نحن نؤمن بالله بلطف من الله
نحن نؤمن بالله بلطف من الله
يشكل العراقيون نسبة محترمة “للغاية” من أعضاء “مركز تطوير الفقه الإسلامي” وكذا المصريون. وعليه, فلا توجد أية مشكلة في أن أروي هذه القصة التي حدثت في أوائل هذا القرن والتي يحتاج فهمها إلى معرفة بالمجتمع العراقي والمجتمع المصري. أقول لا توجد أية مشكلة لأن إخواننا من المصريين سيأكدون لنا أن صحيفة “البعكوكة” هي فعلاً صحيفة لا يقرأها سوى الأطفال, على حين أن إخواننا من العراقيين سيأكدون لنا أن فخامة الرئيس العراقي يقتل فعلاً من لا يحبه أو لا يحب ما يحبه. وعليه,
تذهب الرواية إلى أن صحيفة “البعكوكة” القاهرية أصدرت عام 2002 عددًا وضعت على أول صفحة فيه عنوانًا بالخط العريض تبين فيه أنها أجرت استطلاعًا في 91 دولة من دول العالم عن أهم رجل في العالم أسفر عن فوز فخامة الرئيس العراقي بلقب “أهم رجل في العالم للعام 2002”. وعليه, تلقفت وسائل الإعلام العراقية هذا “الخبر” وأعلنت عبر الإذاعة, والصحف, والتليفزيون أن الإعلام المصري قد كشف أخيرًا أن شعوب 91 دولة قد أجمعت على أن فخامة الرئيس العراقي صدام حسين هو أهم رجل في العالم.
تخيل الآن ما يمكن أن تشعر به لو كنت عراقيًا وتعلم أن صحيفة “البعكوكة” القاهرية هي صحيفة أسبوعية متخصصة في “النكت” ولا يقرأها سوى الأطفال والبسطاء, وأن الاستطلاع الذي استطلعته هو استطلاع خيالي لم يحدث من أصله, وأن المسألة كلها لا تخرج عن أنها “نكتة”. ما الذي يمكن أن تفعله؟ إذا أنت سكت ولم تتكلم سوف يضحك العالم على الشعب العراقي الذي يحتفل بمقال نكتة نشرته البعكوكة, وإذا أنت نطقت بأن المقال المنشور في البعكوكة هو مقال نكتة في صحيفة نكتة طارت رقبتك. يعود ذلك إلى أن ذلك سوف يؤخذ على أنه هجوم “ماكر” على شخص الزعيم. أي أن المسألة ليست أكثر من محاولة للالتفاف حول الموضوع والهجوم على شخص الزعيم القائد. وعقوبة الهجوم على الزعيم هي, طبعًا, القتل. هذا, بالضبط, هو ما يحدث في حقل تفسير القرآن الكريم.
يخرج عليك مجموعة من الناس لا توجد لديها أية فكرة عن “منهج البحث العلمي” ليخبروك بأن العلماء الألمان – إذ هم دائمًا ألمان – قد اكتشفوا مؤخرًا عددًا من الاكتشافات المبهرة التي تؤيد ما جاء بالقرآن الكريم. يقوم الواحد منا ببيان أن ما يقوله هؤلاء الناس هو شيء لا علاقة له بالعلم من أصله, فضلاً عن أن القرآن الكريم “لا يحتاج إلى تأييد أحد.” كيف يحتاج كلام الله إلى تأييد البشر؟ يرتفع الصياح بأن إنكار كلام العلماء الألمان هو هجوم “ماكر” على كلام الله. كيف ينكر مسلم ما ذكره العلماء الألمان من أن العلم يؤيد ما يؤمن به المسلمون من أن القرآن من عند الله؟ والرد هنا هو نفس الرد الذي قاله أبو بكر عندما توفى الله رسوله الكريم. من كان يؤمن بأن القرآن من عند الله لأن هذا ما قاله العلماء الألمان فإن العلم متغير وما قاله العلماء الألمان اليوم قد يقولون عكسه غدا, ومن كان يؤمن بأن القرآن من عند الله لأن هذا هو ما قاله الله فإن كلام الله ثابت لا يتغير. والقضية طويلة طولاً لا حد له إلا أن ذلك لا يمنع من قول التالي:
