أسطورة الحفظ الأسطوري
أسطورة الحفظ الأسطوري
في نفس سباق وسياق ولحاق سيرة الإمام البخاري المحفوفة بالأساطير ، نجد أن الرواة كي يكملوا تلك الحلقات الخرافية أضافوا اليها أيضا أسطورة الحفظ ، أوالحفظ الاسطوري، حتى أن أحدهم كتب مقالة في مجلة العربي الجزائرية عنونها ب:” البخاري بطل العالم في الذاكرة” مؤكدا تفوقه على أهم الشخصيات العالمية في عصرنا و في كل العصور ، على صعيد الحفظ والتذكر ، حيث اعتبر أن ذاكرته أسرع من ذاكرة الكمبيوترات العملاقة، وسنورد هنا مظاهر لأسطورة الحفظ الأسطوري للبخاري ، كما نقلتها إلينا كتب التراث. فقد جاء عن حفظه الأسطوري في البداية والنهاية لابن كثير ما نصه:” ولد البخاري – رحمه الله – في ليلة الجمعة الثالث عشر من شوال سنة أربع وتسعين ومائة ، ومات أبوه وهو صغير ، فنشأ في حجر أمه ، فألهمه الله حفظ الحديث وهو في المكتب ، وقرأ الكتب المشهورة وهو ابن ست عشرة سنة حتى قيل : إنه كان يحفظ وهو صبي سبعين ألف حديث سردا . وحج وعمره ثماني عشرة سنة ، فأقام بمكة يطلب بها الحديث ، ثم ارتحل بعد ذلك إلى سائر مشايخ الحديث في البلدان التي أمكنه الرحلة إليها ، وكتب عن أكثر من ألف شيخ ، وروى عنه خلائق وأمم”.البدادية والنهاية الصفحة 527 .
ولك ان تتصور الكم الهائل من الأحاديث “السبعون ألفا” التي كان يحفظها البخاري بتراجمها وأسانيدها وما قيل في رجال هذه الأحاديث فردا فردا، من جرح أو تعديل، ودرجة كل حديث من حيث الصحة أوالضعف ، إلى غير ذلك مما يرتبط بها وهو ما يزال صبيا في سن اللعب ، فعلى هذا يجب أن يكون البخاري قد بدأ حفظ الاحاديث قبل أن يولد ، حتى لو لم نأخذ بعين الاعتبار سنوات تعلمه اللغة و”علومها “، والفقه و”علومه “، والحديث و “علومه”، ولم نأخذ بالاعتبار سنوات رضاعه ، ثم تعلمه الحبو فالمشي فالهرولة ، ثم سنوات تعلمه النطق فالكلام ، ثم سنوات لعبه مع الاطفال ، فبالرغم من عدم أخذنا في الاعتبار بكل هذا، فإن مسألة حفظ البخاري ستبقى خرافة كخرافات أخرى نقلت الينا بدون تمحيص من ناقليها عبر كتب التراث المليئة بهذا الخبل “التاريخي” والذي يرمي بالأساس إلى خلق شخصية أسطورية عصية على النقد ، أو الطعن ، لهذا نسب إليها ما لا يقبله عقل ولا منطق.
وورد عنه في كتاب معرفة أنواع علوم الحديث لابن الصلاح، أبو عمرو عثمان بن عبد الرحمن (طبعة دار الكتب العلمية:ج1 ص37) أنه” كان يحفظ مئة ألف حديث صحيح، ومئتي ألف حديث غير صحيح ” معرفة أنواع علوم الحديث(طبعة دار الكتب العلمية:ج1 ص37) ، وفي كتاب “الإمام البخاري وكتابه الجامع الصحيح “لعبد المحسن بن حمد بن عبد المحسن بن عبد الله بن حمد العباد البدر:” أنه كان يأخذ الكتاب من العلم فيطلع عليه اطلاعة فيحفظ عامة أطراف الحديث من مرة واحدة” الإمام البخاري وكتابه الجمع الصحيح . (طبعة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة:ج1 ص33)
