرائيل واردا بلفظ القضاء؟ قال سبحانه: وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاء وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولاً (5) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6) إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ ِلأنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيرًا (7). فلو قلنا بأن قضينا عليهم يعني بأن الله تعالى قضا حكما مبرما عليهم فكيف يحكم الله سبحانه على قوم بالفساد الحتمي من قبل أن يفسدوا؟ ثم إنه تعالى يوضح في الآية السابعة بأنهم لو أحسنوا فقد أحسنوا لأنفسهم والنتيجة أن لا قضاء حتمياًّ عليهم. فالقضاء هنا بمعنى منحهم القدرة على الفساد وليس قضاء مبرما ليفسدوا لا محالة؛ والله تعالى منزه من أن يفرض الفساد على أحد.
3.
قال في الصفحة 235 بأن الولد يعني كل إنسان على وجه الأرض لأنه بالأصل مولود واستشهد بالآية 3 من سورة البلد: ووالد وما ولد؛ واعتبرها تكريما لكل البشر.
لا أظن ذلك. فقوله تعالى في سورة البلد يشير إلى الوالد الحيوان الذي أودع في رحم قرينته خلية قابلة لاستقبال النفس الإنسانية وهما والدا آدم وزوجه. ولنقرأ السورة من بدايتها: لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2) وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسَانَ فِي كَبَدٍ (4). فالقسم بمكة التي هي مكان صناعة آدم كما يبدو. في كبد أي في وسط ضيق إشارة إلى منتصف الخلية الصغيرة التي تسمى المريكز وبالإنجليزية (Centriole) وهو مركز التكاثر الخلوي الذي يساعد على تكاثر الخلايا التي تقوم بعملية صناعة الإنسان في ثلاثة أكياس أو أجرام (Ectoderm, Mesoderm & Endoderm) يعبر عنها القرآن بالظلمات الثلاث، والعلم عند المولى عز اسمه.
والواقع أنه تعالى أراد بيان الورثة من الأولاد وهم يشملون الذكور والإناث كما وضحه الأخ الشحرور نفسه وهو مقولة أرباب اللغة أيضا. فالولد هو نسبي ولا يشمل كل أهل الأرض. وقد وضح تعالى بأنه يوصينا في أولادنا فهو سبحانه أضاف الأولاد إلى الناس فلا يقصد به كل الناس بل الأولاد فقط. والأولاد هم الأبناء والبنات. فأظن بأن فضيلته تحدث عن مسائل مهمة وصحيحة مثل رفضه لادعاءات المفسرين بالنسخ أو أسباب النزول وكذلك تصحيحاتهم للآيات الكريمة التي هي واضحة ولا تحتاج إلى التقديم والتأخير كما ظنوا. لكن فضيلة الأخ الكريم ذهب بعيدا في بيانه لتقسيمات الميراث. كان ذلك بسبب خطأٍ أو أخطاء بسيطة في بداية شرحه. ولنلق نظرة على الآيات ونسعى لفهمها معا.
نظرة على آيات الميراث:
قال تعالى في سورة النساء: لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا (7) وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُواْ الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا (8) وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيدًا (9) إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10) يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيما حَكِيمًا (11) وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم مِّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَو امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ فَإِن كَانُوَاْ أَكْثَرَ مِن ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاء فِي الثُّلُثِ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَآ أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍّ وَصِيَّةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12) تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13).
وقال سبحانه في نهاية سورة النساء: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَآ إِن لَّمْ يَكُن لَّهَا وَلَدٌ فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِن كَانُواْ إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَاء فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176).
وقال تعالى في سورة البقرة: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ(180) فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181) فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (182).
أظن بأن تلك كل آيات الميراث التي نسعى أن نستند إليها لنفهم المقصود من التقسيمات وكيفيتها ولعل بعض أسبابها. ولنضع لفهمها قواعد مستقاة من نفس الآيات:
-
هناك فرق بين نصيب الرجال ونصيب النساء في الميراث. بمعنى أن الله تعالى لم يراع التعويض للوالدين والأقربين فقط بل راعى مسائل أخرى حين وضع قانون الميراث. قد تتعلق تلك المسائل بمسؤوليات أفراد الورثة أو/وبالنسبة الباقية من عمرهم في الحياة الدنيا، أو/وبحاجتهم للمال المجاني الذي يأتيهم من دون جهد بذلوه بتقدير رب العالمين.
-
هذا النصيب فرض إلهي لا يجوز مخالفته إلا في حدود ما أذن الله تعالى به. ولا فرق بين أن تكون التركة قليلة أو كثيرة فالنسب يجب رعايتها في الحالات العامة.
-
هناك أمر من الله تعالى للوارثين بألا ينسوا تخصيص مبالغ لذوي القربى واليتامى والمساكين الحاضرين في بلد حصول تقسيم الميراث. لم يقل ربنا في بلد أو مكان وفاة المتوفى لأن بعض المتوفين يملكون أموالا في مختلف بقاع الأرض. فحق القرابة واليتم والمسكنة يتعلق بمكان وجود المال. أظن بأن من حق الدولة أن تفرض قانونا لأولئك ويحدد أنصابا لها أو تفرض على القائمين بالتقسيم أن يحضروا مجلس القضاء ليتم تخصيص حقوق غير الأقارب من الدرجة الأولى قضائيا.
-
الذرية الضعاف كما أظن تشمل ذوي العاهات ممن انحدر من المتوفى كما تشمل الأحفاد الذين مات عنهم أبوهم أو أمهم قبل وفاة الجد والجدة ففي مثل تلك الحالات يجب على الجد والجدة من الأب أو من الأم ومن في حكمهم مثل الأعمام والاخوال أن يوصوا للذرية الضعاف بما يتناسب مع حاجتهم ومع إمكانات الموصي. هذه وصية واجبة فإذا لم يقم به المورث نفسه فمن حق الدولة طبعا بل من واجبها أن تسن تشريعا مناسبا للوصية الواجبة برأيي المتواضع.
-
المواريث موضوعة على أساس الإناثكما قال المفسرون أو بعضهم وأيدهم الشحرور.
-
قانون الميراث العام وصية من الله تعالى فهو أهم من وصية المورث نفسه. لكن الله تعالى سمح له بأن يوصي بدون أن يفرض عليه قيد قانون الميراث. ومما لا نشك فيه بأن من الأفضل في الأحوال العادية أن يوصي الشخص بما يتناسب مع التنزيل الحكيم. بمعنى أن الموصي قد يظلم الورثة ولكن الذين بقوا أحياء قد ينفذوا وصية الموصي وهم غير آثمين. ولعل القضاء خير مرجع للفصل بين الورثة لو تمكنوا من إثبات الظلم من الموصي كأن يُحرم كل أولاده من الميراث ويوصي بميراثه لعمل خيري بعده أو يُحرم بعض أولاده على حساب البعض الآخر.
-
التركة تقسم بالكامل بين الأولاد لو كان فيهم الذكور على أساس سهم مضاعف للذكر على سهم الأنثى؛ وأما في حال الإناث وحدهن فإن التركة بالكامل لا تقسم بينهن. والمستثنى هما الأبوان اللذان يرثان سواء كان للمورث أولاد أم لم يكن.
-
سهم الأبوين يُستخرج من أصل التركة قبل التقسيم بين الأولاد. ذلك لأن الله تعالى صرح حين بيان سهم الإناث بلا ذكور أن يكون لهن الثلثان لو كن ثلاث نساء فما فوق وأمر بإعطاء الأبوين لو وجدا الثلث الباقي مناصفة بينهما وصرح بقوله الكريم: ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك. في مثل هذه الحالة فلا مال يبقى لتوزيعه على المذكورين في الآية 8 و9 من سورة النساء.
-
أساس الميراث هو مكافأة الذين كانوا مؤثرين في المال الذي اجتمع لدى الميت قبل أن يموت وهناك وصية إلهية للضعفاء من الأسرة ومن أهل الوطن الذي عاش فيه المورث وأهله. راجع قوله تعالى في سورة النساء: … آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيما حَكِيمًا (11).