أولاً, أن القول بأن العلم “يثبت” أن القرآن من عند الله سبحانه وتعالى يحول “الإيمان” بكتاب الله من كونه قضية إيمانية إلى كونه قضية علمية. يعني ذلك, طبعًا, أننا سوف نتساءل هنا عن “الإطار النظري” الذي يدور البحث من خلاله, و”مشكلة البحث”, و”فرضية البحث”, و”سؤال البحث”, و”منهج البحث”, و”نتائج البحث”, وأخيرًا “النظرية”. يعني ذلك, كذلك أن هناك من “العلماء” من سيقوم بإعادة “التجربة” للتحقق من صحة النتائج. أي سيقوم بالتحقق من صحة ما بينته التجربة من أن القرآن فعلاً من عند الله. سبحانه وتعالى. والمسألة, أفكر, خيالية. كيف لنا في عالم الشهادة أن نتحقق مما جاءنا من عالم الغيب؟
ثانيًا, أن فكرة أن العلم يؤيد ما جاء بالقرآن بل يؤيد أن القرآن قد جاء من عند الله هي فكرة حديثة لا يزيد عمرها عن مئتي عام. جاء الغرب إلى الشرق واكتشف الشرق أن هناك عالمًا آخر غير العالم الذي يعيش فيه وأن هذا العالم الغريب فيه شيء اسمه “العلم”. نظر الشرق إلى هذا الشيء المسمى بالعلم على أنه شيء رهيب يمكنه أن يفعل أي شيء بما في ذلك تأييد أن القرآن الكريم قد جاء من عند الله. فكرة أن “العلم يؤيد أن القرآن من عند الله”, بهذا الشكل, هي مجرد “فكرة”. أي أنها ليست مما أنزل الله على رسول الله. يعني ذلك أن من يقول بهذه الفكرة لا يخبرنا “بما قاله الله” وإنما يخبرنا بفكرة يرتاح إليها. يعني ذلك, كذلك, أن من لا يقبل هذه الفكرة إنما لا يقبل فكرة لا يرتاح إليها. فكرة أن العلم يؤيد أن القرآن من عند الله ليست مما قاله الله والمسلمون ليسوا مطالبين بالإيمان بها. لم يطلب الله من الناس أن يؤمنوا بالله, وبأن محمدًا رسول الله, وبأن القرآن كلام الله, وبأن العلم يؤيد أن القرآن كلام الله. هذا كلام لم يقله الله.
ثالثًا, أن الحديث في هذا الموضوع هو دائمًا وأبدًا, ثم أبدًا ودائمًا, هو حديث تأملات, وعبرات, وشطحات, وخيالات, وليس حديث “علم” أبدا. لا توجد مقالة واحدة, في مجلة علمية واحدة – من المجلات المعترف بها في معاهد العلم المعترف بها – تتحدث عن هذا الموضوع. من أصله. هذه أوهام وخيالات.
رابعًا, أن موضوع أن العلماء الألمان قد اكتشفوا كذا وكذا وأن كذا هذا يثبت أن كتاب الله قد جاء حقًا من عند الله إنما هو قصة وهمية هو الآخر ولا علماء ألمان ولا يحزنون. والقصة لا تختلف عن قصة الاكتشاف المبهر الذي أذهل الغرب عندما كشف “علماء” الجيش المصري العظيم عن الاكتشاف المذهل الذي قاموا به لعلاج أشياء. يمكن مراجعة الموضوع على الشبكة بمجرد كتابة “الكفتة والإيدز” على محرك جوجل. والقصة لذيذة, ومسلية, ومحزنة, ومؤسفة, مثلها في ذلك تمامًا مثل قصة أن العلم الحديث قد أثبت أخيرًا أن القرآن قد جاء من عند الله. أي أن القصة هنا لا تختلف عما يعرفه كل من درس الحديث النبوي الشريف من أن محدثينا الكرام في قديم الزمان كانوا يؤلفون أحاديثًا من دماغهم وأنهم كانوا يرون أن هذا ليس كذبًا لأنهم لم يكونوا يكذبون “على” رسول الله وإنما كانوا يكذبون “له”. وهناك فرق, طبعًا, بين أن تكذب على رسول الله وبين أن تكذب له. الكذب على رسول الله حرام, أما الكذب له فحلال. والموضوع, باختصار, أن علماءنا الكرام من أهل العلم والنظر من أهل السنة والجماعة قاموا بتأليف قصة العلم والقرآن هذه من دماغهم, ولا ألمان, ولا يحزنون, ولا أوتو مايَر ولا يحزنون, والقصة وهمية.