إذن من الطبيعي أن تكون هذه النتيجة هي المحصلة الطبيعية لصبي في سن اللعب كان يحفظ سبعين ألف حديث ، فمن الطبيعي أن يغدو حافظا لثلاثمائة ألف حديث وهو شاب منتصب العود قويه، وكي يتم إخفاء الحقيقة أكثر ، لأن العقل سيتساءل عن الزمن الذي استغرقه هذا الرجل في حفظ ثلاثمائة ألف حديث، تم إحداث الرواية الثانية التي تقول أن محمد البخاري كان يحفظ الكتاب من قراءته الأولى من الكتاب لتنطبع في ذاكرة البخاري الحديدية بل الأسطورية ، لينهي الكتاب وكل مقتضياته العامة ، مطبوعة ومحفوطة على القرص الصلب لدماغ البخاري، حتى أن الرواة رووا عنه أنه كان يصحح لشيوخه أخطاءهم في الحديث ، لنتساءل نحن بدورنا عما كان هؤلاء الشيوخ يعلمونه للبخاري ، وهل كان يصحح أخطاءهم ويحتكمون إليه عند اختلافهم ، ويرضون بحكمه ؟ إن هذا لأمر عجاب ! ومن هذا ما جاء في تاريخ بغداد للخطيب البغدادي، أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت بن أحمد بن مهدي أنه ” شهد له شيوخه بذلك من صغره وكانوا يأخذون منه ويستفيدون، قال محمد بن أبي حاتم: «سمعت محمد بن إسماعيل يقول: قال لي محمد بن سلام: انظر في كتبي فما وجدت فيها من خطأ فاضرب عليه، كي لا أرويه، ففعلت ذلك””تاريخ بغداد طبعة دار الغرب الإسلامي:ج2 ص322)
وقد جاء بنفس السياق في كتاب البداية والنهاية لابن كثير أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي البصري الدمشقي أن ” محمد بن يحيى الذهلي أحد أبرز شيوخه يسأله عن الأسامي والكنى والعلل، والبخاري يمر فيه كالسهم، كأنه يقرأ قل هو الله أحد” البداية والنهاية(طبعة دار هجر:ج14 ص531). وقد جاء في كتاب إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري للقسطلاني، أبو العباس أحمد بن محمد بن أبى بكر بن عبد الملك القسطلاني القتيبي المصري أنه “قد رُزق قوة الحفظ من صغره فكان وهو صبي لا يزال في مقتبل العمر يحفظ سبعين ألف حديث ويعرف تاريخ رواته وأخبارهم، قال سليمان بن مجاهد «كنت عند محمد بن سلام البيكندي فقال لي: لو جئت قبل لرأيت صبيًّا يحفظ سبعين ألف حديث. قال فخرجت في طلبه فلقيته، فقلت: أنت الذي تقول أنا أحفظ سبعين ألف حديث؟ قال: نعم وأكثر، ولا أجيبك بحديث عن الصحابة والتابعين إلا من عرفت مولد أكثرهم ووفاتهم ومساكنهم، ولست أروي حديثًا من حديث الصحابة والتابعين إلا ولي في ذلك أصل أحفظه حفظًا عن كتاب الله تعالى وسُنَّة رسوله صلّى الله عليه وسلّم.»” إرشاد الساري (طبعة المطبعة الكبرى الأميرية، مصر:ج1 ص34)
بل إن الرواة تفننوا أيما تفنن في احتقار الشيوخ والحفاظ امامه ، وتفننوا في إبراز تفوقه عليهم كما جاء في كتاب ” تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام” لشمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن قَايْماز الذهبي أنه “كان معروفاً بذلك “أي بالحفظ” بين أقرانه من طلبة العلم حتى كانوا يجلسون إليه ويسألونه عن الحديث، قال محمد بن أبي حاتم: سمعت إبراهيم الخواص مستملي صدقة يقول: رأيت أبا زرعة كالصبي جالسا بين يدي محمد بن إسماعيل يسأله عن علل الحديث.” “تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام (طبعة دار الغرب الإسلامي:ج6 ص140)”
وورد أيضا في كتاب” تاريخ بغداد ” للخطيب البغدادي” قال أبو بكر المديني: كنا يوما بنيسابور عند إسحاق بن راهويه، ومحمد بن إسماعيل حاضر في المجلس، فمر إسحاق بحديث من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وكان دون صاحب النبي صلى الله عليه وسلم عطاء الكيخاراني فقال له إسحاق: يا أبا عبد الله أيش كيخاران؟ قال: قرية باليمن كان معاوية بن أبي سفيان بعث هذا الرجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن فسمع منه عطاء حديثين. فقال له إسحاق: يا أبا عبد الله، كأنك قد شهدت القوم!”