-
وبما أن من الصعب فهم أصحاب الحقوق بدقة فالصحيح هو اتباع قانون الميراث السماوي لو لم تكن هناك مسوغات أخرى للتفريق بين الورثة.
-
قانون الميراث بعد مراعاة المكافآت موضوع على أساس الالتزامات الشرعية للورثة وليس على أساس فضل الذكر على الأنثى كما ظن البعض. مثل التزام الرجال بدفع مهور النساء ودفع مصاريفهن العامة بما فيها مستحقاتهن عند الحمل والرضاعة. وهذا أصل إداري معروف لدى البشرية جمعاء بأن المسؤوليات يجب أن تجاري الصلاحيات وبأن على صاحب الحق الأول أن يوفر للمسؤول ما يحتاج إليه من إمكانات. قال تعالى في سورة النساء: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللّهُ وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا (34). القوّام تعني المسؤول عن القوامة أو مصاريف المعيشة فالرجال قوامون بما أنفقوا ولولا الإنفاق فهم ليسوا قوامين كما أن قوامتهم بقدر ما ينفقون لا أكثر.
-
الذين يندر حاجتهم لدفع أجور الزواج وبقية حقوق الزوجية فإن ميراثهم متساو بين الذكور والإناث مثل الأبوين. كما أنهما متساويان تقريبا فيما فعلاه في سبيل إنشاء وتربية المورث.
-
الأولاد يحجبون ميراث الكلالة فلو توفى أحد بلا أولاد وله أخ أو أخت فهما يرثان بالتساوي لو كان المتوفى مخلفا زوجا أو أبوين.
-
لو توفى أحد بلا أولاد وبلا أبوين وبلا زوج فإن أخته لو وجدت ترث نصف التركة ولو كانتا أختين فلهما الثلثان ولكن لو كان له إخوان فهم يحلون محل الأولاد حيث يرثون كامل التركة ولو كانوا إخوة وأخوات معا فيأخذ الذكر ضعف سهم الأنثى.
-
هناك بعض الحالات الشاذة كأن يتوفى أحد عن بنت وأبناء وتكون البنت أو أحد أبنائه أكثر فائدة له من بقية أبنائه. فالتي تقوم برعاية أبيها أو الذي يقوم بمساعدة أبيه المريض المزمن فترة طويلة فإن حقه أو حقها يجب أن يكون أكثر من غيرهما من الورثة. هناك أباح الله تعالى للمورث أن يوصي بما يشاء.
والآن نسعى لشرح مبين للآيات السماوية للميراث على مقاطع مرقمة بإذن الرحمن عز اسمه. قال تعالى في سورة النساء:
1.
يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ: يجب على المسلم أن يعمل بوصية الله تعالى وبمواعظه. لكنه في مورد الميراث أباح لنا أن نوصي بأنفسنا أيضا. هذا يعني بأن هذه الوصية الإلهية واجبة ولكن يجوز للمورث عدم الالتزام الكامل بها لو كنا نعيش حالة شاذة خاصة بنا. مثال ذلك أن تكون إحدى بنات الشخص قائمة بخدمته ومساعدته في مرضه في مقابل عدم اهتمام أبنائه به أو تدير تجارته في تجاهل أبنائه. هناك بالطبع فإن منحها حقا أكبر من إخوانها ليس مخالفا للعدالة بظني القاصر. لكن ذلك متاح للمورث إذا أوصى لها فقط وليس للدولة الحق في تعيين حق أكبر لها. ولم يحدد القرآن نسبة معينة لهذا الإذن كالثلث مثلا. ذلك ما قاله الفقهاء وليس العمل به واجبا قطعا.
والجملة الكريمة تتحدث عن القانون الرئيسي لتوزيع الميراث. ألا وهو وجود أولاد ذكور أو ولد ذكر بين الورثة. هناك يحجب الذكر الكلالة المعترف بها قرآنيا كما يحجب سهما معينا للفقراء من أقارب الميت وغيرهم الموضحين في الآية التالية من سورة النساء: وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُواْ الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا (8). فالقانون الأساسي لميراث الأولاد هو أن يُعطى للذكر ضعف الأنثى بحيث يشمل كامل الميراث بعد إخراج سهم الأبوين والأزواج فقط. فالدولة أو القضاء يعطيان مبالغ من المال لمن أوصى بهم الله تعالى في الآية الثامنة أعلاه من أصل الميراث، ولا سيما لو كان مقدار التركة كبيرا عرفا.
وتصريحه تعالى بالقول الكريم: يوصيكم الله، يدل دلالة قطعية على أن من واجب الشخص أن يوصي بهذا الشكل لأنها وصية الله تعالى ولا يحوز مخالفة وصية الله. إنه سبحانه يوصي أصحاب التركة قبل أن يموتوا بأن يعينوا الميراث بالشكل الذي يريده الله تعالى تشريعا. لكنه سبحانه سمح بالوصية الخاصة التي يوصي بها الموصي بدون تقييد لأن هناك حالات شاذة في المجتمع وتحتاج إلى عناية خاصة بالميراث. هذه الحالات يراعيها الشخص نفسه قبل الموت لأن الخطاب للناس من قبل أن يموتوا (يوصيكم) (في أولادكم) ولا أظن بأنه خطاب للدولة. كما يستدل من الخطاب بظني القاصر بأنه سبحانه يريد أن يسمح لكل شخص أن يراعي الحالات الخاصة التي تخص فردا بعينه، ولذلك يكرر في الآيات قوله الكريم: من بعد وصية، أو دين.
ويمكن القول بأن الآية تدل على أن ليس للشخص أن يوصي لنفع عام مهملا أولاده. ولا يمكن أن ألوم من شك في جواز الوصية لغير الورثة الشرعيين ولكنني لا أرى ذلك. والسبب هو قوله: في أولادكم. فيوصينا الله في أولادنا نسبة خاصة من الميراث كما يسمح لنا بأن نفضل بعضهم على بعض بالوصية الشخصية. فقوله من بعد وصية يشمل الأولاد قطعا وقد يشمل غيرهم احتمالا. فكيف نفضل الاحتمال على القطع أو الظن؟ وما من شك بأن الوصية لغير البشر وما يفيد البشر غير جائز. فيما أنه سبحانه أوصى بهم فلا يجوز ترك وصية الله تعالى إلا إذا كان بيدنا تصريح بذلك.
2.
فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ. كنَّ تعود إلى الورثة وليس إلى الأنثيين كما ظن البعض. ولذلك قال: فإن كن نساء يعني بلا رجال. فلو خلف الميت إناثا دون ذكور وهن ثلاث نساء فما فوق فلهن ثلثا التركة. هذا في حالة عدم وجود أبناء ذكور. والنساء في الآيات تشمل كل الإناث حتى لو كن قاصرات أو طفلات. كما أن الذكور يشمل الكبار والصغار دون استثناء.
إنه تعالى لم يفرق بين الطفل والكبير في الميراث. قد يكون سبب ذلك هو أن الميراث ليس مرتبا مستمرا بل هو حظ أو نصيب يأتيهم مرة واحدة من آبائهم أو أمهاتهم. والصغار سوف يستقبلون حياة أكثر مسؤولية في المستقبل؛ فيا حبذا لو أن كل موص يعين قيما عليهم ليساعدهم على صيانة أموالهم من التلف. يلزم الاحتفاظ بالقرش الأبيض لليوم الأسود.
والمقطع الكريم من الآية يدل دلالة واضحة بأن عدم وجود ولد بين الورثة فإن الميراث لا يوزع كاملا على الورثة. فلو كان الورثة من الأولاد من جنس النساء أي إناث فقط فإن سهمهن محدود بالثلثين. لم يقل سبحانه ذلك حينما كانت الورثة من الأولاد أبناء وبنات واكتفى هناك بمنح الذكر سهما مضاعفا لسهم الأنثى.