خامسًا, أن موضوع أن العلم يؤيد أن القرآن قد جاء من عند الله لا يتفق مع ما نعرفه عن خلق الله. لا نعرف أحدًا آمن بالله, وبأن محمدًا رسول الله, وبأن القرآن كلام الله لأن العلم قد أثبت أن القرآن من عند الله, ولا نعرف أحدًا خرج من دين الله لأن العلم لم يثبت أن القرآن قد جاء من عند الله. ثم كيف آمنت أمة محمّد بكتاب الله أيام لم يكن هناك علم ولا يحزنون؟ كيف آمن أهلنا في كفر نفرة بدين الله أيام كان الكبير فينا هو من يستطيع أن “يفك الخط”؟ كيف استطاع البشر الإيمان بدين الله قبل الحملة الفرنسية؟
وأخيرًا, يثور السؤال : إذا لم يكن للعلم أي علاقة بالإيمان فما الداعي إلى تضييع الوقت في نفي أي علاقة بين العلم والإيمان. والإجابة, وبمنتهى السرعة كذلك, أن عواقب هذه الفكرة هي عواقب وخيمة. من ذلك أنه إذا كان صحيحًا فعلاً ما تذهب إليه هذه الفكرة – وهو ليس بصحيح – من أن الإيمان بالله لا يتطلب أكثر من القدرة على فهم الأدلة العلمية فإن ذلك يعفي الجهلاء بالعلم من الإيمان بالله. كيف بالله يمكنك الإيمان بالله, وبأن محمدًا رسول الله, وبأن القرآن كلام الله إذا لم تكن لديك القدرة على فهم الأدلة العلمية التي “تثبت” أن القرآن من عند الله؟ من ذلك, كذلك, أن الدعوة إلى الله يلزم أن تبدأ بشرح الأدلة العلمية. من ذلك, أيضًا, أن عدم الإيمان بالله, وبأن محمدًا رسول الله, وبأن القرآن كلام الله, بعد شرح الأدلة العلمية التي “تثبت” أن القرآن من عند الله إما أن يعود إلى غباء من تم الشرح له, أو لرفضه أن يفهم. والمسألة كلها “علم” ولا مجال هنا للإيمان. وكأن الله سبحانه وتعالى لم يخاطب رسوله الكريم قائلاً له *إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء*. والمسألة ليست مسألة علم وشرح للاكتشافات العلمية الأوروبية وإنما المسألة مسألة هداية *ولو شاء ربك لآمن من في الأرض جميعًا* وكأن المسألة, بهذا الشكل, أننا “لا نؤمن” بدين الله لأن العلم قد أثبت أن كتاب الله قد جاء من عند الله وإنما نؤمن بدين الله “بلطف من الله تعالى الذي أراد أن يهدينا”. يقول المُهري:
“الدليل العلمي التجريبي على القرآن غير ممكن ونحن لا يمكن أن نستدل على نبوة نوح, ولا على وجود الملائكة والجن, ولا على القيامة والنشأة الأخرى, بالتجارب العلمية. نحن نؤمن بالقرآن بلطف من الله تعالى الذي أراد أن يهدينا. أنا, أخي الكريم, لو تمكن أحد من أن يعطيني استدلالات علمية على كل القرآن فلن يزيدني ذلك إيمانا بكتاب الله تعالى. أنا مطمئن بالكامل إلى أنه كتاب الله تعالى ولا أحتاج إلى مزيد من الدلائل. الدليل القلبي كاف لكل المسلمين وفقدان الدليل العلمي الأكاديمي لا ينقص شيئا من قيمة القرآن. الإيمان بالقرآن لا يحتاج إلى دليل علمي.”
وإن الحمد لله, والشكر لله, على ما آتانا وما لم يؤتِنا, وما أعطانا وما لم يعطِنا, ونحن نؤمن بالقرآن بلطف من الله الذي أراد أن يهدينا.