قصص قوة الحفظ عند البخاري تناسلت كتناسل الفطر بشكل غريب لم يكلف المحدثين على غير عادتهم ، تمحيصها والنظر في أسانيدها لأن أنفسهم وقلوبهم تميل إلى جعل البخاري أسطورة حقيقية ومن ذلك أيضا ما ورواه الخطيب البغدادي في نفس المرجع السابق بسنده عن حاشد بن إسماعيل قال : » كان أبو عبد الله محمد بن إسماعيل يختلف معنا إلى مشايخ البصرة وهو غلام فلا يكتب حتى أتى على ذلك أيام، فكنا، نقول له: إنك تختلف معنا ولا تكتب فما معناك فيما تصنع؟ فقال لنا بعد ستة عشرة يوما: إنكما قد أكثرتما على وألححتما، فأعرضا علي ما كتبتما فأخرجنا ما كان عندنا فزاد على خمسة عشر ألف حديث، فقرأها كلها عن ظهر القلب حتى جعلنا نحكم كتبنا على حفظه، ثم قال: أترون أني أختلف هدرا وأضيع أيامي؟ فعرفنا أنه لا يتقدمه أحد«.
ومن الروايات الشهيرة التي تؤكد الأسطورة وترفعها إلى عنان السماء وتعزز السياج الكهربائي الذي يجعل منها شخصية فوق كل انتقاد ، أو مناقشة ، أو حتى محط تساؤل، ما جاء في شذرات الذهب في أخبار من ذهب – ابن العماد الحنبلي، عبد الحي بن أحمد بن محمد ابن العماد العَكري الحنبلي :”روى أبو أحمد بن عدي الجرجاني قال: سمعت عدة مشايخ يحكون أن محمد بن إسماعيل البخاري قدم بغداد فسمع به أصحاب الحديث فاجتمعوا وعمدوا إلى مائة حديث فقلبوا متونها وأسانيدها وجعلوا متن هذا الإسناد لإسناد آخر وإسناد هذا المتن لمتن آخر ودفعوا إلى عشرة أنفس إلى كل رجل منهم عشرة أحاديث وأمروهم إذا حضروا المجلس يلقون ذلك على البخاري وأخذوا الموعد للمجلس فحضر المجلس جماعة من أصحاب الحديث من الغرباء من أهل خراسان وغيرها ومن البغداديين فلما اطمأن المجلس بأهله انتدب إليه رجل من العشرة وسأله عن حديث من تلك الأحاديث المقلوبة فقال البخاري لا أعرفه فسأل عن آخر فقال البخاري لا أعرفه ثم سأل عن آخر فقال لا أعرفه فما زال يلقي بمثله واحدا بعد واحد حتى فرغ من عشرته والبخاري يقول لا أعرفه فكان الفهماء ممن حضر المجلس يلتفت بعضهم إلى بعض ويقولون الرجل فهمنا ومن كان منهم غير ذلك يقضي على البخاري بالعجز والتقصير وقلة الفهم ثم انتدب رجل آخر من العشرة فسأله عن حديث من تلك الأحاديث المقلوبة فقال البخاري لا أعرفه فسأله عن آخر فقال لا أعرفه فسأل عن آخر فقال لا أعرفه فلم يزل يلقي عليه واحدا بعد واحد حتى فرغ من عشرته والبخاري يقول لا أعرفه ثم انتدب الثالث إليه والرابع إلى تمام العشرة حتى فرغوا كلهم من الأحاديث المقلوبة والبخاري لا يزيدهم على لا أعرفه فلما علم البخاري أنهم قد فرغوا التفت إلى الأول منهم فقال أما حديثك الأول فهو كذا وحديثك الثاني فهو كذا والثالث والرابع على الولاء حتى أتى على تمام العشرة فرد كل متن إلى إسناده وكل إسناد إلى متنه وفعل الآخرين مثل ذلك ورد متون الأحاديث كلها إلى أسانيدها وأسانيدها إلى متونها فأقر له الناس بالحفظ والعلم وأذعنوا له بالفضل”. ” شذرات الذهب في أخبار من ذهب (طبعة دار ابن كثير:ج1 ص24)
الغريب ان العديد من المحدثين المتشددين في الرواية يرددون هذه الرواية كأنها من المسلمات التي لاتقبل الجدل ، أو أنها من أكبر اليقينيات التاريخية ، ولم يقفوا وقفة بسيطة لتمحيصها والنظر في أسانيدها على غير عادتهم في تمحيص الرجال بالقيل والقال، وهنا ارتأيت أن أقف وقفة عند هاته الرواية لأنقل لكم ما قال عنها الممحص حيث ورد في موقع الالوكة تعليق على القصة من طرف أحد المعلقين عليها بقوله”أما تخريج القصة ، فقد قام به الأخ الفاضل علي أحمد عبد الباقي ، أمّا الحكم عليها فقد حكم عليها المشاركون الأفاضل بحسن الظن وهو لايغني من الحق شيئا.وذلك لعدة أسباب:
الأول : أن المشايخ الذين سمع منهم مبهمون ومجهولون ، وهذه الجهالة تحول دون صحة القصة.