3.
وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ. ولو انحصرت الورثة في ابنة واحدة فهي تأخذ نصف التركة فقط. هذا يعني بأن حظ الأنثيين يكون إما النصف أو الثلثين أو نسبة بينهما. وبما أن حظهما مع فرض ذكر واحد كان النصف بمعنى الربع لكل واحدة ولم تذكر الآية حالة انحصار الورثة فيهما فنبقى على الربع لكل منهما ولا ننس بأن مقدار الربع لواحدة أكثر قليلا من الثلثين موزعا بين ثلاثة نساء. بمعنى أن المتوفى لو لم يخلف ذكورا ولكنه خلف أنثيين فلكل واحد منهما الربع مما ترك. والباقي يوزع على المذكورين في الآيتين 8 و9 من سورة النساء بعد استخراج حقوق الأبوين إن وجدا.
4.
وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ. الولد هنا دون ريب يعني ما عنت به أول الآية بأن الولد هو الابن والبنت فلو كان له بنت أو ابن فإن الأبوين يأخذان نفس النسبة وهي السدس لكل واحد منهما من أصل التركة. فحظهما متساو في الميراث. وواضح بأن سهم الأبوين يُستخرج من أصل التركة.
5.
فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ. فلو مات شخص بلا عقب وورثته أمه فلها ثلث المال وبما أن حق الأبوين متساو عند الله تعالى كما عرفنا فإن أباه يأخذ ثلثا أيضا. ويبقى الثلث من الميراث بدون تقسيم شرعي. ولو كان أحد الأبوين ميتا فإن ثلثي الميراث يبقى بلا تقسيم. ولكن لو كان له إخوان أو أخوات فحكم الباقي من الميراث يأتي بعد هذا.
6.
فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ. فلو خلف المتوفى إخوة وأبا أو أبوين دون أولاد فإن سهم الأم هو السدس ولو كانا أبوين فللأب السدس أيضا إذ لم يفرق الله تعالى بين سهم الأب والأم من حيث النسبة. هذا المقطع من الآية الكريمة لم يوضح سهم الأخ أو الأخت؛ فلنستمر في تلاوة الآية الكريمة.
7.
مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا. من حق كل إنسان أن يوصي قبل موته لمن يشاء بما يشاء من ميراثه لينفذ بعد موته. لم يحدد الله تعالى نسبة لتلك الوصية وقولهم بأنها الثلث من تركته فقط؛ فهو قول بلا دليل. بمعنى أن من حقه أن يوصي بما يشاء من تركته حتى لو شمل كل التركة. فلوصيته الأولوية على قانون الميراث. ومن واجبه أن يراعي وصية الله تعالى ولكن ليس من حق غيره أن يفرض قانون الميراث السماوي على أموال الميت. الميت هو المسؤول أمام الله تعالى لو حرم بعض أهله من الميراث ولا يمكن للباقين بعده معرفة أسباب ما فعله الميت في حياته وهو بكامل عقله طبعا.
فلو أن شخصا أوصى ليُعطى كل تركته لشخص ثالث أو لمؤسسة أو لعمل خيري حسب تعيينه فهو من حقه ولا يجوز للدولة مثلا أن توزع ميراثه على تركته حسب أمر الله تعالى. لو كان إثم في القضية فهو إثم المتوفى نفسه وليس من حقنا أن نصحح ما أوصى به الشخص حينما كان حيا مسلطا على أمواله. ولكن يجب ألا ننس أمرين في هذا المورد:
أولاهما: بأن يكون الموصي صاحب التركة بكامل رشده العقلي حين الوصية وألا تكون الوصية لحظة الموت أو لحظة ظهور علامات الموت. فالمجنون ليس مسلطا على ماله بل هو سفيه يجب الحجر عليه. ومن هو في حال الموت فحكمه حكم المجنون لأنه لا يملك ماله حينئذ باعتبار ظهور علامات الموت. وأظن بأن المحكوم بالإعدام أو الذي أبلغه الأطباء بأنه سيموت من مرض أصابه فحكمه حكم من فقد السلطة على ماله. ولكن ليس لي أن أجزم بهذا وأتمنى أن تهتم البرلمانات بمثل هذه المسائل ولا يتركونها للفقهاء ولا لمفسري القرآن الكريم.
ثانيهما: أن يكون هناك رجحان عقلي في وصيته. فلو أوصى أحد بأن يُقدم كل تركته لحيوان أو لمكان الدعارة أو لحزب سياسي معروف بالقتل والسرقة وما شابه ذلك فلا يوجد رجحان عقلي لوصيته ولا يجوز العمل بها. ذلك لأن الله تعالى خلق الأرض للبشر لا للحيوانات. قال تعالى في سورة البقرة: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29). وواضح بأن الخطاب للبشر عامة. والفاسدون والفاسدات والقتلة واللصوص هم أعداء البشر ولا يجوز الاهتمام بهم أو منحهم مال الله تعالى.
ويجب الاهتمام بالورثة وجوبا حتميا فلو أوصى أحد بكل ماله لمؤسسة خيرية فاعلة مفيدة في حين أن أولاده وزوجه وأبواه بحاجة إلى مال فهو لم يراع الرجحان العقلي. فمما لا شك فيه بأن من حق القضاء أن يتدخل ويوقف تنفيذ الوصية كما أن من حق البرلمان أن يضع حدودا لوصية من هذا النوع. ذلك لأن الدولة هي المسؤولة عن إطعام الناس وكسوتهم وعلاجهم وإسعادهم بكل الطرق ومن يُحرم ورثته الشرعيين من ميراثه فهو يكلف الدولة مصاريف لا داعي لها. هناك من حق البرلمان والقضاء أن يشرعوا ويطبقوا التشريع البشري على أمثال أولئك الموصين غير العقلانيين. والعلم عند المولى عز اسمه.
8.
أَوْ دَيْنٍ.
وأما الدين فله الأولوية على غير الدين باعتبار أن كل دين يستحق لحظة الموت. أما الديون المشفوعة بإضافات زمنية مثل ديون البنوك فيجب السعي لخصم ما لم يحن موعد دفعه مع البنك من الفوائد إلا إذا كان هناك عقد بين البنك والميت فلا مناص من العمل به قانونا. فالميت كان يملك أمواله الخاصة به ولكنه ما كان يملك أموال الغير المستحقة على ذمته. وهناك بيان لكيفية ثبوت الدين يأتي في نهاية الآية 12 التالية من سورة النساء تحت التسلسل 15 الجاري.
9.
آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً.
يمكننا فهم السبب في تقسيم الإرث بالطريقة التي فرضها الله تعالى في القرآن الكريم. نحن نعرف بصورة طبيعية بأن من يقدم لنا مالا أو خدمة بلا عوض فإننا نكافئه بالمال عند القدرة متبعين في ذلك العرف العام. لكننا وعرفيا أيضا لا نبيع بيتنا لنكافئ من أحسن إلينا. المحسن ينفق مما هو زائد على حاجته فلا ينتظر المكافأة من الناس بل ينتظر كل المقابل من ربه الذي أنفق طلبا لرضوانه. وحينما نموت فإننا لا نحتاج إلى أموالنا الدنيوية ولذلك فسوف نقدمها مكافأة للذين استفدنا منهم في الحياة الدنيا. هذا هو سر تقسيم الميراث بين الأقربين. الأقربون هم الذين استمروا في مساعدة المتوفى حينما كانوا قادرين كما أن المتوفى استمتع بهم في صغرهم وهو يُعدُّهم لليوم الأسود في حياته. وقانون الميراث السماوي تجاهل الخلافات بين الأسر لأنها عادة ما تكون عابرة بطبيعتها.
لكننا نجهل النسب العادلة لما جنيناه من مساعدة أهلنا وأقاربنا سواء بصورة نقدية أو على شكل خدمات أو مساعدات علمية وفنية كما لا يمكننا تقييم الشعور بالأمان والضمان العائلي لكل فرد من أفراد أسرتنا. وليس سهلا تقييم علاقاتنا بأولادنا الذين ربيناهم بأيدينا. ولذلك حدد الله تعالى نسبا على أسس يعرفها هو جل جلاله. يمكننا تخمين بعض العلل ولكننا لا يمكن أن نجزم بالأسباب والأسس التي عين الله تعالى على أساسها حصص الوارثين. ولذلك أعقب سبحانه:
10.
فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيما حَكِيمًا (11).
فهو سبحانه فرض علينا تلك الحصص على أساس علمه وحكمته. فهل تحصيص رب العالمين أكثر معقولية أم تحصيصنا نحن البشر؟ ولذلك فما قاله الله تعالى فريضة فعلا ولا مناص منه. لكنه سبحانه أذن لنا بالوصية. وحينما فكرت في الموضوعين وهما وصية الله تعالى وإذنه بأن نوصي أيضا دون تعيين حد لوصيتنا؛ توصلت إلى أنه تعالى يحبذ بل يفرض العمل بوصيته، لكنه يسمح لنا بوصية أخرى في حالات شاذة واضحة المعالم. ولذلك أتمنى أن يبتعد الموصون عن هذا الإذن إلا في حالات خاصة لا يمكن فرض قانون لها؛ والله المستعان.
وبعد أن وضح الله تعالى حكم الميراث الأساسي للآباء والأمهات والأولاد؛ فإنه سبحانه وضح لنا ميراث الأزواج. وواضح لمن يحب التحقيق بأن الله تعالى فرق فعلا بين الوراث النسبيين والوراث السببيين. يُشعرنا هذا الأمر بأن هناك فرقا كبيرا بين من ينحدر من الإنسان أو ينحدر منه الإنسان وبين من يرتبط بالإنسان ارتباطا عاطفيا عن طريق الزواج. فكما يبدو بأن العلاقة النَّسبية علاقة أكثر دقة من العلاقة بين الزوجين. فالأولى علاقة بين شخصين أحدهما جزء من الآخر والثانية علاقة بين شخصين أباح الله تعالى لهما أن يرتبطا ارتباطا عاطفيا خاصا بغية التكاثر. هذه العلاقة ليست طبيعية بقدر الحالة الأولى ولكنها ضرورية بل واجبة حتى لو لم تكن هناك إمكانية للتكاثر. التكاثر هو السبب الأساسي للعلاقات الزوجية وما وضع الله تعالى في تلك العلاقة من محبة ورحمة ولذة نفسية وغير نفسية فهي لتشجيع عبيده على الزواج وتحمل أعباء الزوجية وتربية النشء. والعلم عند مولانا عز وجل.
وهناك سبب آخر لاعتبار العلاقة الزوجية دون مرتبة العلاقة بين الأصلاب والأرحام. ألا وهو أن العلاقة الزوجية قابلة للانقطاع لأي سبب فالزوجة ترث زوجها لو مات الزوج والعلاقة موجودة فعلا. فلم يحدد الله تعالى ميراثا للأزواج السابقين. ولكن لا يوجد في الحياة أبناء سابقون أو آباء سابقون.
كما أن علاقاتنا بإخواننا وأخواتنا أيضا علاقات اعتبارية مثل الزواج. فنحن من آبائنا وأمهاتنا ولا دخل لإخواننا وأخواتنا في تكوين كياناتنا البدنية. ولكن إخواننا وأخواتنا جاؤوا من نفس الطريق. فنحن متشابهون ولسنا مترابطين. هناك رباط عاطفي بيننا مشابه للروابط العاطفية بين الأزواج. بمعنى أننا نشعر بأن إخواننا يشدون أزرنا ويصلبون قدراتنا العائلية والاجتماعية ولو أننا لسنا منهم وهم ليسوا منا بأبداننا. وهكذا أزواجنا. فنحن نحتاج إلى بعضنا البعض حاجة لا نشعر معها بأي نوع من الإباء. ليس هناك عاقل طيب يأبى مساعدة أخيه أو زوجته له. ولعل هذا هو الأساس الذي وضع الله تعالى له قيمة في تقسيم الميراث. فقال تعالى لبيان هذا النوع من الميراث:
11.
وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٌ.
بداية يهمني أن أوضح مسألة مهمة ترتبط بالخطاب القرآني. هناك الكثير من النساء يشعرن بنوع من الحيف لأن الخطاب القرآني عادة ما يأتي بصيغة المذكر سواء كان مفردا أو جمعا. فكأن الله تعالى أنزل قرآنه على الرجال دون النساء؛ حاش لله رب النساء والرجال. فأتمنى أن تنتبه الأخوات الكريمات بأن القرآن يخاطب رجلا اسمه محمد بن عبد الله عليه السلام ليبلغ من يسمعه مباشرة من قومه ومن يعيش معهم من البشر. وهو إنسان مذكر واللغة العربية تخاطب الجمع خطاب المؤنث في حالة واحدة وهي أن تكن جميعا إناث، ولكن في حالة وجود ذكر واحد معهن فالخطاب مذكر. وهكذا بقية الضمائر لكل الصيغ الفعلية المعروفة.
وأرجو أن ينتبه الجميع بأن البشر في الحياة الدنيا مختلف عن البشر في الحياة الآخرة. لا توجد حياة جنسية في الآخرة إطلاقا إذ لا حاجة لذلك فلا تكاثر هناك. ولذلك لن تجد في القرآن خطابا أو ضميرا لأهل الجنة الذين انتقلوا من الدنيا بصيغة المؤنث. سيكون الناس جميعا جنسا واحدا بعد الموت وإلى الأبدية. هناك مخلوق آخر فردوسي لم تنتقل من الدنيا وهي موصوفة بالأنثى لتمتع أهل الجنة سواء منهم الذين كانوا ذكورا أو الذين كانوا إناثا من قبل. ولا يوجد فرق بين نوع التمتع بين أهل الجنة وهم كلهم ذكور وبين الحور العين وهن كلهن إناث. والغلمان للخدمة ولا يوجد أي نوع من العلاقة الجنسية بينهم إطلاقا.
رأينا رأيا ظنيا بأن الله تعالى أعطى كل الميراث للورثة لو كان للمتوفى أولاد ذكور ولكن لو مات أحد مخلفا بناتا دون بنين، فإنهن لا يأخذن كل الميراث. كل الاحتمالات السببية في نظري تدور مدار المسؤوليات إضافة إلى سهم كل إنسان في تكوين تلك الثروة. فمسؤولية الأولاد الذكور المالية أكبر بكثير من المسؤوليات المالية للأولاد الإناث. كما أن سهم كل فرد في تكوين ثروة المتوفى غير واضح وغير قابل للتقدير. وجدير بالذكر أن الله تعالى لم يفرق بين كبار الأولاد وصغارهم والسبب قد يكون بأن الصغار فهم بالقوة مفيدون لأبيهم والكبار بالفعل. إنه سبحانه بصورة عامة لم يفرق في الأولاد بين المستحق فعلا أو المستحق بالقوة. كما أن قانون الميراث يراعي الرحمة أيضا فمن باب الرحمة أعطى نفس الحق لمن له حق بالفعل ولمن ليس له حق بالفعل باعتبار صغره.
نحن لا نشك بأن الله تعالى هو الذي يقدر الرزق ولكننا لا نعرف السبب في تفضيله شخصا على شخص آخر كما نجهل حقيقة تأثير كل فرد في تكوين الثروة ولذلك حكم الله تعالى حكما عاما يراعي العدالة العامة وترك الحالات الشاذة ليعالجها المورث بالوصية. ولو لم تكن هناك وصية فإن الأزواج وكذلك الإخوان والأخوات لا يأخذن كل الميراث. فلو مات أحد بلا أولاد فإن الزوج يأخذ نصف الميراث فقط. وأما سهم الأبوين لو وجدا فهو لا يؤثر في التركة لأنه لا يتجاوز الثلث، بل يبقى بعض التركة بلا تقسيم بعد تقسيم الميراث بين الأبوين والزوج أو الزوجة. كل الباقي يُقسم بين المذكورين في الآيتين 8 و9 من سورة النساء.