الثاني: أن ابن عدي لم ينقل مشاهداتهم أو حضورهم للحادثة ، إنما سمعهم يحكون ، وهل شاهدوها أو حضروها أو سمعوا من غيرهم؟
الثالث : أن ابن عدي قد أدرك جمعاً من تلاميذ البخاري ، فلماذا لم يسند عنهم مثل هذه القصة العظيمة والتي تظهر فضل البخاري وحفظه.
الرابع : أن ابن عدي – رحمه الله – قد يكون بينه وبين البخاري في هذه القصة أكثر من رجل ، كما وقع في قصة امتحانه فإن بينه وبين البخاري ثلاثة رجال ، وكما وقع في قصة [شمخضة] فإن بينه وبين البخاري أربعة رجال .
الخامس : أنه فعل لايجوز كما قال العراقي وغيره ، وأنه من كان يفعله من أهل الحديث ، كانوا ينكرون عليه ، كما في قصة شعبة وغيره .
فهل يعقل هذا الجمع العظيم ليس فيهم من ينكر هذا الفعل؟ وبذلك يتضح أن قول السخاوي ليس بصحيح ولا مقبول، فإنه قد تسامح – رحمه الله – على عادته في تصحيح الأحاديث والأخبار. أمّا الحلبي فإنه لم يصنع شيئا ، فقد ذكر أن بعض طلبة العلم أعلّها ، وأن السخاوي أمرّها ، ولم يحكم عليها بشئ ، وتركها عائمة. وقد ذكرها الشيخ الفاضل بكر أبوزيد -ألبسه الله لباس العافية والصحة وأطال عمره ونفع بعلمه- في (التأصيل) (1/87) تحت عنوان ((ومن القضايا التي اشتهرت ولم تثبت)). وهو كما قال حفظه الله.
وقد قيل :
إذا قالت حذام فصدقوها ==فإن القول ما قالت حذام
وقد قال عنها الشيخ بكر أبو زيد في ((التأصيل)) (ص79) قال – حفظه الله – : ((وهي مع شهرتها ، وتناقل الناس لها : مخرجها عن ابن عدي – صاحب الكامل – يقول : سمعت عدة مشايخ يحكون .. إلخ . وعن طريق الخطيب في تاريخ بغداد (2/20 – 21) وقد أبهم ابن عدي تسمية مشايخه فهم مجهولون ، فينظر إن كان فيهم عدولا يعتبر بهم ، فالقصة مغموزة سندًا ، وإلا فهي على ما تنوقل ، وقد جرى القلبُ للامتحان مع آخرين كما في النكت (2/866 – 872) . انتهى كلام الشيخ، رابط الصفحة من موقع الألوكة:http://majles.alukah.net/t7977/ .
الغريب العجيب ، بل الأغرب الأعجب، في هاته القصة الخرافية التي تقول بأن البخاري حفظ ما سمعه مقلوبا من الممتحنين له ، على ترتيبه في نفس المجلس بدون تكرار ، وكأنه كان يسجل على شريط أحداث ما وقع ، فهؤلاء الذين رووا هذا الكذب ، سرح بهم الخيال الى أقصى مدى ، فقط كي يعززوا الأسطورة ، ويؤكدوا الخرافة ، فاخترقوا كل حدود العقل والمنطق ، وفيه أيضا أن هؤلاء المحدثين كانوا يشكون في البخاري ويتهمونه ، أي أنه ليس ثقة لديهم فاختبروه ، بهذا التصرف متهم ومجروح. بل إن من أسسوا لهاته الأسطورة ، أسطورة الحفظ الأسطوري لم يكفهم أن البخاري نجح في اجتياز هذا الاختبار الخرافي ، واستطاع أن يتفوق على ممتحنيه الذين قاموا بقلب مائة حديث والحقوا متن كل حديث بإسناد الآخر ، وقام البخاري بدوره بمراجعة المائة حديث وتصحيحها ، وتم كل هذا في نفس الجلسة ، لم تكفهم هذه الخرافة فقاموا برواية قصة أخرى شبيهة بها لكنها أكثر تعقيدا ، وهي الرواية التي وردت في كتاب “تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام” لشمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن قَايْماز الذهبي (طبعة دار الغرب الإسلامي:ج6 ص140) أن” محمد بن أبي حاتم قال : سمعت سليم بن مجاهد يقول: سمعت أبا الأزهر يقول: كان بسمرقند أربع مائة ممن يطلبون الحديث، فاجتمعوا سبعة أيام وأحبوا مغالطة محمد بن إسماعيل، فأدخلوا إسناد الشام في إسناد العراق، وإسناد اليمن في إسناد الحرمين، فما تعلقوا منه بسقطة لا في الإسناد ولا في المتن”.