12.
فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ.
ولو كان لها ولد سواء ذكرا أو أنثى فإن الزوج يأخذ ربع التركة وتوزع الباقي على أولادها كما هو موضح في الآية 11.
13.
وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم مِّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ.
وبالنسبة للزوجة أو الزوجات فهن جميعا لا يأخذن أكثر من ربع التركة في حال عدم وجود الأولاد. وفي حال وجود الأولاد فإن الزوجة أو الزوجات يأخذن ثمن التركة فقط. والوصية أو الدين مقدمان على تقسيم الميراث دائما.
وقول الأخ علي عبد الجواد بأن مسألة الثمن للزوجة إن كان لزوجها أولاد هي حصة جنس الزوجة، بمعنى أن لكل زوجة ربع أو ثمن التركة؛ غير صائب برأيي. لو كان الأمر كذلك فإن مقطع النساء فوق اثنتين في الآية السابقة سيعني بأن لجنس النساء فوق اثنتين ثلثا ما ترك وهو محال طبعا. ولو صح ما قاله الأخ عبد الجواد فإن في حالة أبي مهدي مع فرض أربع زوجات له فإن الزوجات سيأخذن نصف الميراث ثم يوزع الباقي على (21 ابنا و5 بنات). سيكون نصيب كل زوجة 15000 جنيها على فرض أن الميراث هو 120000 جنيها؛ ونصيب كل بنت 1277 جنيها تقريبا فقط. هل هذا معقول؟
14.
وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَو امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ فَإِن كَانُوَاْ أَكْثَرَ مِن ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاء فِي الثُّلُثِ.
وحتى نفهم معنى “أو” في المقطع الكريم من الآية نقول: وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة تورث كلالة. فـ “أو” معطوفة على رجل. وأظن بأن الله تعالى اختصرها حتى لا يكرر. فلو أردنا أن نكتب الجملة بلا اختصار فعلينا أن نقول بعدها: وله أو لها أخت.
وأما الكلالة فبغض النظر عن المعاني المختلفة للكلمة الواردة في قواميس اللغة فإن الكلالة في القرآن واضحة المعالم. لقد ذكر الله تعالى الكلمة مرتين ووضحهما في كلتا الآيتين الكريمتين بالأخ والأخت فالمقصود من الكلالة هو الأخ والأخت وليست بقية الأهل. إن بقية الأهل مشمولون بالآيتين 8 و9 من سورة النساء ولكنهم ليسوا من الكلالة المشمولة بالآيتين. حدد الله تعالى ميراث الكلالة بالنسبة للمتزوجين والمتزوجات حين الموت لا الذين كانوا بلا أزواج حين الموت؛ ألا يتجاوز السدس لكل منهما لو كانا أخوين أو أختين أو أخ وأخت. ولو كان الإخوان والأخوات أكثر من اثنين فيوزع ثلث التركة بينهم بالتساوي. وشرط الكلالة ألا يكون للمتوفى ولد ذكرا أو أنثى حين الوفاة. بمعنى أن تنحصر الورثة في الزوج أو الزوجة أو الزوجات مع الأخ أو الأخت أو الإخوان والأخوات.
وأما ميراث الكلالة بالنسبة لمن لم يخلفوا أزواجا حين موتهم فحكمهم في نهاية سورة النساء وسيأتي.
15.
مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَآ أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍّ وَصِيَّةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12). يجب تقديم وصية الموصي على كل التقسيمات الإلهية للميراث. ولا أظن بأن المقصود هو تفضيل وصية الموصي على وصية الله تعالى فهو غير صحيح. ولذلك أظن بأن السماح للموصي بأن يوصي كما يشاء هو بغية منحه الحرية للتصرف في ماله في بعض الحالات الشاذة. كما يمكن القول بأن مجيء الوصية هنا بصيغة المجهول هو لمنح القضاء نفس الحق فيما إذا نسي الموصي أو فاجأه الموت قبل أن يفكر فيمن يستحق المساعدة من ماله. ولا ننس بأن الله تعالى لم يعين نصيبا للجد والجدة لو كانا حيين فالوصية تساعد المرء لتجاوز بعض الحالات التي لا يمكن درجها في القانون العام.
وهناك أسباب ذكرها المفسرون لتقديم الوصية على الدين مع أن الدين مقدم على الوصية. لكنني لا أرى حاجة للتفكير في تلك الأسباب إذ أن الدين يعني بأن هناك مالا لشخص ثالث في ذمة الميت. فالميت لم يكن ليملك مال الغير حينما كان حيا ولا يمكن اعتبار مال الغير جزء من التركة. لكن الله تعالى أضاف شرطا لصحة الدين وهو ما قاله سبحانه في الآية رقم 282 من سورة البقرة. فلا عبرة بدين غير مسجل على يد كاتب بالعدل مع توقيع شاهدين من الرجال أو شهادة رجل وامرأتين. والله تعالى أمر في تلك الآية أن يقوم المدين بتقديم مستند رسمي للدائن فالدين غير المسجل مرفوض بعد وفاة الشخص.
ولذلك فسرت المقطع من الآية الكريمة: أو دين غير مضار وصية من الله؛ بأنه يشير إلى وصية الله تعالى في آية البقرة. فالدين الذي يُضار وصية الله تعالى بضرورة تسجيل الدين بشكل خاص مرفوضٌ ولا يمكن اعتباره دينا. لقد فرض آية البقرة على الذين يقومان بعملية الدين أن يسجلا الدين وأن يكتب بينهما كاتب بالعدل وأن يستشهدا على الدين. هذا الدين ثابت وصحيح لأنه مطابق لوصية الله تعالى ولا يمكن الاعتداد بغيره من الديون بعد وفاة المدين.
16.
تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13). كل الآيات السابقة التي ذكرناها من سورة النساء حول الميراث ابتداء من الآية السابعة حتى هذه الآية الكريمة تمثل حدودا إلهية لا يجوز تجازوها لأنه سبحانه كما هو واضح قد وضع تلك الحدود لتنظيم حياة عبيده في الدنيا وليسع كل إنسان لمراعاة العدالة في حياته ويوصي بها بعد مماته. إنه سبحانه كما رأينا يريد تفكيك الأموال ومحاربة الكنز وتقسيم إمكانات المعيشة بين أكبر عدد ممكن من الناس. يريد الله تعالى أن يجعل المال قواما للبشر ولا يريد للمال أن يكون وسيلة للإسراف والتكبر على الغير وزرع الكراهية والفقر بين أفراد الأمة. نرى اليوم بأن الثروات الكبرى تمثل البلاء والمصيبة على أصحابها وعلى من يعيش معهم. أصحاب الثروات الكبرى يهددون السلطات حتى لو كانت شرعية منتخبة من الأمة، يهددونها بأموالهم.
يحب الله تعالى عبيده ويعرف بأن الحياة الدنيا حياة غير متوازنة بطبيعتها لأن الإدارة ليست كما يريدها الله بل هناك تدخل كبير من البشر في إدارة أمور البشر. ولذلك فإنه سبحانه يقنن المال ليحقق نوعا من التوازن بين أفراد المجتمع فتستقر أمور العباد وتنهار حصون الثروة بتوزيعها بين الناس شيئا فشيئا. وليكن واضحا بأن هذه الجزئية من التحليل قالها البعض قبلي. لكن المسلمين وهم بشر كغيرهم لم يسعوا لتحقيق الهدف التشريعي لربهم مع الأسف. ولعل هذا البحث يبين للناس وللمسلمين بعض أخطاء السلف ليقوموا بتصحيح ذلك. فنرى بأنه سبحانه يبشر المؤمنين في الآية الكريمة بالفوز بالجنة إذا أطاعوا الله ورسوله. كما يهددهم لو مارسوا العكس فقال عز من قائل بعد ذلك:
وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ (14).
طاعة الله وطاعة رسول الله:
ولا بأس بأن نتحدث قليلا عن معنى طاعة الله ورسوله. يظن الكثيرون بل الأغلبية بأن هناك أوامر إلهية تأتينا من الله تعالى وبأن هناك أوامر أخرى مغايرة تصلنا من رسول الله عليه السلام. وظن البعض بأن الرسول بشر لا يمكن له أن يأتي بقوانين تفيد الإنسانية بعد وفاته حتى يوم القيامة فقالوا بأن هناك وحي قرآني عام وهناك وحي ثان خاص بالرسول ويأتينا عن طريق الأحاديث. والسؤال الذي يتبادر إلى ذهن كل من يفكر هو: لماذا لا تأت كل الأحكام مباشرة من الله تعالى وهل رسول الله شريك مع الله أو شخص فوق بشري حتى يحكمنا نحن الذين أتينا بعده بآلاف السنين؟
والواقع بأن كل الأحكام من الله تعالى وكل الوحي مدون في القرآن الذي وصلنا ونطبع منه الملايين كل عام وننهل من معينه. رسول الله قد يكون موسى أو نوحا أو محمدا دون أي تفريق بينهم في الرسالة. قال تعالى في سورة البقرة:قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136). وقال تعالى في نفس السورة أيضا: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وملائكته وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285).
وقال سبحانه في سورة آل عمران: قُلْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84). فرسولنا ليس بدعا من الرسل وليس لأي منهم أن يأتي بحكم من عنده لعبيد الله تعالى. هذا هو معنى الرسول. الرسول يعني الذي يبلغ رسالات الله تعالى ولا يعني الذي يتحدث عما يفكر فيه بنفسه. وليس الرسول مكملا لأوامر الرحمن عز اسمه. ولذلك قال تعالى في سورة النساء: مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (80).
فلم يفرق الله تعالى بينه وبين رسوله من حيث الأوامر المعلنة للناس ولم يفرق بين الناس وبين محمد بن عبد الله عليه السلام من حيث وجوب العمل بالرسالة. الرسول بنفسه يعمل بالرسالة تماما كما نعمل نحن بالرسالة. لن تجد في القرآن أي إذن للرسول بالتشريع لأنه ليس مخولا بالتشريع. فحينما يقول الله تعالى بأن من أطاع الله ورسوله فهو لا يقصد التفريق بين حكم الله وحكم رسوله بل يقصد التأكيد على أن الرسول لا يملك من أمورنا شيئا بل يبلغنا رسالة السماء فقط. لكن الناس لم يستوحوا مباشرة من الله تعالى بل سمعوا من أخيهم محمد بن عبد الله فقال لهم الله تعالى بأنه رسول الله حينما يبلغ الرسالة فلا تنظروا إليه حينذاك نظرتكم إليه كأخ مثلكم بل كناقل لرسالة ربكم.
هناك أمر بوجوب تنفيذ حكم الرسول في تقسيم الأموال وهو تنفيذ لحكم الله تعالى وليس تنفيذا لحكمه الشخصي. هذا الأمر ورد في سورة الحشر: مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاء مِنكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7) لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8).
وقال تعالى في سورة هود: فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَن يَقُولُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاء مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنتَ نَذِيرٌ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12). وقال تعالى في سورة الأعراف: المص (1) كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ (3). وقال تعالى في سورة مريم: فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُّدًّا (97). وقال تعالى في سورة يوسف: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3). فكل ما قرأناه في كتب الحديث من أحكام تشريعية، ومن قصص من غبر من رسل الله وغير رسله، ومن أخبار غيبية مستقبلية، ومن بشارات بالجنة للأفراد؛ كلها بلا استثناء أكاذيب لفقها المجرمون ونقلها الرواة ظنا منهم بأن الرسول عليه السلام تفوه بها.
الرسول مبلغ وليس مشرعا؛ والرسول لا يعلم الغيب إطلاقا؛ وليس للرسول أن يطلع على ما وراء الأستار؛ ولم ير رسولنا ملكا ولا شيطانا ولا جنا إطلاقا. كان الروح القدس يوحي إلى قلبه ولم يره الرسولُ البشري بعينيه ولا يمكن لأحد أن يراه بعينيه لأنه كائن طاقوي نوري وليس ماديا ذا أبعاد مثلنا. يمكن للملَك أن يتمثل بشرا فهو حينئذ صورة مثل الصور التلفزيونية ولم يقل ربنا بأن أي ملك تمثل بشرا لرسولنا أو لصحابته. والأهم هو أن الرسول لم يخلف كتابا كما أن الخلفاء الراشدين وبقية الصحابة والتابعين لم يخلفوا كتبا. فما ورثناه كتب بشرية لا صلة لها برسول الله إطلاقا ولم يأمر الله تعالى باتباع الكتب البشرية بل منع من ذلك كما عرفنا من بداية سورة الأعراف.
ولنكمل مسائل الميراث في الآيات الأخرى:
17.
قال تعالى في سورة النساء أيضا: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَآ إِن لَّمْ يَكُن لَّهَا وَلَدٌ فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِن كَانُواْ إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَاء فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176). يوضح الله تعالى في الآية الكريمة بأن المقصود من الكلالة هو الأخ والأخت وليس أولاد العم أو الخال ولا غيرهم. لكن مشكلتنا مع هذه الآية أنها ليست فقط لم تأت في سياق آيات الميراث في بداية السورة بل المشكلة هي أن السورة الكريمة وضحت في الآية 12 بأن الكلالة تعني الأخ والأخت وهما متساويان في ثلث الميراث ولو كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث بنسب متساوية طبعا.
لكنه سبحانه في هذه الآية يعطي حقا أكبر للكلالة ويجعل سهم الذكر ضعف سهم الأنثى. فهناك سر نحتاج إلى اكتشافه في هذه الآية التي ختم الله تعالى بها سورة النساء. إن طريقة سرد الآية مختلف عن آيات الميراث فكأنها تستدرك شيئا نُسي في السورة فينادي فيمن سمع بأن هناك أمرا لم يستوف حقه وهاكم حقه في البيان. بالطبع أن القائل هو الله تعالى الذي لا ينسى ولا يستدرك ولكن الآية أخذت هذا الطابع لتقول لنا بأن الإخوة والأخوات يحلون محل الأولاد ويرثون كل الميراث أحيانا إن كان بينهم ذكور وللذكر مثل حظ الأنثيين. فالآية تشير إلى الإخوان والأخوات الذين يعيشون في بيت واحد من قبل أن يتزوجوا ومن قبل أن يكبروا ويدخلوا سن الإنتاج. هناك يفاجئ الموت أحدهم فهم فقدوا قوة منتجة ويحتاجون إلى من يساعدهم ليسيروا سيرا صحيحا في الحياة متغلبين على ما فاجأتهم موت أخيهم من خسارة لا يمكن تعويضها بالكامل.
هذا ليس قانونا ولكنه فتوى من الله تعالى. والفتوى أقل قوة من القانون العام. قانون الميراث لم ينس الفقراء والمساكين وذوي القربى ولكن هذه الفتوى نسيت كل شيء؛ كما نسيت الدين والوصية. ولذلك قال تعالى في بيان الحالة: إن امرؤ هلك؛ ولم يقل إن امرؤ حضره الموت فمات. هلك في اللغة العربية وبرأيي المتواضع يعني فنى شيء معه حين موته وبهذا المعنى البسيط نعرف معنى الهلاك في القرآن الكريم. فيوسف بالنسبة للمصريين كان مفاجأة علمية تدعو إلى الله تعالى ولكن الدعوة فنيت فأشار إليه مؤمن آل فرعون كما في سورة غافر: وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءكُم بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ (34). لقد توفى يوسف عليه السلام قبل مئات السنين والمؤمن يخاطب قومه: حتى إذا هلك قلتم. يعني حتى إذا فنيت دعوته.