لم يكف الرواة قصة امتحان بغداد ليصنعوا قصة الأربعمائة في سمرقند زيادة في الاحتياط، وزيادة في تقوية السياج الكهربائي حول شخصية البخاري ، ودعونا نفترض أن كل واحد من الأربعمائة قام بسرد عشرة أحاديث، إذن فسيصبح العدد أربعة آلاف حديث ، لكن في هذه المرة ذكر الراوي أسانيد كل بلد على حدة ، والحاقه بأحاديث أخرى لبلدان أخرى ، كل هذا والبخاري لم يخطئ ” جل من لايخطئ” وجل من لاينسى. لكن ما يجعلني أصدم من هؤلاء أيضا أنهم يعتقدون أن أكمل البشر ، النبي الكريم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم كان ينسى ، لكن محمد بن إسماعيل البخاري كان لاينسى ، ومن ذلك ما ورد في صحيح البخاري كتاب فضائل القرآن ، باب نسيان القرآن وهل يقول نسيت آية كذا وكذا “حدثنا أحمد ابن أبي رجاء حدثنا أبو أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا يقرأ في سورة بالليل فقال يرحمه الله لقد أذكرني كذا وكذا آية كنت أنسيتها من سورة كذا وكذا“
إن شيوخنا وفقهاءنا مع كامل الأسف يعتبرون البخاري أقوى من رسولنا في الحفظ بأشواط ، فحتى قول الله سبحانه وتعالى في حق نبيه في سورة القيامة (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19) ) فالله يوضح لنبيه بأن لا يحمل هما في حفظ كتابه المنزل عليه ، وأن لا يحرك لسانه ليعجل به ، لأن الله تكفل بجمعه في صدر نبيه ، لكن صحيح البخاري ينسب لرسول الله نسيان كلامه ، وكأن الله أخلف للنبي وعده إياه – تعالى الله- لكن الشيوخ يعتقدون جازمين أن البخاري كان لاينسى بل كان حفظه أسطوريا خرافيا ، بينما رسولنا الأعظم كان ينسى ، بل وصل به النسيان أن نسي من القرآن آيات ، على عكس وعد الله له وإخباره إياه وعلى عكس أسطورة الحفظ الأسطوري للبخاري.
و ما أستغرب له أيضا هو أن نفس الرواة رووا أن البخاري كان سيء الحفظ وكان يكتب كل ما يسمع وكان ينسى أسماء قريباته إلى غير ذلك ، فانظروا ما ورد في كتاب سير اعلام النبلاء للذهبي: (وقال سمعت أبا عبدالله يقول : كان شيخ يمر بنا في مجلس الداخلي ، فأخبره بالأحاديث الصحيحة مما يعرض علي ، وأخبره بقولهم ، فإذا هو يقول لي يوما : يا أبا عبد الله ، رئيسنا في أبو جاد ، وقال بلغني أن أبا عبد الله شرب دواء الحفظ يقال له : بلاذر ، فقلت له يوما خلوة : هل من دواء يشربه الرجل ، فينتفع به للحفظ ؟ فقال : لا أعلم ، ثم أقبل علي ، وقال لا أعلم شيئا أنفع للحفظ من نهمة الرجل ، ومداومة النظر. قال : وذاك أني كنت بنيسابور مقيما ، فكان ترد إلي من بخارى كتب ، وكن قرابات لي يقرئن سلامهن في الكتب ، فكنت اكتب كتابا إلى بخارى ، وأردت أن أقرئهن سلامي ، فذهب علي أساميهن حين كتبت كتابي ، ولم أقرئهن سلامي ، وما أقل ما يذهب عني من العلم ، وقال : سمعته يقول : لم تكن كتابتي للحديث كما كتب هؤلاء . كنت إذا كتبت عن رجل سألته عن اسمه وكنيته ونسبته وحمله الحديث ، إن كان الرجل فهما . فإن لم يكن سألته أن يخرج إلي أصله ونسخته . فأما الآخرون لا يبالون ما يكتبون ، وكيف يكتبون . وقال سمعت العباس الدوري يقول : ما رأيت أحدا يحسن طلب الحديث مثل محمد بن إسماعيل ، كان لا يدع أصلا ولا فرعا إلا قلعه . ثم قال لنا : لا تدعوا من كلامه شيئا إلا كتبتموه) سير أعلام النبلاء – الذهبي ج 21 ص 406.
رشيد أيلال
من كتاب صحيح البخاري نهاية أسطورة