والله تعالى يفني الأولين فناء كاملا من الدنيا فيقول سبحانه: ألم نهلك الأولين. لقد أزالهم وأزال أفكارهم بالكامل. فالهلاك لو استعمل للموت فهو يعني الفناء والزوال لمِا صاحبَ المتوفى. ولذلك أظن ظنا كبيرا بأن آخر سورة النساء يسعى لمعالجة قضية قلما تحصل وهي أن يفاجئ الموت شابا يعيل إخوانه وأخواته. هناك يُتعامل معهم تعامل من مات أبوه أو أمه. وليس تعامل من مات أخوه أو أخته. في هذه الحالة فإن الله تعالى أفتى وفتواه جازم ولكن يجب إدراك المورد. لقد دأبت المحاكم على اتباع فتاوى القضاة الذين ناقشوا مسألة لم تشملها القوانين؛ والمحامون يعودون إلى تلك الفتاوى لإقناع المحاكم بالقضايا المشابهة.
هكذا يتعامل القضاء مع فتوى الله تعالى في مثل تلك الحالة. لقد أفتى القدوس عز اسمه بترك تشريع الميراث واتباع فتوى تخص القضية. امرؤ هلك فجأة وليس له أولاد وله أخت. في الحالة العادية فهي تستحق السدس ولكن في هذه الحالة تأخذ النصف. ولو هلكت امرأة ليس لها أولاد ولها أخ فيأخذ الأخ كامل الميراث ولو كان الوارثون امرأتين فلهما الثلثان وإن كانوا إخوة وأخوات فللذكر مثل حظ الأنثيين.
كان سهم هذا الأخ في الحالة العادية سدس الميراث وهكذا سهم الأخت ولو كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في ثلث الميراث فقط. لكن الوضع هنا مختلف فصاروا مثل أولاد المتوفى لأنه كان يعيلهم ولا حديث عن الوصية لأن الموت مفاجئ ولا عن الدين إذ يندر وجود دين لمثل أولئك الأشخاص. بالطبع لو وجد دَين فإن الأولوية للدين. ولو وجدت وصية يُعمل بها. فالعبرة في هذه الفتوى بالهلاك أو الموت المفاجئ لمن يعيل الأسرة. والعلم عند المولى.
18.
قال تعالى في سورة البقرة: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181) فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (182).
هذه الآية الكريمة تتحدث عن أهمية الوصية وبما أنها لم تحمل قانونا من قوانين الميراث فإنني فضلت السكوت عنها خوفا من الإطناب.
الدقة التي ننتظرها من الأستاذ الفاضل الشحرور:
لقد وضح الأخ الشحرور بأن الوصية أهم من الميراث ولم يعين القرآن الكريم حدا للوصية وهو كلام طيب. فمن واجب كل شخص يملك مالا وله ذرية لا سيما لو كانوا ضعفاء أن يوصي وتنتهي المشكلة. يمكنه أن يوصي ويقسم كل ماله بالطريقة التي يراها مناسبة. والوصية ليست كالهبة فللموصي أن يغير وصيته متى ما رأى في ذلك ضرورة. والوصية برأيي القاصر واجبة إذا حضر الإنسان الموت والعقل يحكم بالوصية من قبل. ولكني لا أظن بأن وجوب الوصية مثل وجوب الصلاة والصيام. ذلك لأن الصلاة والصيام واجبان لا يمكن تلافيهما في الواقع ولكن الوصية واجبة ويمكن تلافيها بأحكام الميراث المنصوصة في القرآن الكريم.
ومن الجدير بالذكر أن الذين يقضون الصلوات الواجبة فهي عمل جيد ولكن لم يذكر القرآن صلاة القضاء وإنما أوجب قضاء الصيام. ذلك لأن الصلاة عمل مهم تفيد المؤمن يوميا وتركها موجب لدخول النار ولكن ليست الصلاة من موجبات دخول الجنة في القرآن بقدر تحقيقاتي البسيطة.
وأما قوله تعالى للذكر مثل حظ الأنثيين يعني بأن المتوفى لو لم يوص بوصية خاصة فإن أمواله توزع على أساس منح الذكر حظا يعادل حظ الأنثيين. وحظ الأنثيين يعني حظهما معا ولا ضرورة لأن يقول تعالى مِثلا حظ الأنثيين كما تفضل الأخ الكريم. وأظن بأن مثلا حظ الأنثيين يعني بأن الذكر يأخذ أربعة أضعاف الأنثى ولكن مثل حظ الأنثيين يعني أنه في كل الأحوال يأخذ ضعف الأنثى.
وقد وضح المرحوم العلامة الطباطبائي في تفسير الميزان رأيا مشابها لرأي الأخ الشحرور بأن الأصل هو ميراث الأنثى لكنه لم يفسر مثل حظ الأنثيين كما فسره أخونا الشحرور عند تفسيره لآيات الميراث وهذا نصه:
و أما قوله: “للذكر مثل حظ الأنثيين” ففي انتخاب هذا التعبير إشعار بإبطال ما كانت عليه الجاهلية من منع توريث النساء فكأنه جعل إرث الأنثى مقررا معروفا و أخبر بأن للذكر مثله مرتين أو جعله هو الأصل في التشريع و جعل إرث الذكر محمولا عليه يعرف بالإضافة إليه، و لو لا ذلك لقال: للأنثى نصف حظ الذكر و إذن لا يفيد هذا المعنى و لا يلتئم السياق معه – كما ترى – هذا ما ذكره بعض العلماء و لا بأس به، و ربما أيد ذلك بأن الآية لا تتعرض بنحو التصريح مستقلا إلا لسهام النساء و إن صرحت بشيء من سهام الرجال فمع ذكر سهامهن معه كما في الآية التالية و الآية التي في آخر السورة. وبالجملة قوله: للذكر مثل حظ الأنثيين في محل التفسير لقوله: يوصيكم الله في أولادكم، واللام في الذكر والأنثيين لتعريف الجنس أي إن جنس الذكر يعادل في السهم أنثيين، وهذا إنما يكون إذا كان هناك في الوراث ذكر وأنثى معا فللذكر ضعفا الأنثى سهما ولم يقل: للذكر مثل حظي الأنثى أو مِثلا حظ الأنثى ليدل الكلام على سهم الأنثيين إذا انفردتا بإيثار الإيجاز على ما سيجيئ. وعلى أي حال إذا تركبت الورثة من الذكور والإناث كان لكل ذكر سهمان ولكل أنثى سهم إلى أي مبلغ بلغ عددهم. انتهى النقل.
والحل الذي يصر عليه فضيلة الأستاذ الدكتور شحرور بأن حظ الذكور معا يعادل حظ الإناث معا فهو ليس مفهوما من القرآن الكريم ولم يذكر فضيلته كيفية توصله إلى ذلك التفسير لقوله تعالى: للذكر مثل حظ الأنثيين. إلا أن رأي سيادته يزيد الفهم تعقيدا ويضيف على قائمة الاحتمالات احتمالا جديدا قد نكون في غنى عنه.
وأما قول الدكتور شحرور بأن القرآن يخلو من الكلمات المترادفة فهو لم يأت بدليل على ذلك فيبدو بأن ذلك استحسان من سيادته ومن غيره أيضا ممن قالوا بذلك. ولو أن أيا منهم تجشم عناء التفسير الكامل للقرآن لما قالوا ذلك. كما أن تفريق فضيلته بين الحظ والنصيب ليس دقيقا برأيي القاصر.
لكن الإشكال الأكبر عند فضيلة الدكتور شحرور هو أنه ظن بأن قوله تعالى: فإن كن نساء فوق اثنتين؛ تعني بأن هناك ذكور ونساء فوق اثنتين والواقع غير ذلك. مقطع الآية تعني بأن الورثة كن نساء فقط دون ذكور. آنذاك يوزع عليهن ثلثا الميراث والباقي يوزع بترتيب آخر. ذلك لأنه سبحانه قال قبل آيات الميراث في نفس سورة النساء: لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا (7) وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُواْ الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا (8). كما أنه سبحانه فرض على المورث أن يوصي لكل الذرية لو كانوا ضعافا فقال بعد ذلك في سورة النساء: وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيدًا (9). بالطبع لو أن المال الموروث كان بسيطا والأولاد محتاجون مثلا فيوزع بينهم بدل الفقراء دون التقيد بتضعيف حظ الذكر كما يبدو لي والعلم عند المولى عز وجل.
فما نراه من تقسيمات غير متعادلة في آيات الميراث تعني بأن الفرق يُعطى لغير المذكورين من الورثة الأصليين (الأولاد والأزواج والأبوين). ولا نحتاج إلى محاسبات رياضية ولا إلى تقسيم ما تبقى على نفس الأساس بين نفس الورثة كما تفضل الفقهاء الكرام. ولا ننس بأن الأحكام التشريعية في القرآن نزلت لكل الناس فيجب أن تكون أحكاما بسيطة يتمكن الجميع من فهمها والعمل بها. الفهم العلمي والمحاسبات الدقيقة قد تكون ضرورية لفهم الآيات الكونية وليست لفهم آيات الأحكام. فإصرار فضيلة الدكتور شحرور في نهاية الصفحة 235 على ضرورة فهم الهندسة التحليلية لا يتناسب مع التشريع العام لكل المسلمين من قبل ظهور الهندسة التحليلية وفهم التابع والمتحول. على كل حال فنحن نشكر أخانا الشحرور ولكن العربي الذي عاش قبل خمسة عشر قرنا لم يكن قادرا على فهم المعادلات ولا على فهم المجموعات الحسابية.
ولو كان الوريث ابنة واحدة فقط فلها نصف الميراث والباقي يُقسم بين المذكورين في الآيتين الثامنة والتاسعة. وأما ما تفضل به الأستاذ الدكتور شحرور من أن المعادلة هي أن يأخذ الذكور معا سهما معادلا للإناث معا فهي ليست مذكورة في القرآن ولا تُفهم من الآيات الكريمة بظني القاصر.
استعراض مختصر لآيات الميراث:
ولنستعرض بعض المسائل المهمة في آيات الإرث وهن من الآية 7 حتى الآية 13 إضافة إلى الآية الأخيرة 176 من سورة النساء وكذلك الآية 180 من سورة البقرة.
-
لقد كرر الله تعالى مسألة حظ الذكر بأنه مثل حظ الأنثيين في أولاد المتوفى وفي إخوانه وأخواته بمعنى أن الذكر سواء استحق أم لم يستحق فإن حظه مثل حظ أنثيين بصورة دائمة إلا ما استثناه القرآن الكريم.
-
لو كان هناك ذكر واحد وستة نساء من الأولاد مثلا فيجب تقسيم الميراث على ثمانية أسهم متساوية لكل أنثى سهم منها وللذكر السهمان الباقيان.
-
لو كان هناك ذكر واحد وأنثى واحدة فإن الذكر يأخذ الثلثين وأخته تأخذ الثلث الباقي.
-
لو كان هناك أولاد ذكور دون إناث فيأخذون كل التركة على أسهم متساوية بعد إخراج سهم الأبوين إن وجدا وإخراج الدين والوصية طبعا.
-
لو كان هناك أولاد إناث دون ذكور فلو كانت واحدة تأخذ نصف التركة والباقي توزع على المذكورين في الآيتين 8 و9.
-
لو كان هناك أولاد إناث دون ذكور وهن ثلاث أو أكثر فيوزع ثلثا التركة عليهن بالتساوي والثلث الباقي يوزع بين المذكورين في الآيتين 8 و9.
-
لو كان للمتوفى أبوان حيان فيعطى كل منهما سدس الميراث قبل أن يوزع على الأولاد حتى لو كان له ابن واحد أو ابنة واحدة.
-
لو كان للمتوفى أبوان دون أولاد فيأخذ كل واحد منهما الثلث ويوزع الثلث الباقي على المذكورين في الآيتين 8 و9 من سورة النساء.
-
لو لم يخلف المتوفى أولادا وورثه أبواه وكان له إخوان أو أخوات فيأخذ الموجود من الأبوين سدس الميراث ويوزع الباقي على الإخوة على أساس سهمين للذكر وسهم للأنثى. أظن بأن هذا باعتبار أن الإخوة يحلون محل الأولاد.
-
يأخذ الزوج ربع أصل تركة زوجته ثم يوزع الباقي على أولادها ولو لم يكن لها ولد فيأخذ الزوج نصف أصل تركتها ثم يوزع الباقي على المذكورين في الآيتين 8 و9.
-
تأخذ الزوجة ثمن أصل تركة زوجها إن كان له أولاد وإن كان بلا عقب فإن الزوجة ترث ربع أصل التركة ثم يوزع الباقي على المذكورين في الآيتين 8 و9.
-
لو أن رجلا مات له زوجة ودون أولاد وكان له أخ أو أخت فإن الزوجة تأخذ ربع التركة والأخ أو الأخت يأخذان بعد سهم الزوجة ثلث الباقي بالتساوي بينهما أو بينهم لو كانوا أكثر من اثنين ثم يوزع الباقي على المذكورين في الآيتين 8 و9.
-
لو أن امرأة متزوجة ماتت دون أولاد ولها أخ أو أخت فإن الزوج يأخذ نصف التركة والأخ أو الأخت يأخذان بعد سهم الزوج ثلث الباقي بالتساوي بينهما أو بينهم لو كانوا أكثر من اثنين ثم يوزع الباقي على المذكورين في الآيتين 8 و9.
-
لو أن رجلا مات بلا زوجة وبلا أولاد وله أخت فإنها تأخذ نصف التركة ثم يوزع الباقي على المذكورين في الآيتين 8 و9.
-
لو أن امرأة ماتت بلا زوج وبلا أولاد ولها أخت فإنها تأخذ نصف التركة ثم يوزع الباقي على المذكورين في الآيتين 8 و9.
-
لو أن رجلا مات بلا أولاد وبلا أبوين وبلا زوجة؛ أو امرأة ماتت بلا أولاد وبلا أبوين وبلا زوج؛ وكان لأي منهما أختان فهما يأخذان ثلثي التركة بالتساوي بينهما ولو كانوا إخوة رجالا ونساء فإن الثلثين يوزع بينهم أسهما للذكر مثل سهم الأنثيين. فلو كان الوريث أخا وأختا فإن ثلثي التركة توزع على ثلاثة أسهم متساوية فيأخذ الأخ سهمين وتأخذ الأخت سهما واحدا. ثم يوزع الباقي على المذكورين في الآيتين 8 و9.
هذا ما أردت بيانه من الميراث في القرآن وأنا أرحب بمن يصحح أخطائي أو يرشدني إلى تقسيم أفضل يمثل فهما أدق لما قاله الله تعالى في محكم التنزيل.
أحمد المُهري
2 سبتمبر 2018
استخدامك كلمة ( الشحرور ) يدل علي قلة أدبك وجهلك …..هذا الرجل لديه عقل يفكر حتي لو أخطأ فلابد أن يكون الرد علميا …..والقرآن يمكن لمن درس اللغة والحديث والتفسير أن يبحث فيه ….لكن رجال الدين لا يريدون ذلك ….فظهور الحقيقة سوف يضبع قيمتهم ويضيع السبوبة ……
لك تقديري ، وبالتأكيد اتفق معك في العبارة (يبحث فيه) ولا اتفق معك في القول (قلة ادبك ) فاستاذنا الدكتور شحرور له كل التقدير والمعزة وهو مرجع من مراجع تطوير الفقه الاسلامي ، وربما لم يسعك ان تقرأ الا هذه الكلمة وشكلتها حسب مرادك ، شكرا